الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من فقه العلاقات البشرية: (2) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات) الفصل الأول: عن نمو الكلام وعلاقته بالمعنى واللغة (3)

من فقه العلاقات البشرية: (2) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات) الفصل الأول: عن نمو الكلام وعلاقته بالمعنى واللغة (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 25-3-2023

السنة السادسة عشر

العدد: 5684

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(2) [1]

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الثانى:

هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات) (3)

الفصل الأول:

عن نمو الكلام وعلاقته بالمعنى واللغة (3)

………………..

………………..

ملاحظات لاحقة محدودة

(1) كثيرا ما يأتى المرضى عندنا يطلبون تحليلا نفسيا بالذات، وليس علاجا نفسيا، أو حتى علاجا يريحهم فقط، وفى هذه الحالة قد أقول لهم مباشرة: “أنا أعالج أساسا، وليست وظيفتى الأولى هى أن أحلل أو أريّح”.

(2) إنه لا يوجد عندنا حاليا بعد رحيل المرحوم مصطفى زيور – إلا نادرا جدا – من يمارس التحليل النفسى بالمعنى الوارد لا فى الحوار مع مؤلف الكتاب الأمريكى ولا فى المتن الشعرى.

(3) إن الصبر وحسن الاستماع الذى يتحلى بهما المحلل النفسى هما العوامل الفاعلة المسئولة عن التحسن أو الشفاء،

“قلبه الأبيض طيب، وسماعُه لم يـِتْعّيِّب”.

وليس بالضرورة، ولا فى المقام الأول: محتوى ما يقال، وليس أيضا ذكاء التفسير، ولا سلامة تأويله

 (4) إن تعبير “فك العقد” هو تعبير شائع عندنا برغم أنه لا يستعمل عند الأجانب بهذا الاختزال، وهذا ما قصدت به الاستشهاد بهذا المقطع الساخر من فزورة مشهورة تقول:

إشـِـى عدّى البحر ولا اتبلّش

وجوابها الأشهر:

قال لك العجل فى بطن أمه

وهو ما يشير إلى احتمالات التسطيح أثناء التقعر فى التفسير الأبعد، مع أن الأسهل حاضر، لأن أى شخص يركب مركبا صغير، (أو حتى يسير على كوبرى) ينطبق عليه أنه “عدّى البحر ولا اتبلّش” فلماذا تقتصر الإجابة على هذا الرد الصعب. خطر لى أن هذا قد  يقابل تعسف تفسيرات  التحليل التقليدي لأمور ربما هى ظاهرة للعيان أقرب وأيسر([2]).

(5) إن وظيفة “الفضفضة” و”التنفيث”، و”طلـّع اللى جوّاك، أو طلـّع اللى فى قلبك” تغلب على فكر أغلب من يسعى إلى العلاج النفسى أو التحليل النفسى، مع أن هذا “التطليع”، ليس إلا  جزءٌ يسير  من العملية العلاجية، فى البداية فحسب.

(6) إن الإعلام السطحى (انظر: “نفسنة الحياة المعاصرة”)([3]) والدراما التافهة يساهمان فى تشكيل وعى العامة عن موضوع العلاج النفسى والتحليل النفسى، وهما مسئولان عن تثبيته عند مرحلة تاريخية انتهت (مع إسهام بعض النفسيين بشكل أو بآخر فى ذلك).

(7) إن الغالب عند العامة وهم يحاولون الاستعانة بالعلاج النفسى أو التحليل النفسى هو البحث فى الأسباب (الحتمية السببية)، وقد يصلح ذلك مدخلا إلى العلاج، لكنه يستخدم فى كثير من الأحيان فى التبرير أو التفسير وليس كخطوة نحو العلاج النمائى وبسط الوقفة Unblocking & Unfolding.

(8) لم أعرف مـَنْ كنت أعنى بتعبير “وخلايق لابسه الوش زواق”، ربما كنت أشير إلى الإعلام والدراما، لكننى أبدا لم أكن أقصد الزملاء المحللين الذين احترمهم.

إحياء المعنى ليملأ الكلام!!

-3-‏

‏ ‏اللفظ‏ ‏قام‏ ‏من‏ ‏رَقْدِتُـه‏.‏

ربك‏ ‏كريم‏ ‏يِنْفُخْ‏ ‏فى ‏صُورْتُه‏ ‏ومَعْنِتُه‏.‏

يرجع‏ ‏يغنى ‏الطِّير‏ ‏عَلَى ‏فْروعِ‏ ‏الشَّجَرْ‏.‏

ويقول‏”‏يارب‏”،‏

وتجيله‏ ‏ردَ‏ ‏الدعْوَهْ‏ ‏مِنْ‏ ‏قَلْبُه‏ ‏الرِّطِبّ‏. ‏

فى بداية شرح هذه المقدمة بينا كيف يموت الكلام حين ينفصل عن معناه المفيد والدافع والمسئول، لكننا نبهنا أيضا كيف أن هذا الانفصال هو حركىّ مرن، إذا وُظـِّفَ إيجابيا ليكون مفصلا مرنا، يسمح للألفاظ أن تتشابك مع بعضها بسهولة نسبية لتكوين المفاهيم والجمل المفيدة (وهذا هو الشعر).

أشرت بعد ذلك إلى كيف أن لغة الشارع، وبالذات اللغة الشبابية، (وأضيف هنا إليها اللغة المسماة: لغة “البيئة”) هى – بشكل ما – تجديد للغة ولو بدا استسهالاً عشوائيا، من حيث أن ظهور هذه اللغة هكذا هو نوع من الاحتجاج على موت اللغة التى كانت ثرية حين كانت تحتوى معانيها، ثم ماتت داخل الألفاظ المغتربة نتيجة للقهر والإفراغ، ثم ألمحت كيف أن ‏الشعر‏ ‏هو‏ ‏القادر‏ ‏على ‏إحياء‏ ‏الألفاظ‏ ‏وهى ‏رميم‏، بإعادة تشكيلها نغما وصورة.

حين يقول المتن هنا: “اللفظ قام من رقدته”، إنما يذكرنا مرة أخرى بأنه مهما ماتت الألفاظ اغترابا فإنها هى هى الأبجدية التى يمكن أن تتشكل بها اللغة من جديد: شعرا وحفزا وثورة، ربما التعبير الأدق هو “الكمون” انتظارا لبعثٍ ما.

فى خبرة العلاج الجمعى، حين ‏ ‏أواجِهُ ‏ ‏بعض‏ ‏المرضى ‏لأطلب‏ ‏منهم‏ ‏ومنى، ‏ملتزمين بقاعدة: “‏هنا‏ ‏والآن”،‏ ‏أن‏ ‏ينطق أى منا‏ ‏كلمة‏ ‏واحدة‏ ‏أو‏ ‏اثنين‏ ‏بمعناهما‏ ‏الحقيقى ‏مثل‏ “‏أنا أقدر” ‏أو‏ “‏من حقى أن..‏” ‏تقابلنى مقاومة شديدة لا أتوقعها ولايتصورها أحد، مع أن الكلمات تكون شديدة التداول، شديدة البساطة، فنستنتج أنه يبدو أن التركيز فى أن يُحضر الشخص (المريض) فى “هنا والآن” المعنى الذى يحتويه التعبير المطلوب، هو السبب فى هذه الصعوبة.

 فى الألعاب النفسية أيضا فى العلاج الجمعى خاصة، نلاحظ أنه بمجرد أن تضيف صفة “بحقيقى“، أو “بحق وحقيق” ويكمل المشارك بسرعة وتمثيل ما يكتشف به كيف أنه لم يكن يستعمل نفس الألفاظ بهذا المعنى الذى دبّ فيها لمجرد استحضارها “هنا والآن” بمصاحباتها التمثيلية، وفى هذا السياق حتى تدب الحياة فى نفس الألفاظ، فتجرجر ما تيسر لها أن تجرجر من مضمون حتى لو لم نتعرف عليه من قبل، وهكذا.

 ‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏محدد أذكره كمثال، كان شديد الصدق والعنف والدلالة، كانت‏ ‏إحداهن ‏تستنقذ فى مأزق علاجى بالله، وهى تصيح بشكل روتينى فاتر، قائلة: “‏يارب” ‏وإذا بمساعدى ينبهها (‏وهو‏ ‏شاب‏ ‏يحاول‏ ‏جاهدا‏ ‏أن‏ ‏يعيش‏ ‏ويستمر‏ ‏محتفظا‏ ‏بالمعنى‏) ‏أنها‏ ‏لا‏ ‏تعنى ‏ما‏ ‏تقول،‏ ‏وأنها‏ ‏لو‏ ‏كانت‏ ‏تعنيه‏ ‏لأحست‏ ‏بذبذبات اللفظ ‏تخرج‏ ‏من‏ ‏تحت‏ ‏إظفر‏ ‏إصبع‏ ‏قدمها‏، لاحظت كيف ساعد حماس مساعدى الشاب وتلقائيته فى أن يستعيد هذا اللفظ “يارب” وهو الذى نقوله فى اليوم عشرات المرات دون أن ينبض بحقه، كيف يستعيد نبضه حين يلتحم بالجسد، فينبض بمحتواه الصعب.

أعتقد أن مثل هذا الإحياء له مظاهر كثيرة فى كثير من نشاطات الحياة التى تحاول فى هذا الاتجاه، مثل الذكر عند بعض الصوفية بترديد اسم معين، ومثل أداء بعض المغنين لنفس اللفظ وهم ممتلئون به، فيصل إلى المتلقى بما يحمله، مِنْ أم كلثوم  إلى مايكل جاكسون،  لا أحسب أن عبقرية غناء أم كلثوم تكمن فى جمال صوتها فحسب، بل هى – كما وصلتنى بعد رحيلها بالذات – ترتبط بقدرتها الفائقة على أن تعطى لكل لفظ فرصة أن تنبض به حياة جديدة، ثم إنى أدركت مؤخرا سر شعبية مايكل جاكسون، حين شاهدته بعد وفاته([4])، جاكسون لم يتوقف عند ملء اللفظ بمعناه، بل تمادى إلى تحقيق عبقرية تمازُج اللفظ مع النغم مع الحركة لجسد “يقول“، فتكتمل الرسالة وتحرك ما يقابلها فى المتلقى فيتصاعد الأداء ويخترق محرّكا الوعى الفردى والجمعى بما هو.

القرآن الكريم بدون تفسير:

أحيانا يكون تفسير اللفظ الخاص فى سياق خاص مفسداً لعملية الإحياء والتحريك هذه، أدركت ذلك حين كان بعض مرضاى يلجؤون إلى ما يسمى “العلاج بالقرآن”، إذ غالبا ما يقوم المعالج – هو وليس المريض – بقراءة بعض آيات القرآن الكريم معتقدا أن هذه الآية أو تلك تعالج هذا المرض أو العرض بالذات، وهكذا، فكنت لا أشجب الفكرة تماما، بل أحدد شروطى الخاصة لاحتمال فاعليتها، فألفاظ القرآن الكريم وصفت بأنها يمكن أن تجعل الجبل خاشعا من خشية الله، فهى – غالبا حتى تؤدى هذا الدور– لا تحتاج تفسيرا بشريا، وصيَّا عليها، بقدر ما تتطلب أن تـَرِد فى سياق، وجرعة، وحالة من التهيؤ تسمح بأن تحرك وعى المتلقى بما هى، وليس بما تعنيه فى المعاجم، أو بما يقوله المفسرون عنها، وقد أذكـّر مريضى بآيات خشوع الجبل([5])، ثم أوصيه إن أراد الاستعانة بالقرآن الكريم أن يقرأ بنفسه جزءا محددا (ربع حزب مثلا، كل تانى يوم مثلا) بالترتيب دون انتقاء ودون فهم ودون تفسير، وأنا لا أقصد بذلك مفعولا سحريا خاصا، لكننى أحاول أن أحوّل ممارسته الاغترابية المفرطة المستسلمة التابعة عن طريق “وسيط”، إلى فرصة احتمال تواصل مباشر بين نغمته الخاصة، ونغمة “المابعد” (الغيب) من خلال هذا الوسيط القادر، أعنى الألفاظ المقدسة، بفضل احتمال التحام نبضها بالوعى الكونى:

“ربك كريم ينفخ فى صورته ومعنته”

 تتلاحم أنغام مستويات الوعى مع بعضها بكل هذا الثراء النابض فى سياقها الخاص، دون لفظنتها الاغترابية‏ ([6]).‏

ربما هذا التوجه، الذى لم أتبينه إلا مؤخرا، كان وراء ما جاء بالمتن منذ أكثر من ثلاثين عاماً مشيرا إلى أن ما تحيى الألفاظ لتنبض بمعانيها من جديد هى تلك الصحوة/البعث، التى تسمح بالتناغم بين الوعى الذاتى والوعى الكونى إلى وجه المطلق، توجـٌّـها إلى وجه الحق تعالى (وليسمه من يشاء ما يشاء)، فتصبح الألفاظ التى كانت قد تحولت بالقهر والإهمال إلى: “ظرف رصاص فاضى مصدِّى ف علبته”، تصبح ملتحمة بكل من معناها، فى تشكيلها الجديد:

ربك كريم ينفخ فى صورته ومعنته”.

التشكيل الأشمل للوعى الخاص والعام:

التأكيد هنا على أن هذا الإحياء ليس عملية عقلنة منفصلة بقدر ما هو أمل فى تشكيل تناغمى بين الوعى الذاتى والوعى المطلق أو الوعى الكونى من خلال ألفاظ استعادت حيويتها، هو ما يلحق ذلك من إشارة إلى وسيط آخر، وهو التناغم مع الطبيعة

“يـِرْجـَعْ يغنـِّى الطير على فـْروع الشجرْ”.

 حين يترسخ الاغتراب حتى تموت الألفاظ أو تكمن هامدة، ينفصل الإنسان عن الطبيعة، وحين يعزف اللحن النابض من جديد، يعود الإدراك إلى تلقى الأصوات لغة قادرة جديدة، قلنا من قبل إن الكلام حين يموت، يصبح مجرد أصوات بلا معنى،

“مر الهوا صفر كإن النعش بيطلع كلام”

 فيتم الاغتراب، وتتوقف حركية النمو، هنا انعكست الصورة فأصبحت الأصوات (أصوات الطير) غناء له معنى يروح يندمج فى اللحن الأكبر فالأكبر أيضا، فيتم التواصل بين الوعى الذاتى، ووعى الطبيعة إلى الوعى الكونى، فهو اللحن البعث الجديد

“ويقول يارب”

الرد يأتى من داخلنا دليلا على عمق التكامل مشيرا إلى بؤرة الوجود المتناغم

“وتجيلـُه رد الدعوة من قلبه الرِّطب”.

وكأن الردّ يأتى ممن هو أقرب من حبل الوريد، ممتدا إلى كرسيه الذى وسع السموات والأرض سواء بسواء، ولعل هذا ما أعنيه عادة، بتناغم الوعى الذاتى مع الوعى الكونى، هكذا تعود الألفاظ بكل عنفوانها وقدرتها لتقوم بدورها فى التناغم والثورة، والتغيير، لتنطلق مسيرة النمو.

………………..

…………………

ونواصل الأسبوع القادم   

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (2) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات)”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] -قارن أيضا “عقدة جوردون” Gordon’s Knot  !!

[3] — نشرة “الإنسان والتطور”، بتاريخ 10-3-2008 www.rakhawy.net  وأيضا : الكتاب الأول من هذه السلسلة “نقد العلاج النفسى : بين الشائع والإعلام والعلم والناس” منشورات جمعية الطبنفسى التطورى 2018 

[4] انظر نشرة الإنسان والتطور: بتاريخ 18-7-2009 ، بعنوان: “أوباما – جاكسون: دوريان جراى، الأصل والصورة”  www.rakhawy.net

[5] – لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله…. الأية 21 سورة الحشر.

[6] – وقد دفعنى ذلك أن أضع فرضا غامضا أوْصَلَ لى كيف يمكن أن يكون القرآن الكريم “وعيا خالصا”، وبالتالى يتلقاه وعى بشرى (او حتى جماد) دون حاجة إلى تفسير، ومع المبالغة فإن التفسير خاصة المعجمى المتعسف قد يحول دون هذا  التواصل بين الوعى والوعى الآخر، وهو على نفس الخط الذى فسرت به تسبيح الطير وكل شىء حتى الجماد.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *