الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من كتاب “تبادل الأقنعة” قراءات فى ديستويفسكى (1) الفصل الثانى: “‏عالم الطفولة من ديستويفسكى” (4 من 4)

من كتاب “تبادل الأقنعة” قراءات فى ديستويفسكى (1) الفصل الثانى: “‏عالم الطفولة من ديستويفسكى” (4 من 4)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 15-8-2021

السنة الرابعة عشر

العدد: 5098

من كتاب “تبادل الأقنعة”  (1)

دراسة فى سيكولوجية النقد

(التفسير الأدبى للنفس)

قراءات فى ديستويفسكى (1)

الفصل الثانى

‏عالم الطفولة من ديستويفسكى (4 من 4)

………………..

……………….

“الجزء الثالث: الطفلة الطفلة

(ثم الطفلة الأب)

دعونا نبدأ الآن بنهاية الفقرة التى أنهى بها ديستويفسكى الجزء الثانى:

“وهكذا وجدتنى فى ذلك المساء فى كنف أسرة أخرى فى منزل آخر بين وجوه جديدة، وانتزع من قلبى مرة ثانية، كل ماكان عزيزا على، كل ماكان قريبا إلىّ، لقد وصلت إلى هذا المأوى الجديد وفى نفسى غم عميق” (ص:197).

ولادة بكل معنى الولادة، انتقال من مأمن كادت تتضح معالمه وتثبت أركانه الى عالم مجهول زاخر، انتقال من” شئ يتخلق” الى” كيان يتحس، كان الانتزاع الأول من بيت الشقاء الى بيت التحف الذى دبت فيه الحياة مؤخرا، ثم جاء هذا الانتزاع الثانى من المأوى المحدد الى الجديد المرتقب، فكان أول تفاعل لهذا الانفصال الجديد هو هذا الغم العميق (وكأنه صدمة الولادة عند أتـُورانك: إذ هى فى حقيقتها صدمة الانفصال): فهى المراهقة: الولادة الجديدة.

الطفلة تعثر على أمها:

فجأة تجد نيتوتشكا نفسها مع أم  بكل معنى الكلمة، بل إن هذه الأم الجديدة تتميز بأنها أيضا طفلة رغم سنها، طفلة لكنها تحمل من الأحزان والشعور بالمسئولية والقدرة على العطاء ما غطى احتياجات نيتوتشكا وأعفاها لفترة طويلة من تبادل الأمومة معها. ذكرنا قبل ذلك أن الذى يحدد الدور الوالدى هو التناسب بين الاحتياجات: والقدرات: والرؤية: بين كيانين متفاعلين (بغض النظر عن السن) أُم نيتوتشكا الجديدة (أو: الوحيدة) هى إبنة الاميرة من زواج سابق، وهى ألكسندرينا ميخائيلوفنا، ذات الثانية والعشرين عاما لا أكثر”.. ناعمة رقيقة ودودا، يظلل وجهها نوع من الألم الخبئ” (ص:196) ويبدو أن هذا الألم هو من مسوغات تعيين الأمومة، ولكنه لم يكن كافيا لإخفاء معالم الطفولة”، على أن الوقار والرصانة لم يكونا يوافقان ملامحها الملائكية الجميلة أكثر مما توافق الطفلة ثياب الحداد”(ص:196)- ومنذ البداية نكتشف أن ألكسندرينا هى أحدى مؤسسات “نادى المنزويات” العتيد “.. وهى لاتحب أن تزار أو تزور، بل تعيش حياة عزلة وانزواء” (ص:196).

وتغرى أمومة ألكسندرينا نيتوتشكا بأن تبدأ من حيث توقفت:

إعادة اعلان اليتم:

وكما اكتشفت نيتوتشكا يُتْمها بعد انتقالها من “نار الشقاء” الى “جنة الأشياء” حيث عاشت دمية دبت فيها الحياة أخيرا، فإن يـُتمها عاد يعلن نفسه مع هذه النقلة الجديدة وهى ترتمى فى أحضان أم جديدة أم حقيقة تعرض عليها التبنى (لا التملك).

“… وطوقتنى ألكسندرينا ميخائيلوفا بذراعيها، وسالتنى هل أحب أن أعيش فى بيتها، وأن أصبح ابنتها “(ص:196).

فتأملتها لحظة، وعرفت فيها أخت كاتيا:

“.. فاذا بى أرتمى على عنقها منقبضة القلب كأن احدا دعانى مرة أخرة بكلمة يتيمة” (ص:196).

تسلسل المشاعر هكذا إنما يؤكد على أن أمومة “كاتيا” المتقطعة التى أشرنا اليها حالا هى التى مهدت لتقبل أمومة ألكسندرينا .

المراهقة الولادة – ودور الأم:

ولكن ثمة فروقا بين الأمومة الأولى والأمومة المطلوبة للمراهقة، فالغذاء فى المراهقة ليس لبنا، والتواصل الرمزى (الكلام) أصبح سياجا حائلا كما أصبح فى نفس الوقت حبلا سريا حسب الأحوال، والوعى بالحاجة إلى الأمومة شديد ومزعج ومعطل فى أحيان كثيرة.

“ارتميت فى أحضان هذه الأم الرؤوم” (ص: 200).

الأم فى المراهقة ليست منبعا فقط ( مثل أم الطفولة) ولكنها مصب أيضا (وأحيانا هى مصب: قبلا) – وهكذا يعلمنا ديستويفسكى مما كانته ألكسندرينا ومما فعلته، كانت “منبعا” للمعلومات والعواطف:

“… كانت تعلمنى أشياء كثيرة وافرة دفعة واحدة، فكان ذلك يدل من جانبها على حماسة حارة” (ص:208).

ثم كانت مصبا جاهزا لأنه مواكب للمجرى الأصلى طوال الوقت:

” كانت لى أما وأختا وصديقة، أو كانت بمثابة مصب لجميع ما اشعر به من عواطف الحب”.

والأم “المصب” هو ما يعنيه” الصمت المنصت”و”السماح المسئول” و”التقبل للتناقض” و”تحمل الغموض”، فليس معنى “المصب” مانبدى من ظاهر الاستماع المسطح والمبادرة بالتفسير( بما لا نعرف) وادعاء إعطاء الحرية والاستقرار الجامد على معتقدات ثابتة نحاول نقلها الى الجيل اللاحق، فهذا قالب ( نمثله رغم ادعاءاتنا) نصب فيه وجود أطفالنا (لا نتلقاهم) لنشكلهم على شاكلته، وليس مصبا نتلقى فيه اكتشافاتهم فنكتشف بها – معهم – بقيتنا!! ديستويفسكى يعلمنا ذلك ونيتوتشكا تعترف مباشرة – ربما أكثر من اللازم – بهذا الدور الذى قامت به ألكسندرينا، فتعلى به مقام “دور الأم”: “… هذا الحب الذى شاء أن يقوم بوظيفة نحوى إلى آخر درجاته، الى درجة حب الأم” (ص:219).

قامت أم المراهِقة هنا بدور ما هو “منبع” و” مصب” معا فهى مواكبة طول الوقت، وهى مشاركة حقيقية بمعنى التجدد والتعلم، وليس فقط التعليم والتفسير، وهذا ما كان:

“… إلا أننا أخذنا بعد ذهابه (ذهاب المدرس) نتعلم التاريخ – أنا وألكسندرينا ميخائيلوفنا – على طريقتنا الخاصة، فكنا نأخذ كتبنا، ونظل نقرأ أحيانا إلى ساعة متأخرة من الليل، والأصح أن ألكسندرينا هى التى كانت تقرأ، لأنها كانت تراقب ما نقرأ” (ص:211).

على أن القراءة ليست هى الحياة وانما هى إعداد لها بحساب دقيق:

” كنت من فرط محاولتى الفهم قد فهمت كثيرا عن الحياة، قبل أن ابدأ الحياة” (ص: 212).

ديستويفسكى هنا يميز بين فك الخط ومحو الأمية، وهو يؤكد ضرورة كل من التقدم “فى السن وفى الوعى معا” (ص:211) لأن مجرد التقدم فى السن وحده ليس نموا، وهو يشير إلى توظيف القراءة فى تعميق الوعى وفتح الآفاق وليس للإكثار من “المعلومات” والابتعاد بها عن الواقع، ولكنه فى كل هذا، وفى هذا الجزء الثالث جميعه قد لجأ الى “المباشرة” بإفراط (!!)، حتى أن القارئ ليكاد ينسى أنه يحكى على لسان مراهقة، وإنما على لسان أستاذ فى التربية، بل أحيانا كان يعطى دروسا فى العلاج رغم عظمتها فإنها تكاد تنفِّر من فرط صراحتها:

“وكثيرا ما كانت تدور بيننا مناقشات حادة فأحاول أن أبرهن بصراحة على صحة آرائى دون أن أدرك أن ميخائيلوفنا هى التى تقود خطاى فى هذا السبيل… الخ” (ص: 209).

ومع ذلك، ورغم المباشرة فقد كان  يكشف عن مجاهل فى النفس قد تغيب عن النفسيين علماء وأطباء ومعالجين،  فضلا عن العامة، ومن ذلك تأكيده على “عاطفة الاحترام” و”ضرورة الجِد”- الحقيقى – مهما آلَمَ، لقد شبعت نيتوتشكا شفقة ورعاية فى القصر الحزين الوقور، شفقة ورعاية مثل التى منحوها للتحف والعاديات والكلب ” فالستاف”، ولكنها عند ألكسندرينا حصلت على شئ آخر:”أقول أكثر جِـدًّا” (ص:209).

“لأن طفولتى البائسة كانت توقظ فى نفسها، فضلا عن الشفقة، نوعا من الاحترام”(ص:20.9).

 الخروج من الطفولة:

خرجت نيتوتشكا من الطفولة إلى المراهقة (الطفولة الجديدة)، ولكنها اضطرت للقفز الى الأبوة المسئولة باختيار رائع، أما خروجها من الطفولة فلم يبخل ديستويفسكى أن يعلنه هكذا مباشرة (أيضا):

“… إن مشاعر جديدة تتكون وأنا أخرج من مرحلة الطفولة: صرت أبحث وافترض وأستنتج”.

يقولها هكذا وكأنه”جان بياجيه” الذى وصل إلى مثل هذا بعد عمر طويل من البحث  والملاحظة، ويصاحب هذا الخروج من مرحلة الطفولة ثلاثة اتجاهات على الأقل:

أولا: الاقبال النهم على القراءة “المستقلة” والتى بلغت فى معايشتها لها ما جعلها تتصور أنها عاشت ما تقرأه من قبل:

” لقد كانت كل صفحة أقرؤها تبدو لى شيئا أعرفه “(ص: 217).

ثانيا: التمادى فى الخيال:

“كانت تضطرم فى نفسى نبوءة حقيقية تجعلنى أؤمن بمستقبلى..” ” إلا أن خيالى كما قلت كان يغلب اندفاعى فكانت جرأتى فى الواقع لا تتعدى أحلامى” (ص:217).

راح ديستويفسكى يعلمنا وهو يربط بين القراءة والخيال، ويستنتج منهما القوانين بشكل مباشر صعب فى آن مثل:

“أجد فيه قانونا نفرضه على الحياة الإنسانية، روحا واحدة هى روح المغامرة، قانونا مشتقا من قانون أساسى آخر هو شرط السلامة والخلاص والسعادة؟ لقد كنت أتحسس هذا القانون، وكنت أحاول أن أحذره بكل ما أوتيت من قوة، بكل الغرائز التى كان يوقظها فى نفسى الشعور بنوع من الحماية” (ص:217).

لابد من ملاحظة هنا أن الغرائز يسمح لها باليقظة تحت مظلة حامية من الحذر والوعى، وأن جدل  – المغامرة óالسلامةً – هو أعظم ما يتم على مسار النمو الحقيقى. هذا التداخل الدقيق قد يمر على أى قارئ مرورا عابرا، أو قد يعتبره يتجازه ناقد أكاديمى، إلا أننى أكاد أجزم باختيار ديستويفسكى كل لفظة فيه بمنتهى المسئولية، فقط.. إن المباشرة مزعجة لدرجة عدم تصديقها إلا باعتبارها معرفة تقريرية لا تيارا للوعى الدرامى.

“هذا العالم (عالم الخيال) الذى ليس للشقاء فيه – إن وجد – إلا دور سلبى، دور مؤقت، دور لابد منه للتناقضات الممتعة” (ص:118).

ماذا تبقى ليعطينا درسا فى الجدل الحيوى بعيدا عن السرد الروائى؟ حتى لو تم على حساب السرد الروائى أحيانا.

ثالثا: الحياة الداخلية وتزايد السرية:

مع نمو الخيال الخاص، وتزايد القراءة المستقلة، ومغامرات الاكتشاف، تنبنى الحياة الداخلية كعمود محورى للذات، ليس شعوريا تماما، فهو ثروة خاصة يمسك بناصيتها صاحبها، يخفيها بخاطره، ويحافظ عليها من عيونهم:

“هذه الحياة: سرى المكنون، الخفى، أخشى عليه أن يُكتشف.. حتى لقد صرت أخشى أية نظرة يلقيها علىّ أحد مخافة أن ينفذ إلى أعماقى ويكشف سرى: وعشت حياة داخلية غنية” (ص:218).

هكذا يعلمنا ديستويفسكى أنه بقدر حاجتنا الى” الشوفان” فنحن نحتاج الى “السرية” و” الستر”، إننا يمكن أن نعد هذه الحاجة الى ” السرية” حاجة أصلية جديدة، وأن التوازن بين هاتين الحاجتين والتبادل بينهما (الحاجة إلى الشوفان فى مقابل الحاجة إلى التغطية – السر الخاص-) هو من أهم موازين الهارمونى الصحى، وأحسب أن هذا التوازن يساهم فى تحديد حركة الابتعاد والاقتراب من الآخرين، ومن ثم، فقد كان الابتعاد المتبادل بين ألكسندرينا ونيتوتشكا ضروريا:

” كان يلوح لى أنها تبتعد عنى بقدر ابتعادى عن الطفولة” (ص:219).

وترتب على هذا الابتعاد المتبادل أن أصبح لكل منهما سره الخاص:

” فلما أصبحنا سريين…. لم نتقارب بعد ذلك أبدا”(ص: 219).

الاضطرار للأبوة:

ابتعدت نيتوتشكا عن ألكسندرينا حذرة ثم تبرما :  “حتى تطور حذرى منها الى تبرم ثقيل” (ص:219) ولكن ذلك لم يعن أبدا نسيان جميلها أو نسيانها أو التوقف عن التعاطف معها أو التفكير فيها ثم تحمل مسئوليتها لما آن الأوان. هنا يجدر بنا أن نشير الى مقاومة الوالدين – عادة – لهذه الخطوة الانفصالية نحو السرية، نظرا لصعوبة تصورهم أن الابتعاد والتبرم لا يعنى بالضروة الهجر والانفصال عنهما، وإنما هو يتيح حركة التقدم والتأخر بمرونة أكثر فأكثر لتحمل مسئوليات جديدة بقدرات جديدة، ليس فقط نحو أنفسهم وإنما أساسا نحو من تركوهم من الأهل تبرما وثورة معا. ديستويفسكى يعلمنا ذلك، لأن ابتعاد نيتوتشكا حتى الضجر دفع بنموها ووعيها إلى درجة اكتملت فيها رؤيتها لزوج أمها الجديدة، وخاصة بعد اكتشاف براءة المتهمة وإصراره على امتلاكها بمواصلة التأثيم المستمر واصطناع الرأفة والعفو.

لقد كان لنيتوتشكا زوج أم أولى “يافيموف” لم تستقبله إلا باعتباره أباها ولم تعامله إلا باعتباره إبنا لها، أما زوج أمها الجديدة المدعو بطرس الكسندروفيتش فهو لم يمثل لها من أول لحظة إلا “غريما خبيثا” بشكل ما:

” … قد أوحى إلى زوج الكسندرين ميخائيلوفنا من أول نظرة بشعور مؤلم لم تزده السنون الا تفاقما” (ص:201).

” وكان فاتر المزاج قليل الكلام لا يجد موضوعا للحديث حتى يخلو إلى زوجته، كان كأنما يزعجه وجود شخص آخر إلى جانبه”(ص:201).

هذا النوع من الشخصيات يبدو انطوائيا لأول وهلة، وهو كذلك، لكنه لا يحقق انطوائيته بالابتعاد وإنما باستعمال الآخرين من “الظاهر”، وتحديد أدوار من حوله بأساليبه الخاصة. هذه الشخصية، بذلك التعويض إنما تندرج تحت نوع من الشخصيات التوجسية الحذرة، وقد حددت هذا النوع من العلاقة الذى تمارسه مثل هذه الشخصيات تحت اسم الايهام بالذنب (التأثيم) (2)، على حد علمى لم يسبق وصف هذه العلاقة وصفا مباشرا حيث كان – ومازال – الشائع دائما هو ما يعرف بالشعور بالذنب، دون الاهتمام بدرجة كافية  بالإذناب أو التأثيم الذى  وصفه ديستويفسكى هنا بكل دقة :

1- “وكان زوجها يذعن لرغبتها أحيانا (فى سماع قطعة موسيقية وصلتها مؤخرا أو رأيها فى كتاب جديد قرأته… الخ) بل قد يمضى إلى أبعد من  ذلك فيبتسم ابتسامة كريمة سمحة ! غير أن هذه الابتسامة كانت تزعجنى حتى أعماق نفسى (لا أدرى لماذا) كما كانت تزعجنى بدورها أوضاع الانقياد والذل من جهة الزوجة(ص:203،104).

2ـ “… وينظر إلى امرأته الفزعة، على حين غرة، نظرة تعبر عن الرحمة والشفقة فأرتعد أنا – كأن هذه الشفقة تنصب على، وكأن شعورا بالعار يغشانى أنا أيضا“(ص: 204).

(لاحظ القدرة على الإيهام بالذنب… حتى لغير ذى شأن بالحادث الأصلى المقصود).

3ـ ” وكان الزوج – أخيرا – يضع لهذا الموقف حدا إذ ينهض من مكانه، ويبدو كأنه يحاول أن يخنق فى نفسه كل حنق وكل انفعال، ثم، بعد أن يدور فى الغرفة عدة مرات، فى صمت حزين، يصافح زوجته ويزفر زفرة عميقة، ويقول بضع كلمات موجزة مضطربة كأنه يحاول أن يواسى زوجته، ثم يترك الغرفة… فتنفجر ألكسندرين ميخائيلوفنا فى بكاء سخين، أو تغرق فى حزن رهيب لا ينتهى، وكان فى بعض الأحيان يدعو لها وهو يرسم إشارة الصليب” (ص: 204).

4ـ ثم يطفق أخيرا يبكى معها ،إلا انها كانت تنتفض فجأة انتفاضة من تيقظ ضميره وشعر أنه ليس من حقه أن يُغتفر ذنبه (أنظر الى أى مدى دخل بداخلها)، كانت تهولها دموع زوجها، فإذا هى تزداد لوعة واضطرابا ونحيباً فترتمى على قدميه تسأله الغفران وسرعان ما يجود عليها به” (ص:205).

5ـ هذه الشفقة المتلبسة التى يشعر بها نحو زوجته المريضة (3)….. وهذا القلق الذليل من جانب ألكسندرينا ميخائيلوفنا (ص:206).

هذه الشخصية المؤثِّمـة وصلت إلى نيتوتشكا بكل أبعادها حتى شكت فى صدق” الحكاية” قبل اكتشاف” سر البراءة” فى الرسالة الرقيقة التى عثرت عليها صدفة فى أحد الكتب فى المكتبة، كل ذلك يحدث جنبا الى جنب مع نضجها وابتعادها بعالمها الداخلى عن ألكسندرين الأم، بما يصاحب ذلك من زيادة وعيها بالقراءة بعد أن شبعت جزئيا من أمومة مواكبة حقيقية مما هيأها أن تواجه هذا الزوج بكل قوته وقسوته وكأنها مسئولة عن ألكسندرينا، تواجهه كوالد حازم يعرف ما يقول وما يترتب على ما يقرر، بكل الصراحة تعلنه رغم خوف ألكسندرينا وتوسلاتها:

” لعلك أردت أن تبرهن على تفوقك، أن تسيطر على زوجتك، ولمن لماذا؟ لكى تظفر على ما يسكن رأسها من أشباح؟ لكى تسيطر على خيالها المريض؟”.  الى أن قالت فى حزم الوالد المسئول:

“اعفنى من إيضاحاتك، ولكن انتبه، أننى أعرف حق المعرفة، أننى أقرأ حقيقتك فى نفسك، لا تنس هذا” (ص:283).

فلنعرف هذا تمام المعرفة، أن ديستويفسكى يقرأ حقيقة أنفسنا، وها هو يقرؤنا اياها، فهل نفعل؟. هكذا بدأت نيتوتشكا “أما” خائفة وانتهت”أبا” مسئولا مارة بدور الدمية فالطفلة فى رحلة يكاد لا يعرف مسالكها –هكذا- إلا هو، ومن يحاول معه، ومعنا.

لم أتطرق الى جوانب كثيرة من عطاء ديستويفسكى فى هذا العمل العظيم (4) مكتفيا بهذا البعد المحدود حول الطفولة وهوامشه الموجزة ولتأكيد جهلنا بماهو طفولة سأواصل عرض البطل الصغير فى ايجاز حتى نرى ما يمكن:

من قصة “البطل الصغير”

اللعب بالطفولة: والأطفال

يتكرر فى قصة البطل الصغير التى قدمنا موجزها فى البداية معنى هذا النداء المتحدى “ايها الكبار أنتم لا تعرفوننا”. تبدا القصة بهذا الاعلان:

“.. ولا شك أنى لم أكن إلا طفلا” (ص:581)

ظل بطلنا الصغير يرفض من البداية كل الميزات التى (المفروض أن) يتمتع بها الأطفال، لأنهم لا يعرفون (ربما مثلنا) حقيقة ما هو طفل وطفولة:

” كان يحرجنى، بل يهدنى هدا ما كنت أتمتع به من ميزات يتمتع بها الأطفال”(ص:586).

“الامتيازات التى كنت أتمتع بها قد أخذت تهيننى” (ص:587).

لنتأمل سويا هذا المنظر الذى يذكرنا بالمثل الصينى الذى يصف الأطفال وهم “يقذفون الضفادع بالحجارة وهم يمزحون ولكن الضفادع تموت جدا لا هزلا” . الكبار هنا هم أطفال المثل الذين يتعابثون بطفولة بطلنا الصغير الذى يمثل ضفادع المثل.

بعد دعوة للجلوس على ركبة الشقراء العابثة مما أدخل على نفسه الاضطراب والارتباك وهى تمسك بيد ضحيتها فى غباء عابث ثم لا تلبث أن تترك يده وتتحول عنه كأن شيئا لم يكن، لا تشعر بالإمساك ولا تشعر بالترك:

“مثلها مثل التلميذ الذى كان يلطم بقدمه رفيقا له أضعف منه من وراء ظهر المعلم، فما أن هرع المعلم نحو مصدر الضجة كالعقاب حتى تحول المعتدى عن ضحيته ساخرا، واصطنع هيئة من لم يفعل شيئا، وعاد الى كتابه مستغرقا فيه” (ص:590).

 ثم هو يعلن رؤيته لهم أوضح وهو يصف قبلاتهم الباردة المعتادة:

“وهن يضرعن إلىّ بصوت واحد أن أفتح لهن الباب حالفات أنهن لا يردن بى سوءا وأنهن لا يرغبن إلا فى إغراقى بالقبل، وهل هناك تهديد أشد هولا من هذا التهديد؟” (ص:606).

الشـئ الخام يتكون باستمرار: الفطرة النامية.

يوجد فى الأطفال شئ خام، شئ يتكون، شئ أكيد وجوده، ولكنه ليس أيا مما نصفه به، هو الحياة، أو مشروع الحياة، أو سر الحياة، ليس البراءة أو السذاجة أو سرعة الانفعال، هو أقرب الى “غريزة الدهشة” و “حفز النمو” و”الخوف من الخطوة التالية” و”الحزن الخفى”، ومن أعجب العجب أن أطباء النفس وعلماءها لا يحبون أن يعترفوا بحزن الأطفال مباشرة، وهم يميلون الى أن يترجموه إلى “التبول اللا أرادى” أو “الخوف من المدرسة” أو “صياح الفراق” أو “هزال الجوع” . بطلنا الصغير هنا يبحث ليتعرف على “هذا الشئ” ويواصل وصف “ذلك الحزن”، ربما يفعل ذلك بأثر رجعى حين يتذكر كيف : “.. كانت هذه العواطف جميعها تجرى تحت سطح الشعور من نفسى” (ص:594)، وهو يعلننا أنه:  “.. وكنت بعد كل هذه الأحداث التى وقعت أشعربضيق وأتمنى أن أصعد إلى غرفتى لأتامل على مهل، ولأرى المشاعر التى كانت تزدحم فى نفسى بشئ من الوضوح” (ص:617) فهى تحت الشعور، ولكنها قريبة.

عن ذاك “الشئ” يقول البطل الصغير:

“… غير أن هناك شيئا ما، شيئا لا يُعرف ولا يحدد كنت أخشاه وأرتعش فرقا متى تصورت أن ينكشف، كنت أجهل حتى ذلك الحين هل يجب اعتبار ذلك الشئ حسنا أو سيئا.. هل يجب اعتباره مدعاة فخر أو مدعاة خزى.. هل يجب اعتباره أمرا محمودا أو أمرا مذموم، وهأنذا أكتشف منذ برهة – على ألم وعذاب – ان هذا “الشئ” مضحك ومعيب، وشعرت فى الوقت نفسه بغريزتى أن حكما كهذا الحكم خاطئ غير انسانى … وكنت عاجزا عن الاعتراض على هذا الحكم القاسى”(ص:606-607).

هكذا يسير بنا ديستويفسكى من التغميض الى التنوير إلى اليقين، ثم يعود الى التشكيك فالتراجع العاجز، ومن السهل أن نتصور أن هذا الشئ هو تسحب الغريزة الجنسية من الداخل ومحاولة إخفائها فى نفس الوقت، لكن الأمر يبدو أكثر تعقيدا وتداخلا، فالشئ هنا هو” الداخل غير المسمى” الدافع للإقدام الرافض للتعرى فى نفس الوقت، وهو يشمل الجنس والاستطلاع والعدوان جميعا.

يحب طفلنا السيدة (م)، وحين يشك بعد دعابة قارصة “أنهم” عرفوا سره، يكاد يتيقن أنه هو ذاته لا يعرف هذا السر، وحين يدمغه بالعار يعود فيرفض كونه عارا ومعيبا، ولكنه لا يستطيع أن يدعم رفضه بدفاع مناسب.

” إننى منذ تلك السن كانت تجتاحنى عاطفة لا تعليل لها فى نظرى، وكان شيئا مجهولا لا عهد لى بمثله يمس قلبى ويحرقه”(ص:586).

عواطف الأطفال وتميز “هذا الشئ”:

إحين يكون هذا “الشئ” “السر” وهو “المزيج الداخلى على وشك التميز؛ والارتباط بالعالم الخارجى فإنه سوف يتشكل تدريجيا فى عواطف متنوعة لكنها غير منفصلة تماما، وهى متبادلة بالضرورة، ولسوف أطرق باب بعضها فى عجالة بحيث نصاحب رؤية ديستويفسكى المنيرة لهذا الجانب الغامض من وجودنا، والذى نزيده تجهيلا بما ندعى معرفته عنه, ومع أن نفس الخطوات هى ما نتابعها فى نمو الطفل أثناء سنيه الأولى، أى من اللاتميز(الشئ) إلى التميز، إلا أن الأمر فى المراهقة (أو قبلها) يأخذ شكلا آخر إذْ يتدخل عامل الوعى بما يحدث فى عملية التطور والنمو، وسأكتفى هنا ببعض العواطف الواردة فى النص مما يحتاج الى إيضاح لما جاء حولها وإليكم بضعة أمثلة:

1- غريزة (عاطفة)- الدهشة:

نادرا ما يخطر بببالنا أن الدهشة غريزة، علما بأنها أم الغرائز لأنها الدافع الذى نكتشف به العالم، وهو دافع بقائى مثل الجنس والعدوان، بل إنه دافع قبل الجنس والعدوان حيث التصرف خطوة مبدئية ضرورية تحدد موضوع الجنس والعدوان عادة، ثم إنها هى الدافع الذى سيظل يرتقى حتى يمثل الدافع الى المعرفة فى أعلى صورها فى شكل البحث العملى والإبداع عامة، وربما يرجع إهمالنا لها لخوفنا منها بعد أن وصلت حياتنا إلى كل هذا الركود، ووصلت معتقداتنا إلى كل هذا الجمود. لكن ديستويفسكى يذكرنا أن هذا لا يصح؛ وهو يتكلم عن “الشئ” ربما لنربطه بحديثه عن الاستطلاع والدهشة:

” لست أفهم شيئا من هذا النهم المضحك إلى الاستطلاع، كل ما أتذكره أن مشاعرى فى ذلك الصباح قد أثرت فى نفسى وأغرقتنى فى دهشة غريبة” (ص:603).

2- غريزة (عاطفة) العدوان:

يبدو أن ديستويفسكى كان له موقف خاص من العدوان فى مرحلة تطوره الباكرة التى نحن بصددها، فهو فى هذا العمل  يخافه حتى لا يراه إلا محَّورا بشكل أو بآخر (5)، وهو  يرسمه خارجا عن الطفولة أصلا (فالستاف ونيتوتشكا)، وهو  يجعله عدوانا مضمرا فى شكل أمنيات القتل (يافيموف ونيتوتشكا: تجاه أمهما)، وحين واجهه فى البطل الصغير جعله فى شكل مداعبات قاسية وإهمال جارح من جانب “الشقراء” القاسية أساسا، أما فى شكله الصريح فقد أورده فى مشاعر الحصان (6) وخدم الإسطبل أساسا (وكلاهما عبر عن صاحب الحصان بطريق غير مباشر):

“وكأن مشاعره ( صاحب الحصان) كانت تنتقل الى خدم الاصطبل الذين كانوا يشعرون بزهو شديد لأنهم سيفرضون على المشاهدين حصانا قادرا على أن يقتل إنسانا بغير سبب” (ص:609).

أما الحصان فهو:

“مثله مثل الشرير الذى لا سبيل الى إصلاح خلقه والذى يعتز بما يقارف من أعمال أجرامية” (ص:609).

 3- حزن الأطفال:

حزن الأطفال، هو – كما أشرنا – شعور خفى متداخل، ثم إننى لا  استطيع أن  اعتبر الحزن بالذات من الغرائز الأولية مثل الدهشة والعدوان، هو عاطفة مركبة بالضرورة، وهو يتعلق بمحاولة الاقتراب والانسحاب من الاخر معا، وبتفاعل معين نحو صورة الذات يصل إلى مستوى الشعور، وسوف نحاول أن نرصد حزن بطلنا الصغير سواء الذى شعر به هو ذاته، أو الذى رآه فى الآخرين.

أما كيف واجه بطلنا الصغير حزنه شخصيا فنسمعه معاً:

  • “فى بعض الأحيان أعتزل المجتمع بتأثير حزن مبرح” (ص:586).

  • “.. شعرت بقلبى ضعيفا مقروحا فى قسوة فكنت أسكب دموع العجز..، أنى مهتاج النفس أغلى استياء وغضبا لا عهد لى بمثلهما من قبل، ذلك أن هذا الحادث (7) كان أول حزن كبير أصابنى” (ص:607).

(جـ) “وقفت على درجات المدخل متألما من هذه المصيبة الجديدة أنظر حزينا كئيبا الى موكب العربات” (ص:608).

(د) ” وكنت على وجه الخصوص حزينا حزنا رهيبا، مازلت أتذكر ذلك”(ص621).

“الطفل يحزن”، هكذا يعلمنا ديستويفسكى، وعلينا أن نتعلم منه ونراجع عبث معرفتنا عن الحزن عامة وعن حزن الأطفال خاصة. ( وصوف سنرجع الى مناقشة ذلك) . بطلنا الصغير يرصد الحزن فى الآخرين، ولا يرصد حزنا (أو غيره) إلا من يعرف ويعايش ما يرصد، ومن أمثلة ذلك:

  • إن عينيها الواسعتين المتلئتين نارا وقوة حزينتان (ص: 592).

  • إن هذا الخوف الغريب يسكب على وجهها الهادئ هدوء عذراء إيطالية، ويضفى عليه أسى وكآبة يبلغان من القوة أن الحزن يتسرب الى نفس من ينظر إليها ويتأملها(ص:592) ” ألم أقل ذلك؟”

(جـ) ” كانت ذاهلة، وكان يبدو عليها الحزن والتفكير”(ص:599).

 وقد كان بطلنا يرى الدموع ويصنفها كمن يرسم لوحة الحزن من داخل:

(د)”… لقد كانت متجمدة شاحبة كمنديلها، وكانت تترقرق فى عينيها دموع كبار” (ص:6.2).

(هـ) ” وها هى ذى ترفع نحو الذين يحيطون بها وجها صغيرا ساذجا متوحشا ترتعش فيه دمعتان صغيرتان كالبللور” (ص: 615).

الذى يستطيع ان يحزن، وان يلتقط الحزن هكذا، يستطيع أن يلتقط عكسه، والبلادة (وليس الفرح) هى عكس الحزن (والفرح معا)، وقد ذهب بطلنا الصغير يصفها بكل دقة فزوج محبوبته من هؤلاء الذين:

“لا يقومون بعمل البته بل يقضون أوقاتهم فى فراغ ولهو ويملكون فى مكان القلب قطعة من  شحم” (ص: 596)

“إن جلودهم أسمك وأغلظ من أن تتقبل مثل هذا الامتحان أو مثل هذا النقد” (ص: 597).

 عودة الى المباشرة:

لا ينسى ديستويفسكى – للأسف – عادته المزعجة فى توجيه دروس التربية والعلاج، فهو يحكى لنا هنا – أيضا – مايشبه الموقف العلاجى التحليلى

“ولكن هذه الفتاة كانت صموتا مغلقة رغم أن من المستحيل أن يجد إنسانا أكثر منها تجاوبا مع الآم الآخرين”….. “لأنها كلما أمضت حبا أمضت ألما”.. “لا تأذن لنفسها أن تشمئز أو تنفر من الشر مهما يكن بشعا”(ص: 593).

الفروسية والأبوة:

مر بطلنا الصغير بتجربة يرجع جزء منها للصدفة، والآخر للحب والمغامرة، حين ركب حصانا جامحا لمدة ثوان، لعله يستطيع من خلال هذه التجربة أن يبلغ محبوبته” ماهو”، فتمنع عنه الضحك وتأخذ مغامرته بمنتهى الجد  (8)

 “لا تضحكوا أيها السادة، فالأمر جد ليس فيه ما يضحك” (ص: 615).

هى محبوبته، وهى راعيته، وهو فارس، وقد أتيحت له فرصة رد الجميل حين وقعت منها عفوا “رسالة” تسلمتها من حبيها المسافر وهو يودعها، فالتقطها هو وأعادها اليها – بعد يوم من الانشغال الرهيب – مخفيها فى باقة من الورد كأنه لم يرها، وهو فى ذلك التحايل والحزم والرعاية والعطاء الصامت قد أخذ دور الفارس الكبير وهو دور الأب القوى الحانى، ولم ينس ديستويفسكى فى هذا الموقف المكثف أن يربط بين الأنغام والمشاعر، كما أنى تصورت أن الباقة التى جمعها فارسنا ووضع فيها الرسالة لم تكن سوى مشاعر بطلنا الصغير وقد تجمعت جميعها فى هذا التعيين الماثل. ومثل أى أب حان حقق رسالته فى صمت، ورضى بنصيبه من الفراق يسعد بطلنا الصغير بسعادة محبوبته وهو من الألم فى حال.

“لقد تبدد ألمها كالدخان، واعترانى أنا احساس مؤلم عذب قبض صدرى، كان يشق على نفسى أن اخفى عواطفى” (ص:228)

وبانتهاء واجبه الأبوى الفروسى معا، مع معايشته آلامه العذبة، يرجع الى مسيرة نموه فيكتشف أن الشئ الذى بدأ به ما زال لم يُكشف:

“… ولكن نفسى كلها كانت تفيض أسى شجيا ممتعا فى آن واحد، كانت نفسى تهتز بشعور واضح ونبوءة بينة، وترتعش فى انتصار خائف فرح معا و تنبض نبض جريح” (ص: 229).

ثم

“ودفنت وجهى فى يدى واستسلمت بلا مقاومة لأول اكتشاف من إلهام قلبى، استسلمت للتنبؤ الغامض بطبيعتى… لقد انتهت طفولتى فى تلك اللحظة”. (ص: 229).

وتقفل القصة بنفس الطريقة.. فى “لحظة”،

 دائما “لحظة”.

تعقيــب

وقفة للمراجعة نحاول فيها أن نتذكر عدة أسئلة سبق طرح بعضها تقول: هل هذه هى الطفولة؟ كيف كتبها ديستويفسكى؟ وكيف رآها إلى هذا العمق قبل أن يكتبها؟ أهى طفولته هو أم طفولتهم هم؟ ومن هم؟ وهل هم من نسج خياله تماما؟ وإلى أى مدى ينطبق هذا الخيال على واقع الأطفال لدرجة أن يعتبر النص الأدبى مرجعا يقف على قدم المساواة إن لم يفق الملاحظة العلمية؟ وهل لديستويفسكى وضع خاص يجعلنا نأخذ منه دون غيره؟ وماعلاقة الأدب عن الأطفال بما يسمى الأدب للأطفال؟.

سبق أن اجبت على بعض هذه التساؤلات فى المقدمة، ولكن يبدو أن ذلك يحتاج إلى بعض الإيضاح والمراجعة حتى بعض التكرار بعد رحلتنا هذه مع النص:

لنبدأ من الآخر للأول:

أولا: إن ما يمسى أدب الأطفال ليس له علاقة مباشرة بهذه الدراسة (أو بالأدب عن الأطفال عامة). لا نيتوتشكا ولا البطل الصغير بقادرتين على مخاطبة الأطفال، وإنما هو أدبُ يخاطب الأطفال الكامنة فى كيان الكبار، وللأسف فإن ما يسمى أدب الأطفال هو محكوم فى النهاية – وخصوصا فى أيامنا – هذه بتصوراتنا الساذجة عن الأطفال، وليس بحدسنا المباشر لطفولتنا وللطفولة من حولنا (9)، ورأيى أن الأساطير القديمة (غير التربوية – هكذا يسمونها) والحواديت وما كان يسمى بالأمثلة (لا يعنون بها المثل والحكم المختصرة) كل ذلك هو نوع من أدب الطفل المناسب الذى تحاربه الآن كل وسائل التربية والإعلام نتيجة للجهل والخوف والتسطيح جميعا، وليس هذا مجال الخوض فى ذلك تفصيلا.

 أما الأدب عن الطفولة فهذا لا يكاد يندرج – ايضا – تحت ما يسمى تيار الوعى، لأن الوعى هنا رغم أنه وعى “الرواى” إلا أن المقابلة بالواقع تنفى أن الطفل فى هذه السن يمكن أن يكون هذا الرواى الذى يصف من تفاصيل تكاثيف العواطف وحاجات الطفل وآداب التربية وقواعد العلاج ما لا يمكن لطفل كائنا من كان أن يصفه، فأى طفل هذا الذى يمكن أن يقول: “كانت تهتز بشعور واضح ونبوءة بينة، وترتعش فى انتظار خائف فرح معا”؟  لكن هذا الطفل العاجز عن هذا الوصف إنما يعيشه هذه الخبرات  بنفس هذه الدقة كاملة عميقة نابضة، ليصفها دوستيفسكى بكل ما حقيقتها وتفاصيلها، اذن فهو تيار وعى ديستويفسكى “وليس تيار” وعى الطفل الواقعى أو المتخيل؟ المنهج الفنيومينولوجى هو المنهج الذى يوضح كيف ذلك. . المبدع يكون مبدعا بقدرته على التقاط أى شىء، وكل شئ من مختلف الأعماق حتى ليصبح هوهو، ثم هو قادر على هضمه، ثم إعادة افرازه،  تنظيما جديدا قادرا على الانتقال للآخر، بغض النظر عن مدى قدرة الموضوع قيد الإبداع على الإلمام بذاته وطبقاتها ، أو رصدها، أو وصفها,.

ذكرت فى الفصل الأول اجتهادى الخاص بالنسبة لديستويفسكى فيما يتعلق بحالة الصرع التى كانت تعاوده، وكيف حيث  أن الوجه الايجابى لهذا المرض هو الذى سهل عليه رحلات “الداخل والخارج” حتى اكتسب هذه القدرة الفائقة التى سمحت له أن يعيش  شخوصه حتى يعطينا كل هذه الرؤى.

ملاحظات خاتمة

إن انبهارنا بديستويفسكى عامة لا ينبغى أن ينسينا أنه كتب هذين العملين فى بداية ابداعاته عامة، وأن ثمة ملاحظات قد وردت فى الدراسة بشأن الإفراط فى المباشرة، والنصائح،مثل شرح قواعد التربية ، مما كان يقلل من مستوى التشكيل الأدبى فى أكثر من موقع.

كما تجدر الإشارة إلى إفراطه المبالغة فى التعبير عن العواطف وخاصة بالبكاء (من كل الأطراف) وكذلك بالأحضان والإغماءات. قد يصح أن نواكب الداخل بكل التفاصيل فنفيض فى عرض تكثيفاته وتراكماته وعلاقاته، ولكن أن يترجم هذا الداخل دائما – أو غالبا – الى تعبيرات درامية مفرطة الوضوح بهذا الشكل فهو أمر غير صحيح وهو يسطح أكثر منه يعمق. وقد يرجع بعض ذلك الى طبيعة ديستويفسكى وطبيعة عواطفه، شخصيا وطريقة تعبيره عنها (ويمكن فى ذلك الرجوع الى خطاباته الى شقيقه مثلا وهو فى المنفى).

[1] – يحيى الرخاوى “تبادل الأقنعة” (دراسة في سيكولوجية النقد) الهيئة العامة لقصور الثقافة (2006)

[2] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 285

[3] – كالعادة: لم يكن مرض ألكسندرين مرضا محددا، وإن كان  ديستويفسكى لم يتركها دون نوبات كالعادة أيضا:” ودامت الأزمات العصبية بعد الإغماء ساعتين”.

 [4] – مثلا: وصف ديستويفسكى العواطف والانفعال فى تراكمها وتبادلها وتناقضها وصفا يطالبنا باعادة النظر فى كل ما نعرفه عن العواطف والانفعال راجع على سبيل المثال: غم يافيموف وضجره حتى الهياج(ص:39)، التبادل بين الحزن والخوف(ص:115)، الجرأة والألم- الجرأة = النبيلة(ص:50،49)، الخوف من الخوف(ص:240)، تواكب الألم والسعادة(ص:69) تواكب الحياء والتوسل(ص:81) القلق الأصم(ص:86) الفرح الرقيق(ص:140) اللطف المفطور(ص:145) الدهشة لحد الخوف(ص:146) استقبال الكراهية(ص:131) تجهيل العواطف(ص:167) الخوف العذب(ص:170) كآبة القلب ومشاعره الأخرى(ص:175) الشفقة المتلبسة والقلق الذليل(206). وكذلك سبق ديستويفسكى فى وصف الحيل النفسية مثل حيلة تكوين رد الفعل reaction tormation(ص:274) أو التسامى(ص:275) أو الاسقاط(ص:280).. وقد أرجع لكل هذا فى العمل الشامل الأخير، وقد لا أفعل .

[5] – استطاع ديستويفسكى بعد ذلك أن يواجه العدوان ويصوره بكل وضوح وصراحة وبنفس العمق والروعة ( الجريمة والعقاب – الأخوة كرامازوف… الخ).

[6] – الحادث الذى تدور حوله القصة كان فى محاولة ركوب حصان بكر لم يسبق ترويضه من فارس شاب عزف عن ذلك فى آخر لحظة، ثم من  بطلنا الصغير فى اندفاعةٍ بطولية غرامية غير محسوبة، والإشارة هنا الى المضيف صاحب هذا الحصان:

 [7] – حادث التفكه على السيدة(م) باتهامها بعلاقتها بهذا الطفل البطل ومحاولته اليائسة الدفاع عنها أمام موجة الضحك القاتل .

[8] – قارن أهمية أخذ عواطف الأطفال وآلامهم مأخذ الجد فى علاقة نيتوتشكا بالكسندرين ميخائيلوفنا 

[9] – فى دراسة نقدية لاحقة، قمت بمقارنة بعض قصص هانز كريسيتان أندرسون للأطفال مع شعر (رجز) أحمد شوقى لهم (وجهات نظر  عدد مارس 2005)- كما قدمت بنقد قصص أخرى لأندرسون (بائعة أعواد الكبريت الصغيرة) (روز اليوسف – مقالات الإنسان-  25-11-2005) التى من خلالها نتعلم ماهية الموت ليس فقط عند الأطفال، بل للكبار أيضا.

 

  admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *