نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 22-3-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4586
من كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (10)
بعض فكر يحيى الرخاوى (1)
التاريخ والبيولوجيا فى مواجهة التفكير المعقلن (2) (2 من 2)
مقدمة:
قدمنا الأسبوع الماضى الفرض الأساسى بتركيز صعب مما يحتاج إلى تقديم موجزه كالتالى:
“إن ثم خطأ تطوريا يتعرض له الجنس البشرى نتيجة لترجيحه نشاط جزء من تركيبه على سائر الأنشطة الأخرى، ذلك أن هذا الترجيح يجعلنا نقوم بتنظيم حياتنا تبعا لما يصل إلينا من معلومات نتعرف عليها أساسا أو تماما من خلال عمل هذا النشاط المميز (المسمى التفكير)، على حساب استبعاد، أو التهوين من شأن، الجارى على مستويات أخرى من جدل حيوى مع الطبيعة الداخلية والخارجية من ناحية، ومع التاريخ والمستقبل من ناحية أخرى”
واستعرضنا لترجيح هذا الفرض وجهات نظر تذكرنا أن تاريخ الإنسان ليس تاريخ التفكير، وإنما هو “تاريخ التلاؤم مع المحيط” مستعملا كل إمكاناته البقائية والتطورية .
ثم أشرنا إلى الفشل المنتظر للتفكير العولمى التسويقى المنتظر مع التنبيه إلى أن هذا هو دليل على أن إغفال التاريخ الحيوى، أو على أحسن الفروض التهوين من دوره، هو كارثة تطورية بكل معنى الكلمة.
وأخيرا عددنا بعض المدارس النفسية الأحدث التي تجاوزت (العمليات الأوليةPrimary Processes ) و(العمليات الثانوية Secondary Processes) إلى (“العمليات الثالثوية” (Tertiary processes فالإبداع.
وانتهى الجزء الأول إلى الترحيب بالتوجه الأحدث لفتح الباب لتأصيل فهم المسار الحيوى للحياة برمتها، وبالذات للنزوع الدينى/الإيمان على أساس بيولوجى وتطبيقى.
ونكمل اليوم بالتركيز على هذا المنطلق الأخير.
وأكتفى بثلاث مسائل ذات دلالة:
أولا: الأسس التطورية النيورو- بيولوجية للتدين/الإيمان
لم تنكر – حسما – نظرية التطور دور الدين فى الحفاظ على فكرة الانتقاء “الطبيعى، فالشائع أن داروين وحده هو صاحب هذه النظرية (3)، والزعم الغالب هو أنه كان أكثر ميلا إلى انكار الدين ونفى الخالق بتأكيده على الطبيعة التكيفية الانتقائية لمسار الحياة، إلا أنه لم يكن وحده صاحب كشف نظرية التطور الانتقائية التكيفية، ففى نفس العام (1871) شاركه فى الكشف “ولاس” (المنسى والمهضوم حقه) الذى كان يرى أن ثمة إعدادا مسبقا مسلسلا للتكيف يجهز لصلاحية البقاء للحفاظ على الأنواع الأرقى، وبالتالى أن ثمة معد لذلك (الوعى المطلق: الله) وهذا قد يعنى أن الجهاز العصبى أو أى تنظيم حيوى فى الدماغ البشرى هو مهيأ من قديم لتلقى هذا الإعداد والتواصل مع هذه القوة/الوعى الأعلى، وعلى ذلك فإن هؤلاء المتبقين للبقاء – من وجهة نظر “ولاس”- مجهز عندهم الدنا DNA لإظهار السمات اللازمة لاستمرار التكيف والتطور فى بيئة وظروف جديدة ومتجددة تسمح بظهور أنواع متطورة أرقى فأرقى، وفى المقابل فإن الأنواع التى حرمت من هذه الاستعدادات لا تستطيع أن تكمل فى ظل نفس الظروف، وعلى ذلك فإنها تتوقف أو تنقرض، وعلى الرغم من أننى لست متحمسا لمثل هذه التأويلات تبريرا للدين أو دفاعا عن التطور، إلا أننى أوردت هذا الرأى الآخر لنظرية التطور لأظهر كيف أن العلماء لا يتوقفون عند تفسيرات منطقية متعجلة، وأن احترامهم لحدس الجموع من ناحية، وللتاريخ من ناحية أخرى يجعلهم يحاولون إضافة ما – إضافة تبدو متعسفة أحيانا ومنطقية أحيانا أخرى – وذلك فى محاولة المواءمة بين رؤى ومعلومات نظرياتهم الأولية وما يغلب عند الناس ويؤيده التاريخ.
وقد حاول بعض العلماء ربط بعض ما لاحظوه من سلوك الحيوانات باعتباره الجذور الأولية للنزوع التدينى، فلاحظوا أن الأفيال والذئاب والشمبانزى تمارس نوعا من الطقوس المنتظمة بشكل جماعى أثناء العواصف والرعود، وهذا يكاد يشبه ما يقوم به بعض البدائيين فى مثل هذه الظروف، كما أن هذه الفيلة والذئاب والشمبانزى تدفن جثث موتاها، أو بقايا هياكلهم كما يفعل الإنسان.
كذلك درس فريق ثالث سلوك بعض أنواع الإنسان الأول (البليوليثيك) الذى عاش فى أوربا والشرق الأوسط من ثلاثمائة ألف سنة قبل الميلاد، حيث ترك لنا ما يشير إلى أنهم كانوا يدفنون موتاهم فى وضع النوم مما يشير إلى احتمال إيمانهم بالحياة الآخرة، كما كانوا يضعون حولهم قرون الماعز فى شكل دائرة ومعها بعض جلود الحيوانات، وبعض الأدوات الحجرية والزهور. (مما امتد وتعمق فى طقوس الخلود عند قدماء المصريين)، وعلى ذلك فمن المحتمل أن هؤلاء البشر الأول (300.000 سنة ق.م.) كان عندهم عواطف ومشاعر قوية وشديدة تجاه ما هو روح مطلقة أعلى، وما هو الحياة بعد الموت، وما يصاحب ذلك من آمال ومخاوف تتعلق بهذه المعتقدات.
ثانيا: محاولة تحديد المخ الحوفى Limbic Brain كمركز أساسى للخبرة الدينية
لم يستبعد العلماء احتمال وجود شبكة نيورونية قادرة على استقبال الأنماط والأشكال الهندسية المرتبطة ارتباطا شديدا باللغة الدينية الكلية (والفنية لاحقا)، وهذه الشبكة لها محطات فى الفص الصدغى الأسفل، وفى اللوزة، وفى الحوفية، والمهيد – وحيث أن هذه النيورونات لها استجابات متعددة الأنماط فإنه يمكن أن يشمل ذلك بعض الوجدانات المتعلقة بالتدين، ومن الممكن أن تتمازج الأشكال الهندسية الرمزية مع الوجوه فيما يشبه الخبرة الصوفية العاطفية (التدينية) بشكل أو بآخر.
على هذا الأساس، فقد حاولوا تفسير المستوى النيورونى لإدراك الملائكة والأرواح والأشباح بأنه يحدث من مدخلات من مختلف النيورونات فى مختلف أجهزة الدماغ كل منها يضيف بعض المميزات لما ينتج من إدراكات عاطفية (سمعية بصرية حدْسية إيمانية دينية).
ويذكر كارل يونج ما يتعلق بهذا الاحتمال حين يقرر أنه بغض النظر عن الثقافة والبيئة المحيطة، والزمن، فإن الهنود الأمريكيون الحمر والأفريقيين، والكرومانيين، والمصريين، والمسيحيين المحدثين، كل هؤلاء يرون الصليب بشكل متواتر راسخ فى خبرتهم الصوفية، ويعزون ذلك إلى خبرة كونية أو روحية فائقة الدلالة. وحديثا: فإن الأبحاث النيوروبيولوجية أثبتت أنه توجد نيورونات تطلق دفعاتها انتقائيا إلى أشكال بصرية هندسية تشبه الصليب أو المثلثات (الأهرامات) والوجوه، وهذه النيورونات تعرف باسم نيورونات الصليب، كما تسمى أيضا النيورونات الباحثة عن المعالم، حيث أنها يمكن أن تتعرف على الوجوه، والأشكال الهندسية وتستجيب بشكل دينى لذلك. وقد خلصت هذه الدراسات إلى احتمال أن يكون المخ الحوفى Limibic Brain هو الموقع المسئول عن الخبرات الدينية”، بالإضافة إلى مسئوليته عن بعض تلك الخبرات التى وصفها بعض من استعاد الحياة بعد أن عد ميتا بشكل أو بآخر، ومن هذه المحاولات والفروض والاجتهادات التأويلية يتنامى الحديث عن أمخاخ متعددة وليس مخا واحدا من بينها مخ القشرة الأحدث، والمخ الحوفى (الوجدانى الإيمانى التدينى) وغيرهما.
ثالثا: تعدد الأمخاخ (الأدمغة) وتعدد التفكير
إن التحدى الذى تواجهه هذه المداخلة لا يقتصر على رفض ترجيح أحد أشكال التفكير على ما عداها، أو رفض ترجيح عمل مخ أحدث على مخ أقدم، وإنما هو ينبه أساسا إلى خطورة إنكار فاعلية دور المخ الأقدم فى كلية عمل الوعى البشرى الأحدث، وتأثير ذلك فى مسار تطوره، ذلك أن الأقدم لا يكون أقدم إلا إذا انفصل عن الأحدث واستقل وساد بصفة عشوائية (كما هو الحال فى الجنون) أما إذا كان المخ الأقدم كامنا فاعلا متبادلا متناغما مع الأحدث تطورا، فإنه لا يصبح الأقدم، وإنما يصبح المتضمن فى الأحدث الكلى المبدع، وليس الأحدث المغترب.
ثم إن الخطأ الذى ترتب على الإعلاء من التفكير المعقلن المستقل لم يقتصر على استبعاد النشاط الأقدم بعد فصله تعسفيا ليصبح أقدم فعلا، بل إنه راح يستبعد نصف المخ الكروى الذى أسماه ”متنحيا” مع أنه منظومة دماغية مواكبة فى مسار التطور لمنظومة النصف الكروى الذى سمى طاغيا (والذى أصبح مؤخرا النصف القاهر)، إن النصف (المخ/الدماغ) المتنحى يعتبر كيانا متكاملا بشكل أو بآخر، وقد أدت الدراسات لكل نصف (مخ) على حدة، بالقدر الذى سمحت به الأدوات والفرص المتاحة، إلى التقرير أنه حتى ما يسمى بالمخ الأحدث المتمثل فى النصفين الكرويين (=القشرة)، ليس مخا واحدا، والأهم من ذلك أن كلا من النصفين (المخين) يفكر بطريقة مختلفة عن النصف (المخ) الآخر، يقول وكسلر (1980): إنه من المسائل التى شغلت فسيولوجيا الأعصاب طويلا: الأحقية النسبية لفحص نصفى الدماغ على مستويات متباينة. وقد قام بوجن قبل ذلك (1969) بفحص الفروق النوعية لعمل نصفى المخ سواء على المستوى التجريبى (فى الشمبانزى)، أو بالملاحظة الانتقائية فى الإنسان لبعض الحالات التى أصيب فيها أحد نصفى المخ دون الآخر، أو التى أجريت لها عمليات فصل النصفين الكرويين بشق الجسم المندمل (فى حالة الصرع) أو بإزالته فى بعض حالات الأورام. وقد انتهت معظم هذه الأبحاث والملاحظات إلى أن كلا من النصفين الكرويين له عمل مختلف نوعيا عن الآخر، كما ثبت أن تركيب كل من النصفين بالتشريح الدقيق بالفحص المجهرى الإلكترونى يشير إلى اختلاف تركيبى أيضا، وكذلك فإن المخ غير الطاغى (الأيمن فى الشخص الأيمن) متخصص أكثر فى النشاط البصرى، التصويرى المكانى وأيضا فى التفكير التربيطى، فى حين أن المخ الطاغى يختص بالتفكير التسلسلى والتجريدى وخاصة فى منطقة ”بروكا”، وأخيرا فإنه يبدو كذلك أن الاستجابة العاطفية فى كل مخ تختلف عن الآخر، وعلى ذلك فإن استعمال كلمة “طاغ” و”متنح” فى وصف كل من النصفين الكرويين هو استعمال قديم وخاطئ ويدل على طغيان غير مشروع وتحيز من جانب المنظرين إلى ما يعرفونه من تفكير عقلانى على حساب تهميش ما يعيشونه من تمازج خبراتى أشمل، ولهذا اقترحت أن يسمى النصف الطاغى بالمخ الترميزى أو المنطقى، فى حين يسمى النصف المتنحى بالمخ التركيبى أو التصويرى.
تفاؤل حذر وخلاصة:
على الرغم مما حفلت به هذه المداخلة من نقد وتحذيرات ومخاوف، فإن الوعى البشرى، بخبرته وحدسه وحساباته وإبداعاته ومعلوماته جميعا قد أدرك بشكل ما خطورة هذا الانحراف فى مسار الإنسان، وتصورى أن ما يجرى من استدراك وتعميق وتوسيع للمنهج وابتداع لغات أقدر على الإحاطة بالظاهرة البشرية فى كل مجال، هو مبشر بخير يمكن أن ينقذ الإنسان من التهديد القادم، اللهم إلا إذا بلغ عمى الساسة، والأصوليين من المتدينين والعلمانيين والتنويريين جميعا، مبلغا يحول دون أن تنقذ هذه الاستدراكات المعرفيه الرائعة الإنسان من الوصاية التعسفية التى تفرضها أخر عشرين قرن من الزمان على ستمائة ألف سنة من التاريخ، وقد يتمادى هذا العمى بخطأ تطورى عشوائى وارد، كما قد يأخذ دُفْعَه وتبريره، بشكل خفى، من جشع الماليين الجدد الذين احتفظوا من التاريخ بعدم الأمان المتواصل الذى يبرر لهم ما يجمعون، دون السعى إلى توفير الأمان ومقومات البقاء والتطور من واقع الامتداد فى الكون والتواصل مع البشر.
خاتمة: بتفاؤل حذر:
ثم أختم هذه المداخلة بعرض بعض ما يدعو إلى درجة من التفاؤل الحذر
-
على مستوى المنهج (العلمى) يجتهد العلماء فى تدارك اختزال الإنسان إلى عقل ظاهر مفكر، بالاهتمام أكثر فأكثر بتوسيع المنهج من خلال العلوم الجديدة مثل علوم الشواش والتركيبية، وأيضا من خلال إحياء المناهج الحكائية القديمة، واحترام دلالات وآثار وضرورة الثفافة الشفاهية بشكل معاصر يمكن تحديثه، وأيضا من خلال توثيق الوصلة بين مناهل المعرفة المختلفة سعيا إلى تكامل معرفى أشمل، والتعمق فى دراسات ما يسمى بالعقل الوجدانى الاعتمالى Emotionally Processing Mind.
-
وعلى مستوى العلوم الإنسانية تتمادى محاولات التخلص من الشعور بالنقص أمام منهج ما سمى يوما بـ “العلوم المنضبطة” بما هو جدير أن يسمح للعلوم الإنسانية بالانطلاق بمنهجها الخاص إلى التصالح الحقيقى مع المعارف الإيمانية والتوجه الدينى والإيمانى والحدس الشعبى، وكل النشاطات التى يمكن أن تندرج تحت “ما ليس كذلك”، وأيضا لتعميق النظر فى وعى الناس مباشرة أثناء إبداعاتهم اليومية العامة بما فى ذلك إبداعات التدين والرقص والغناء والعمل معا.
-
وعلى مستوى الإضافات الإبداعية فى الأدب والشعر والتشكيل وسائر النشاطات التصويرية والجمالية الكلية، فإنها تستعيد موقعها كمصدر أساسى ينهل منه الكائن البشرى معارف كلية تصحح مساره الخطى المختزل، وبالتالى فهى لابد أن تساهم فى رسم خطاه المستقبلية.
وأخيرا وليس آخرا فقد يكون فى احترام تاريخ النزوع الدينى الأصلى والنبض الإيمانى الإبداعى ودورهما الإيجابى فى مسيرة التطور البشرى ما يعفى العلماء المتدينين من اختزال ظاهر الدين إلى ما يعرفون، وأيضا ما ينقذ الدين من رجالاته الذين يصرون على تقزيمه فى ألفاظ معاجمهم، وأيضا على تبريره بظاهر عقولهم المتمحكة فى قشور العلم وظاهره، مع أن وظيفة الدين التطورية الإيمانية، وحتى النفعية الحالية، تبدو أعرق وأقدر من كل هذه الوصايات اللاحقة.
****
[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019) وصورته الأولى كانت مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو 1997 إلى يوليو 2006 + 1) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 مدينة المقطم، و يوجد بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة سطور: (عدد أبريل – 2000)
نقد لغلبة التفكير التجريدى البحثى (والتفكير المعقلن من منظور حسابات وتاريخ التطور، ثم تشويه الدين بتفسيره بهذا التفكير المحدود دون غيره من أدوات المعرفة، ثم من منظور الدراسات اللغوية، فالمدارس النفسية وأخيرا من منطلق بيولوجى لتفسير جذور التدين: ويخلص المقال ليس إلى رفض التفكير المعقلن (والتجريدى) وإنما إلى ضرورة الانتباه إلى عدم الاقتصار عليه وعدم السماح له أن يصبح وصيا على غيره من أنواع التفكير الأخرى ومناهل المعرفة وأدوات الوعى، وقد يتم ذلك بالتبادل بعض الوقت ربما سعيا إلى تخليق جدلى محتمل قادم.
[3] – قمت لاحقا بمراجعة موقف داروين من هذه المسألة وكتبت نشرة بتاريخ 3-8-2014، بعنوان: “تشارلز داروين “جاب الديب: من بؤرة وعى إيمانه المعرفى” (وليس من “ديله”)