الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (6 من 8)

مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (6 من 8)

نشرة “الإنسان والتطور”

الاثنين: 13-1-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4517

مقتطف من كتاب:

الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)

الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (6 من 8)

(ما زلنا فى نفس الفصل)

…………………..

……………….

ما زلت أذكر تلك الخبرة التى علمتنى كيف أن بعض أذكياء الخواجات يعرفون من هم مثلى، يعرفون همومه الأزلية، بقدر ما يعرفون مفاتيح طفولته السرية، فيستدرجونه تحت أى عنوان، ثم يظلون يرددون كلمة السر، وينوعونها، حتى تفتح الأبواب الخفية إلى طفولتنا الكامنة، أو المقهورة، أو الخائفة، أو المنزوية، أو المنسية، أو المهملة، قصدا، أو بالصدفة.

هذا ما حدث فى أرض ديزنى (ديزنى لاند) فى لوس انجلوس.

كان ذلك فى العام الماضى، خلال رحلتى الاضطرارية إلى أمريكا، لم يكن عندنا ـ زوجتى وأنا ـ غير ما يقارب أربعين ساعة نقضيها فى لوس أنجلوس، فقد وصلنا مطارها قادمين من سان فرانسيسكو، حول الواحدة ظهرا، وقررنا أن نغادرها صباح اليوم بعد التالى (لست أذكر لماذا؟) وكنا قد سألنا صاحب الفندق فى سان فرانسيسكو ونحن نتجه إلى لوس انجلوس عن أى المعالم أولى بالزيارة فى هذا الوقت القصير، فدلنا على مَعْلَميْن: الاستوديوهات العالمية (ما نسميه نحن: هوليود، مع أن هوليود نفسها ليست إلا قرية على قدر حالها)، وأرض ديزنى (ديزنى لاند) ـ ولم يكن عندنا خيار كبير، فاتجهنا من فور وصولنا بعد الظهر إلى الاستديوهات محتفظين باليوم التالى للملاهى، لكننا وصلنا تلك الاستديوهات بعد قيام آخر فوج، فى آخر جولة، فجعلنا نتجول حولها من خارج، ونحاول أن نرى من خلال وجوه الناس العائدين من الجولة ـ بالإضافة إلى ما سمعته ممن سبقت له زيارتها ـ كل ما يمكن تصوره، فرأيت الخدع السينمائية العملاقة، والمدن الكاملة المعدة للانهيار ـ مثلا ـ والكبارى التى تقام فى ثوان وتنتقل فى ثوان والمطر الصناعى، وغير ذلك كثير كثير مما صوره لى خيالى، قدرت أن هذه الزيارة الخيالية من خارج السور، ومن خلال قراءة وجوه الخارجين قد تكون أرحب من الزيارة الحقيقية، حيث سمح لى خيالى أن أقارن بين ما يجرى فى الخارج وما يجرى فى الداخل،

تصوّرت  أن واقعنا الذى نعيشه ليس إلا  سلسلة من هذه الخدع العملاقة: حروب غير مفهومة، ورؤساء غير مسئولين، وسرعة غير هادفة، ومكاسب بلا عائد، وأفكار بلا مسئولية، وديانات بلا إيمان. فكدت أتيقن أن كل ذلك أكثر إدهاشا مما كنت سأراه لو أنى دخلت الاستديوهات. إن الزلزال الحقيقى ـ مثلا ـ كثيرا ما يبدو لى أكثر عبثية ولا منطقية من أضخم عرض لإغارات” موبى ديك”، أو هجمات ” الفك المفترس”..، اكتفينا زوجتى وأنا من الاستديوهات بما وضَـلَنَـا  فزادت حماستنا لقضاء اليوم التالى فى أرض ديزنى شخصيا.

وصلنا “هناك” ـ أرض ديزنى ـ حول الساعة العاشرة صباحا، والسائق “المحترم” يوصينا بأنفسنا خيرا، ويعطينا اسمه ورقم سيارته وميعاد اللقاء واختيارات العودة، وكأننا أطفال يحفظوننا أسماءنا بالكامل وعنوان بيتنا حتى إذا تهنا (زحمة يا ولداه!!) ذكرنا اسمنا فى قسم البوليس، بالوضوح الذى يعيدنا إلى أهلنا بأسرع ما يمكن، فأحسست ببداية تحريك الطفل القابع هناك فى داخلى حيث لا أدرى منذ لم يكن هناك وقت أصلا ـ ربما ـ، دخلنا إلى أرض العجائب صنع الإنسان العجيب، فبدأت فروق الأعمار تتضاءل رويدا رويدا حتى لم يبق إلا العمر الموحَّد لكل الموجودين، العمر الذى ليس له رقم فى شهادة ميلاد أو أية أوراق رسمية. وهو العمر الذى يستطيع ـ دون استئذان أو حرج ـ أن يصادق ميكى ماوس شخصيا صداقة تسمح له بالطلب، والعتاب، والمشاركة، والاستزادة، والإعادة، والاستغماية. فتلفتُ حولى وأنا أنسلخ من نفسى خشية أن يرانى أحدهم متلبسا بطفولة لم أعهدها، لاحَ لى وجهٌ فى مرآة ما أثناء استبدالى آلة التصوير الفورى (دون مقابل)، فوجدته – وجهى – مليئا بما يشبه الحزن، أريد ألا أشعر إلا بما أشعر به، هو شعور ليس له علاقة بهذا الوجه وصاحبه. نما هذا الشعور الحر السهل حتى كدت أنسى، لكننى كنت أسمع بين الحين والحين حديثا بالعربية، فأرتد إلى عمرى الحالى، وأكثر، فى لمح البصر، فأجدُنى لبستُ أول ما لبستُ دروع  مهنتى مستعدا أن يستشيرنى هذا الصوت العربى (أو المصرى خاصة) فى مسأله صداعه، أو أن يسألنى فتوى فيما يتعلّق بخلافاته الزوجية، أو  أن يسترشدنى عن أحسن وسيلة للاستذكار، تمنع رسوب ابنه، أو  أن يحدثنى عما وصلت إليه درجة اضطهاد رئيسه له، وألعن هذه المهنة التى تفرض علىّ أن أكون مستشارا طول الوقت، وكأنى أملك بها (بهذه المهنة) مفاتيح السعادة (والبلادة) وأسرار العواطف وترياقاً “ضد الفشل”. وقلت لعلى أبالغ فى تجنبهم بسبب هذه المهنة التى لـُـصقت باسمى، ثم حلت محلى حتى كادت تخنقنى، وكأنى بتجنبى أبناء بلدى إنما أتخلص من هذا الدور المهنى مؤقتا بعناد وإصرار، ربما.

ونشترك فى اللعبة تلو اللعبة، والمركبة تلو المركبة، حتى ننسى أو نكاد، ولا يبقى أمامنا وحولنا وداخلنا  إلا الأطفال بما فى ذلك ذو الشعرالأبيض، والكروش المتهدلة، والعـِصىّ التى تسند الظهر المنحنى، والسروال “الجينز”، والقفزة المرحة، والشعر الأجعد، أو المرسَل. أعمار وألوان وأجناس انصهرت فى أرض واحدة لتتمازج فى كتلة طفلية واحدة، وكلما كان الطابور طويلا، كانت اللعبة أدعى إلى المشاركة، ومن كثرة الالتواء لم نستطع أن نتبين إلى أية لعبة يؤدى الصف الذى وقفنا فيه لمجرد أنه طويل.

 قلنا: مثلنا مثل غيرنا، ومن ينتظر يرى. وتمر نصف ساعة ونحن نتحرك فى كتلة ممتزجة، كمثل طابور نمل يجر قالب سكر بأكمله. وكلما تقدمنا تجاه مكان قطع التذاكر فالدخول، واجهتنا اللافتة تلو الأخرى “تحذر”، “إن الإدارة غير مسئولة”، عن ماذا يا ترى؟.كيف يحملونا المسئولية ونحن أطفال فى أطفال؟. تحذير آخر يقول: “على السادة مرضى القلب أن يعدِلوا راجعين”، الله !! تبدو الحكاية جدا، ثم من أدرانى أنا وزوجتى بقلوبنا ونحن لسنا من أهل الفحص الدورى، وأقول لزوجتى التى تركب أى مصعد بالكاد إن المسألة ليست سهلة، وأتوقع أن تقترح أن نعود إلى أدراجنا، بعد أن وقفنا ساعة وبضع دقائق، لكنها ترجح عنادى، فتسكت علامة الرضا الذى هو والرفض المطلق سواء، وحين نصل إلى التعرف على اللعبة، نفاجأ بأنها “رحلة فى الفضاء”، أهكذا؟

نتذكر متحف سفن الفضاء فى واشنطن دى سى D.C.، وكيف دخلنا “الكابسولة” فى طابور طويل مماثل، وكيف أخذنا نتحسس جسمها وأماكن الرواد، وكأننا نحصل على البركة؛ إذ نلصق ظهرنا بانحناءاتها، تماما مثلما كنا نفعل صغارا فى قبلة السيد البدوى الملساء، أو قبلة مريديه المحيطين بضريحه. وقد تصورت هناك أن النقلة من رحلة الفضاء العامر التى كان يقوم بها السيد البدوى فى مجاهدته للكشف والتجلى، إلى رحلة الفضاء الخالى داخل كبسولة مغلقة محكمة، هى رمز النقلة التى حدثت وتحدث للإنسان المعاصر.

المهم، وصلنا إلى مدخل رحلة الفضاء “اللعبة”، فى أرض ديزنى، وجعلت أنظر إلى وجه زوجتى، فلم ألاحظ ارتياعا أو امتقاعا كما توقعت، ربما من فرط التسليم، أو بسبب يقين اليأس من التراجع. وربما من فرط شجاعة تفاجئنى بها عادة فى الأزمات، فواصلنا السير إلى مقعدينا فى إحدى المركبات، على الرغم من التعليمات بأن يمسك كل منا بكلتا يديه العمود الصلب المستعرض أمامنا، فقد أمسكته بيد واحدة، وأمسكت زوجتى باليد الأخرى، متصورا أن فى ذلك بعض الشهامة ونوعا من الاعتذار عما أعرضها له بسبب عنادى وإلحاحى فى تجريب ما لاأدرى، لكن هذا الوضع قد ألحق بى ما لم أحسب. فإن يدا واحدة لم تسعف فى حفظ توازنى، واليد الأخرى لم تساهم فى طمأنتها، ونحن ننطلق بسرعة هائلة بين نجوم صناعية، وشموس باهرة، وسقوط غير متوقع. وكانت النتيجة أن شعورى بالذنب أو بالمسئولية من جانب، وبعدم الأمان والتهديد من جانب آخر، تضاعفا. وهات يانجوم سابحة، ونيازك ساقطة، وبراكين ثائرة، ومطبات غائرة، وعينك لا ترى إلا النور، أعنى الظلام. وتعلمت كيف أن “الحداقة” المصرية التى أغرتنى بادعاء الشهامة الزوجية، وبالتالى بتجاوز التعليمات “لا تفيد”. كما حاولت أن أنتبه كيف ينبغى أن أحاول أن أكف نفسى عن التفكير نيابة عن الآخرين تحت زعم حمايتهم، أو تحت محاولة الاستغفار أو الاعتذار عما اضطررتهم إليه، خاصة وأننا بمجرد انتهاء رحلة الفضاء الوهمية وجدت زوجتى أثبتُ جنانا، وأهدأ بالا منى، ليس فقط لأنها أنهت الرحلة، ولكن لأنها لم تتكلف كل هذه الحسابات والادعاءات والوصاية.

تصورت أن مثل هذا الموقف يقع فيه كثير من رؤسائنا القدامى والمعاصرين، فهم يفرضون علينا قهرا والديا تحت مختلف العناوين، ثم يعوضوننا ـ أو هكذا يتصورون ـ بحماية مشبوهة لا ترحمهم ولا تـُنضجنا، وهكذا.

لم يخفف من آثار رعب هذه التكنولوجيا اللعبة إلا رحلة وهمية أخرى فى قارب يخترق أدغالا وبحيرات مصطنعة فيها نماذج بالحجم الطبيعى لحيوانات معاصرة ومنقرضة وقبائل بدائية برقصاتها وأدواتها، وتصورت أن وظيفتها أنها تنشط فى داخلنا تاريخنا الحيوى بشكل أو بآخر، وكأن هذه الرحلة الأخرى تدعونا أن نتذكر أصلنا إن نفعت الذكرى وأن نتحمل مسئولية ما وصلنا إليه من بشرية، ونحن إذْ لا ننسى جذورنا تمتد فروعنا وتثمر.

 قد يكون كل هذا الذى أقوله وأستنتجه صحيحا، ولكن الأصح أن “يصل” إلى وعيى دون أن أدرى به أو أعقلنه، نعم لا بد أن تصل الرسائل تلقائيا عبر كل تحفظاتنا، ومن خلالها، وبالرغم منها… إلى نبض طفولتنا، ولا أعنى بالطفولة تلك المرحلة الأولى من تطورنا البشرى، ولكنى أشير أيضا إلى المراحل الأولى من طفولة البشرية وما قبلها، وهذا وذاك لا يكون له معنى ولا قيمة ما لم يكن حاضراً فينا الآن، وقابلا للتنشيط الحالى. وكأن وظيفة هذه الملاهى العملاقة هى أن تنزعك انتزاعا مما تتصوره عن نفسك لتضعك إقحاما فى مواجهة ما نسيته من نفسك.

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

admin-ajax-41admin-ajax-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *