الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” (28) الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (3)

مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” (28) الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 23-12-2019

السنة الثالثة عشرة

العدد:  4496

مقتطف من كتاب:

الترحال الأول: “الناس والطريق” (1) (28)

الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (3)

(ما زلنا فى نفس الفصل)

نشرة اليوم بها الجزء المحذوف من الأسبوع الماضى حيث كان استطرادا خشيت فيه أن يقطع السياق، وقد تداعى إلىّ بعد مواجهتى بموقف قسم البوليس وهو يعرض علىّ بكل كرم أن يعطينى مبلغا مقابل ما سرق منا مادام معنا بوليصة التأمين، وأنا علاقتى بالتأمين وبكل هذه الإجراءات الأحدث شديدة الضعف حتى الرفض، وليس معى لا بوليصة ولا يحزنون، فاعتذرت له وهو يتعجب وانصرفت خالى الوفاض.

وبعد

وهذا هو الجزء الذى اقتطفناه من المقتطف بتاريخ 16-12-2019.

………………..

……………….

وأزداد أنا تمسكا بموقفى “يا كل هؤلاء “، أنا لاأعرف لى تأمينا إلا فى استمرارى فى العمل، وفى قدرتى على اليقظة، وكل ما عدا ذلك، باطل..، وفى حوزة قُوى لا أدركها، فإذا هددنى العجز ـ وهو قادم لا محالة ـ فلابد أن ثَمَّ قانونا ـ طبيعيا ـ سيحمينى حتى أقضى، واذا لم يحمنى هذا القانون الطبيعى، فلا بد أن عدم الحماية هذا هو من طبيعة هذا القانون (ألاّ يحمى أحدا أو شيئا حين العجز) .

أجدنى وحيدا أتخبط فى انحناءات مقاومتى لانجازات العصر، مع يقينى بهزيمتى الحتمية فى النهاية، فنتيجة هذه المقاومة هى دائما فى غير صالح أفكارى، حيث أنساق فى النهاية، مثل كل فرد متخلف (ولو، بإرادته)، إلى أن يرمينى على المر (اللجوء إلى المعاملات العصرية) ما هو أمر منه (الخوف والوحدة وغلبة ضعف الأخلاق عند الكافة اعتماداً على التحايل على القانون).

عندما كنت أسير فى شوارع نيويورك غير آمن على أى شىء، أى شىء، كنت أشعر أنى فى بلد متخلف قبيح بالمقارنة إلى الرقى الرائع فى بلدى الفقير المنهك، حيث تسير ابنتى ليلا فى شوارع المقطم (2)‏‏، حتى المقطم، دون هذا الرعب المُشِل، حتى حكايات الخطف الأخيرة عندنا مازالت تُعتبر نادرة برغم أنف تصيّد صحفنا لحوادث فردية، واعتبارها ظاهرة،  وقد شعرت هناك (فى نيويورك) أن العلاقات قد تدهورت حتى ساد قانون حيوانى يخضع للفعل المنعكس المباشر بلا ردع أو ترابط مانع.

ذات ليلة هناك، فى نيويورك دعوت أحد طلبتى الأطباء على سندوتش “ماك الكبير” وكنت سأسافر فى صباح اليوم التالى، وعند الدفع لم أجد معى إلا ورقة بمائة دولار ـ، ولم تكن فى المحل فكة، والساعة الحادية عشر، فبادر زميلى بالدفع أسرع منى الرغم من أنه هو المدعو، فخجلت خجلا كبيرا، وأصررت أثناء عودتنا سيرا على الأقدام أن أعطيه مائة الدولار ـ يبقيها معه ويصبح هو مدينا بالباقى بدلا من العكس، وكانت الساعة بعد الحادية عشرة مساء، وأخرجت ورقة المائة دولار من جيبى ورحت أناولها له وهو يسير بجوارى، فاذا به يفزع ويقول لى وهو يخطف منى الورقة يخفيها فى جيبه بسرعة وهو يقسم أنه لابد أن لعيدها لى فى الفندق، ويشرح أن هذا تصرف خطير، لأن مجرد “رؤية” منظر “نقود ما” فى يد أحد، يستهوى القناصة من أى زاوية أو ناصية أو مدخل بيت، ياخبر!! فى بلاد التقدم والمدنية وغزو الفضاء والتأمين والتكنولوجيا، يختفى الأمان منها متى ظهر “منظر النقود” فى مرمى البصر، ثم يقولون قانون وتأمين وادخار؟.. و… و… و، وحضارة؟ المسألة أصبحت “منعكسا انقضاضيا فوريا؟!

وفى بوسطن نزلت ذات مرة فى فندق متوسط (هوليداى إن) بالقرب من أشهر وأقدر مستشفى أمريكى عام “ماس جنرال”، ولأن الداعى كان شمجيا (نحتّ كلمة شمجى مقابل VIP لتعنى: “شخص” “مهم” “جدا”). فقد اعتبرونى وزوجتى شمجيين أيضا؛ فنزلنا فى دور خاص، لا يصعد إليه المصعد إلا بمفتاح خاص. قلت: ياسلام على الأمان، وأخذت أشفق على غير “الشمجيين”، ممن قد يتعرضون فى الفندق للسرقة والسطو. أما نحن؟ فإيش أوصل اللص لسر المفتاح؟، وكنت إذا صعدت المصعد، ضغط “العامة” على أزرارهم، أما أنا الشمجى، فأخرج مفتاحى الخاص لأدير به الزر الخاص، فينظر إلىّ العامة فى ما يشبه الاحترام الخاص (ولا أقول الحقد الخاص، لأنى كنت أستبعد احتمال الحقد الخواجاتى على أمثالى).

كان من ضمن الحفاوة بالشمجيين فى هذا الدور، أن ثَمَّ “بوفيها” (كافتريا صغيرة)  إضافيا  وسط الدور، فيه خدمة مجانية دائمة طول الوقت، وتليفزيون كبير ثابت راسخ (قطعة موبيليا فخيمة)، ومشهيات ومأكولات صعبةٌ أسماؤها، ومذاقها جديد، حتى كنت أخشى تناولها، وإن كنت أسعد بتأمل زملائى الشمجيين وهم يتعاملون معها برقة ومهارة فائقتين. ذات صباح، ذهبت أتناول بعض العصير قبل استيقاظ عـِلية الشمجيين، فاذا بى أفتقد التليفزيون، فحسبت أنه أرسل إلى الصيانة أو الإصلاح، وخجلت من السؤال واكتفيت بالموسيقى الداخلية، والوجه الحسن، ولكنى علمت بعد قليل أن التليفزيون (الموبيليا) الضخم الفخم قد سرق شخصيا، على الرغم من كل الاحتياطات والمفاتيح الخاصة… الخ. ياصلاة النبى!!، تعيش أمريكا العليا المؤمّنة.

ثم أذكر أول يوم نزلت فيه نيويورك (أحد أيام أغسطس 83)، إذ رحت أنطلق سيرا على الأقدام ـ كالعادة ـ مع اثنين من قاطنيها من زملائى الأصغر، لنرى كل ماليس كذلك، خلال جولة جاوزت ست الساعات، رأينا فيها كل ما أردنا، وصادفنا تنويعات الإجرام والحرية معا: من بائعى الهيروين على الأرصفة، إلى لاعبى الثلاث ورقات، إلى رجال البوليس يرقبون من بعيد، وأنا لا أفهم سلبيتهم، وأفترض، وأسمع عن نظام الإتاوات الشهرية وحمايات المافيا، ووظيفة الناضورجية، ونقترب من شارع برودواى وشارع 24 الشهير، وإذا بهرْج كبير، وجرى كثير، وسواد ضاغط، فأسأل مضيفى ومرشدى عما يجرى،  فيقول “لست أدرى، لم أعتد مثل ذلك، حتى فى هذا الحى الشهير، وإن كنت لا أستبعد شيئا”، وكانت زوجتى ممسكة بحقيبة صغيرة بها كل شىء، (كل شىء، نعم.. تذكر عنادى ألا أتعامل مع الأوراق وإنما مع النقود الصاحية)، ويتدفق النهر الأسود كفيضان مباغت، فتهدينى قرون استشعارى إلى أن أخطف الحقيبة من زوجتى وأنتقل بسرعة وهدوء إلى الطوار (الرصيف) الآخر، تاركا زميلنا مع زوجتى وسط الفيضان الأسود، ويتجنبنى التيار بالصدفة على بعد أمتار، ولكنى ألمح تعبيرات الوجوه التى كانت الأيدى التابعة لها تحمل أشياء قبل الإغارة، ثم انحسر عنها الفيضان الأسود، فإذا بالإيدى خالية الوفاض، والوجوه مليئة بالحسرة. إذن فقد نفذت بجلدى وبحقيبة زوجتى بالصدفة البحتة، ثم أسمع أصوات النجدة والبوليس وكأنها تحيى الزفة الفيضانية السوداء، لا تواجهها، والاسم: “أمْن واجب”، ولا نعرف تماما ما هى الحكاية؟ ولكننا نقرأ فى اليوم التالى فى الصحف أن نيويورك قد تم ” اجتياحها ” بما لم يتكرر منذ إنقطاع الكهرباء فى الستينيات، وتبين لى بعد ذلك ما حدث: ذلك أن المغنية الزنجية ديانا روس كانت تحيى حفلة (مجانية على ما أظن) فى الحديقة المركزية Central Park فى نيويورك، وكان بنو جنسها من السود يحيونها أطيب التحية بالشرب والرقص والتصفيق، فامتلأت الحديقة (فدادين عددا) بهذا السواد الأعظم، حتى إذا ما انتهى الحفل، وكانت الجموع قد انتشت تماما، التحمت فى كتلة واحدة هادرة، فانطلق الفيضان البشرى الثمل الأسود يجتاح الشوارع اجتياحا ليخطف، ويصدم، ويؤذى بلا تمييز، ربما انتقاما لظلم وقع، أو ظلم واقع لم يرفعه القانون ولا التأمين،.. وربما إجراما بدائيا مرتدا لا أكثر.

كل هذا لا يعنى أنى أنكر شهامة كثيرين من الخواجات ومبادراتهم الطيبة التى أشرتُ إلىها فى أكثر من موقع فى هذا العمل، لكن ثمة فئة فاض بها الكيل، وثمة نظاماً يتسحّب يكاد يعفى الإنسان من إنسانيته بفضل الاعتماد المطلق على قوانين الخارج، ولابد من الانتباه إلى الدلالات السلبية لهذا النظام الخارجى، وتلك الدلالات التى نعلنها فى هذه الصور من العنف والنهب والإغارة، أما الشهامة والطيبة والنخوة الخواجاتى فهى ـ دائما ـ فى متناول من يريد ألا يسرع بتعميم الأحكام.

وبعد

(مازلنا فى أوربا رغم هذه الاستطراءات الأمريكانى)

ونكمل الأسبوع القادم

 

[1] –  المقتطف هو الجزء المستقطع المؤجل من الأسبوع الماضى، وهو من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

[2] –  كان ذلك عام 1984 ولا أعرف ما جرى الآن 2019      

 

admin-ajax-41admin-ajax-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *