الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / من فقه العلاقات البشرية: (1) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس” الفصل الرابع: “المريض ورّانى نفسى” (4)

من فقه العلاقات البشرية: (1) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس” الفصل الرابع: “المريض ورّانى نفسى” (4)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 11-2-2023

السنة السادسة عشر

العدد: 5642

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(1)[1]

عبر ديوان “أغوار النفس”

العلاج النفسى (مقدمة)

بين الشائع والإعلام والعلم والناس (8)

الفصل الرابع

المريض ورّانى نفسى (4)

………………….

………………….

عودة إلى الفتاوى النفسية:

-12-‏

وساعات‏ ‏جنابهْ ‏يلف‏ ‏أحكامو‏ ‏فْ‏ ‏زواق‏،

                                                             ‏مش‏ ‏أى “‏حاجةْ‏”.‏

يِـفـْـتى ‏كما‏ ‏قاضى ‏الزمان‏ ‏وكأنه‏ ‏جاب‏ ‏المستخبى:

‏ إنّ لازم تبقى  بارد: ذوق وخفــَّه:

أحسن ما تبقى صريح يقولوا جتـْله هفــّة،

‏”‏كُـنْ‏ ‏منافقْ‏”، ‏يعنى “‏جامِلْ‏”، “‏مَشِّى ‏حالَك‏”.‏

تبقى ‏ماشى ‏فى ‏السليم‏، ‏مهما‏ ‏جرالكْ‏.‏

والعواطف‏ ‏تـِتـْشـَحـَنْ‏ ‏جوّا‏ ‏العيونْ ‏زى ‏البضاعـَهْ‏.‏

‏(‏كل‏ ‏ساعةْ‏ ‏نُصّ‏ ‏ساعةْ‏).‏

‏”‏يعنى ‏إيه‏ ‏؟‏!‏؟‏” ‏

‏”.. ‏مشْ‏ ‏مُـهِـمْ‏”.‏

لا يحتاج هذا الجزء- أيضا- من المتن إلى مزيد من الشرح أكثر مما جاء سابقا فى فقرة “نفسنة الحياة المعاصرة“، فقط ننبه هنا على الفرق الحساس بين ما يسمى “ضرورة التكيف” مع المحيطين والواقع بما يتجلى فى مظاهر المجاملة المباعِدة ما بين الناس خوفا على مشاعر بعضهم مما يندرج تحت عناوين مثل الذوق، والرقة، والسلوك المتحضر وكلام من هذا. الحد الفاصل بين التعامل الحضارى، وبين النفاق الدمث، لا يمكن تمييزه بسهولة، وأيضا الحد الفاصل بين الوقاحة والاقتراب المغامر للمصارحة هو أيضا لا يمكن تمييزه. هذا بالنسبة لما يجرى فى الحياة العامة، فكيف يكون الحال فى مجال ممارسة الطب النفسى والعلاج النفسى؟

لا بد أن توضع الاختلافات الثقافية هنا فى الاعتبار بشكل متزايد، ويمكننى بهذا الصدد أن أصف عشرات المستويات بالطول والعرض، التى تختلف فيها المسافة، واللهجة، وعلو الصوت، وحسم وضع شروط العلاج، واللوم على عدم الامتثال للتعليمات بما فى ذلك تعاطى العقاقير، كل ذلك يختلف بين ثقافة وثقافة، وصولا إلى الثقافات الفرعية، كما يختلف بين مريض ومريض.

فى ثقافتنا بصفة عامة، الطبيب والد، والوالد مسئول، وهو فى مرحلة باكرة يحمى ويحيط، بقدر ما عليه أن يقتحم لينقذ، وأغلب مرضانا يعطوننا فرصة حقيقية وعميقة لكل ذلك ثم تضطرد مسيرة النمو.

 المبالغة فى الالتزام بقواعد السلوك المهنى الشائعة، أو المستوردة، قد تكون سلبية تحت عنوان الموقف المحايد، أو الحرية المسطحة.

ثم ينتقل المتن إلى موقف نقدى “عام”

‏-13-‏

والجنازه‏ ‏زفّهْ ‏تـُرقـُصْ‏ ‏عالسـَّرَايـِرْ‏ – ‏

فى ‏البيوت‏ ‏اللى ‏حوالِـيـهـَـا‏ ‏الستاير‏.‏

‏ ‏واللى ‏خايفْ‏ ‏من‏ ‏خيالُهْ‏،‏

اللى ‏خايفْ‏ ‏مـاِلـْعـَسـَاكـِرْ‏.. ‏والرقيب‏،‏

واللى ‏بيوزَّعْ‏ ‏تذاكر‏ ‏يا‏ ‏نصيبْ ، ‏

واللى ‏بيفَرَّق‏ ‏دوا‏ “‏ضـِدَّ‏ ‏الذنوبْ‏”،‏

واللى ‏ماشـى ‏يـشـقّ‏ ‏فى ‏بطانةِ‏ ‏الجيوبْ‏.‏

‏ ‏والعرايضْ‏، ‏والجرايدْ‏،‏

واللىَّ ‏بيرصُّوا‏ ‏الكلامْ‏؛ ‏

‏”‏قفْ‏ ‏مـَكـَاَنكْ‏، ‏أو‏ ‏تــأخـَّرْ ‏لـْلأِمـَامْ‏”!‏

بخَّرُوا‏ ‏سـِيـْدنـَا‏ ‏الإِمـَامْ‏”‏

‏”‏سرْ‏، ‏بضـَهـْرَكْ‏…”‏

والـَعـَرقْ‏؟‏: ‏إلكُـوزْ‏ ‏بـِكـَامْ؟‏..”

لا أجد مبررا لشرح نصوص هذا المتن التى لا تحتاج إلى شرح أصلا، خاصة حين تبتعد عن سياق التطبيب والمعالجة، فهذه الفقرة – مثلا – تكاد تكون نقدا اجتماعيا وسياسيا صريحا ومباشرا أكثر منها عرضا لما هو خاص بالمرض النفسى والعلاج النفسى.

تكفى هنا الإشارة إلى أن المرض النفسى، الذى هو بالتعريف الأصلى نوع من الاغتراب عن الواقع، هو فى ذاته، خاصة فى بدايته، إعلان لرفض هذا الاغتراب المتمادى فى الحياة المعاصرة المكررة النمطية الباردة، حين يشتد الاغتراب فى الحياة العادية النمطية، وتهمد الحركة إلا المـُـعـَـاد منها، تصبح الحياة هى والموت سواء، ولا يبقى منها إلا حركة معادة، قد تبدو نكوصية رافضة، وكأن هذا الرقص هو استعمال جسد زائط، دون حيويته وتلقائيته، المريض لا ينخدع بهذا الرقص نكوصا، وحين أتقمصه، أفهم رؤيته لهذه الأجسام الزائطة، جثثا تتنطط وراء ستار رؤية غائمة، (والجنازة زفة ترقص عالسراير).

فما هى حكاية “الستاير”؟

من بين أهم ما يكسره المريض العقلى بالذات (المجنون بثورته برغم أنها مـُـجهضة!!) هو ذلك الساتر الكثيف الذى يغطى داخلنا عن بعضنا، نتيجة لخوفنا من حقيقة داخلنا، (اللى خايف من خيالهالبيوت اللى حواليها الستاير) وأيضا الخوف من القهر المحتمل من خارجنا، (واللى خايف مالعساكر والرقيب).

ألعاب وجوائز الحظ فى المجتمعات الكسولة والاعتمادية تقوم أيضا بدور سلبى متزايد (واللى ‏بيوزَّعْ‏ ‏تذاكر‏ ‏يا‏نصيب‏ْْ)، حتى يصبح الاعتماد على الحظ من علامات الاغتراب بشكل أو بآخر، حين تفرط السلطات والمجتمع فى التأثيم والمبالغة فى التركيز على عقاب الذنوب من أول عذاب القبر إلى ما لا يمكن تصوره، تنشأ آلية تكفيرية، استغفارية، اعترافية، قد تقوم بدور التخفيف قليلا أو كثيرا، لكنه دور تسكينى فى النهاية، ويعتبر التنفيث والتفريغ والاعتراف للطبيب النفسى من بين هذه الآليات “واللى بيوزع دوا ضد الذنوب”، إلا أنه ليس هو دوره الأساسى، أحيانا يكون مجرد الذهاب إلى الطبيب، و”الاعتراف له بما جرى، ناهيك عن ما يجرى” هو نوع من التماس عذر مقبول (– مريض بقى!!– ) للتمادى فى نفس الممارسة المتجاوزة  التى اعترف بها للطبيب، وكأنه بذلك: “عمل اللى عليه” هكذا يجد الطبيب نفسه يُستعمل لتبرير السلبيات شعوريا أو لا شعوريا، ومن ثم التمادى فيها بشكل مباشر أو غير مباشر.

أما الذين “يرصـُّون الكلام” فلا مبرر للإطالة فى الحديث عن الدور السلبى للخطب، والبيانات، والشعارات، والإعلام، إذا ابتعد كل ذلك عن الفعل المـُـثـْمـِر على أرض الواقع، واستعمل للتأجيل أو التبرير أو التفريغ، كل هذا أصبح من أقبح تجليات الاغتراب فى المجتمع المعاصر، وهو ما يكشف عنه لسان حال المريض هنا، وعلى الطبيب ألا يكتفى بأن يشجبه من حيث المبدأ، بل أن يشترك مع المريض فى رفضه، بطريقة أخرى، (غير الصياح) السياسى، وغير المرض، طريقة  لا تسمح للمريض بالتمادى فى أية هزيمة فردية (المرض)، ودون خروج عن الدور الأساسى لممارسة المهنة إلى دور السياسى أو المصلح الاجتماعى أو الواعظ.

أما ما يجرى من ادعاء التقدم بالألفاظ والتقليد الأعمى دون تقدم حقيقى، “محلك سر”، فهو التأخر بعينه، وهو إشارة إلى حالة كوننا نتبع كل متسلط طاعة وتقديسا:

‏”‏قفْ‏ ‏مـَكـَاَنكْ‏، ‏أو‏ ‏تــأخـَّرْ ‏لـْلأِمـَامْ‏”!‏

بخَّرُوا‏ ‏سـِيـْدنـَا‏ ‏الإِمـَامْ‏”‏

‏”‏سرْ‏، ‏بضـَهـْرَكْ‏…”‏

 ثم تـُخـْتـَم هذه الفقرة بالتنبيه إلى قضية بديهية تفضح الاستغلال المباشر للجهد البشرى لصالح الإثراء والتسلط، وأعتقد أن هذا النص القائل:

والـَعـَرقْ‏؟‏: ‏إلكُـوزْ‏ ‏بـِكـَامْ؟‏..”

 وهو غنى عن الشرح كما يبدو.

مرة أخرى: الطبيب النفسى ليس سياسيا، ولا مصلحا اجتماعيا أو داعية دينيا منوطا به إقامة العدل، ورفع الظلم، لكن المريض لا يدعه فى حاله، فهو ثائر (برغم فشله وخيبته) يحتج على ما ينبغى الاحتجاج عليه، وهو يلقى فى وجه الطبيب بقضايا حقيقية تستحق الاحتجاج، بل الثورة، لكنه – المريض – لا يتحمل مسئولية هذه الثورة، ومهما رأى الطبيب فشل مريضه فى إكمال ثورته، فإن هذا لا يعفيه من تحمل مسؤولية ما وصله حتى لو كان مريضه لا يتحملها، من هنا يصبح تبنى قضايا المريض، أو القضايا العامة التى أثارها المريض، هو ضمن امتحانات أمانة الطبيب فى اختبار مشاركته الإيجابية، ليس فقط فى مساعدة مريضه أن يشفى، وإنما فى القيام عنه، وربما معه لاحقا، بمواجهة السلبيات العامة (مع الخاصة) بشكل أو بآخر بحسب الفرص المتاحة.

 تبدأ المواجهة بالرؤية، ثم مِنْ كُلٍّ بحسب ما يقدر على التغيير، احترام مبررات احتجاج المريض النفسى على كل هذا الظلم والاغتراب تجرجر الطبيب إلى أدوار خارج نطاق مهنته بدرجة أو بأخرى، وهو ليس مـُطـَالب بالقيام بدور عملى فى رفع الظلم العام أو إحقاق العدل أو ما شابه، لكنه ليس من حقه أن يختبئ تماما داخل حدود مهنته، لا فرط الحماس دون أدوات الثورة الحقيقية مطلوب أو مفيد، ولا الانسحاب المهنى التخصصى مقبول على طول الخط، لو حدث هذا الاحتمال الأخير، وتخلى الطبيب عن مشاعره التلقائية الطبيعية البسيطة سوف يجد نفسه فى مأزق شخصى إن كان على نفسه بصيرا، ذلك أنه إذا تمادى فى فصل مهنته عن الهمّ العام، والمسئولية، فسوف يصبح عرضه للاستغلال من جانب نظريات وتشكيلات ومؤسسات سلطوية تجارية قهرية شركاتية دوائية!! كلها فى خدمة ما هرب منه المريض، ثم راح يستنقذ منه بمرضه ثم بطبيبه بشكل أو بآخر.

حين يمارس الطبيب دوره بهذه الأمانة والمسئولية، سوف يجد نفسه فى مأزق يتجدد مع كل مريض تقريبا، وكأن المريض إذ يلقى بهذه القضايا – الحقيقية – فى وجه الطبيب، يكلفه ضمنا بأن يكمل طبيبه المشوار الذى عجز هو أن يكمله!!! أو أن يشتركا فى ذلك بطريق غير مباشر.

وبعد

-14-‏

أَمَّا‏ ‏صورهْ ‏مـُرْعـِبـَهْ‏ ‏يا‏ ‏خـَلـْق‏ ‏هـُوهْ‏.. ‏إلحـَقـُونـِى‏.‏

قـُلـْت‏ ‏غـَلـْطـَانْ‏ ‏والـنـَّبـِى ‏يا‏ ‏نـَاسْ‏ ‏سـِيـُبونـِى‏. ‏

قلت‏ ‏اغـَمَّض‏ ‏تـَانـِى ‏حـَبـَّهْ‏ ‏صـْغـَيـَّرِينْ‏،.. ‏لمْ‏ ‏قِدِرت‏.‏

طبْ ‏حا‏ ‏فتّح‏ ‏ليه‏ ‏يا‏ ‏عـَالـَمْ؟‏ ‏هـِيَّا  ‏فُرْجـَةْ‏؟‏! ‏

بصّ‏ ‏لىِ “‏صاحـْبـَك‏” ‏ولعـِّبْـلىِ ‏حواجـْبـُهْ‏، ‏

                                                        قال‏: ‏وقِعْت‏. ‏

والقلم‏ ‏كـَمّل‏ ‏كإِنى ‏لمْ ‏وِقفت‏: ‏

…………………

…………………

ونواصل الأسبوع القادم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية (1) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *