الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من فيض نبض الطب النفسى (1) “أنت معنى الكون كله!!” الفصل الثالث: “من أنتَ وأين أنت؟ “أنت معنى الكون كله”

من فيض نبض الطب النفسى (1) “أنت معنى الكون كله!!” الفصل الثالث: “من أنتَ وأين أنت؟ “أنت معنى الكون كله”

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 23-8-2020

السنة الثالثة عشر

العدد:  4740

 كتاب: من فيض نبض الطب النفسى (1)

 “أنت معنى الكون كله!!” (1)

  الفصل الثالث:

من أنتَ وأين أنت؟

“أنت معنى الكون كله”

وقعت السلطة العلمية مؤخرا (ليس مؤخرا جدا) فى نفس المأزق الذى وقعت فيه السلطة الدينية سابقا (وحتى الآن). استولت المؤسسات الدينية على احتكار معانى الإيمان، مع أنه نشاط الوعى البشرى لكل الناس، الوعى الأرقى والأكرم كدحا إلى وجه الحق سبحانه وتعالى، كذلك استولت المؤسسات العلمية (الممولة جدا، عادة) على ناصية المقدسات العلمية، بما فى ذلك العلوم الإنسانية. احتكرت السلطة الدينية تفسير النص الإلهى، كما كادت السلطة المؤسساتية المعرفة العلمية أن تحتكر المعرفة العملية بصفة عامة.

 الإيمان يدخل القلب دون أن يستأذن أية وصاية رسمية، نبهنا القرآن الكريم من قديم إلى ذلك: “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا، قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ” (الحجرات: الآية 14). على نفس القياس، يمكن تصور أن بعض من يشتغل فى العلم لم تدخل المعرفة فى وعيهم، وبالتالى عجزوا عن استيعاب نبضها، وحمل مسؤوليتها، ونقلها إلى اصحابها (عامة الناس: أصحاب المصلحة).

 العلم الذى لا يصب فى عامة الناس لا لزوم له، وقد يضر (مثل القنبلة الذرية، والإعلام المغرض) على المتلقى أن يمارس حقه فى استعمال عقله النقدى وعقله الاعتمالى الوجدانى، فى صالح تلقى المدركات، وبالذات: فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية.

قلنا من البداية أن المعرفة هى حق متاح للجميع، وهى تأتى من أكثر من مصدر، وأنها أكبر وأرحب من العلم، تماما مثلما أن الإيمان أكبر وأرحب من التفسيرات الدينية الرسمية.

خطأ قراءة المعلومة العلمية وارد عند الشخص العادى، كما هو وارد عند طالبى العلم والعلماء سواء بسواء. كثير من المختصين يخطئون حين يستسلمون للحروف المطبوعة، حتى فى أحكم المجلات العلمية إذا هم قرأوها كنصٍّ مقدس، دون أن ينتبهوا إلى ضرورة القراءة النقدية.

نبدأ هذه المرة بأن نحوم، بحذر شديد، حول حـِمـَى ما يسمى “علم النفس”، وهو العلم الذى يعتقد العامة، بل وكثير من الخاصة (من أول رجال الإعلام حتى المبدعين) أنه الأكثر معرفة بما هو “إنسان”. إذا كان الأمر كذلك (وهو كذلك إلى درجة ما)، فلا بد أن نتعرف مجددا باستمرار على النقد الشائع حول هذا العلم، خاصة إن ما يجرى فى العالم كله الآن فى هذا الشأن هو شىء رائع، نتعرف على بعضه.

نبدأ بمقدمة نص من أحد تجليات ما يسمى “علم النفس الثقافى” فيما يخص “الذات الإنسانية”.

النص:

من مقدمة كتاب علم النفس الثقافى للذات الإنسانية The Cultural Psychology of Self (2) بعنوان فرعى يقول: المكان، والأخلاقيات والفن فى عالم الإنسان”. وهو كتاب لم يترجم بعد، وهو يؤكد على علاقة الإنسان بالموضع/المكان/ المحيط.

يقول النص:

“…. أن تعرف من أنت، وكيف أنت، هو الناتج الطبيعى لمعرفتك “أين أنت”،

 إن هذا الكتاب هو سلسلسة من الانطباعات حول تيمة “الذاتية” فى علاقتها بـ”الموقع”، ومن ثم طريق التواجد والانتقال فى داخل عوالم البشر.

إن كلمة “موقع” نادرا ما تظهر فى فهارس كتب علم النفس مع أنها تبدو لى قادرة تماما على تنظيم كثير من التفكير المعاصر “الفلسفى/النفسى/الجمالى”

القراءة:

علم النفسى الثقافى هنا يؤكد على أن الذات لا توجد إلا وهى متموضعة فى المكان، ثم انطلاقا من “مكانها فى العالم” تكتشف ذاتها فى حركتها مع ما حولها. إن علاقتنا بالوجود “فى المكان”، وبالوعى بالزمن بما هو، وبكونه (الزمن) مكان مرن جدّا (أيضا)، هى علاقة ضعيفة للغاية بعد أن طغت العقلنة على المعرفة، وطغت المعلومات المرموزة على الخبرة المعيشة.

فكرة “الهنا والآن” أصبحت أساسية فى معظم الممارسات العلاجية وهى جديرة بالنظر فى الحياة العادية.

تطبيقا للدعوة لاستعمال العقل النقدى، والتجربة ندعو من شاء من القراء أن ينظر إلى نفسه وفى نفسه وسط ما يحيط به فعلا – من ناس وأشياء- الآن حالا،

 ثم يعود ينظر إلى نفسه وفى نفسه – كما اعتاد – منفصلا عن كل ما حوله إلا من تبادل ألفاظ تصل أو لا تصل.

ثانيا: قراءة فى نص صوفى

(من مواقف مولانا النفرى)

 قبل النص

للأسف، نحن حين نتكلم عن التراث، وعن الأصالة، نلجأ إلى أكثر التراث جمودا، وأثقله وصاية، وندعى أن هذا هو تراثنا، ودمتم، أو نفعل ما هو أقبح من ذلك، بأن نقتطف نصا من التراث، ثم نترجمه إلى ما هو معاصر جديد من علم جزئى، وهات يا فخر، وهات يا اختزال، ونحن لا نعرف أننا بذلك نتنازل عن تراثنا لا نحييه.

 التراث لا يحيا بإعادته، ولا حتى بمحاولة تفسيره بلغة أحدث هو لم يعرفها أصلا، وهو غنى عنها فعلا. التراث ينبغى أن نعامله باعتباره حوار بين مستوى الوعى الحالى والوعى السليم السابق، فيصبح مصدر إلهام، ومنار معرفة كلية، معرفة إن كنا أهلا لها، كما ندعى، فسوف تتجلى فينا وبنا حالة كوننا نمارس وجودنا الحالى فعلا بشكل أرقى وأعمق، ومعنى أجمل وأشمل، وحضورا أبدع وأكثر جدوى.

هذه الثروة الهائلة التى تركها لنا العارفون (من المتصوفة العظام وعامة الناس الذين لم يتشوهوا) دون وصاية مؤسساتية، لماذا لا ننظر فيها ونحن نحاول أن نتعرف على أنفسنا، على ماهية الإنسان؟ لماذا يحتفل الغرب بهذا العارف بالله مولانا النفرى أكثر من احتفالنا به؟ لماذا يقدرون عمر الخيام عالما رياضيا، وشاعرا وجوديا، ومفكرا مخترقا، أغلبنا لا يعرفونه إلا تائبا خائفا؟

 فكرة “الاستلهام” التى ندعو إليها فى هذا العمل ليست جديدة، هى غير التفسير وغير التأويل، وغير الشرح، وغير التبرير. الاستلهام يكاد يكون “إبداعا على إبداع”. يصلك النص كله، تفحصه جميعه أو تفحصه جزءا جزءا، لكنه يعود يملأ وعيك كله، ثم تدعه جانبا، فيلهمك ما يتجلى منك وبك فعلا وحضورا وإبداعا هنا والآن.

مولانا النفرى ترك لنا مواقفه ومخاطباته، فاحترنا فيها. هى من الغموض على العقل العادى بحيث يمكن أن يرفضها المنطق السليم، أو حتى المفسر الدينى التقليدى، وهى من الإشراق فى الوعى الذى لم يمُتْ بحيث توحى إليك بشجاعة على الحق، واختراق لسجن اللفظ، فتصل بك من خلالها إلى ما تستطيع.

دون الدخول فى التفاصيل للتعريف بالنفرى، ندعو القارئ أن يتأمل جرأة هذا الرجل، وهو يسمح لوعيه، بعد أن امتلأ بالحق ربه سبحانه، أن يخرج هكذا مباشرة بتعبير” وقال لى كذا وكيت”. هو لم يدّع أن الله خاطبه أو أرسل له وحيا قال ما قال، لكنه استلهم من النص الإلهى، ومن الحضور الإلهى فى وعيه ما سمح له بأن يقول مثل ما نقتطفه الآن من : موقف أنت معنى الكون (ص 5)

النص

“وقال لى: أنت معنى الكون كلّه”

حين يستلهم النفرى من وعيه الممتلئ بربه سبحانه، أن الحق تعالى قد قال له “أنت معنى الكون كله”، هل يليق أن نرجع إلى السلطة الدينية نستسمحها أن نقرأ هذه الكلمات الست، ثم نستأذنها أن نفهمها، ثم نسألها كيف نستوعبها؟ أم أن من حقنا أن نقف أمام حقيقة بسيطة ترد فى هذا النص تؤكد على أن الإنسان، لكى يكون كذلك (إنسانا)، لا بد أن يكون هو ذاته “معنى”.

ها هو النفرى يأتى فيقول لنا إن ربه أكد له أنه “معنى”، ولا أحسب أنه يعنى نفسه شخصا، وإنما هو يشير إلى وجوده إنسانا (فى الأغلب).

لو أن شابا أحسن الاستماع إلى هذا القول الذى يتكون من ست كلمات، ثم صدّقه كما هو، ألا يكون هذا حافزا أكثر فأكثر أن يصبح إنسانا بحق بدلا من أن يسارع خائفا يستشير من لا يعرف مجرد اسم النفرى؟

 إذا قرأ شاب هذه الكلمات الست، وسمح لها أن تدخل وعيه دون وصاية (وليس أن تـُـرَصَّ فى عقله بفعل فاعل)، ثم صدَّقها، هل يمكن أن يغش فى الامتحانات بعد ذلك؟ هل يمكن أن يعيش بلا هدف؟ هل يمكن أن يسمح لنفسه أن ييأس أو يهرب؟

فإذا كان لهذا النص بعض هذا الأثر، فكيف لا نقدمه المرة تلو المرة لوعى الناس، دون شرح، ليستلهم كلٌّ منه ما شاء كيف شاء، ثم لا نرى نتيجة ذلك إلا فى فعل مبدع، أو أداء راق، يليق بأن يكون الإنسان، كل إنسان: “معنى الكون كله “؟! مع الحذر من التفرد والتشرذم دون نقد أو حساب.

حين حاولت أن أستلهم هذا النص بما تيسر لى، قمت بذلك مع د. إيهاب الخراط نستلهم نفس النص، قمنا بذلك كل على حدة، وإن كانت لى فرصة أن أقرأ استلهامه قبل أن أسمح لما وصلنى أن يتجلى فأكتبه. صديقى (إبنى) هذا مسيحى، طبيب نفسى، قس، شديد النشاط، راسخ الحضور. لم أستأذنه فى كتابة ما تحرك عندى وخاصة بعدما رجعت لأصل “النص” (3) كما تجلى لى، قلت، مستوحيا قول النفرى مخاطبا الحق تعالى الذى قال ما قاله للنفرى حين امتلأ به وعيه، قلت أخاطب ربى (4):

حين يملأ الكونُ وعى العابر إليك يتجلّى المعنى،

أنا لست “أنا” حين أكون “معني“.

 حتى لو كنتَ تطمئننى بهذا التكريم، فانا لا أريد أن أطمئن ساكنا.

 أصدِّقك فرِحا مرعوبا،

 لكننى لا أصدق أنك تقصدنى” أنا” بـهذه الـ”أنت.

ومن أنا حتى تخاطبنى هكذا؟ إذا كنتُ أنا أنا، فلا معنى لى، ولا فائدة مني. وإذا كنتُ أنا أنت، ضعتُ فى غباء الغرور الـمستسهِل.

أما إذا كنتُ وسيلة “معناكَ” إليهم، فأنا معنى الكون كله.

أنا، الذى هو ” لست أنا”، أكون معنى على قدر ما يربطنى هذا المعنى بالآخرين، فالكون.

يا فرحتى بالمعنى حين لا يعنى إلا أن أنبض فى رحاب الدورات داخلا خارجا، وبلا إعادة.

 هل يمكن أن أحمدك إلا بأن أجعل لأيامي”معنى؟” فأكون “معنى” الكون.

يتجلى معناىَ فى كل ما هو أنا بهم، أصبحُ أنا معنى الكون بفضلـِك، تدوم أنت كما هو أنت الذى نسعى إليه، دون أن تفارقنا، أو ننسلخ عن أنفسنا، ليتحقق المعنى ونحن نشكِّلُهُ باستمرار دون نهاية.

[1] – يحيى الرخاوى سلسلة “من فيض نبض الطب النفسى (1) “أنت معنى الكون كله!!” (الطبعة الأولى 2020) والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

[2] – Ciaran Benson: (2000) “The Cultural Psychology of Self: Place, Morality and Art in Human Worlds”  Publisher: Routledge  (London & New York)

[3] – يحيى الرخاوى، إيهاب الخراط “مواقف النفرى بين التفسير والاستلهام” الطبعة الأولى 2000، جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى

[4] – كتاب “المواقف والمخاطبات” لمحمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّرى (1935) مكتبة المتنبى- القاهرة.

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *