الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (5 من 8)

مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (5 من 8)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 6-1-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد:  4510

مقتطف من كتاب:

الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)  

الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (5 من 8)

(ما زلنا فى نفس الفصل)

……………….

……………….

حين كنت فى الخرطوم فى تلك السفرة كنت مع المرحوم الأستاذ يحيى طاهر لفحص زميل متهم (رحمه الله) فى جناية قتل، وكان من بين أقوال بعض الشهود وصفهم المتهم بأنه “الزول الأزرق”، ولم أفهم صفة الأزرق هذه إلا بعد أن خدّم علىّ فتى البوير فى الفندق، فلفظ الزول يعنى الشخص، والأزرق هو من ليس أسوداً هذا السواد اللامع الغطيس، هو ما يرادف لفظ أسمر عندنا (وليس أسود).  أتم فتى البوير هذا تنظيف الحجرة على أكمل وجه، وكان عوده الفارع الدقيق، وابتسامته العذبة، وعينيه المليئتين بالحب والألم، كان كل ذلك فيه من الرسائل ما يكفى لتحريك كل ما تعاطفتُ معه به، وتصورته عنه من هجرة، وغربة، ووحدة، ورقة، وقد فوجئت به فى بهو الفندق فى المساء ونحن ننتظر مائدة العشاء من الشواء الفاخر وغيرذلك. فوجئت به وهو يجلس خلف صندوق تلميع الأحذية، ربما كان هو يزيد دخله بعمل إضافى بعد الظهر، وربما كان أخوه، وربماكان بلدياته، نفس العود، ونفس الألم، ونفس الوشم: حبيبات من اللحم بعرض جبهته وليست مجرد رسوم دق أو كىٍّ محدد.

 لم أحتمل ما غمرنى من تعاطف و ألم، فوجدتُنى أرسمه شعرا، وكأنى بذلك أنساه، أو ألغيه، وتنبهّتُ إلى موقفى القديم الذى أشرت إليه حالا، والذى يتهم الفن عموما، والشعر خصوصا بأنه قد يكون مهربا وتسكينا، وليس بالضرورة محركا ومحرّضا. وبدلا من أن أسمح لنفسى أن أُفرغ انفعالى به شعرا بعيدا عنه، رحت أعرّى الشعر نفسه كوسيلة لإلغاء الآخر، فكتبتُ ما أسميته: المقصلة”، أو “الإعدام بالشعر”، واسمحوا لى  أن أعيد نشرها اليوم فقد أحببتها وأريد أن تعيدوا قراءتها معى مرة أخرى: لعل وعسى:

(1)

والوشم حبّاتُ الزبيبِ والعرقْ، حلمات أثداءِ الأمومةِ والطبيعةِ والشبقْ. والليل يشرق ساطعاً من وجه عملاقٍ رقيقْ، حَمَلَ البدايةَ والمصيرْ،  فتطلّ من عَينْيهِ أحدا ثُ الليالى الصامتة ْ قامت تمطّـت بعد دهرٍ ثائِر، فى الكهف سرُّ الكونِ والبعثِ الجديدْ، رحـِمُ الحقيقِة والأجنّةُ كامنهْ، فى البذِر تنتظرُ المطرْ.

(2)

يــا إبن أمّ: كيف السبيلُ إلى المياه الغائرهْ؟ تروى القبورْ؟ والعين أطْفَأَهَا رماد الجرى فى غَيْرِ المحاجرْ، والقلب منقوع السآمهْ ؟

(3)

 أصدرتُ أمراً غائما من فوق قمّة الهرم، من مخبأ الصمم: (يا لمعة الحذاء فى حفل المساء، ما بين سادة عجمْ) فضّ الغطاء وابتسم، فمضى الشعاعُ السيفُ يخترقُ المدَى. تجلـو الملاِمحَ فى غَيَاباتِ الحَزَن.

(4)

..وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ، فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا، أعدمتــُه بشراَ، صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ، حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم

(5)

نادى الخليفةُ حاجبهْ، دخل النديمُ مهلـِّلاً، قرأ القصيَدَة فانتشى، قد راق مولانا الغناءْ.

****

أين لى هذه الفرصة التى أتواصل فيها مع أصلى، أصلنا، الأسود الرائع؟

فى أفريقيا، فى الجنوب، فى السواد الأعظم، لن تكون سياحة للفرجة؟ إذن، ماذا تكون؟ تكون مخاطرة الكشف المرعب، حتى أنى أتصوّر أنها غير قابلة للكتابة، ستكون أعمق وأكبر من الكتابة.

لماذا الكتابة؟

ونواصل النزول إلى الشاطئ المحدود فى جوف الجبل، فأتذكر سان اسباستيان فى شمال أسبانيا حيث اقتطَعَ جبلها ـ خلسة أيضا على ما يبدو ـ جزءا من المحيط بالطريقة ذاتها، ولكن على نطاق أوسع، وحين نصل إلى حيث بضعة النفر من الناس فى حمام السباحة الطبيعى هذا، أجد ما توقعت من العرى والطفولة والطبيعة والحرية والسماح بما يليق بالمكان والزمان. لم أنبه زوجتى (متذكرا غثيانها)، ولا أولادى (متذكرا عزوفهم المبدئى)، وإن كنت أحسب أن العرى هنا فى هذا المكان المغلق كان أقل نشازا وتحديا من العرى على الشواطئ المفتوحة. كما أنه يبدو أن التنبيه إلى الشذوذ ـ بحسب مقاييسنا ـ هو الذى يجعل الشذوذ شاذا.

يستأذن الصغيران ـ على وأحمد ـ فى غُطس عابر، وأتمنى لو أشاركهما، فقضمة البحر هذه وسط الجبل قد تكون إنعاشا لما أحتاج لإنعاشه من حمام مخيم “ألبا دورو” على مشارف فينيسيا، ولكنى أخجل من إظهار هذه الرغبة وحولى هذا الشباب الرزين والعياذ بالله، فتصنعت الحكمة وانتحيت جانبا أجلس على صخرة كبيرة مطلقا خيالى يعوم بطول الخط الفاصل بين الأفق والبحر، وقد يختفى خلف السحاب المتشكل بما يوحى بكل ما يمكن.. وغيره، واضطجع الباقون ـ حتى ينتهى الصغيران من غطسهما ـ كلٌّ بجوار صخرة تُماثِلُه، و تَكمِّله، وصورنا، وصمتنا، وكاد بعضنا أن يغفو، وانتظرنا الصغيرين حتى يشبعا، فلم يشبعا، فاضطررنا إلى توقيت ميعاد لـلرحيل القسرى، وعاودنا الصعود راضين متعجبين من كل هذه الفرص لكل الناس. يكفى أن تكون عندك سيارة، (وفى فرنسا توجد سيارة لكل ثلاثة مواطنين بما فى ذلك الأطفال)، أو أشغال سنغالية وتذكرة أتوبيس، و”سندوتش” لتتمتع بكل هذا، يارب لا اعتراض، ولكننا فى مصر أحوج ما نكون إلى أن نتصالح مع الطبيعة، ثم مع أنفسنا، وبالعكس. فى مصر جمال شاسع ممتد بلا نهاية، ذلك السحر الواعد، ماذا فعلنا به ؟ بنا؟  متى؟ إلى متى؟

يصل إلى مسامعى همْسُ عدد من رفقاء الرحله، كانوا يتداولون فى أروقة السلالم الحجرية الصاعدة: أن هذا يكفى. لأنه ـ فى الأغلب ـ لن يكون فى سان رافائيل، أو سان دييجو إلا جبل، وبحر، وعـِـرى، وطفولة، وحمد، ومقارنة، وغيظ، ورضا، وقد وصَلَنَا كل ذلك فى هذه الانحرافة المختصرة، وأعلم أنى سأخسر لو أصررت على مواصلة السير لمائة وخمسين كيلو مترا آخرين لأثبت لهم أن كلامهم غير صحيح، فرضيت مكرها، برغم يقينى أنه لايوجد جمال مثل جمال آخر،

أتصور أن للطبيعة بصمات مثل بصمات البشر، يستحيل أن تتماثل، أرنى ألف ألف صخرة، ومثلها من الموجات، والسحب، والورود، وسأريك فيها ألف ألف جمال بالعدد ذاته، مضروبا فى حالتك، فى عدد زوايا رؤيتك، ملونا بحدة إنبهارك، نابضا بدرجة انفتاح مسام وعيك، فلا يـُـفسد الجمال الا أن تشعر أنه “مكرر” أو “مقرر”، أما أن تكتشف فيه دائما ذلك التفرد، وأن تأتى ذلك مختارا، فقد ملكت نواصى الداخل والخارج مبدعا فى كل آن،

بصراحة.. نحن عندنا حس جمالى، لكنه من نوع آخر، كأننا نحس بالجمال سرا، أو فى حياء. فما زلت أذكر نظرات ذلك الفلاح الصديق الذى يعزمنى على غدائه على رأس الغيط، وهو “يدش” فحل البصل ويتأمل طبقات البصلة الداخلية الملتفة فى دوائر حتى القلب الرقيق القابع فى مركز الدوائر، فأتناوله منه شاكرا مشاركا. يتبادل ذلك مع لف عود الكرات، حول كسرة الخبز دون الإسراع بالتهامها، وهذا ليس من قبيل “ما احلاها عيشة الفلاح”، ولا هو يتم بوعى ظاهر، لكنى على يقين أن هذه العلاقة الوثيقة الهادئة بين الداخل والخارج، هى من مكونات صلابة الناس وأصالتهم، وهى الجمال ذاته حتى لو لم يعلن، وبديهى أن هذه ليست دعوة للرضا بالفقر، فالفقر على المدى الطويل كُفر مشوِّه، لكنها تذكرة تنبه إلى عدم التسرع بالتماس أسباب عمانا عن الجميل بلوم الفقر ورفع شعارات جاهزة مبررة.

ماذا حدث لهؤلاء الذين اغتنوا منا فلم يزدادوا إلا ذهولا وتخديرا؟ والفقراء أيضا تصلبوا أمام التليفزيون دون الطبيعة ثَمَّ شئ قد حدث جعلنا نتخاصم ـ فقراء وأغنياء ـ مع أنفسنا فى الداخل، فنخاصم الخارج، شئ ما قد سد مسامنا حتى لم نعد نستطيع أن نستنشق الطبيعة. وحتى الدين الذى نزل أصلا ليساهم فى “تسليك” المسالك بين الإنسان والطبيعة، إلى مابعد المدى، انتهى إلى أن يصبح ـ فى الأغلب ـ عجينة من الأسمنت والجبس تجثم على مرونة الحركة وتسد المسارات الجمالية الحرة يبن الداخل والخارج، وبرغم وصية الأديان جميعا بالنظر فى أنفسنا، وفى السماء والأرض والنجوم، فإننا لا نطيع ربنا فى ذلك، بل نستعمله لإثبات أن ديننا أحسن، وألمع، وأكسب، نريد بذلك أن نشكل الناس والأفكار فى النمط “الصحيح” الجاهز الواحد، فى حين أن الوعى الفطرى لا يمكن إلا أن يرى تجليات الواحد الأحد فى كل العصور المتعددة التواجد بلا نهاية، يجمعنا ذلك النبض المشترك الأعظم فى وحدة النغم الكونى مع اختلاف الحضور والشهود والوجود باختلاف الزمان والمكان.

نعم  ليست أية صخرة مثل غيرها، والجمال ـ هنا ـ فى “ثيو” غيره فى “سان سباستيان”، غيره فى شاطئ “عجيبة” فى مطروح، ولابد أن يكون غيره فى “سان رافائيل” لو زرناها، ولكن: مادام الأمر كذلك، والعمر قصيراً، وعلى الرغم من أنه لايغنى جمال عن جمال، فقد انتبهت إلى استحالة الإحاطة بكل إبداع الحق، المتناغم فى صور الطبيعة المتنوعة، فوافقتهم راضيا دون أن اعلن احتجاجى على استسهالهم وتقاعسهم، فهم لم يكونوا كذلك.

رجعنا من طريق غير الذى أتينا منه بين “كان” و”بو ليو”، وكأننا ننفذ وصية صلاة العيد، يقابلنا مستر بوارو الفرنسى بسؤالنا عن ماذا فعلنا فى أمر السرقة. ماذا يريد هذا الرجل؟ ماذا يفعل بالضبط ؟ يواصل مستر بوارو طرح منظومات فرضه، وهات يا اقتراحات إضافية، واستنتاجات لاحقة، ونهرب منه ساخطين بكل معنى، كاد يفسد نسيانا الجميل لما حدث.

لم أكن أتصور أن عقل مثل هؤلاء الناس فارغ كل هذا الفراغ حتى يلف مكانه هكذا بلا طائل، تسلية هى أم ماذا؟ وفى محاولة الهرب من ضياع الليلة فى اجترار الأحداث التى نسيناها والحمد لله، يذكرنا الأولاد بتلك الإشارات التى كانت تدعونا إلى زيارة ملاهى” أنتيب” وهى بلدة جبلية تقع بين كان ونيس، فنعتذر أنا وزوجتى برغم خبرتنا الناجحة فى العام الماضى فى أرض الديزنى ضاحية لوس أنجلوس، وربما كان اعتذارنا نابعا من خوفنا من تشويه طفولتنا التى انطلقت منا فى أرض ديزنى تلك المرّة، ثم إن مسألة ذهابنا إلى الملاهى مع الأولاد غيرها إذا كنا وحدنا، حسب ما جربنا صدفة ـ وبصراحة فأنا ما عدت مقتنعا بالاكتفاء بأن من “أطعم صغيرى بلحة، نزلت حلاوتها بطنى”، فقد يكون هذا طيباً مرحليا. أما أن نظل نتمتع من خلال متعتهم فحسب، فهذا ظلم لنا، ولهم، هذا استعمال خفى لا يصلح طول العمر، ولا يصلح عذرا للكبار أن يتوقفوا ويدعوا الحركة للأصغر، ثم يستعملون أولادهم بدلا عنهم. لم أجد عندى استعدادا أن أذهب معهم ليفرحوا فأفرح، وفى الوقت ذاته لم أطمئن إلى قدرتى على النكوص الشخصى طفلا يلعب بنفسه لنفسه، ويشارك بنفسه، فهذا أمر احتاج فى العام الماضى إلى كل تكتيكات والت ديزنى التكنولوجية والطبيعية، حتى نجح فى اختراق طبقات حُزنى، وفى ترويض بعض خجلى، وفى تحجيم معظم حساباتى، وفى تأجيل أغلب مسئولياتى. فعلت كل ذلك هناك فى لوس أنجلوس دون استئذان، فهل يا ترى ستقدر أى ملاهٍ أخرى أن تعيد لعبة سرقتى إلىّ طفلى ـ أنا ـ بعد أن فقست حركاتها، هل سيسمح لى أولادى أن أكون “طفلى” وهم حولى فى هذه الملاهى الأصغر؟. لا أظن.

……………………

ونكمل الأسبوع القادم

 

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

admin-ajax-51

admin-ajax-41

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *