نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 10-11-2018
السنة الثانية عشرة
العدد: 4088
مقدمة:
امتدادا لما أشرنا إليه سابقا، وبإصرار العناد والأمل: تم تخصيص اليوم “السبت” لمقتطفات من كتاباتى السابقة التى لها علاقة دالة بالفروض التى تعتبر إرهاصات أو أساس هذا الفكر الدائم النمو والتطوير،
وبالنسبة لمقتطف اليوم هو تقديم شهادتين فقط لرائدين متميزين من مبدعى الشعر هما نزار قبانى، وأدونيس، عن حالة إبداعهما، وأنا أنشر الشهادتين ثم تعليقى عليهما فى محاولة الكشف عن عملية الإبداع حتى قبل الولادة كما ذكرت الأسبوع الماضى.
*****
من شهادات الشعراء وعملية الإبداع (1)
مقدمة:
إذا كانت القصة القصيرة تتميز بغلبة الصورة وسرعة الإيقاع وشدة التكثيف على نحو أمكننا من تحسس علاقة مراحل التكوين الأولى (تنشيط المعرفة الضبابية المدغمة) لا بالصياغة النهائية (2) (احتواء القصة لمستويات المعرفة المتكاملة) فإن الشعرقد ينتقل بنا خطوة أصعب وأدل، فبالإضافة إلى أن الشعر (الشعر) يتضاءل اهتمامه شيئا فشيئا بترجمة مستوى إلى مستوى آخر، فإنه يحتوى المعرفة الأولية: فجة دون أن يخضع لها أو يبدلها، فتظل تحتفظ بإيقاعها وريحها متجسدة بجرعة كافية للتدليل على ماذهبنا إليه، على الرغم من أنها جرعة لاتظهر أبدا منفصلة عن المحور الضام، أو مستقلة عن الصقل المفاهيمى اللاحق.
لن أعرج إلى تمييز مستويات الشعر هنا/الآن، غير أننى سأقدم نموذجين محددين لمستويين من مستويات الشعر، أحدهما يقدم الجمال الشعرى فى صورة مفهومية بديعة، بعد احتوائه لآثار التنشيط وإيقاع الصور، والآخر يقدم الفعل الشعرى بكل ثقله المقتحم والمتحدى والمجدد، والخالق لمفاهيم جديدة، والباعث لروح جديدة، ونبض مغير فى المفاهيم القديمة:
الشهادات:
1 – نزار قبانى: (3)
”تأتينى القصيدة -أول ماتأتي-بشكل جمل غير مكتملة، وغير مفسرة، تضرب كالبرق وتختفى كالبرق. لا أحاول الإمساك بالبرق، بل أتركه يذهب، مكتفيا بالإضاءة الأولى التى يحدثها… أرجع للظلام وأنتظر التماع البرق من جديد، ومِـن تجمع البروق وتلاحقها، تحدث الإنارة النفسية الشاملة… وفى هذه المرحلة فقط أستطيع أن أتدخل إراديا فى مراقبة القصيدة ورؤيتها بعقلى وبصيرتي”.
قراءتى للشهادة:
نلاحظ هنا التقاط التنشيط المبدئى فى وحدة زمنية شديدة القصر والتعبير عنها بمقياس الزمن العادى، بعكس يوسف إدريس، وهذا مانفسره باختلاف زاوية الرؤية لأنواع الإبداع، فبعض قصص يوسف إدريس هى شعر أخطر من قصائد نزار، حيث استطاع إدريس أن يغوص فى هذه اللحظات حالة كون الزمن قد توقف أو كاد، فى حين عبر نزار عن اللحظة نفسها بعد انقضائها، وبمقياس عادى تـتـبـعى بعد انقضائها وليس من داخلها، وهذا الموقف هو الذى رجح لنا أن نزارا وهو يسير فى ضوء تجمع خطف البرق (من تجمع البروق وتلاحقها) يسير فى “إنارة نفسية” ولا يخوض نارا ضبابية، لأنه لايغامر بالتوقف داخل احتكاك تفريعات حركية السحب الهشة بضغوطها المتنافرة إذ تشعل البرق، فأتى أغلب شعره بعد تنشيط المعرفة الأولى مستضيئا بها، لكنه ليس غارقا فيها، ولاصاعدا بها، هذا بالرغم من تأكيده بعد ذلك أن تدخـّله الإرادى هو للمراقبة والرؤية أساسا.
2 – أدونيس: (4)
“…إنها (القصيدة)، عالم ذو أبعاد، عالم متموج متداخل كثيف بشفافية، عميق بتلألؤ،… تقودك فى سديم من المشاعر والأحاسيس، سديم يستقل بنظامه الخاص ، تغمرك، وحين تهم أن تحضنها تفلت من بين ذراعيك كالموج”
قراءتى للشهادة:
هذا هو المثال الآخر للمستوى الآخر للشعر (الشعر)، إذ نلاحظ هنا أن الشاعر يظل محتفظا بنبض المستوى الأول نفسه، حتى تظهر ملامحه فى القصيدة نفسها بعد اكتمالها، وذلك من خلال مظاهر التكثيف والشفافية وتعدد الأبعاد فى أكثر من توجه “معا”. ثم إنه يستعمل كلمة “السديم” نفسها (مثل إدريس)، ولكنه يستعملها لوصف القصيدة ذاتها وليس لتفسير الحركة المخلِّـقة لها، كما أنه يعطى للسديم نفسه معالم أوضح فأوضح، وقدرة على التواصل، بعد التأكد من إحكام نظامه الخاص، ثم يجعله- هو نفسه أيضا – فى المتناول، شريطة ألا يحبس فى محاولة الترجمة إلى ماقبله (من قوالب مفاهيمية ثابتة). هذا النوع من الشعر يتقدم خطوة عن أغلب أشكال القصة القصيرة، إذ أنه لايلجأ أصلا إلى الترجمة من مستوى معرفى إلى آخر، بقدر مايلتزم بجدل ينفى عن المعرفة الأولى بدائيتها، إذ تلتحم بالمعرفة المفاهيمية فى تخلقها المجاوز لكليهما. وهذا النوع من الشعر هو أقرب ما يمثل العملية الإبداعية فى حركيتها الأصعب والمثيرة للجدل.
ويقابل هذا المستوى من الإبداع ما سبق أن أشرنا إليه عند الفصامى باسم “التفكير العهنى” حيث يبدو تفكير المجنون منفوشا كالعهن المندوف، بالغ الإيحاء بالمعالم والوعد، لكنك إذ تقترب منه تكتشف أنه فاقد التماسك والغاية والحدود، لاينبئ بشىء. وهذا ماوصفه بلويـْلَـر من قديم ([5]) حين قرر أن تفكيرالفصامى يغرى بماوراءه، لكنه “.. كالباب المقفول الذى ليس وراءه شىء”، (مثل بعض أبواب ديكور المسرح). والخلط وارد حتما بين هذا (الإبداع) وذاك (الجنون).
[1] – يحيى الرخاوى: المقتطف من مقال “جدلية الجنون والإبداع” مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص( 30 – 58) وقد ظهر فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” (ص 165 إلى 167) وقد تم تحديثه دون مساس بجوهره (الطبعة الأولى 2007) المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – نشرة السبت الماضى: 3/11/2018
[3] – عز الدين إسماعيل (1981)، مفهوم الشعر فى كتابات الشعراء المعاصرين. فصول. المجلد الأول، العدد الرابع ص50، وأصل المقتطف كما ورد فى الهامش: نزار قبانى: ”قصتى مع الشعر” ص186-187 (1974) بيروت.
[4]- وأصل المقتطف أدونيس، “زمن الشعر” ص 235- (1972) دار العودة- بيروت.
[5]- إيوجين بلويلر 1911 فى: عمر شاهين، يحيى الرخاوى: “مباديء الأمراض النفسية” ص: 274 (1977) مكتبة النصر الحديثة، القاهرة، .