الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (45) أخيرا: حالة “انهباط” حيوى دورى

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (45) أخيرا: حالة “انهباط” حيوى دورى

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 30-11-2014   

السنة الثامنة

العدد: 2648 

 الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسيةالفصل الخامس:

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (45)

ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (8)  

          (الانهباط)

 أخيرا: حالة “انهباط” حيوى دورى

مقدمة:

أنهينا نشرة الإثنين الماضى بالحديث عن هذا النوع من الاكتئاب الذى يستحق هذا الاسم تاريخا ودوريا وبيولوجيا وراثيا وعلاجا واسميناه “‏الاكتئاب‏ ‏الدورى ‏البيولوجى:‏‏Periodical Biologic Depression (1) وكانت هناك مطالبات  ليست قليلة أن أقدم حالات معينة لشرح ما أحاول تقديمه خصوصا إذا ما كنا بصدد مادة إكينيكلية خبراتية معرفية (علمية ..لا مانع) للأصغر خاصة بعد أن اضطروا إلى المشاركة فظهرت حاجتهم بشكل صادق ولزم الاستفادة من هذه الورطة بما قد يفيدهم. (تجربة لا تضر!!)

كنت أفضل باستمرار أن أحيل تقديم الحالات إلى باب “حالات وأحوال” إلا أننى ربما من باب الشكر لهؤلاء المشاركين الأصغر، أو من باب الرشوة لهم كدعوة لاستمرارهم خاصة حين تتراخى قبضة القهر تصورت أن تقديم حالة بين الحين والحين مع شرح إكلينيكى كاف قد يكون مناسبا، ولن يكون على حساب باب “حالات وأحوال” فالحالات تنتظر بالمئات والأحوال طبعا أكثر من الحالات فلكل حالة عدة أحوال لا تحصى.

سوف أبدأ اليوم هذه التجربة بحالة ترتبط بآخر أنواع الاكتئاب التى قدمتها قبلا باسم “تشكيلات الاكتئاب المرضى فى مقابل الحزن الجدلى المواجهى “1” والتى ذكرت اسمها حالا.

هذه الحالة قد سبق نشرها فى مجلة الإنسان والتطور الفصلية (عدد‏ ‏إبريل‏ – ‏سبتمبر‏ 1988) إلا أننى رأيت فى إعادة نشرها مع التحديث المناسب فى التعليق، فرصة لمزيد من المراجعة بعد ثلث قرن.

وسوف أحتفظ بنفس العنوان القديم دون إبداء أسباب.

حـــزنٌ‏ ‏أم‏ ‏تفجّـر‏ ‏وعـى؟ (2)

هى حالة ضمن بحث أشرفت عليه كجزء من التمهيد لرسالة دكتوراه فى كلية الطب قصر العينى، وقد أعطتنى الباحثة ‏‏ ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏باعتبارها‏ ‏حالة‏ ‏إكتئاب‏ ‏نموذجي، ‏دوري، ‏نشط،‏ ‏أتفق‏ ‏ثلاثة‏ ‏من‏ ‏الفاحصين‏ ‏ذوى ‏خبرة‏ ‏متنوعة‏ ‏على هذا ‏التشخيص تحديدا (3)‏، ‏لأقوم‏ ‏بقراءتها‏ ‏شموليا، ‏ففعلت‏ ‏ذلك‏ ‏بنفس‏ ‏الطريقة‏ ‏التى ‏أقدم‏ ‏بها‏ ‏الحالات‏ ‏فى باب حالات وأحوال. ‏فحص‏ ‏الأعراض‏ ‏والعلامات‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏السياق‏ ‏العام، ‏والتحليل‏ ‏التركيبى ‏للمستويات‏ (‏المخية‏/النفسية‏) ‏وعلاقاتها‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض، ‏ومحاولة‏ ‏قراءة‏ ‏كل‏ ‏جزئية‏ ‏فى ‏سياقها‏ ‏العام‏ فقرأتها –على مسئوليتى- على هامش ذلك البحث وقمت بتحديث التعليق على كل فقرة لتناسب ما جدّ إن كان قد جد جديد.

أولا‏: ‏المشاهدة‏ ‏الإكلينيكيية

سعيد‏ (‏اسم‏ ‏رمزى‏) ‏وكيل‏ ‏بفرن‏ ‏بضاحية‏ ‏جنوبية‏ ‏للقاهرة، ‏متزوج‏ ‏وله‏ ‏ابنة، ‏يسكن‏ ‏فى ‏عزبة‏ ‏لضاحية‏ ‏أبعد‏ ‏جنوبا، ‏حوله‏ ‏طبيب‏ (‏ممارس‏ ‏عام‏) ‏إلى ‏قصر‏ ‏العينى ‏للعلاج، ‏بدأ‏ ‏شكواه‏ ‏بقوله‏:‏

‏(1)  “‏جالى ‏قبل‏ ‏كده‏ ‏ثلاث‏ ‏مرات‏” ،”‏المرة‏ ‏دى ‏جالى ‏من‏ ‏ما‏ ‏يكملش‏ ‏شهر‏” (4)

لاحظ‏ ‏هنا‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يبدأ‏ ‏الشكوى ‏بذكر أية‏ ‏معاناة‏ ‏نفسية‏ ‏أو‏ ‏جسمية بشكل مباشر، ‏وإنما‏ ‏بدأها‏ ‏بالكلام‏ ‏مباشرة‏ ‏عن‏ “‏شيء‏” ‏أو‏ ‏ظاهرة، ‏تجيء‏ ‏وتروح، ‏جاءت‏ ‏وراحت، ‏أوجاء‏ ‏وراح، ‏ثم‏ ‏يقفز‏ ‏ليحدد‏ ‏المدة‏ ‏والبداية‏ (‏أيضا‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏شكواه‏ ‏من‏ ‏عرض‏ ‏أو‏ ‏معاناة‏):‏

‏(2)  “‏كنت‏ ‏قاعد‏ ‏عادى ‏وبعدين، ‏وبعدين‏ ‏لقيت‏ ‏نفسي زى ‏ما‏ ‏أكون‏ ‏تايه، ‏أو‏ ‏نايم‏ ‏وانا‏ ‏صاحى”‏  

فهذا‏ ‏الذى ‏جاءه‏ ‏ ‏قد‏ ‏حط‏ ‏عليه‏ ‏بدون‏ ‏مناسبة، ‏أو‏ ‏إنذار‏ ‏ظاهر، ‏حتى ‏نشعر‏ ‏أن‏ ‏البداية‏ ‏إنما‏ ‏تعلن‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ خبرة معيشة، قبل تصنيفها شكوى من اضطراب معين، وهذه البداية مهمة، وننصح بها لتكون إحدى تقنيات المقابلة ما أمكن ذلك: أن نترك المريض بعد التعرف عليه، يحدد بماذا يبدأ، مع مراعاة تجنب الحكى عن الماضى، خصوصا تحت تأثير ما شاع عن العقد النفسية والتحليل، نسمح له بالبدء بتلقائية بما دعاه للحضور فى هذا الوقت بالذات للاستشارة أو العلاج،

هذه البداية هكذا هى إعلان لتغير الوعى، وقد يكون الإعلان غامضا بهذه الصورة، خاصة عندما تكون هناك خبرة مرضية  سابقة، وهو الأمر المتواتر فى هذا النوع،  ‏فالوعى ‏القائم‏ – ‏أيا‏ ‏كان‏ – قد ‏يخفت‏ ‏أو‏ ‏يهتز‏ ‏حتى ‏يستدعى ‏تعبير‏ ‏”تايه”، ‏لكننا‏ ‏نلاحظ‏ ‏الوصف هنا:‏ “‏زى ‏ما‏ ‏أكون‏ تايه”، وليس مجرد تايه، ثم هو يلحق ذلك فورا بقوله: ‏أو‏  “‏نايم‏ ‏صاحى“، وهذه البداية المحددة التى تعلن تغيرا نوعيا فى الوعى أو الإدراك، تكون واضحة للمريض تماما، ويستطيع أن يحدد أنها كانت فى أى وقت من النهار أو الليل، وماذا كان يفعل ساعتها، أو مع من كان يتكلم أو يجالس ..إلخ

إذن، فما أصابه فى هذه البداية حسب وصفه ليس توهانا بمعنى ‏عتامة‏ ‏فى ‏الوعى (5) ‏وهو أيضا ليس‏ ‏انشقاقا‏ ‏للوعى (6) الأمر الذى يرصد من الغير أكثر مما يصفه المريض، ‏لكن‏ ‏البداية‏ ‏هنا‏ ‏تعلن‏ ‏أن‏ ‏وعيا‏ ‏آخر، قد حل إضافة إلى الوعى المعتاد، فالتقطه المريض بيقظة حساسة، وأيضا هذا التغير فى الوعى والإدراك يحدث عادة فجأة، ولعله أقرب ما يكون ‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يعرف‏ “‏بالبداية‏ ‏الحُلْمية‏” (7) ‏ولابد‏ ‏من‏ ‏تمييز‏ ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏عما‏ ‏يعرف‏ ‏بأحلام‏ ‏اليقظة، ‏كما‏ ‏ميزناه‏ حالا ‏عن‏ ‏العتامة،‏ ‏وعن الانشقاق‏ ‏الهستيرى (‏العصابى‏) .‏

ثم يواصل:

(3)  “‏المرة‏ ‏دى ‏جالى ‏من‏ ‏ما‏ ‏يكملش‏ ‏شهر‏”‏

ما زال يتكلم عن خبرة بلا إسم (8)، وهو يقرر أنه جاء، وكأنه الضيف الذى ورد فى شعر ذي الرمة: “وكنت إذا ما الهم ضاف  قريته (9) .. الخ” الهمّ هو الذى حلَّ ضيفا، وهو يحتاج إلى الإكرام حتى ينصرف (10).

هنا‏ ‏إعلانُ لتداخلٍ‏ ‏واضح‏ ‏ونشط‏ ‏بين‏ ‏وعى ‏ووعي، ‏ليس‏ ‏إحلالا، ‏ولا‏  ‏إطلاقا‏ ‏لخيال‏ ‏مغترب‏ ‏عن‏ ‏اللحظة‏ ‏الراهنة‏ (‏والأخير‏ ‏هو‏ ‏أساس‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏أحلام‏ ‏اليقظة‏) ‏إن نتيجة‏ ‏هذا‏ ‏التداخل‏ ‏والاقتحام، هى أن ‏يختل‏ ‏الإدراك‏ ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا، ‏فأصبح‏ ‏إدراكا‏ ‏غير‏ ‏مصقول‏ ‏أو‏ غير ‏محدد، ‏لأنه‏ ‏أصبح‏ ‏مغلفا‏ ‏بأكثر‏ ‏من‏ ‏وساد، ‏أو‏ ‏ملتحما‏ ‏بأكثر‏ ‏من‏ ‏وعى ‏إن‏ ‏شئت‏ ‏المباشرة، ‏وبذلك‏ ‏نرى هنا  ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏فى ‏الزيادة‏ ‏نقصانا‏ (‏كلما‏ ‏كَثُرَ‏ ‏قَلّ‏) ‏فهنا‏ ‏لما‏ ‏تضاعف‏ ‏الوعى ‏قلت‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏التحديد‏ .‏

‏(4)  “‏يعنى ‏دلوقتى ‏مين‏ ‏اللى ‏قاعد‏ ‏بره؟‏ ‏مراتي

وبنتى ‏وحماتي، ‏مش‏ ‏عارف‏ ‏حاخرج‏ ‏ألاقيهم‏ ‏ولا‏ ‏لاه‏” .‏

‏ ‏لا‏ ‏يبدو‏ ‏”عدم‏ ‏التأكد” هنا‏ ‏اضطرابا‏ ‏فى ‏تحديد تفاصيل الواقع، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏شك‏ ‏فى ‏يقين‏ ‏الإدراك‏ ‏الجديد‏ (‏بعد‏ ‏اقتحام‏ ‏الوعى ‏بالوعي‏) ‏وكأن‏ ‏الإدراك‏ ‏الجديد‏ ‏بما‏ ‏أضيف‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏وعى ‏جديد‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يجد‏ ‏الطريق‏ ‏سلسا‏ ‏إلى ‏يقين‏ ‏مفيد‏ (‏إقتصادا‏). (11)‏فالوعى (‏الوعْيَان‏) ‏الجديد‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يرصد‏ ‏الإدراك‏ ‏بنفس‏ ‏اليقين‏ ‏الثابت‏ – ‏كما‏ ‏اعتاد‏ – ‏فهو‏ ‏يقر‏ ‏أنهم‏ (‏اللى ‏قاعدين‏ ‏بره‏: ‏مراته‏ ‏وبنته‏ ‏وحماته‏) ‏هم‏ ‏كذلك، ‏لكنه‏ ‏ليس‏ ‏على ‏يقين‏ ‏من‏ ‏أنهم‏ ‏كانوا‏ ‏مازالوا‏ ‏بره، ‏أو‏ ” لعل الأدق هو أنه لم يعد على يقين من ‏أنهم‏ ‏لم‏ ‏يعودوا‏ ‏كذلك”، ‏وهذا‏ ‏قد‏ ‏يبدو‏ ‏عاديا، ‏وقد‏ ‏يفسر‏ ‏بلغة‏ ‏الأعراض‏ ‏بما‏ ‏يسمى ‏وسواسا‏ ‏مثلا، ‏لكن‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏الشك‏ ‏هنا‏ ‏ينبع‏ ‏من‏ “‏اهتزاز‏ ‏الإدراك”‏ ‏وليس‏ ‏من‏ ‏”اجبار التكرار” (12)

ثم يضيف ‏:‏

‏(5) “‏بيتهيأ‏ ‏لى ‏إنى ‏كنت‏ ‏باحلم‏ ‏إنهم‏ ‏جم‏ ‏وأكّلوني‏” .‏

عدم‏ ‏اليقين‏ ‏هنا‏ ‏يرجع – غالبا- إلى ‏نوع‏ ‏الإدراك‏ “المتداخل” ‏الذى ‏استقبل‏ ‏به‏ ‏حضورهم‏ ‏للزيارة، ‏والذى ‏تداخل‏ ‏فيه‏ ‏وعى ‏أقرب إلى وعى الحلم‏ ‏بوعى ‏اليقظة، ‏وهو‏ ‏يكاد‏ ‏يدرك‏ ‏هذا‏ ‏بأثر‏ ‏رجعى .‏

ويصل‏ ‏الخلط‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏نوما‏ ‏وما‏ ‏يسمى ‏يقظة‏ ‏درجة‏ ‏شديدة‏ ‏فيما‏ ‏يأتى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏شكوي،

دعونا‏ ‏نسمع‏:‏

 (6)

أ‏-  “‏الصبح‏ ‏تعبت‏ ‏قوي، ‏الدكتورة‏ ‏اللى ‏جابتنى ‏هنا‏ ‏صحتني، ‏

أنا‏ ‏كنت‏ ‏نايم‏ ‏فى ‏النادى (13) ‏مش‏ ‏على ‏السرير، ‏

قالت‏ ‏لى ‏قوم‏ ‏يا‏ (‏سعيد‏”) .‏

ب‏-  “‏أكن‏ ‏حد‏ ‏رمى ‏على ‏بطانية، ‏مش‏ ‏حاسس‏ ‏خالص،‏

زى ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏لسه‏ ‏ماصحيتش‏ ‏من‏ ‏النوم، ‏مش‏ ‏مصدق‏ .”‏

ج‏-  “‏على ‏طول‏ ‏فىّ، ‏ليل‏ ‏نهار، ‏مش‏ ‏متأكد.

 ‏الليل‏ ‏ما‏ ‏بنامشي.‏

وبالنهار‏ ‏أحط‏ ‏إيدى ‏على ‏عينى ‏عشان‏ ‏الناس ما‏ ‏تعرفش‏ ‏إنى ‏صاحي. ‏

عشان‏ ‏لوعرفوا ‏إنى ‏صاحى ‏حاشوف‏ ‏الحاجات‏ ‏اللي أنا‏ ‏باحلم‏ ‏بيها،        ‏حا‏ ‏قولهم، ‏فيضحكوا‏” .‏

هذه‏ ‏المقتطفات‏ ‏الثلاثة‏ ‏تؤكد‏ ‏ماذهبنا‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏اضطراب‏ ‏الوعى ‏بالصورة‏ ‏السالفة‏ ‏الذكر‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏مايميز‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الاضطراب‏ ‏الوجدانى (‏وبصفة‏ ‏عامة‏ ‏بدايات‏ ‏الذهان‏) ‏

نرى ‏هنا‏ ‏كيف‏ ‏عاد‏ ‏يصف‏ ‏نومه‏ ‏فى ‏يقظته، ‏وبالعكس، ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يصف‏ ‏مرحلة‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏النوم‏ ‏واليقظة، ‏ولكنه‏ ‏يكاد‏ ‏يصف‏ ‏ما‏ ‏هو‏: “‏نوم‏ ‏فى ‏يقظة”، ‏والفقرة‏ ‏الأولى ‏ليس‏ ‏فيها‏ ‏شيء‏ ‏غريب، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏ذكرها‏ ‏على ‏أنها‏ ‏شيء‏ ‏يستحق‏ ‏الذكر، ‏ولا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏نرصد‏ ‏غرابة‏ ‏تفاعله‏ ‏لهذا‏ ‏الأمر‏ ‏العادي‏: ‏طبيبة‏ ‏توقظ‏ ‏مريضا‏ ‏من‏ ‏النادى ‏إلى ‏السرير، ‏فإذا‏ ‏بالمريض‏: ‏يربط‏ ‏بين‏ ‏ذلك‏ ‏وبين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “‏تعب‏ ‏قوي‏” ‏لمجرد‏ ‏أنها‏ ‏قالت‏ ‏له‏: ‏قوم‏ ‏يا‏ ‏سعيد، ‏وليس‏ ‏من‏ ‏السهل‏ ‏أن‏ ‏نعتبر‏ ‏هذا‏ ‏التفاعل‏ ‏من‏ ‏قبيل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏عادي، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏نرى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏مجرد‏ ‏الصدفة، ‏فنمضى ‏لنفسر‏ ‏الموقف‏ ‏فنقول‏:‏

إن‏ ‏هذا‏ ‏الإيقاظ‏ ‏بدا‏ ‏كأنه‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الإنامة‏ (‏أكن‏ ‏حد‏ ‏رمى ‏علىّ ‏بطانية، ‏ومش‏ ‏حاسس‏ ‏خالص‏)، ‏وكأن‏ ‏وعى ‏اليقظة‏ ‏الذى ‏نقلته‏ ‏الطبيبة‏ ‏إليه‏ ‏بإيقاظه‏ ‏هو‏ ‏غطاء‏ ‏حل‏ ‏فوق‏ ‏وعى ‏النوم، وليس  كما نتصور أن العكس هو واجب الحدوث دائما، أى النوم هو الذى يغشى اليقظة ‏فقد‏ ‏شعر‏ ‏المريض‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏ألقى ‏عليه‏ (‏اليقظة‏) ‏هو‏ ‏إضافة‏ ‏ثقيلة‏ ‏زادته‏ ‏ربكة، ‏فلا‏ ‏هو‏ ‏استجاب‏ ‏بأن‏ ‏نفض‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏النوم‏ ‏فاستيقظ، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏ظل‏ ‏نائما‏ ‏بعد‏ ‏انتباه‏ ‏عابر‏ ‏مثلا‏ .‏

‏أعلن‏ صاحبنا هنا ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏أن‏ ‏المسافة‏ ‏بين‏ ‏وعى ‏النوم‏ ‏ووعى ‏اليقظة‏  ‏قد‏ ‏اقتربت‏ ‏حتى ‏تداخلا، ‏فاختلط‏ ‏المحتوى ‏وصعب‏ ‏التمييز، ‏ومريضنا‏ ‏هنا‏ ‏يعبر‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏حين‏ ‏يعلن‏ ‏أنه‏ ‏يضع‏ ‏يديه‏ ‏على ‏عينيه:‏ ‏

‏”‏عشان‏ ‏الناس‏ ‏ما‏ ‏تعرفش‏ ‏إنى ‏صاحي‏” ‏

وكأنه‏ ‏بذلك‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يلغى ‏يقظته‏ ‏أو يلغى‏ ‏وعيه‏ ‏بيقظته، ‏لأنه‏ ‏يعلم‏ ‏أنها‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏يقظة‏ ‏خالصة، ‏تماما‏ ‏مثلما‏ ‏أن‏ ‏نومه‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏نوما‏ ‏خالصا، ‏وهو‏ ‏يتصور‏ ‏بهذه‏ ‏الحيلة‏ ‏النعامية (14) ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏نجح‏ ‏فى ‏إخفاء‏ ‏ما‏ ‏اقتحم‏ ‏وعى ‏يقظته‏ ‏من‏ ‏نشاط‏ ‏الحلم، ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يكاد‏ ‏يعجز‏ ‏فيه‏ ‏عن‏ ‏التمييز‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏يقظة‏ ‏وما‏ ‏هو‏ ‏حلم،

‏ثم‏ ها هو يعلن‏ ‏أمرا‏ ‏هاما‏ ‏آخر‏: ‏وهو‏ ‏أنه‏ ‏بذلك‏ ‏أصبح‏ ‏مهددا‏ ‏بأن‏ ‏أحلامه‏ ‏قد‏ ‏تظهر‏ “‏لهم‏”، ‏حالا، ‏فمن أدراه أنه قد‏ ‏يبوح‏ ‏بها‏ ‏وهى‏ ‏تحل‏ ‏فى ‏يقظته‏ ‏لدرجة‏ ‏لا‏ ‏يكاد‏ ‏يستطيع‏ معها أن ‏يخفيها، ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الوصف‏ ‏هو‏ ‏بمثابة‏ ‏إرهاصات‏ ‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏الخوف من فقد‏ ‏السيطرة، أو قرب فقد السيطرة، علما بأن هذا النوع من الاكتئاب (الانهباط) يعانى عادة من الخوف من الجنون تعبير عن هذا الخوف من فقد السيطرة، ‏وهذا‏ ‏بدوره‏ ‏له علاقة ‏ ‏بما‏ ‏يسمى ‏فقد‏ ‏أبعاد‏ ‏الذات ‏، أو شفافية أبعاد الذات (15)،

‏نلاحظ‏ أيضا ‏أن‏ ‏تعبير‏ ‏المريض‏ ‏هنا‏ ‏أشد‏ ‏وضوحا‏ ‏ودلالة‏ ‏من‏ ‏مجرد‏ ‏إعتباره‏ ‏أفكارا‏ ‏تراوده، ‏أو‏ ‏معتقدات‏ ‏خاطئة، ‏فيقينه‏ ‏بحضور‏ “‏ما‏ ‏هو‏ ‏حلم‏” – ‏كحقيقة‏ ‏فى ‏يقظته‏ – ‏وليس‏ ‏مجرد‏ ‏خيال، ‏هو‏ ‏الذى ‏جعله‏ ‏يعلن‏ ‏خشيته‏ ‏تلك‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يضطر‏ ‏أن‏ ‏يحكى ‏للآخرين‏ ‏ما‏ ‏يعيشه‏ “‏هكذا‏”، وكأنه سوف يحكيه رغما عنه، ‏فالأفضل‏ ‏له‏ ‏إذن‏ ‏ألا‏ ‏يعلم‏ ‏الآخرون‏ ‏أنه‏ ‏استيقظ، ‏مادام‏ ‏مازال‏ ‏يرى (‏يعيش‏) ‏نفس‏ ‏المحتوى (‏وعى ‏الحلم‏) ‏يعيشه‏ ‏لدرجة‏ ‏أنه‏ ‏يخشى ‏من‏ ‏إلحاحه‏ ‏حتى ‏يعلنه‏ ‏لهم‏ ‏دون إرادة كاملة، ‏فهو يغمض‏ ‏عينيه‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يرى‏:

  ‏الحاجات‏ ‏اللى ‏باحلم‏ ‏بيها، ‏وحا‏ ‏قولهم، ‏فيضحكوا‏ ‏علىّ .‏

ورغم‏ ‏أنه ‏لم‏ ‏يصرح‏ ‏من‏ ‏قبل‏ (‏ولا من‏ ‏بعد‏) ‏بوجود‏ ‏هلوسة‏ ‏صريحة، ‏لا‏ ‏فى ‏شكواه‏ ‏ولا‏ ‏عند‏ ‏فحص‏ ‏الحالة‏ ‏العقلية، ، ‏فإنه‏ ‏يتكلم‏ ‏هنا‏ ‏عن‏ ‏اقترابها‏ الهلوسة‏ ‏أو‏ ‏احتمالها، “‏حاشوف‏ ‏الحاجات‏”، ‏وهو‏ ‏كذلك‏ ‏يعلن‏ ‏مايشبه‏ ‏العرض‏ ‏المسمى “‏إذاعة‏ ‏الأفكار”‏،‏لكن‏ ‏الإذاعة‏ ‏هنا‏ ‏لم‏ ‏تتم‏ ‏بعد، ‏ثم‏ ‏إنها‏ ‏تعلقت‏ ‏بأمر‏ ‏آخر‏ ‏هو‏ ‏إذاعة‏ ‏الأحلام ‏ dream broadcasting، ‏إن‏ ‏صح‏ ‏التعبير، ‏وهذا أقرب إلى  ‏شفافية‏ ‏حدود‏ ‏الذات‏، ‏وبما‏ ‏أن‏ ‏لغة‏ ‏الحلم‏ ‏هى مصورة‏ ‏عادة‏ ‏فإن‏ ‏السماح‏ ‏والتهديد‏ ‏بالنفاذ‏ ‏هنا‏ ‏ظهرا‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏صور‏ ‏من‏ ‏صور‏ ‏الحلم‏ ‏فالمريض‏ ‏يصف حركية ‏الهلوسة‏  ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يهلوس علانية‏.‏

نحن‏ ‏الآن‏ ‏أمام‏ ‏مرحلة‏ ‏متوسطة‏ ‏من‏ ‏تداخل‏ ‏وعى ‏فى ‏وعي، ‏أو‏ ‏هجوم‏ ‏وعى ‏على ‏وعي، ‏أو‏ ‏كليهما، ‏دون‏ ‏اغتراب‏ ‏أحدهما‏ ‏عن‏ ‏الآخر‏ .‏

ثم‏ ‏نعود‏ ‏لأول‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏الثالثة‏ ‏لنسمع‏ ‏المريض‏ ‏يقول:

‏ “‏على ‏طول‏ ‏فى ‏ليل‏ ‏نهار‏”.

فنتساءل‏: ‏ما‏ ‏هو‏ (‏أو‏ ‏من‏ ‏هو‏) ‏الذى ‏”على ‏طول”،‏ ‏فى‏ ‏ليل‏ ‏نهار‏ ‏هكذا؟‏ ‏أهو‏ ‏المرض؟‏ ‏أم‏ ‏الوعى ‏الآخر؟‏ ‏أم‏ ‏الآخر‏ ‏الذى ‏يحلم‏ ‏داخل‏ ‏يقظته‏ ‏هكذا؟‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏جائز، ‏لكن‏ ‏المهم‏ “‏أنه‏”  ‏هناك‏ ‏على ‏طول، ‏ومع‏ ‏أن‏ ‏التعبير‏ ‏يبدأ‏ ‏بما‏ ‏يشبه‏ ‏التأكيد‏ (‏على ‏طول فى‏ / ‏ليل‏ ‏نهار‏) ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يلحقه‏ ‏باستطراد‏ ‏نقيضى ‏يقول‏ ‏فيه‏ ‏مباشرة‏ “‏مش‏ ‏متأكد‏”، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏يميز‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏: ‏جدل‏ ‏الاكتئاب‏ ‏تركيبيا، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏يوضع‏ ‏سلوكيا‏ ‏باعتباره‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏عرض‏ ‏التذبذب‏ (‏الذى هو‏ ‏ليس‏ ‏مميزا‏ ‏للإكتئاب‏ ‏فى ‏ذاته‏)

إن عدم التأكد هنا هو وعى بالاحتمالات المفتوحة (الجدل) أكثر منه تأرجح بين قرارات مطروحه (تذبذب).

ثم‏ ‏يقول‏ ‏المريض‏: ‏

‏(5) “‏أبقى ‏خايف، ‏خايف‏ ‏ليه؟‏ ‏كإن‏ ‏الدنيا‏ ‏ديه‏ ‏ماحصلتش،‏

مش‏ ‏مصدق‏ ‏حد‏ ‏خالص، ‏إلا‏ ‏لما‏ ‏أشوف‏ ‏مراتى ‏وبنتى ‏عشان‏ ‏

عارف‏ ‏إنها‏ ‏مراتى ‏وبنتي، ‏لو‏ ‏هما‏ ‏مش‏ ‏هنا‏ ‏النهارده‏ ‏

ما‏ ‏كنتش‏ ‏حاصدق‏ ‏إنك‏ ‏بتكلميني‏”.‏

وبعد

شعرت فجأة أن المسألة زادت عن ما اعتدناه من الإسراع بترجمة كل ما يقوله المريض إلى أسماء أعراض بذاتها، وأن الشرح قد يطول ربما لعدة نشرات أخرى، ونحن بعد لم نتعد الجزء الأول من وصفه (شكواه) ، فقررت أن أترك هذا المقطع الأخير بدون تعليق حتى أطرح أسئلة بذاتها تهدينى كيف أكمل، أسئلة مثل:

  1. هل يمكن أن تعقب انت – أولا – على هذا المقطع الأخير ؟
  2. هل أكمل بهذه الطريقة مهما طالت الحالة؟
  3. هل وصلك الفرق بين “قراءة ” المريض وبين “تصنيفه”
  4. هل هذا هو المطلوب بالنسبة لمن طلبوا منى عرض حالات

ما باليد حيلة!

 ورطة وسوف أكملها غدا، وبعد ذلك نرى معا، حسب ما يرد من تعليق

ربما حالة واحدة سوف تغلق باب المطالبة بحالات أخرى

سوف نرى!

[1] – وتشجعنا اليوم لنحل كلمة “الانهباط” محل لفظ “الاكتئاب” وإن كنت غير راض عن ذلك بشكل نهائى!!

[2] –   مجلة الإنسان والتطور ” حالات وأحوال” عدد‏ ‏إبريل‏ – ‏سبتمبر‏ 1988.

[3] – وهو نقيض ما أسميناه “الاكتئاب الطفيلى اللزِج”، وذلك بعد أن أعددنا محكات إجرائية للتميز بينهما.

[4] – يأتى مثل هذا الاضطراب وكأنه قادم فعلاً، وليس مجرد طارئ يظهر، ربما يتفق هذا مع قول ذى الرمة “وكنت إذا ما الهم ضاقَ قريته .. الخ” الهم هو الذى كل ضيقا، ويحتاج إلى الإكرام”.

[5] – Clouding of consciousness

[6] – dissociation of consciousness

[7] – oneroid onset

[8]  – anonymous

[9] – ضاف: حل ضيفا & يقرى الضيف: يكرمه

[10] – البيت بأكمله، يقول ذو الرمة: “وكنت‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏الهمُّ‏ ‏ضاف‏َ ‏قريْتُه‏ ‏ * مواكبةً ‏ينضُو‏ ‏الرعان ‏ذميلُها”، سبق شرح معنى ودلالة هذا البيت فى (نشرة 17-2-2011 فى شرف صحبة نجيب محفوظ “الحلقة الثالثة والستون الخميس (الحرافيش): 25/5/1995).

[11] – الاقتصاد هنا يقصد به كفاءة العمليات العقلية العادية، بأقل قدر من التداخل والتشتت، فى أقصر زمن، وهو اقتصاد ناجح لتحقيق غرضه لا أكثر ولا أقل، لكنه ليس هو المناسب فى عمليات أخرى مثل الإبداع التى يحتاج لتضفر أكثر من مستوى من مستويات الوعى حتى على حساب هذا “الاقتصاد”

[12] –  Repetitive Compulsion

[13] – مكان خارج العنبر، أشبه بتراس متسع، يمارس فيه المرضى بعض النشاطات الجماعية.

[14] – تشبيه بالنعام الذى يدفن رأسه فى الرمل حتى لا يرى الخطر القادم

[15] – تعريف فقد أبعاد الذات loss of ego boundaries تعبير مألوف، يشير إلى تداخل طبقات الوعى معا، فضلا عن فقد الحاجز، أو الحواجز بين الداخل والخارج (داخل الذات وخارجها) وهو يعلن بأعراض مثل إذاعة الأفكار أو قراءة الأفكار، لكنه ليس عرضا متواترا فى هذا النوع من الاضطرابات، أما تعبير “شفافية أبعاد الذات”  هو تعبير استحدثناه  transparency of ego boundaries فهو أكثر تواترا هنا، لأنه يشير إلى مثل هذه الأعراض الأبسط مثل تداخل وعى النوم أو وعى قبيّل أو بعيد النوم  مع وعى اليقظة مثلما وصف صاحبنا هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *