نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 14-8-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5097
من كتاب “تبادل الأقنعة” (1)
دراسة فى سيكولوجية النقد
(التفسير الأدبى للنفس)
قراءات فى ديستويفسكى (1)
الفصل الثانى
عالم الطفولة من ديستويفسكى (3 من 4)
……………………
……………………
الجزء الثانى: من الطفلة الدمية إلى الطفلة النغمة
تكاد الصورة التى يقدمها الجزء الثانى أن تكون نقيض الصورة التى عشناها فى الجزء الأول تماما، فنيتوتشكا هنا تبدو- للوهلة الأولى – فى هناء مادى لا ينقطع، تحظى برعاية فيزيقية متكاملة، إلا أن التأمل الأعمق يظهر لنا أنها لا تمثل ثمرة لشجرة نبتت فى أرضها متصلة بجذورها، مستظلة بفروعها وأوراقها، ولكنها تبدو ”فاكهة من البلاستيك” فوق منضدة تحت نافذة، وليست حتى فى وسط الحجرة، أو هى ضيفة طول الوقت، أو هى دمية آدمية رقيقة تجلب التسلية وتتلقى العطف والشفقة، وقد تحفز الصلوات فيتصدق عليها بكل ما يحسِّـن شكل السادة أمام أنفسهم وأقرانهم، وها نحن أولاء نتحسس مع ديستويفسكى أهمية عامل”الانتماء إلى و”الاتصال بـ” و”الامتداد فى” أسرة ما، إن وظيفة الأسرة ليست فقط فى الحماية المادية والإرواء العاطفى (أو العطفى) وإنما هى تكمن أساسا فى هذا الشعور الممتد: من، إلى، وفى: المجال الذى يجمع أفرادها، قد يمكن أن يرجع جذور هذا الشعور إلى الانتماء “الشعور القبلى” (من:قبيلة) وهو الذى يمثل الجانب الإيجابى فى بعض أخلاق القبيلة، نحن نرى هنا أن هذه الطفلة المُلتقَطَةْ (وليست اللقيطة) المُجتَـثَّـة من جذورها بعد موت الأم وهجر الأب مثل دمية مُعتنى بها تماما، ومن هنا تجلى لها اليُتْمُ لأول مرة وسط الرفاهية المتاحة:
”شعرت أخيرا أنى يتيمة” (ص: 123)
فى هذه الجملة، ومع ما واكبها من وصف “لنعيم الغرباء” الذين استضافوها، نرى ونعجب من شوقها للبؤس ”الأسرى” الملئ بالحياة الحقيقية:
”آمل أن استيقظ فجأة فاذا أنا فى مسكننا البائس بين أمى وأبي” (ص:123).
كان لابد أن ”يعلن” اليتم، ويبدو- كما يعلمنا ديستويفسكى أن آثار اليتم وحقيقته لا تكمن فى فقد الوالدين ذاته، وإنما فى الشعور بذلك، (وهذا يمكن أن يحدث حتى مع وجودهما)، بل هو يكمن أكثر فأكثر فى الشعور بفقد الانتماء والامتداد (فى الأسرة أو المجتمع)، وحين حدث ذلك لنيتوتشكا وتيقنت من المسافة بينها وبين الأحياء البشر من حولها، أعلنت – لنفسها – يُتمها، ثم بدأت تبحث عن علاقات بديلة، فوجدتها فى “الأشياء” دون “الناس”
”كنت أتسمر خائفة أمام لوحة من اللوحات، أو مرآة من المرايا أو مدفأة من المدافئ الأنيقة الصنع أو تمثالا يخيل إلى أنهم دفعوه خصيصا الى قاع ركن من الأركان ليحسن التحديق الىّ تخويفا لى” (ص:124).
”وكان القديسون من قلب الأطر اللامعة ينظرون الىّ فى غموض” (ص:133)
وقد ظل لهذا الموقف آثاره حتى فى الجزء الثالث فى بيت ألكسندرين (2)
لم يكن هذا البيت الجديد بكل كمالياته إلا “مكانا” للتجاور الجسدى وليس أسرة للتكامل البشرى بالتواصل الفكرى والعاطفى. ويبدو أن ذلك لم يكن خاصا بنيتوتشكا باعتبارها “ضيفة ” أو”ملتقطة” بل إنه كان صبغة البيت حتى بالنسبة لأفراده الأصليين، فهم متباعدون أبدا: للدرس، أو العمل، أو العبادة، فاذا تجاوروا، فهو لقاء بالجسم أو باللفظ حسب “الواجب” أو “العادة”، وهذا الوصف الذى أكده ديستويفسكى طوال الجزء الثانى خليق أن يعرى هذه الحياة التى استبدلت بالأحياء الأشياء، وبدهشة اللقاء العفوى- واجب الأداء المحكوم الخ ولا أظن إلا أن هواية رب البيت لـ “جمع الأحياء” بالتقاطهم وإيوائهم فى منزله ليست سوى إكمالا للصورة، فهو كما يهوى جمع التحف والصور والكتب ويغدق على الجميع عطفا متساويا (حتى فى درجة حرارته المضبوطة) يجمع ما يجد من أحياء “أمام الباب” فقد التقط نيتوتشكا، كما التقط الكلب الضال فالستاف (وكذلك الطفل”لاريا” الذى رفع من الرواية طبعة 1860، مما سبق الإشارة إليه)، وربما انتقلت- تلقائيا- فكرة”الملكية” من رب القصر “الأمير ك” إلى ابنته “كاتيا” حيث يبدو استقبالها لنيتوتشكا – على الأقل فى المرحلة الأولى باعتبارها من الممتلكات التى لابد وأن “تسر مالكها” والتى عليها أن “تتصف بالصفات التى تتطلبها فيها”:
كاتيا: ” أما أنا فلا أحبك، إنك نحلية جدا، إنتظرى سآتيك بفطيرة” (ص:143).
وتستجيب نيتوتشكا لارضاء المالك السعيد:
نيتوتشكا: “كنت أرغب رغبة جنونية فى أن أعافى وأن “أسمن”بأقصى سرعة ممكنة عملا بنصيحتها ونزولا على أمرها” (ص:141)
هكذا تتأكد لعبة “التشييئ” (التصنيم: أن تقلب الشخص شيئا او صنما) ومعانى “الدمية” و”الملكية”
ويظهر ذلك فى موضع آخر:
”..وصرَّحت بأنها لا تعرف ماذا تصنع بى” (ص:141)
(لاحظ تعبير تصنع بي.. وليس تصنع لى) وبالنسبة للموقف من الآخرين - الضيوف مثلا- فقد كانت تعُرض عليهم “للفرجة” والتعجب.
”فكان الزائرون أثناء حديثها ينظرون إلى وهم يهزون رؤوسهم ويطلقون من أفواهم صرخات التعجب، حتى أن شابا من الحاضرين أدار نظارته ليحدق في..” (ص:126)
حول نيتوتشكا وفالستاف (الكلب):
خطر ببالى أن أبحث عن وجه الشبه بين نيتوتشكا وفالستاف (الكلب) باعتبار أنهما من المقتنيات الثمينة الملتَقطة، فوجدت أن فالستاف قد يمثل الوجه العدوانى الآخر لرقة نيتوتشكا ورعبها الظاهرين، وكان موقف كاتيا منهما هو موقف “ترويضى ” و”تأهيلي”، فهى تروض فالستاف “لتطويعه” (ص164,163) وتؤهل نيتوتشكا “للعب بها” أو (فيما بعد دون قصد) للعب معها، وقد بترت هذا الاستطراد لأرجع إلى الخيط الأول أساسا.
الأصل والصورة:
علاقة كاتيا بنيتوتشكا أخذتْ مسارا معقدا رغم بساطتها الظاهرية، ورغم ما ذهب إليه مقدم الترجمة من أن هذه العلاقة كانت تمثل جنسية مثلية (3) فإن الأمر يحتاج الى تمعن وروية لإعادة النظر. حتى نفهم تطور العلاقة دعونا نتذكر نشأة نيتوتشكا كأم وحيدة لوالد سكير نصف مجنون، وكإبنة “سِرّية” لأم هى الشقاء ذاته، لم يكن لها أخ ولاأخت ولا صديقة فى نفس السن، لم تجد الفرصة التى ترى نفسها فى أخرى فى مثل سنها (دور الصنو)(4) لتتجسد فيها وتتحسس صورتها خارجها وهى تنمو، فما أن وجدت كاتيا فى ”نفس السن “ومع” كل هذا الاختلاف الظاهرى” بما يتصف به من جمال، و ما يثيره من انطلاق ومن سعادة حتى اندفعت إليها إندفاعا بلا حساب وكأنها تندفع إلى نفسها(5) كما تحب أن تكون، إذن فكاتيا هى صورة نيتوتشكا التى تمنت أن تكونها، (أو هي”ذاتها المثالية” كما وصفتها كارين هورنى).
مرت العلاقة بين الطفلتين بمسار معقد كما ذكرت، بدءا بالحب”من أول نظرة”، من جانب واحد(نيتوتشكا) (مع الرفض أو الإهمال من جانب كاتيا) ثم الغيرة من الجانب الآخر، ثم العدوان فالاعتذار (من جانب كاتيا)، وفجأة تفجرت ينابيع الغرام الهائم والقبلات الملتهبة، حتى العض والقرص.. (وخاصة من جانب كاتيا):
”كنت أقول لنفسى: سأخنقها بالقبل، وسأظل أعضها وأقرصها حتى أفجر الدم من جسمها، وسيسرها ذلك هذه الحمقاء الصغيرة” (ص:188)
”…وتورمت شفتانا من قوة القبل” (ص:189)
لا أجد فى هذه الدرجة من العاطفة والخيال والالتحام الجسدى ما يبرر جنسنة الدافع إليها تماما، وإن كنت لا أستبعد الجنس متضفِّرا مع غيره من دوافع الاحتماء والالتحام، وهى الحاجة الطبيعية التى تولدت من الحرمان “البشري” فى هذا البيت “الرسمى” (جدا).
إذا كانت كاتيا هى صورة نيتوتشكا ومسقط أحلامها ورمز أمنياتها لذاتها، فماذا كانت نيتوتشكا لكاتيا؟ بدأت العلاقة كما تُصور الرواية، وكما أشرنا، بأن اعتبرت كاتيا نيتوتشكا “دمية” تملكها تريد أن تشكلها كما تحب، وغلبها حب الاستطلاع فى كثير من الأحيان لاكتشاف هذه المخلوقة المختلفة (نحيفة جدا وباكية أبدا)، ثم ثار فيها التحدى لتخطى الفجوة وترويض البكَّاءة وتأهيلها، وأخيرا تكاملت بها فاندفعت إليها بكل حاجتها إلى الصنو والرفيق والحبيب والعشيق معا.
الطفلة كاتيا تمثل الطفولة كما نتصور “نحن” كيف تكون الطفولة أو كما نأمل أن تكون (بشكل مسطح)، لكن كاتيا نفسها تعلمنا أن الطفولة ليست كذلك، وأنها اكتملت بنيتوتشكا أكثر مما رضيت بظاهر طفولتها التى وضعها أهلها فيها، و قد تعرفت على حقيقة الطفولة بنفسها من خلال استكشافها نيتوتشكا واختلافها معها وهى تمثل هذا العالم النابض المتشابك المائج الفياض، وكأنها وهى تندفع إليها إنما تندفع الى ما أهمله الأهل فيها، وما أنكروه عليها، وأعنى به عالم الطفولة الزاخر بالتناقض والتكثيف والحركة المتبادلة بين أجزائه، ويبدو أن هذا الجهل “بالطفولة” نابع من أننا ننسى طفولتنا الحقيقية خوفا من حقيقتها وإنكارا لمآسيها، فنفترض فيهم طفولة آملة ماسخة كما لو أننا نهرب فى تصوراتنا عن ما كنا نحب أن نكونه بعد أن كبرنا وفاتت الفرصة الحقيقية لنمو حقيقى. ديستويفسكى لم يفعل ذلك، فقد سافر غير هياب فى كل إتجاه، حتى أنه كاد يعتبر أن الطفلة العادية هى التى ليس فيها شئ من براءة الطفولة.
”…ثم إننى طفلة عادية جدا، ليس فىّ شئ من براءة الطفولة، (هكذا قالت الأميرة ذات يوم لسيدة مسنة سألتها هل يمكن ألا يزعجها وجودى)” (ص:127)
وكأن الطفولة العادية ليست بالضرورة بريئة (جدا) كما نحب أن نتوهم،(6) وقد اكتشفت كاتيا – ولو بصورة مخففة- أمومتها فى تطور علاقتها بنيتوتشكا، وإن كانت هذه الأخيرة لم تستعمل أمومة كاتيا لها صراحة أبدا، بل كانت أمومة موقفية، بعض الوقت، وعموما فبدايات الغرام كانت حين قررت كاتيا أن تتبناها بشكل ما:
”..فاذا بكاتيا تقترب منى فجأة وتقول:
- لم يُربط حذاؤك جيدا .. دعينى أربطه ثم انحنت وأمسكت قدمى رغما عنى، فوضعتهما على ركبتيها وأخذت تربط الحذاء، ثم قالت وهى تلمسنى بأطراف أصابعها..، والعنق غير مغطى: دعينى أصلح ربط الوشاح”.
يبدو أن ديستويفسكى يؤكد لنا من بعد آخر (من طفلة أخرى) كيف أن الأمومة(7) هى جزء لا يتجزأ من الطفولة، بحيث إنها يمكن أن تكون منبعا جديدا لفيض زاخر من عواطف هامة بناءة، وعموما فإن الأدوار بين كاتيا ونيتوتشكا كانت تتبادل بحيث تأخذ دور الأم أى منهما حسب الحاجة، وكأنهما نغمتان مختلفتان تكمل بعضهما بعضا بالتناوب تارة وبالتداخل تارة
”تجرى الأمور هكذا: يوما تأمر وأطيع، ويوما آمر وتطيع، ويوما نأمر كلتانا وتتعمد إحدانا ألا تطيع فنتظاهر بالمخاصمة، ثم نسارع الى المصالحة” (ص:189، 190)
حول دور العدل فى التربية:
يكثر الحديث حول قيمة الحب والحنان والتعليم والتحفيظ فى التربية، ويندر حول قيم أهم مثل ” العدل” و”الوضوح” و”مساحة السماح- اليقظ المسئول”، وقد عرج ديستويفسكى فى هذا العمل إلى أهمية قيمة العدل وخطورة إهتزازها بما يستأهل الإشارة، رغم أنه فعل ذلك بطريقة مباشرة، مما يقلل من القيمة الأدبية للتناول، وقد ذكرت ذلك هنا لتأكيد رؤية الأديب، حتى للقواعد التربوية-رؤية واضحة وقائمة بذاتها، فهو - مثلا – يعترض على تذبذب المواقف التى تهز قيمة العدل:
(كاتيا) “فما كان مسموحا به أمس يصبح اليوم ممنوعا..، وهكذا الشعور بالعدل يَفْسد لدى هذه الطفلة بلا إنقطاع” (ص:160)
ثم يؤكد ديستويفسكى أهمية الشعور بالعدل فى التعلم الذاتى من الخطأ.
(كاتيا) “كان إحساسها بالعدل يسيطر على كل شئ، فما أن تدرك أنها على خطأ حتى تذعن لتأنيب ضميرها…” (ص:162)
(ولا يوجد تناقض بين تقصير الأهل فى تأكيد قيمة العدل، وبين تعويض الطفلة كاتيا لهذا التقصير بالتزام منقذ)
مثال آخر لما يعلمنا إياه ديستويفسكى حول هذه القيمة، هو أهمية العدل بمعنى “الحق المتساوى فى معاملة المثل”، وأن الشعور بهذا الحق، حتى ولو لم يستمر، هو بناء هام: (نيتوتشكا) “كان الحزن يمزقنى تمزيقا، ثم أخذت فكرة العدالة تذر قرنها فى نفسى الجريحة، وأخذ يجتاحنى شعور بالاستياء والاستنكار وخالجنى فجأة نوع من العزة” (ص:168، 169).
[أى سبق حقيقى: رغم المباشرة !!!]
التهديد بالترك … والاحتماء بالانزواء:
اذا ما كانت نيتوتشكا فى هذه المرحلة قد عوملت باعتبارها دمية رقيقة أساسا، وهى تحمل تاريخا زاخرا باهتزاز الضياع وآلام الترك (بالموت أو العدو أوالجنون)، فإن لنا أن نتوقع جذور”اللا أمان” غائرة تفسر تفَجُّـر العواطف الذى لا ينقطع، والذى يتبادل مع الانزواء السلوكى بعد الإحباط أو خوفا من الإحباط، كذلك هو يفسر الإقدام المندفع: “لهفة فى البقاء بجوار”، مع الحرص الشديد على الاسترضاء خوفا من الترك.
”وكانت أول فكرة راودتنى عندئذ هى أننى لن أنفصل أبدا عن كاتيا” (ص:144)
”وكان واضحا أنها تريد أن تفعل كل ما تستطيعه لإدخال السرور إلى نفسى، بغية أن تتخلص منى بأقصى سرعة ممكنة وعلى أحسن نحو” (ص:148)
وقد يصل الأمر فى تصعيد الخوف من “الترك” الى “السعى الى الترك” (8) مع شكر التارك أو مباركته (9) ولو بأمنية غامضة أو افتعال أسبابه ولعل الانزواء (والتجنب) هو أنجح الأساليب للانسحاب بعيدا عن هذا الاحتمال أصلا، وقد غلب هذا الأسلوب عموما فى هذا الجزء الثانى، ليس على نيتوتشكا فحسب، بل على غيرها لأسباب مختلفة، أما نيتوتشكا:
”فلما تذكرت أمى فاضت عيناى بالدموع، وانقبض حلقى ووددت لو أهرب، لو اختفى، لو اختبئ” (ص:126)
”ولكنى كنت من خوفى أن أزعجهم أوثر تجنبهم، والذى كنت أحبه أكثر من كل شئ آخر هو أن أنطوى فى ركن من الأركان لا يرانى فيه أحد وراء قطعة من الأثاث غارقة فى ذكرى ما وقع لى” (ص: 127) (لاحظ الانسحاب هنا من المكان والزمان معا).
أما غير نيتوتشكا فيكفى أن نشير الى ”المنزويات الثلاث” وهن عمات الأميرة: واحدة عذراء فشلت أن تستمر فى الدير، والثانية أرملة فى تدهور صحى مستمر والثالثة مسجونة فى ظاهر تقاليد مفرغة من أى نبض حيوى
”كان المجتمع الراقى كله فى المدينة يشعر أنه مضطر لزيارة المنزويات الثلاث” (ص:129)
ثم انظر كيف وصف ديستويفسكى جانبا من هذا الانزواء المتعالى بأنه مشوب بنوع من “الضجر الوقور”
حول الحبس الانفرادى كانزواء استعدادا للقاء:
إن دلالة عقاب نيتوتشكا بحبسها لمدة ساعات حبسا إنفراديا فى حجرة مخصصة لذلك كان يحمل فى طياته نوعا من الرضا بالحبس، وكأنه يحقق رغبة داخلية وجدت تعبيرا لها من خلال التصدى للعقاب باتهام نفسها بدلا من حبيبتها كاتيا، وهذا الانزواء كان يحقق بالإضافة تعميقا لشعور التضحية والقربان الذى قدمته والذى أرضى حبيبتها لدرجة السعادة بالفراق فى انتظار اللقاء المرتقب، ومرة أخرى – بالمناسبة- يفاجئنا ديستوفسكى واصفا مشاعر الطفولة بما لا نتوقع، حيث تصف كاتيا شعورا مكثفا نحو حبيبتها التى دخلت “السجن” بدلا منها (ثم نسوها أكثر من الساعات المقررة).
كاتيا: “لم يسعدنى أنك اتهمتِ نفسك، وانما أسعدنى أنك فى السجن نيابة عنى، هل تفهمين؟ قلت فى نفسى: إنها تبكى بينما أحبها أنا كل هذا الحب، غدا سأقبـّلها، نعم سأقبلها كثيرا .. والحق أنى لم أشفق عليك، لم أشفق عليك أبدا أبدا، ومع ذلك فقد بكيت” (ص:188)
ما أسهل أن يسارع ناقد “نفسى” يحكى لنا عن السادية واللذة الجنسية التى لا تتحقق الا بالتعذيب، وما أسطح ذلك وأغلطه، فالعاطفة هنا أقرب إلى الواقع الطبيعى من تصوراتنا الاستقطابية، كل ما فعله ديستويفسكى أن أظهرها كما هى (ربما عند أىٍّ منا) لا كما نحب أن تكون، وتجاوب الطفلتين مع بعضهما البعض للتكامل والتداخل هو التفسير المباشر لهذا الظاهر الذى يبدو وكأنه غير ما ألفنا، وفيما يلى بعض الفروض التى وصلتنى من ديستويفسكى فى هذا الصدد:
1- إن السجن لنيتوتشكا كان “أمانا” و “اختيارا” و “توحدا”.
2- إن كاتيا “ضمنت” حبيبتها فى متناولها لوقت محدد المعالم.
3-إن الطفلتين أكملتا مشاعر بعضهما البعض فى تكامل نغمى وكأنهما نفس واحدة.
4- إن هذا البعد الاضطرارى مع اليقين باللقاء الموقوت يعمق الغرام ويدعمه.
5- إن “عدم الشفقة” مع “عـِـظم الحب” فى أرضية باكية ينبه الى أن الشفقة فيها استعلاء لا ينفع فى مثل هذه المواقف الأصدق.
نقلة:
بهذه الإشارة التى تُظهر إلى أى مدى وصلت علاقة الطفلتين نستطيع أن نعلن أن الطفلة الدمية لم تعد كذلك، بل أصبحت الطفلة النغمة المتكاملة مع نغمتها الأخرى، فولدت نيتوتشكا ذاتها فى رحاب “صنوها” (وليس من رحم أمها)، ولدت من جديد، لتبدأ من جديد، ولو لم تتحقق هذه الولادة لما استطاعت أن تستوعب الأمومة الحقيقية التى أتيحت لها فى الجزء الثالث من هذا العمل، بمعنى أنه لو ظلت جرعة الحرمان بنفس حدتها، والتزام الأمومة بنفس الحاجة، ثم عرضت عليها أمومة تعويضية جديدة، لما استطاعت أن “تستقبلها” أصلا مهما كانت صادقة وغامرة، فما حدث من رأب فى الجزء الثالث كان بفضل ما تهيأ له من إعداد فى الجزء الثانى .
………..
ونكمل غدًا: الجزء الثالث: “الطفلة الطفلة” (ثم الطفلة الأب)
[1] – يحيى الرخاوى “تبادل الأقنعة” (دراسة في سيكولوجية النقد) الهيئة العامة لقصور الثقافة (2006)
[2] – فقد حلت صورة بطرس الكسندروفيتش محله فى رحلة محاولة نيتوتشكا أن تسبر حقيقة داخله(ص: 241).
[3] – وتنشأ بين الفتاتين عاطفة هى حب الفرد فردا من جنسه هى الحب المثلى الذى يحدثنا عنه فرويد:ص13
[4] – يحيى الرخاوى – 1981 – حالات وأحوال –(ص 50 -62) الانسان والتطور – المجلد الثانى عدد ابريل .
[5] – لعل ذلك يذكرنا برفض العقاد اعتبار أن آفة شاعرنا الحسن ابن هانى(أبى نواس) هى الجنسية المثلية، بل (أنظر الفصل الأول)..
[6] – سألت ذات مرة أحد الأصدقاء المهمين جدا عن طفولته، وهو سوى متميز ثقافيا واجتماعيا، فأجابنى بحسم قاطع: ليس لى طفولة / وقد أعلن ديستويفسكى مباشرة مدى جهلنا بما هو “طفل” فى قصته البطل الصغير كما سيأتى ذكره.
[7] – الوالدية عموما – انظر أيضا الجزء الثانى البطل الصغير.
[8] – هذا الموقف المعقد قد ظهر فى الجزء الأول فى علاقة يافيموف بزوجته أساس.
[9] – أول من بارك من تركه كان الطفلة(الأم) نيتوتشكا وهى تطمئن(فى نفسها) أباها وهو يعدو منها تاركا اياها(ص:89). ثم عاد موقف قريب من ذلك فى الجزء الثالث والكسندرين تعبر عن مشاعر الهجر(ص:257،258):
” كان من حولى فى الماضى أشخاص آخرون، الا أنهم هجرونى جميعا، لقد تبددوا كلهم كما يتبدد السراب، وانتظرتهم كثيرا منذ ذلك الحين، لم أفعل شيئا غير الانتظار طوال حياتى كلها.. ليباركهم الله” (انظر بعد)