نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 18-1-2015
السنة الثامنة
العدد: 2697
الأساس فى الطب النفسى
ملف الوجدان واضطرابات العواطف (59)
ثانيا: الانفعالات العسرة: (22)
اضطرابات الوجدان (العواطف)
عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (19)
مقدمة عن:
تناقض الوجدان، وانشقاقه، وتحمل الغموض
…. أجلت الحديث عن “تناقض الوجدان” ambivalence حتى أتمكن من الوفاء بحقه ومدى تواتره فى الحياة العادية أيضا، وكذا مدى تداخله مع ظواهر إيجابية اختلطت معه عند العامة والخاصة، وبالذات ظاهرة “تحمـّل التناقض” Tolerance of Ambiguity وهى التى تعتبر من أهم علامات النضج، فكيف كان ذلك؟.
إذا كان الإنسان يتميز بنوع خاص من الحزن الحيوى الذى أفضنا فيه بما تيسر لنا (نشرة: 14-12-2014 “اللاستمتاع”)، وكان الحزن فى نشأته يرتبط بالموقع الاكتئابى (1) فى النمو (وهذا ما سوف أرجع إليه فى نشرة باكر غالبا)، وكنت قد أشرت إلى أن الاكتئاب الإنسانى خاصة هو “موقف علاقاتى” مرتبط بضرورة عمل علاقة بالآخر لنكون بشرا من ناحية، وبدرجة من الوعى بالصعوبة المترتبة على ذلك من ناحية أخرى، فإن كل ذلك يلزمنى ببداية أخرى واستطرادات لازمة.
مثلما اعتدنا، نبدأ من التطور، ونتساءل هل تناقض الوجدان موجود عند الأحياء، قبل الإنسان؟
للإجابة على هذا السؤال حضرنى فرض يقول:
إن ما دون الإنسان يعمل علاقة أسهل وأكمل مع أفراد نوعه ربما لافتقاره لدرجة الوعى التى يتميز بها الإنسان (وإلى نوع الوعى أيضا)، وأيضا وربما تتم هذه العلاقة بانتمائه إلى وعى القطيع معظم الوقت فى أمان نسبى، اللهم إلا للتزواج لحفظ النوع وهذا مرهون بتوقيته ودوراته، والأرجح أن الإنسان قد تجاوز هذه المرحلة دون أن يتنازل عن حقه فى الانتماء إلى الوعى الجماعى إلى ما بعده من مستويات الوعى المتصاعدة.
دعونا الآن نتذكر أن تشارلز داروين تجنب الحديث أصلا – في حدود علمى- عن “تناقض الوجدان” عند الحيوانات فى كتابه عن التعبير عن الانفعال عند الحيوان والإنسان، وربما عرج بالحديث إلى الاكتئاب ولكن علينا أن نتذكر قبلا أنه كان يتحدث عن “التعبير عن الانفعالات”، أكثر من معايشتها، وهى العملية التى يتميز بها الإنسان خاصة، ومن هنا علينا أن نحترمه ونلتمس له العذر انه لم يعرج، ولو – بالدرجة الكافية – إلى هذه المنطقة – تناقض الوجدان – مع أننى لا أستبعد أنه حاول بالتقمص أن يرصد فى الحيوانات ما هو قريب من ذلك (2).
الظاهرة التى نحن بصددها لها تجليات مختلفة فى السواء والمرض وهى ظاهرة وجود عاطفتين متناقضتين معا فى نفس الوقت تقريبا، وفيما يلى تعداد ذلك كمقدمة:
أولاً: تناقض الوجدان ambivalence (تكافؤ الضدًّين عاطفيا): يعنى معايشة عاطفتين ضد بعضهما البعض تجاه نفس الشخص (أو الشئ) بكلّيته الماثلة، وفى نفس الوقت، وليس بالتبادل.
هذا التعريف يؤكد أن هذا العرض:
1) لا يشمل فكرة أن تحب جانبا معيّنا فى شخص ما وتكره جانبا آخر.
2) ولا هو يفيد وصف كيف يمكن أن تحب شخصا الآن وتكرهه فى وقت آخر فى ظرف آخر
3) ولا أن تحبّ شخصا وتكره تصرّفه (كما يقول المثل العامّى المصرى: أحب الناس واكره طبعهم)
وإنما لكى يقال إن عرض تناقض الوجدان موجود فلا بد من التأكد من أن: التضاد الوجدانى حادث تجاه “كل” الشخص نفسه وأنه موجود موجود، وفى “نفس الوقت”.
إن الالتزام بهذا التعريف هو الذى يقربنا من أصل الظاهرة، وبالذات من صعوبتها نتيجة لعلاقتها بالوعى البشرى، وبالإدراك، ثم إن أى تنازل عن الشروط السالفة الذكر سوف يزيح العرض إما إلى ظاهرة أخرى.
ثانياً: انشقاق الإدراك (الوجدان): ابتداء نتذكر علاقة الوجدان (خصوصا كما قدمناه) بالإدراك (خصوصا كما قدمناه) وما أسميته هنا “انشقاق الإدراك” ليس عرضا مرضيا أصلا، لكنه ظاهرة تعلن أن الإدراك يمكن أن يميز جوانب معينة من الموضوع (الشخص الآخر)، ويستقبلها ويترجمها إلى وجدانات مناسبة، وعلاقات ملائمة، فى حين أن نفس الإدراك أو جانب آخر منه أيضا يتعرف على جانب آخر من نفس الشخص، سواء كان هذا الجانب هو سمة دائمة، أو تفاعل مؤقت، مما يستتبع أن يثير الوجانات المقابلة اللازمة للتعامل معه، أو الحكم عليه، أو الاقتراب منه أو العكس، وظهور العاطفتين بهذا الشكل لا يدرج هذه الظاهرة مع عرض “تناقض الوجدان” هذه ظاهرة طبيعة ومفيدة فى التعامل بين البشر، وتحدث غالبا بإرادة واعية، ولكنها قد تجرى بعيدا عن الوعى بدرجات مختلفة، ولا نلحظ – ولا يلحظ صاحبها – إلا نتائجها، وإذا وصلت هذه الظاهرة إلى مستوى التفكير والتعليم والمنطق، فإنها تصبح آلية من آليات التكيف بشكل أو بآخر، لأن صاحبها يستطيع أن يتوقع أنه يتعامل مع هذا الجانب ثم أنه يتعامل مع الجانب الآخر، فيقابل كل منهما ما بما يناسبه، وبرغم التأكيد على كونها طبيعية تماما فإن المبالغة فيها قد توصل إلى درجات مختلفة من الاختزال والاغتراب بشكل أو بآخر، خاصة إذا حدثت بعيدا عن الوعى.
ويمكن أن نضع القول السائد: “أحب الناس واكره طبعهم” ضمن هذه الظاهرة، أى ضمن محاولات التكيف بما يشبه الحلول الوسطى، وهو أمر وارد، لا هو بالمرض، ولا هو غاية المراد على أية حال..
ثالثاً: تذبذب الوجدان: يشير هذا المصطلح إلى وجود عاطفتين متضدتين أيضا، أو أحيانا مختلفتين اختلافا شديدا، ولكن حضورهما ليس متزامنا تماما بل بالتناوب السريع خلال ساعات أو أيام، وبالتالى فإن هذا التذبذب برغم وجود التناقض إلا أنه لا يعد عرض “تناقض الوجدان” المعنى هنا لعدم التزامن، وهو لا يعد أيضا من “الاضطرابات الوجدانية” سريعة الدوران rapid cyclic حيث تتبادل دورات هذا الأخير خلال أسابيع أو شهور، وليس خلال أيام أو ساعات عادة.
عودة إلى اضطراب الوجدان
يعتبر تناقض الوجدان عرضا، (جزءا من مرض) إذا كانت نتيجته هى الابتعاد عن مصدر هذا التعارض، والانسحاب من صعوبة أو مخاطرة عمل علاقة به تضطره إلى تحمل التناقض،
وكثيرا ما توجد هذه المشاعر تجاه الوالدين، وبالذات الوالد القاسى الراعى فى نفس الوقت، أو الأم التى كانت، أو ما زالت تمارس مع أبنائها نوعا من العلاقة مزدوجة الوثاق Double bind ، حين تقول لابنها بالألفاظ مثلا “إنت حر”، فى حين تكون الرسالة غير اللفظية، والعملية، فى نفس اللحظة هى مطالبتها له بالطاعة العمياء والامتثال طول الوقت بما تفرضه من أوامر ونواهٍ، ومهما كان هذا التصرف بعيدا عن منطقة الوجدان من حيث الظاهر، إلى أنه يحدث بلبلة فى نمو الطفل بشكل يجعله عرضة للعودة إلى هذا الموقف المنطبع فيه من سن مبكرة فى حالة المرض خاصة.
وتناقض الوجدان يبدو عرضا ظاهرا فى حالات الفصام وخاصة فى بداية المرض، وخاصة تجاه أحد الوالدين.
رابعاً: تحمل الغموض Tolerance of ambiguity
هذه الظاهرة التى تدل على درجة عالية من النضج عامّة والنضج الوجدانى تشير إلى قدرة الشخص الناضج – بعكس الطفل وغير الناضج- أن يتبيّن أوجه التناقض فى شخص ما، ولا يحول ذلك دون عمل علاقة كاملة، فهو يحتمل التناقض ولا ينكره لا فى نفسه ولا فى الآخر ويستمر وهو يتواصل معه “بكل ما هو” بأكبر قدر من الموضوعية والفاعلية.
وهذا ما سوف نعود إليه غدا غالبا.
[1] – من الآن فصاعدا سوف ألتزم بتعبير “الموقع الإكتئابى” بدلا من “الموقف الاكتئابى” الذى كنت أستعمله تعبيرا عن ما يقابل Depressive Position، وهو التعبير الذى اوصفته مدرسة العلاقة بالموضوع بدءا من “ميلانى كلاين” ، بالإضافة إلى كل من الموقع الشيزيدى Schizoid Position والموقع البارنوى Paranoid Position
[2] – ولقد حاولت شخصيا ذلك دون أى ضمان إن كان ذلك كان تقمصا إسقاطيا، أم مواجدة أصلية.