الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (62) تناقض الوجدان، وتميّز الإنسان

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (62) تناقض الوجدان، وتميّز الإنسان

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 26-1-2015   

السنة الثامنة

العدد: 2705   

 الأساس فى الطب النفسى

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (62)

ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (25) 

اضطرابات الوجدان (العواطف)

عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (22)

تناقض الوجدان، وتميّز الإنسان

سؤال: هل يمكن أن يتميز هذا الكائن البشرى الرائع عن من سواه وما هو دونه من أحياء بطيف وحركية تناقض الوجدان نحو الجدل الخلاق إلى الغيب إلى وجهه تعالى؟

الجواب: ولم لا؟

وبعد

أوصلنا البحث فى أصل، وروعة، وضرورة، وطبيعة “تناقض الوجدان” إلى إشكالة وجودية، ومعرفية، وإيمانية رائعة ومرعِـبـَةْ، وبرغم من إقرارنا أن تناقض الوجدان حين يحتد ويتجمد ويـُعلن ويعوِّق: هو من أخطر أعراض المرض النفسى، والذهان بالذات، والفصام بوجه أخص، إلا أنه بالرجوع إلى أصله، والنحت حول جذوره فى الموقف الاكتئابى النمائى (الذى سنتنازل مؤقتاً عن تسميته المقترحة “موقف التمييز البشرى”)، وجدنا أنه الأصل والمحِّرك الطبيعى لمسيرة الكائن البشرى.

 رجعت إلى النشرات السابقة مكتفيا بما ورد فى “ملف الوجدان” وبالذات عن الحزن الحيوى الخلاق (نشرة 30-11-2014 حزنٌ‏ ‏أم‏ ‏تفجّر‏ ‏وعى)، والألم النفسى (نشرة 28/12/2014 “الألم النفسى”)، والعقل الوجدانى الاعتمالى (نشرة 6-10-2014)، والعقل البيولوجى (نشرة 25/8/2014 “التطور والعواطف والعقل البيولوجى”)، ثم بعض (أو أغلب) ما كتبت فى “فقه العلاقات البشرية” ثم ما جمعته مؤخرا وحدثته فى كتاب “مقامات ورؤى” (1)، فوجدت أن المسألة تحتاج جمعاً وتربيطا وإعادة تشكيل وربما تصل إلى ملف مستقل بأكمله.

ما العمل، وأنا أدعى أننى مازلت أواصل كتابه مرجع “الأساس فى الطب النفسى” ونحن لم نتنهِ بعد من الافتراضات الأساسية والأعراض التى استدرجَتْنا إلى أصولها فى الحياة السويّة حتى نتمكن من التعرف على الحد الفاصل بين السواء والمرض بالنسبة لكل وظيفة نفسية أولاً بأول؟

لا يوجد عندى شخصيا حل إلا الاستمرار، وعلى من يهمه الأمر أن يكمل ما لن أستطيع الوفاء به، وأن يعيد تشكيل وتنظيم ما أمكننى تركه فى حدود ما منحنى ربى من أيام أو ثوان أو سنوات.

أقوال شائعة: سريعة ومختزلة:

لا داعى للبدء من الدائرة الأوسع بالتساؤل حول هذه الأقوال الاختزالية الشائعة التى تحاول أن تصف ما يتميز به الإنسان بما يختص به من وظائف لا توجد عند الأحياء الأخرى، فمن ناحية هذه ليست مسألة سهلة، لأن الوظائف التى نتصور أنها تميزنا بشراً، يثبت باستمرار أنها موجودة عبر تاريخ الحياة عند كثير من الكائنات لكن بمواصفات أخرى تحتاج لمناهج أخرى، ومنذ أن قرأت كتاب “أنواع العقول” لدانيال دينيت (2) ، وحتى اطلاعى على كتاب تشارلز داروين “التعبير الانفعالى عند الإنسان والحيوان” (3)  وأنا أراجع هذا الزعم (تميز الإنسان) بإمعان شديد: أما بالنسبة للكتاب الأول فقد أكد مؤلفه دينيت فى مقدمته والفصل الأول أن ادعاء الإنسان أنه الكائن الوحيد الذى يتمتع بما يسمى “وعيا” هو ادعاء على غير أساس يمثل موقفا حُكميًّا فوقيا من كائن حى (الإنسان) على زملائه وأجداده على هذه الأرض، وأن علينا أن نتعامل مع هذه المسألة بتواضع أكثر، وعلم أعمق، وأمانة أصدق.

أما بالنسبة للكتاب الثانى لتشارلز داروين فقد أشرت سابقا إلى مغزى أن يكون هذا الكتاب لاحقاً لكتابيه الأساسيين الذين اشتهر بهما “أصل الأنواع”، و”أصل الإنسان”، وربطت بشكل عابر بين الإدراك والإبداع والحدس كأساس لنظريته جنبا إلى جنب مع الملاحظات والرصد والتنظير (4)، وقد حاولت مؤخرا أن أربط بين ما سمّاه “دينيت” بالعقول المتنوعة والتى مازال الكائن البشرى يحتفظ بها فى تنظيم هيراركى رائع، وبين محاولة تشارلز داروين – دون قصد معلن أو حتى دون وعى شخصى- قراءة تاريخ الحياة بمنظار الوجدان فى نفسه وفى الحيوان والإنسان على حد سواء، ووصلنى من هذا الربط ما طمأننى لفروضى من حيث المبدأ.

من واقع الممارسة (كالعادة):

وقد تأكدت من أصول كل هذه الرؤى وأنا أمارس مهنتى فيطلعنى مرضاى فأطّلع معهم على هذا التاريخ بداخلنا، فرحت أتراجع قليلا أو كثيرا عن التحيز لجنسى البشرى، خاصة بعد أن انحـَرفَ بعض أفراده (أو أغلب أفراده) عن الطريق التطورى الطبيعى المنتظر منهم ولهم، وأفرطوا فى القتل والظلم والتدمير والنكوص برغم محاولات فريق غير قليل على الجانب الآخر فى مجالات الإبداع والتعمير والحضارة والتواصل فيما بينهم إلى ما بعدهم (وربنا يستر).

إذن لن أعرج إلى الصفات التى شاعت لتميز البشر عن سائر الأحياء لمناقشتها بالتفصيل مكتفيا بذكر أسماء الشائع منها، بالإضافة إلى بعض ما خطر لى:

 أما الشائع، ففى حدود ما أذكر هو أن: الإنسان حيوان عاقل، حيوان ناطق، الإنسان حيوان مفكر، الإنسان حيوان واع، الإنسان حيوان ضاحك.

أما ما خطر لى فهو كما يلى: الإنسان حيوان مبدع، الإنسان حيوان ملغز، الإنسان حيوان مغرور، الإنسان حيوان غبى، الإنسان حيوان منشق، الإنسان حيوان مؤمن.

أكتفى بهذا القدر ولا أعد بالعودة، لكن على القارىء ألا يتسرع بتصديق هذه الأوصاف الاجتهادية، ولو مبدئيا فكل صفة من هذه الصفات من أول الغباء حتى الإيمان وجدتها أو ما يقابلها عند سائر الأحياء وغير الأحياء (5)

وبعد

طالت المقدمة كالعادة، وكان ينبغى أن تطول، سوف أقصر حديثى اليوم على تعريف بالفكرة العريضة التى سوف أتناول من خلالها موضوعنا الحالى عن تناقض الوجدان من أول ظهوره فى الموقف الاكتئابى وحتى تماديه إلى الجدل نحو الوعى الكونى إلى وجه الله، هذا علما بأننى لن أعود –غالبا- إلى تناقض الوجدان كعرض من أعراض المرض النفسى والفصام، مكتفيا بما ذكرته فى إيجاز شديد ،اللهم إلا إذا اضطرتنى بعض المقارنات إلى ذلك.

آمل أن نتناول فى النشرات التالية ما يلى:

“….. حركية تناقض الوجدان على مسار النمو والتطور إلى الإبداع، مصاحبا معظم الوقت – بالألم النفسى الخلاّق من خلال الحركة الإيقاعية الحيوية التنسيقية والإبداعية، فى حضور آخر بشرى على نفس الطريق بنفس المواصفات فى مساحة متغيرة مفتوحة النهاية إلى مستويات متصاعدة من الوعى”.

نلاحظ فى هذه الفكرة كيف أن تناقض الوجدان هو:

أولاً: ظاهرة لها طيف ممتد من طفل بشرى حول الثالثة إلى مطلق الغيب.

ثانياً: أنها حركية، وليست صفة ساكنة لعاطفة أو أكثر.

ثالثاً: أنها إيقاعية نابضة متناوبة.

رابعاً: أنها تحتاج إلى اثنين بشريين على الأقل لتتواصل فى مسيرتها.

خامساً: أنها تجرى (دخولاً وخروجا تمثلا وبسطا) فى مساحاتٍ على مسافات، فلا هى دائرية مغلقة ولا حركة فى المحل.

سادسا: أنها مرتبطة بالوعى (ومن ثم: بالإدراك والوجدان).

سابعاً: أنها مفتوحة النهاية.

وبعد

أكتفى بهذه المقدمة لنواصل الأسبوع القادم.

(ومن يجدها موجزة أكثر من اللازم يقرأها مرتين لو سمح).

[1] – كتاب “مقامات ورؤى”، يحيى الرخاوى، (حكمة المجانين) وهو تحت الطبع حاليا فى طبعة ورقية، بالإضافة إلى أنه سيكون تحت أمر وإذن الشبكة العربية للعلوم النفسية (شعن) قريبا.

[2] – Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness    Daniel C. Dennet 1996

الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” ترجمة د. مصطفى فهمى إبراهيم، نشر بعنوان “تطور العقول!!”  – القاهرة  2003

[3] – Darwin, C. The expression of the emotions in man and animals. Chicago: University of Chicago Press. (Original work published 1872)

 التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان، تشارلز داروين، 1872، ترجمة مجدى المليجى، المركز القومى للترجمة، 2005

[4] – نشرة الإنسان والتطور، 3-8-2014، ملف الوجدان واضطرابات العواطف  (9)(تشارلز داروين “جاب الديب: من بؤرة وعى إيمانه المعرفى” (وليس من “ديله”)

[5] – راجع نشرة 3/8/2014 (تشارلز داروين “جاب الديب: من بؤرة وعى إيمانه المعرفى” (وليس من “ديله”)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *