نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 21-1-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5621
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(1) [1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
العلاج النفسى (مقدمة)
بين الشائع والإعلام والعلم والناس (5)
الفصل الرابع
المريض ورّانى نفسى (1)
مقدمة:
ما زلنا فى الفصل المقدمة الجامعة، وهذا الفصل يركز على كيف أن مصدرى الأساسى هو الخبرة من واقع معايشتى لمرضاى، واحترامى للغة المرَض، ومحاولة مواكبتى لهم لنواصل.
المريض ورّانى نفسي
المريض خلاّنى أتـْلـَمـْلمْ وافَـكـَّـرْ.
المريض عـَدِّلـِّى مـُخـِّى،
نضَّفُهْ من كل واغشْ، كانوا فارضينُهْ عليهْ.
من ملاعيب اللى بايعْ ذمته بـْمعَـَرفـِشى إيـِهْ.
من شوية آلاتـِـيـَّة، والعَـشـَا الـْ “أوبـنْ بـُوِفـِيهْ”.
لا يقتصر ما تعلمته من مرضاى على معرفتى بأمراضهم، أو نـَفـْسِمـْرَاضيتهم ([2]) Psychopathology، أو طرق علاجهم، بل امتد إلى شحذ بصيرتى لأتعرف بشكل مباشر على نفسى بالقدر الذى وصلنى ([3]) (مما لا أعرف مداه حتى الآن)،
مهنتنا مهنة صعبة لمن يريد أن يواصل المعرفة ذهابا وجيئة:
بين “ما هو” و:……”من هو”،
بين “لماذا” و:……”إذن ماذا”،
بين “الأصل الغامض” و:…….”المدى المفتوح”.
حين يكتشف الممارس المغامر بالمعرفة أن رؤية المريض وصدق حدسه (رغم وقفته المهزومة مرحليا) هى إثراء لوجوده شخصيا كطبيب وكإنسان، وفى نفس الوقت هى تحد لقدرته على أن يرى نفسه، يصبح مأزقه أصعب فأصعب، لكن فـُرَصـَهُ تصبح أكثر ثراء للنمو والتغير إن هو قـَبـِلَ المخاطرة.
مسألة “العشا الأوبن بوفييه“، هى إشارة إلى احتفاليات وطقوس المؤتمرات العلمية الحديثة، وهى قضية تحتاج وقفة: فمازلت أتعجب لماذا تُلقَى أحدث الأبحاث العلمية، فى الفنادق بالغة الفخامة باهظة التكاليف، أليس المكان الأنسب للعلم هو دور العلم، والتعليم، والبحث العلمى؟ إن التحجج بسعة المدرجات أو وفرتها هو حجة مردودة، فالأصل أن الفنادق للفندقة، بما فيها من صالات الاحتفالات، ومطاعم ومقاهى وأركان أخرى، والأصل فى دور العلم والتعليم هو أن نلتقى فى مدرج، أو معمل، أو قاعة محاضرات، هل العلم الذى يلقى فى “موفمبيك” شرم الشيخ له مصداقية أكثر، وفائدة أعم للمرضى، عن العلم الذى يلقى فى جامعة القاهرة أو كلية طب قصر العينى أو مركز الطب النفسى فى عين شمس؟ يتصور كثير من الزملاء أن المسألة لا تفرق (ما تفرقشى)، وهذا تصور ساذج، فشركات الدواء التى تموِّل هذه المؤتمرات بمئات الآلاف من الدولارات وأكثر، تعرف كيف تنفق نقودها، ولماذا، وبالتالى تعرف كيف تستردها، وكيف تستعملها، ليس هذا هو موضوعنا وإن كنا سنرجع إليه كثيرا (غالبا)، لكن الإشارة هنا كانت لمجرد ورود ذكر “العشاء حول مائدة مفتوحة لتنوع اختيار المشويات ! السلاطات والحلوى”، مع ما تيسر من المعادلات والمعلومات ونتائج الأبحاث!!!
إن الإنصات للمريض لترجمة أعراضه إلى لغة ناقدة، كاشفة، ثائرة، مـُجـْهـَضة أحيانا، هو مفتاح علاجه، وفى نفس الوقت قد يكون المريض وهو يضىء هذا النور الأحمر بمثابة ما أسماه لى يوسف إدريس ذات مرة: “ناضورجى الخطر القادم على المجتمع ككل”، فهو فى ذلك مثله مثل المبدع، مع احتمالات الفشل والنجاح.
مواجهة “الحقيقة” على أرض الواقع
بس والله يا عالَــمْ لـَـمْ قِــدِرْتْ.
لَـمْ قِدِرت اعمَى بْـنَوَاضْرى،
حتى لو كان العمى دا”رَأْسـمـَاَلكْ”،
أو كما سـَمـُّـوهْ حديثا “مَـشـِّـى حـَاَلكْ”،
يعنى “طـَنّشْ، إنتَ مالـَك”.ْ
لاحظتُ أننى استعمل كلمة “الحقيقة“ أكثر من اللازم، وهى كلمة نجدها أكثر تواترا فى قاموس الفلاسفة عنها عند العلماء أو الفنانين، وإذا كانت قضية الفيلسوف من بعض نواحيها هى البحث عن الحقيقة، فإن أزمة المجنون هى مواجهة الحقيقة فجأة دون استعداد أو إعداد، ويبدو أن ورطة الطبيب النفسى هى فى اضطراره إلى أن يكون شاهدا على هذا المأزق رضى أم لم يرْضَ، ولو أمعنا النظر فى مدارس الطب النفسى لوجدناها تختلف بشدة فى تقييم هذه الخبرة الإنسانية: “مواجهة الحقيقة الداخلية والمطلقة عارية عادة، ومـُشـَوَّهة أحيانا،ً ومـُحـَرَّفَـَة كثيرا” كما يلقيها فى وجوههم المرضى الذين يحكون عنها!!.
1- فريق يدمغها بالأسماء والأوصاف المرضية السلبية معلنا بذلك أنه ينبغى ألا نستسلم لـ (أو حتى نصدق) رؤية المجنون، بما أنها رؤية شاذة، أو على الأقل لا تستحق، مادام لم يستعد لها بكامل مسئوليته، ولم يـُـقـْـدِم عليها بعمق وعيه، إذن فالهزيمة التى اجتاحته من هذه الخبرة هى هزيمة لا أكثر، وبالتالى فهى تضعه حيث وضع نفسه “مريضا شاذا فحسب”، هذا الفريق يعلق فى رقبة المجنون لافتة تحمل اسم ظاهرة مرضية عضوية أو سلوكية ظاهرية (التشخيص)، ويكتفى بذلك.
2- وفريق على أقصى الطرف الآخر يعلى من شأنها، ويصفها بألفاظ الاحتجاج والحرية والثورة، ويعزو الهزيمة التى مُنى بها المريض، إذا رآها هزيمة، إلى قسوة المجتمع وغبائة، ويفترض أن هذا الموقف رغم سلبيته هو أفضل من “الانضباط الأعمى”، ومن النجاح الأجوف المغترب (على حدّ رأيه)، هذا الفريق يتصور أن هذا التقبل فى ذاته خليق بأن يجعلها خطوة للأمام، وليست ضربة قاضية تنهى الجولات قبل بدايتها، هذا الفريق له رؤية فنية توصف عادة بأنها “رؤية حرة”، ويندرج تحت هذه الرؤية ما يسمى الحركة المناهضة للطب النفسى Antipsychiatry. ولكن هذا لا يتعدى الموقف الفنى الناقص، المثير برغم نقصه، فهو لا يصل إلى الموقف العلمى البناء، ولا إلى الموقف الثائر الملتزم، إن مآل هذه الرؤية إذا تمادت هو التسيب السلبى، ومزيد من إجهاض أية احتمالات إيجابية، ومن ثـَمَّ التدهور المرضى أكثر.
3- وفريق ثالث يرى هذه المواجهة فى حجمها القاسى والمؤلم، وموقفها الناقد اللاذع ولكنه لا يعلى من شأنها بقدر ما يتخذ موقفا مسئولا إزاءها، فهو معها من حيث المبدأ، شريطة أن يتحمل صاحبها مسئوليتها ”معنا”، فوظيفة الطبيب هنا هى أن يقلب الهزيمة نصرا، (لا أن يوقف إطلاق نيران الحقيقة فحسب) وهو فى هذه الرحلة لابد أن يرى المريض من زاويتيين:
مرة من خلال فهم واستيعاب ما جرى من حيث أنه رفض العمى والرتابة،
ثم يراه مرة ثانية: من موقف الحزم حتى اللوم بهدف تحجيم الشطح المحتمل، حيث الرضوخ للحلّ المرضى إنما يعلن العجز عن تحمل حدّة البصيرة ونبض الحس الأعمق،
وعلى الطبيب أن يحاول من خلال هذا وذاك أن ينتصر بهما معا بمشاركة المريض ليتكاملا فى ولاف أرقى! بمعنى أن يبين للمريض دوره فى اختيار المرض فى نفس اللحظة التى يبادر فيها بمشاركته لإعادة اختيار الصحة.
إعادة من المتن:
-6-
ييجى صاحْبَك “مَـلْط” إلا مالْـحـقيقهْ،
ييجى يزْقُـلـْها فى وشِّى وتـَنُّـه ماشي.
الأصول إنى أعالجـه، واكفى ماجور عالخــبـر”.
”بكره يعقل! بالدواءِ الـمـُعتبرْ”.
بس والله يا عالَــمْ لـَـمْ قِــدِرْتْ.
لَـمْ قِدِرت اعمَى بْـنَوَاضْرى،
حتى لو كان العمى دا”رَأْسـمـَاَلكْ”،
أو كما سـَمـُّـوهْ حديثا “مَـشـِّـى حـَاَلكْ”،
يعنى “طـَنّشْ، إنتَ مالـَك”.ْ
الخاطر الذى يتبادر إلى ذهن أى طبيب، وهو موقف إيجابى طبيعى هو أن يبادر بعلاج المريض، خاصة إذا كان المرض جسيما، وهو ما يسمى عادة بالجنون (المرض العقلى)، ولا لوم عليه فى ذلك إلا أن المسألة ليست بهذه البساطة، حيث إن وضع مسافة مهنية باردة بين الطبيب والمريض تحتاج إلى نوع من الميكانزمات العامِيَة التى تشيِّئ([4]) هذا المريض بشكل أو بآخر.
هذه إشارة قاسية إلى النموذج الطبى القمعى الذى يرى المرض حريقا لابد من الإسراع فى إطفائه بالعقاقير حتى لو لم يتبق بعد ذلك إلا الرماد، وهو يسلك لتحقيق ذلك سبيل المبالغة فى استعمال العقاقير، واعتبار المرض النفسى مجرد تغير كيميائى فى وظيفة المخ، وهو نموذج يحجب الرؤية عن الطبيب النفسي، وبالتالى هو يحرمه من التعرض لتعميق الوعى ومواجهة حقيقة وجوده ذاته كما ذكرت، أما “الذى منه” فهو إشارة إلى سوء استعمال بقية الأساليب الكيميائية الصرفة، مع أن هذه الأساليب لها فاعليتها وروعتها ووظيفتها إذا كانت جزءا من كل متكامل على مسيرة التطبيب النفسى، أما إذا كانت بديلا عن العلاقة الإنسانية أو كانت مجرد خفضٍ للطاقة وتهدئة للثورة فإنها قد تعمل فى عكس الاتجاه الخلاق.
-7-
قلت: إعْقَل يا ابْن نـَفـْسِي.
قلت: حاسِبْ ما الـْفـَضـَايحْ والجُرَسْ.
قلت إدّيها عمَى حيسِى، وزوّد فى الحَرَسْ.
نطّ غَـصـْبـِن عنـِّى، ورّانى إنّـى هوّه.
بس جـــُوّهْ ! ! !
قلت أَخطف نظره عالماشى واغَمَّضْ مِن جديد،
هّيه نظره - واللىّ خَلَقَكْ- لم تَنِيـتْها
انطلاقا من المتن:
مع اضطراد نمو الطبيب، قد يتجرأ فيسمح بما يسمى “إعادة الولادة”، ليصبح “ابن نفسه” بعد أن كان ابن أبيه وأمه، وهو يعلم – عادة – أنه إذا فشلت “إعادة الولادة” فهى احتمال تجربة الجنون ذاتها، أمّا إذا نجحت فهى تجربة أزمات التطور وكذلك إرهاصات الخلق والإبداع. أن يصبح الفرد والد نفسه، احتمال فيه من الروعة بقدر ما فيه من المسئولية، والخطاب هنا “يابـْن نفسى” يشير إلى أن من تعرض لمصاحبة المجنون فى رحلته المرعبة هذه، فهو لابد والدٌ لنفسه من جديد، وعليه أن يتحمل مشاق الرحلة، وأن يقلبها إبداعا حقيقيا متى امتلك الأداة، فهى فرصة، وهى مصيبة فى نفس الوقت إذا لم تتم بأمان.
الاشتغال بالطب النفسى إشكالة شديدة التعقيد، إنها مهنة تستدرجك – إن كنت صادقا- إلى عالمك الداخلى، بقدر ما تغوص فى عالم المريض (المجنون خاصة)، إنك لا تستطيع أن ترى المجنون منفصلا عنك إن صدقتَ فى محاولة قراءته ثم نقده لإعادة تشكيله، وتشكيلك معه كما أشرنا من قبل، هى ليست مهارة تُستعمل من الظاهر، إنك متى تغامر بتقمص المريض فإنك تكتشف أنها ليست مجرد عملية لـِـبـْـسِ قميصه (تقمّصه)، بل إنه يحرك فيك الجزء المقابل لما تعرى فيه عشوائيا، برغم احتمال غائيةٍ لها دلالاتها فى بداية رحلة الجنون.
كيف يحدث ذلك؟
نطّ غَـصـْبـِن عنـِّى، ورّانى إنّـى هوّه.
بس جـــُوّهْ!!!
إذن هذه المسألة لا تحدث اختيارا محسوبا مسبقا، وإنما هى نتاج صدق المواكبة، وأمانة المعايشة.
أنت تعرف مريضك، إذْ تتعرف عليه من خلالك، وهو أيضا يعرفك من خلاله، كل ما فى الأمر أن ما يمكن أن نسميه جنونا لا يكون كذلك طالما أنه كامن فى داخلنا (بس جوه)، لكنه هو هو موجود فينا كلنا، التركيب الأساسى لى ولمريضى واحد، ولا تُكسر المسافة بينك وبين المريض بشكل موضوعى مفيد إلا من خلال الإقرار بذلك منذ البداية بكل ما يحمل من مفاجآت ومخاطر.
المريض ليس مختلفا عنا، وما يسمى جنونا هو ذلك التركيب الذى يبدو عشوائيا فى بعض مراحل حركيته، نحن نستنتجه عادة ولا نعرف جوهره تفصيلا إلا من خلال ناتجه الظاهر على السطح. كل ما هو تحت السطح نحن نضع له الفروض للتعرف عليه، هذه الفروض قد تصح وقد لا تصح، وكل فرض أو نظرية قد يفيد فى التعرف على بعض الظاهرة لا أكثر.
………………….
………………….
ونواصل الأسبوع القادم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية (1) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والعلم والناس”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى.
[2] – نحتُّ كلمة نفسمراضية لتعنى Psychopathology وهى كلمة مضغمة بديلا عن استعمالى للفظ المعرب سيكوباثولوجى الذى كنت أستعمله سابقا، وهى كلمة تشير إلى كل من السبب وما ترتب عليه من تركيب مرضى حاليا: أى: عمق المرض الحالى، وقد أتبادل استعمال الكلمتين فى هذا العمل وما يليه حتى يألف الزملاء والقراء اللفظ الجديد.
[3] – وهذا هو معظم موضوع الكتاب الرابع من هذه السلسلة.
[4] – تجعله شيئا لا بشرا
الصمت اصدق انباء من النحيب
نحيب الاصنام الهوام الملتاثة
تتفتت الي رياح تذروها الخبائث
يزيد العويل لطمس المسام
يتفجر الصمت عن انين
لا يزيح جبال العدم
ولكن يصمد في دموع تنهمر
في مآقي سرمدية
لا يدركها جحافل البشر
بعد ان اضحوا اشباه البشر
من لا يعرف لن يعرف
اما الزبد فيذهب جفاء
واما ما ينفع الناس
فيمكث في الارض