الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (61) نقد مدرسة العلاقة بالموضوع (ميلانى كلاين – فيربيرن– جانتريب)

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (61) نقد مدرسة العلاقة بالموضوع (ميلانى كلاين – فيربيرن– جانتريب)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 25-1-2015   

السنة الثامنة

العدد: 2704   

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (61)

ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (24) 

اضطرابات الوجدان (العواطف)

عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (21)

تناقض الوجدان بداية عملية أن تكون بشرا سويا (1)

نقد مدرسة العلاقة بالموضوع

(ميلانى كلاين – فيربيرن– جانتريب)

مقدمة:

يبدو أن الأحياء دون الإنسان، قبل الإنسان، تستطيع أن تعمل علاقة أسهل وأكمل بين  أفراد النوع الواحد،  ربما لافتقارها لدرجة الوعى التى يتميز بها الإنسان ، معظم الأحياء تتم العلاقة بين أفرادها من خلال ”عقل“ القطيع أو: اللقاء المؤقت للتزاوج (غالبا لحفظ النوع) أو علاقة الأمومة الممتدة تلقائيا من الرحم (1)، والتساؤل الموضوعى هو :

هل  تجاوز الإنسان هذه المرحلة أم تعثّر فيها؟

وهل تنازل عن حقه فى الانتماء إلى الوعى الجمعى؟ أم أنه عرف طريقا بديلا عن ذلك حين  طوّر طريقه بما يتناسب مع اكتسابه وعيا أرقى، وأدوات معرفية أكثرتعقيدا وخطرا فى نفس الوقت؟

 تناقض الوجدان: مرحلة خاصة بالبشر على مسار النمو:

سبق أن أشرت إلى أن ما أسمته مدرسة العلاقة بالموضوع بالموضع الاكتئابىDepressive Position  إنما يتميز فى تنظيمه الأساسى بوجود هذا التناقض الوجدانى، ليس كمظهر سلوكى أو مرضى، وإنما كطبيعة أساسية هامة على مسار النمو، ولا يحتاج الأمر إلى التذكِرة أن مرحلة الموضع  البارنوى تتعامل مع الموضوع (الآخر) باعتباره تهديدا طول الوقت، فلا تعامل معه إلا  بالكر والفر، فى حين أن الموضع الأسبق، وهو الموضع الشيزيدى ليس عنده موضوع أصلا،  فهو امتداد للوجود فى الرحم حيث “لا موضوع”، ويمكن أن يتصف بفرط الأمان نكوصا (تحت حماية الاحتواء فى الرحم)، أو بإلغاء الآخر عجزا وتوقفا عن التواصل اصلا إلا كوسائل شِبْه آليه بين الأفراد.

مواقع مراحل النمو

ترجع تسمية مراحل النمو عند الطفل بأسماء مرضية (أو شبه مرضية) إلى مدرسة العلاقة بالموضوع، وقد أفادتنى هذه المدرسة بشكل رائع ومهم فى ترتيب تفكيرى التطورى الذى انتهى إلى “النظرية الإيقاعية التطورية”، مع اعتراضى الشكلى من البداية على منطلقين  لهذه النظرية (2):

الأول: أنها تعزو أصل هذه المراحل بكل ثرائها وغموضها وتداخلها إلى علاقة الطفل بأمه فى السنوات الأولى من عمره، وبرغم أن هذا صحيح، إلا أن المسألة تطورت منى وأنا أبحث عن جذورها فى تاريخ التطور، حيث وجدت أن الإنسان يولد وبه تركيبة هذه المراحل فى جيناته ودناه DNA ، وأن ما يقابل المرحلة (الموقع) الشيزيدية – غالبا – هى مرحلة الأحياء أحادية الخلية والتى لا تحتاج إلى آخر للتناسل، أما المرحلة (الموقع ) البارنوية فهى مرحلة الأحياء المتعددة الأنواع وبالذات فى الغابات، وهو ما كان يلزم للبقاء فيها التسلح معظم الوقت “بالكر والفر”، ثم تأتى المرحلة البشرية حين اكتسب الإنسان الوعى فتعقدت حياته، وأصبح لا يكفى لبقائه بشرا (أى لبقاء ونمو صفاته التى تميزه إنسانا مكرما مسئولا)  أن ينقسم مثل الأميبا، أو أن يتقاتل طول الوقت مثل أجداده فى الغابة (3) وذلك ان الله سبحانه أكرمه بالوعى، وحمل الأمانة، والإسهام فى تخطيط مساره ومصيره مسئولا.

الاعتراض الثانى: وهو ما لم أتوقف عنده طويلا، هو أن هذه المدرسة قامت بتسمية هذ25-1-2015_1ه المراحل بأسماء شبه مرضية “شيزيدى”، “بارنوى”، “إكتئابى” على التوالى، وأساس اعتراضى هو أنه ما دام كل الناس دون استثناء يمرون بهذه الأطوار، حتى لو كانوا منفصلين وعيا عن تاريخهم التطورى، وتركيبهم البيولوجى النيورونى (من وجهه نظر هذه المدرسة)، فإن تسمية المواقع حتى لو تكرر التأكيد على أنها سميت كذلك لمجرد أنها ترتبط بسِمات الأمراض المقابلة، فقد رأيت أن فى ذلك تقليلا من عظمة هذه المدرسة وإبداعها، وقد حاولت منذ البداية أن اجد أسماء بديلة مثل أن أسمى الموقف الشيزيدى: “الموقف بلا موضوع”، (مع أنه يمكن أن يكون الموقف داخل الموضوع، أو مُلتَهـِمٌ للموضوع، وهو بلا موضوع)، وأن أسمى الموقف البارانوى “موقف الكر والفر”، وكان هذا أسهل وأقرب واقل التباسا، وأن اسمى الموقف الاكتئابى :”موقف التميز البشرى”، (وهو أصعب وأغمض) لكننى تراجعت، فانا غير مقروء أصلا خاصة لأهل اللغة العلمية السائدة، فما بالك باللغة العربية فكيف أبدأ بتغيير الأبجدية هكذا فأبتعد أكثر فأكثر، فأجـّلت هذه الخطوة حتى نستعيد ثقتنا بلغتنا، وبموقعنا الثقافى والإبداعى  بإذن الله.

تناقض الوجدان والجدل وتحمل الغموض

حين عدت اليوم إلى ما وعدت به الأسبوع الماضى من تعهد بتناول موضوع “تحمل الغموض” باعتباره الحل الإنسانى الأمثل للإنسان الناضج على مسار نموه المتصل، وجدت أن علىّ أن افصل تفصيلا كافيا فى هذه النقطة، وكيف يتميز الإنسان بها بوجه خاص، بفضل الله، دون سائر الأحياء.

أصل التناقض الوجدانى فى السيكوباثولوجى:

التناقض الوجدانى الذى هو  عرض مهم جدا من أعراض الفصام بالذات، وهو موجود أساسا – كما أشرت سابقا – بشكل دائم وعام عند كل البشر، ولكن بدرجة موضوعية وحافزة، هو أساس جوهرى تركيبى فى ما يسمى “الموقع الاكتئابى” عند ميلانى كلاين، وهو ما وددت حالا أن أسميه ” موقف التميز البشرى”، وحين قدمت الندوة العلمية لجمعية الطب النفسى التطورى وكان موضوعها هو نفس موضوع هذه النشرات الحالية، وجدت أن الحضور والمناقشين  ليسوا على إلمام كاف بمدرسة العلاقة بالموضوع، وبالذات بالنسبة لهذه الاختلافات الأساسية التى تشمل نقدى لهذه المدرسة مع أنها نقطة انطلاقى تقريبا:

نقد ميلانى كلاين

لن أطيل فى عرض تنظير ميلانى كلاين (وجانترب كما أشرت) عن نشوء هذه المواقع من خلال نوع علاقة الطفل بأمه، فيكفينى ما أشرت إليه من افتقارها للربط بالأصل التطورى البيولوجى، وبالحاضر البيولوجى النيورونى حالا، وسوف أكتفى بالتركيز على الموقف الإكتئابى (التميز البشرى).

25-1-2015_2

لم تستثمر ميلانى كلاين (ومدرستها) عمق أصل التناقض الوجدانى فى الموقف الإكتئابى باعتباره نقلة نوعية على مسار التطور، وقد ركزت على  الذوات داخل الطفل النامى بعد أن بدأ يشعر بأن الآخر ليس خطرا على طول الخط، وليس عدوا دائما تحتاج مواجهته إلى الكر والفر طول الوقت، وإنما هو ضرورة لتواجداه واستمراره، ليس فقط كمصدر حماية أو رعاية، وإنما أساسا كمصدر “اعتراف” و”مواكبة” للاستمرار إلى مستويات من الوعى أرقى وأرقى وأشمل وأرحب كما تقول طبيعة التطور.

الموقف الاكتئابى عند ميلاني كلاين، وقتل الأم:

ترى ميلانى كلاين أن الطفل بعد أن يطمئن إلى أمه المحبّة يساوره تهديد باحتمال تركها له وبُعدها عنه، وبدلا من أن يبادلها حبا خالصا يتوجس من غدرها حتى لو لم يكن مقصودا، فيزداد حبه لها وتعلقه بها، وفى نفس الوقت يزداد توجسه، ومن هنا ينشأ  موقف تناقض الوجدان، الذى ترى ميلانى كلاين أنه يتصاعد يتصاعد حتى لا يعود الطفل يطيقه، فيقـــتل أمه (فى خياله: الأم الداخلية أساسا) وبالتالى يتخلص من مصدر التناقض الوجدانى الذى زاد عن احتماله، ثم يكتشف أنه قتلمصدر الحب وأيضا موضوع حبه فيشعر بالذنب، فيظهر الإكتئاب نتيجة لهذا الشعور بالذنب، ويستمر يكفر عن ذنبه بالاستغراق فى العمل واكتساب القوة مع درجة متوقعة  من الاغتراب.

25-1-2015_3

 النقد:

أولاً: حتى لو صحت كل فروض ميلانى كلاين فهذا ليس هو نهاية المطاف، لأن دورات الحياة لا تنتهى فى الطفولة، وهى  تتكرر فى كل دورة، والمفروض أن يجد الكيان الإنساني النامى حلا غير قتل مصدر الحب، وهكذا يبدأ نوع آخر من الألم النفسى، وهو الذى أعتبره أقرب إلى مسيرة النمو فى الأحوال السليمة المناسبة

ثانياً: هذه الدورات لا تتكرر فقط فى أزمات النمو اللاحقة وإنما هى حسب النظرية التطورية تتكرر مع كل نبضة للإيقاع الحيوى بما فى ذلك النبض الحيوى أثناء النوم من خلال النوم النقيضى لإعادة تشكيل الدماغ والمعلومات جميعا.

25-1-2015_4

ثالثاً: إن الإكتئاب فى هذا الموقف -إذن- هو المصاحب  الطبيعى للتناقض الوجدانى (وهو المعبر عن جدل العقول التطورية فى نفس الوقت) وبالتالى فإنه يعلن آلام النمو، ولما كان الإنسان يتمتع بالوعى وكذلك الوعى بالوعى فعليه أن يعايش هذه الآلام، ولما كان هذا فى ذاته قد حمّله الأمانة، فهو يجد أن عليه أن  يواصل مسيرته متألما نابضا، ومن ثم يكون الإكتئاب هنا علامة  على استمرار النضج وليس نتيجة للشعور بالذنب، فإذا ظهر شعور بالذنب فله تفسيرات أخرى تتعلق بالزمن والتوقيت والأهداف المتوسطة وطبيعة الجدل وتناسب حفز الإكتئاب مع الاتساع الناتج  لمساحة الوعى وانتقاله من الوعى الشخصى إلى الوعى البين شخصى، إلى الوعى الجمعى، إلى الوعى الكونى ، مما سنعود إليه لاحقا

من كل ذلك نخلص إلى تحديد ما يميز هذا الموقف الاكتئابى ( موقف التميز البشرى) بما يلى:

موقف التميز البشرى:

 (الشهير بالموضع الاكتئابى Depressive Position)

هو  موقف يضع الإنسان على قمة هرم الحياة التى نعرفها، إذ يعلن أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا فى وجوده مع، إنسان آخر، ويكون هذا الإنسان الآخر، هو مصدر الاعتراف به،  وهو مرصد شوفانه،

وهنا يبدأ التميز البشرى فى فرض صعوباته الرائعة.

لما كان الإنسان قد اكتسب الوعى، ثم الوعى بالوعى كما قلنا، فقد أدرك أن ثم “آخرا” هو ضرورى لأنْسَنَتِهْ، (الاعتراف به بشرا)

الآخر الحقيقى هو مصدر الحياة الأرقى بموقفه هذا الذى يسمى أحيانا: الحب،

  • ثم يكتشف الإنسان فى منطقة ما من مناطق وعيه، (مع اختلاف حول سن اكتشافه من 1 إلى 3 سنوات) أن هذا الآخر الذى هو مصدر هذا الحب (الحياة كإنسان) ، هو هو أيضا مصدر التهديد بالترك، بالهجر، فالإهلاك.
  • هكذا يقفز الحذر من هذا المُحب الموضوعى فعلا = مصدر الحياة والأنسنه
  • وهو لا يستطيع إلغاءه ،(بالقتل مثلما قالت ميلانى كلاين)  فهو مصدر الحياة،
  • كما أنه لا يستطيع أن ينكر التهديد بالترك  برغم ضرورة العلاقة،
  • فينشا التناقض الوجدانى!!! Ambivalence  

أنا لا أستطيع الاستغناء عنه أو عن من هو مثله

أنا على يقين – فى نفس الوقت – من أنه قد يتركنى

أنا سوف أتألم حين يتركنى، بل إننى متألم الآن لمجرد التفكير فى هذا الاحتمال

أنا لن أتركه

أنا لن أتركه يتركنى

أنا أحبه

أنا أمارس معه نفس الدور تماما

هو يحبنى

هو يمارس معى نفس الدور تماما

كيف أحتفظ بهذا وذاك الآن هنا معا

هذا مؤلم جدا،

لكنه بشرى جدا

ويزداد التناقض الوجدانى!!! Ambivalence  

  • ما أنا فيه من ألم وحيرة هو ، أفضل من العودة إلى الكر والفر
  • وأفضل من الكذب بإسقاط آخر من داخلى بالمواصفات التى لا تهددنى على هذا الشىء خارجى.
  • وأفضل من العودة إلى قوقعتى لاغيا كل آخر
  • يا لروعة الألم الحب الرؤية الاستمرار
  • يا لفخرى بى ساعيا، فرحا، متألما
  • لكى أكون إنسانا لا أملك إلا أن أواصل:

ويستمر  التناقض الوجدانى!!! Ambivalence  ، وقود الجدل الخلاق، ومبرر الاعتراف بفضل الجهل المعرفى، وحافز السعى نحو خوض الغيب والإبداع دون إعاقة أو اختزال.

 [1] – هذه العلاقة الأخيرة نبهتنى لها الزميلة الفاضلة د. ماجدة صالح أثناء المناقشة بعد ندوة جميعة الطب النفسى التطور يناير 2015، فى نفس الموضوع ، وقد شكرتها وأضفتها هنا فى المتن، ثم تساءلتُ عن سبب إغفالى لها فوجدت احتمال أننى اعتبرتها امتدادا للوجود داخل الرحم، مع أن الموقف الشيزيدى يعتبر كذلك بشكل أو بآخر، لكنه علاقة اللاعلاقة، ثم فكرت أنه لكى تكون علاقة بالمعنى البشرى الذى يعلنه ويؤكده الموقف الاكتئابى أكثر من البارنوى، لا بد أن تكون بين اثنين وليست امتدادا من طرف واحد، ومع ذلك فهى علاقة.

أكرر شكرى للزميلة الفاضلة.

[2] – ابتداء من هنا سوف أكتفى بذكر ميلانى كلاين باعتبارها أهم مؤسسى هذه المدرسة، وأنا أعنى معها كلا من فيربيرن، وجانترب، مع أننى لم أتعرف على هذه المدرسة بحقها إلا من خلال هذا الأخير عبر كتابه: Schizoid Phenomenon Object Relations And The Self. 1992. وهذا بديلا عن ذكر “مدرسة العلاقة بالموضوع” كل مرة، خاصة أن ترجمة كلمة Object  إلى موضوع فيها لبس شديد لمن يقرا العربية فقط، حيث المراد أساسا بالموضوع هو “الآخر”، والآخر الإنسانى بالذات”، فى حين أن كلمة الموضوع بالعربية تعنى أى موضوع ، ونادرا ما تعنى الإنسان الآخر، لكن ما باليد حيلة ، ولو مرحليا.

[3] – وإن كان هذا يبدو أنه هو ما آل إليه الإنسان مؤخرا، أو على الأقل يهدد بقاء بالحروب الصغيرة والكبيرة الممتدة عبر العالم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *