الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: “الحافة والبحر” (21)

مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: “الحافة والبحر” (21)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 4-11-2019

السنة الثالثة عشرة

العدد:  4447

مقتطف من كتاب:

الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)

الفصل الرابع: “الحافة والبحر” (21)

(مازلنا فى الأربعاء 29 أغسطس 1984)

………….

………….

أذكر تماما أن كل ما هو ماء… كان يجذبنى بمعنى أعمق من الشائع عن كلمة “يجذبنى”، معنى يكمن فى داخل برادة الحديد و هى تنظم نفسها فى المجال المغناطيسى، أكثر من المعنى الذى يشير إلى التصاقها الميكانيكى بجوار المغناطيس الحديد نفسه، كانت هذه هى الحال على شاطئ ترعة العطف فى بلدنا، ثم على شاطئ النيل فى زفتى، ثم على شاطئ المتوسط فى الإسكندرية، ثم على كل شاطئ، و ما كان يمنعنى من أن أناجى الترعة فى بلدنا إلا أمران كانا يمثلان عندى- رغم الشوق والجذب، حاجزيْن طامسيْن، أولهما: حكاية الجنـّية (الندَّاهة) التى تظهر على شكل ” منديل جميل يغرى المار بالاقتراب منه لالتقاطه، وما إن يحاول الواحد أن يفعل حتى يبتعد المنديل رويدا رويدا، حتى تغوص القدمان فى الماء فلا يستطيع – الواحد- لهما خلاصا،  فتكشف الجنية عن وجهها وتسحبه إليها، إلى أين؟. لست أدرى، و الأمر الآخر هو أن ترعة “العطف” فى بلدنا كانت تأتى بالدور (ستة أيام كل ثمانية عشر يوما على ما أذكر)، و كنت أعتبر ذلك خيانة لى و أنا صغير، رغم أنى بعد ذلك عرفت أن حياة كل شئ هى فى هذه الدورات الحتمية، وأن الإنسان الحى هو الذى يواكبها لا يعاندها ولا يعارضها، أما حكاية البلهارسيا وما شابه، وأن نعطى ظهرنا للترعة فلم تخطر على بالنا أصلا، وحين كبرت حتى لم تعد تمنعنى عن محاورة الماء الجارى حكاية الجنية، خاصة، وجدت نفسى فى زفتا لمدة أربع سنوات (من سن7  إلى 11 سنة)، نخرج فى مركب بمجدافين كل خميس، وندفع قرشين فى الرحلة بحد أقصى شلنا لو كان الوقت غير محدود(باعتبار أننا سنتعب قبل انتهاء قيمة ما دفعنا)، ويحضرنى توْه بعيد:

ذات خميس، ونحن فى زفتا (1943)، خرجنا بالمركب و أردنا أن نستغل بالأجرة التى دفعناها أكبر وقتٍ ممكن. كنا خمسة، أكبرنا عنده 14 سنة و هو شقيق صديق أخى ثم أخى وصديقه (12 سنة : الاثنان)، ثم شخصى، أقل سنتين (عشرة سنوات)، وأخت صديقنا أصغر منا جميعا، و سرقنا الطمع لنأخذ أكبر الوقت بنفس الثمن، (مثلما فعلت مع العربة فى سان فرانسيسكو فيما بعد) حتى خيم علينا الليل ونحن فى اتجاه قناطر زفتى، مع احتمال الانحراف إلى الرياح التوفيقى على ما أذكر، و لم يكن ثَمَّ قمر، والغريب أننا لم ننزعج، حتى بعد أن نامت أصغرنا فى قاع القارب المبتل، و كلما زاد الليل حلكة اضطربت الآراء، وعلت الضحكات المغتصَبة المختلطة بالخوف و التربص، حتى قاربت الساعة العاشرة، وكان الوقت شتاء، و بلغَ بنا اليأس أننا تصورنا أنه لم يعد ثَمَّ شاطئ للنيل، لأننا كلما اتجهنا فى اتجاه ما بضعة أمتار بغية الوصول إلى أى موقع على الشاطئ، رُعبنا ظنا منا أننا نتجه خطأ، فنعود فى الاتجاه العكسى، وهكذا، وفى تلك اللحظة، أذكر أنى تصورت- يقينا – أن قوى خفية قد ألغت الشاطئ أصلا فلم يعد حولنا سوى ماء فى ماء الى ما لانهاية، واستسلمت لحظتها للمجهول، وأنا شامت فى كل صحبتى، معتمد عليهم لأنهم أكبر منى، وعليهم أن يحلوا الإشكال، مع أنى تصورت أنه إشكال بلا حل، ومع ذلك لم أخَفْ جدا مثلهم، يستحيل أن نصل إلى أى هدف ما دامت الشواطئ قد اختفت نهائيا، داخلنى آنذاك شعور بالمساواة  فى العجز، وكأنى فرحت باللاحل الذى ساوى بين ضعفى صغيرا وحذقهم وادعائهم كبارا، فساوى بيننا فى الخيبة، لم يخطر على بالى أصلا أن ثَمَّ نهاراً قادماً فقد توقف الزمن عندى، كما ثبت المكان وتجمد. وحين سمعنا نداء باسم أكبرنا، تصورت أن أمورنا قد انكشفت للعالم الآخر حتى جاءت العفاريت يعرفوننا بالاسم، وهنا لم يصبح المجهول بالنسبة لى مجهولا، بل رُعبا آخر أيقظ – فجأة- حكاية الندَّاهة المنديل والجنية، والسؤال بلا جواب: ثم تخطفنا؟. نعم، ولكن إلى أين؟. هذا هو السؤال، وقبل أن أتمادى فى الرعب حتى الانزواء المرتعد المسحوق، تبينا أن الصوت الهاتف بنا، هو والد صديقنا الذى استأجر مركبا وجاء يبحث عنا بعد أن تأخرنا، والعجيب أننا تبينا أننا كنا على بعد عشرات الأمتار من “المردة” (الميِنِى ميناء!!)  التى كنا نريدها، ولا رياح توفيقى، ولا قناطر، ولا يحزنون.

من يومها، وأنا أتصور كيف يمكن أن يلف الواحد منا، (والبلد منا) حول نفسه فى ظلام دامس رغم الحماسة العظيمة ، وهو يتصور أنه يسير قـُـدما، وكيف أن علاقتى بالماء هى علاقتى بالمنبع الذى يحرك فى داخلى كل هذا الحنين، وكل هذا الرعب أيضا، وهى علاقتى بالمصير الأخير بشكل أو بآخر، فإذا كان الله سبحانه قد جعل من الماء كل شئ حى، فمن الممكن أن يجعل إلى الماء كل شئ حى. ولعل جارثيا فى أقصوصة بحر الزمن المفقود، كان يريد أن يقول مثل هذا؛ حين أصرت بنزا (زوجة جاكوب) أن تدفن حية تحت التراب، فلا تلقى فى البحر.

أرجع إلى “البقعة الجميلة على البحر” (“بو  لييه سير مير”) التى لم يبق عليها سوى بضعة كيلو مترات، ونقرر أخيرا أن نترك الطريق السريعة إلى الطريق الوطنية، فى اتجاه تلك البلدة،  ويتنهد الجميع، فنتجه ناحية اللافتة وإذا بنا نتدحرج فى شارع يتلوى، 180 درجة كل بضعة أمتار، (كأنه زعيم مخلص يحاول أن يحصل على الموافقة، على قرار سرى بالإجماع، فى مؤتمر قمة عربى)، فأخذنا ننزل وننزل، ولا نكاد نسأل حتى ننزل. نحن لم نطلع…أصلا، فلماذا ننزل؟ ولم يكن هناك مجال للتفاهم أو التراجع. فالليل يقترب ونحن لا نعرف شيئا عن أى شىء، وأخيرا، بعد سلسلة من الحركات البهلوانية تـُذكرنا بسيدنا دارون ؛ حيث كانت السيارة تلف وتقفز فى رشاقة أنثى الشمبانزى الحامل (جدا)، لكنها مضطرة للحفاظ على نوعها فى سبيل تسلسل التطور، إلى مشارف هذه “البقعة الجميلة على البحر” (تذكر أن هذا هو اسمها وليس- فقط- وصفها). وتبينا بعد كل ما نزلنا أننا على الكورنيش الأسفل، لأن ثَمَّ كورنيشا أوسط، وكورنيشا أعظم، (انظر بعد) – وإذا بى أتعرف على كلمة “كورنيش” بمعنى حافة، وقد كنت أتصور أنها كلمة خاصة بالشواطئ فحسب. حتى أنى رفضت أن أطلق على حافة جبل المقطم حيث أسكن، اسم كورنيش، على الرغم من أنها معروفة بهذا الاسم. وقد ذهبت ذات مرّة أنظر من أعلى المقطم، من الكورنيش المزعوم باحثا عن النيل العظيم حتى رأيت عن بعد بعض ما يشير إليه، فحسبت أنهم أسموا كورنيش المقطم بهذا الاسم؛ لأنه يمكن أن يرى النيل بشكل أو بآخر، كنت ناسيا أن أجمل أثواب نساء بلدنا كانت ذات الكرانيش المتداخلة، ثم هأنذا أتبين أن كورنيش الجبل هو الأصل، وأنى لا أحب الأنهار والبحار، بقدر ما أحب هذا الموقع الذى يعلن التقاء الأرض بالماء.

بل إن بعدا آخر قد أطل على ينبهنى إلى أننى أعيش دائما على “حافةٍ” ما. لا أحب المراكز الوسطى ولا الزحام بلا حدود. دائما أتحرك لأجد نفسى على حافة كل شىء، وربما لهذا كنت أمتلئ غيظا حين أتصور أن الآىة ” الكريمة” ومن الناس من يعبد الله على حرف” يمكن أن تنطبق علىّ، أبدا، ليس كذلك، فحرف فى الآية الكريمة إنما يشير إلى التردد والمساومة. أما الحرف الذى أعيش عليه معظم الوقت، فهو حرف التأهـب للتغيير، ورفض الرؤية الواحدة، وأحسب أننى أخذت هذا الموقع؛ لأننى حريص طول الوقت أن أحافظ على موقعى على الحرف، لأننى أخشى أن أغوص وسط الزحام فلا أعود أتعرف على اتجاه المسير، كما أخشى أن أتحمس لغالبية الاتجاه فأنسى احتمالات صواب الاتجاهات الأخرى، (رنت مسألة الحافة فى وعيى حين شاهدت فيما بعد مسرحية المرحوم سعد الله ونوس: طقوس الإشارات والتحولات، حين تناول موضوع “الحافة” فى “تحولات الماسة”)، .

أكتشف تناقضا دالا بين إصرارى على  السير على الحافة من جهة وبين حماسى الشديد حتى النخاع للغوص فيما أنتمى إليه فى لحظة بذاتها، أو فترة بذاتها، أو مرحلة بذاتها،   أندفع إليه، وأقاتل فى سبيله  بكل ما أملك، لكننى رغم ذلك أظل جاهزا لللانضمام إلى أى جانب آخر بسهولة تـُـنبهنى إلى أن  استغراقى فى القاع لم يمنع من بقائى على حافةٍ ما.  لا أتذكر أننى على أى حافة أثناء القتال والإصرار، لكن  إذا ما تجمعت التغيرات حتى بلغت حد ترجيح النقلة مما أنتمى إليه، إلى ما أنتمى إليه، تركت كل ما أنا فيه غير هياب، لأغوص فيما استجد، وأحافظ على موقعى على الحافة دون تأرجح أوتردد أواهتزاز. من لا يعرفنى أعمق يصفنى بالتقلب المخيف، وهو ما أسميه أنا بالأمانة مع اللحظة، ومع الحركة، وليس مع الخُلُق الثابت والعقيدة المكتملة أو الجامدة.

سرنا على حرف كل شىء، حتى وصلنا إلى حرف/ حافة البحر، ونحن بعد المغرب وقبل الليل، فنقرر مضطرين أن نبيت فى فندق، أى فندق،  هذه الليلة فقط. فنحن على سفر منذ أربع عشرة ساعة بالتمام، ولا وقت للبحث وحسابات التكاليف، ولا أمل فى العثور على مخيم مثل ذلك الذى تركناه وراءنا حول فينيسيا، ونبدأ فى السؤال عن الفنادق ذات النجوم الأقل، ولا نجد إلا حجرة واحدة فى فندق ثقيل الظل.

قبل أن ندخل فندقا آخر، يقابلنا على الباب زملاء طريق من المشاة الرُّحل، وحقيبة الظهر تنوء بما يحملون، فنقرأ أسعار الفندق على تقاسيم الوجه التى تنوء بخيبة أمل أثقل من حقيبة الظهر، وتعود الطريق تلتف بنا، فتطاوعه حافلتنا فرحة بالتجوال الحر بعد أن كادت أنفاسها تنقطع من استمرار السير المستقيم، ومن ألاعيب الأضواء فى الأنفاق، ثم تلافيف “الكرانيش”. وهاهى  ذى تتسكع فى تَمَطٍّ ودلال تحت دعوى البحث عن فندق.

نلمح فندقا يطل على ما يشبه الميناء للقوارب الشراعية. حيث تقبع مجموعة منها كأنها أسطول للصيد أو للسباق أو للحب الخاص، ولا نأمل فى حجرة، ولا يتصور الأولاد قدرة ميزانيتهم على مجرد الاقتراب من المبيت فى فندق، ولكننا نغامر فنرسل ابنى للسؤال، ويعود مترددا بين فرحته بالعثور على ثلاث حجرات، وبين خوفه من “هبش” الميزانية المحدودة، ويتهامس الأولاد والبنات دون تدخل منى، وأكاد ألمح استغناءهم عن عدد محسوب من الوجبات فى مقابل ليلة مريحة، وماء ساخن مع ما يلزم له هذا الماء الساخن،  فترجح كفة الفرح على كفة الحذر. ويذهب ابنى يغرينا بالتضحية، فالحجرة بمائتى فرنك فرنسى، ورغم أن الفندق ذا ثلاثة نجوم، إلا أنه يفوق فندق الرئيس (بريزيدانت (Président) فى جنيف – ذلك الفندق الذى نزلنا ضيوفا فيه فى العام بعد التالى لعدة أيام (انظر بعد)..- ونوافق فيذهب ابنى عدوا قبل أن يلطش أحدهم الحجرة، أو قبل أن أرجع فى كلامى (وما أسهل ذلك لو شممتُ رائحة استسهال منهم). وقبل أن نعدل السيارة باحثين عن مَرْكن، نجد ابنى قد عاد ثانية حزينا، تتعثر خطواته فيما يشبه الأسف والأسى معا، وأتعجب لقسوّة هذه المشاعر المرتبطة بهذه الإحباطات المادية (ما دام مقدوراً عليها) وكأنى نسيت كيف كان ضياع نصف أفرنك (بالمصرى) يمثل عندى- طفلا- مأتما، ربما يفوق مأساوية موت عزيز، أو إعلان حرب.. يا سبحان الله.. وأشفق على ابنى وهو مطأطئ مهزوم فأسارع بسؤاله، فيقول إنه آسف، إذ يبدو أنه- لفرط التعب واللهفة – قد سمع الثلاثمائة على أنها مائتان (وهذا الخطأ محتمل بالنطق الفرنسى الذى يأكل أول الكلام، ويؤكد آخره). فألعن النقود، وكيف تخترق نخاعنا هكذا، حتى تختلط الحسرة بالدم حتى النخاع.

إذا كانت هذه هى مشاعر إبنى ونحن نتحرك فى منطقة فائض الفائض. نعم فنحن ورغم كل شئ نعيش فى رفاهية القادرين، فما بالك بالحرمان الذى يعانيه المحرومون حتى الجوع الحقيقى ، المتكرر والملحّ، أو حين يُحرمون من حق النوم تحت سقفٍ ما طول الحياة قهرا وليس أثناء الرحلات اختيارا،

 وتتضخم لدى معانى الحرمان الحقيقى، والقهر بالعجز، وهو يمارَسُ ليل نهار على كل من لا يقدر على مايريد، وعلى كل من يريد ما لا يكون. والألعن، ذلك القهر الداخلى الذى لا يسمح للأغلب أن “يريد” أصلا ما يمكن أن يراد.

 ردعت نفسى من جديد نفس الردع الذى أشرت إليه سابقا، فإما “ترحال” مثل الذى نحن فيه، مع عدم نسيانهم، وإما نجلس فى بيوتنا نحارب من أجلهم، لأنه لا معنى أن أشد الرحال  إلى آخر الدنيا، وكلما هممت بالاستمتاع، رحت أمضغ الهم وأجتره هكذا، حقيقة يستحيل أن “أنسى” بقية الناس مع هذه “الرؤية الأعمق”، لكن مسئولية الرؤىة ليست فى أن أستمر نعَّابا مدعيا بهذا البكاء أو التباكى العاجز فى وقت غير مناسب، وإنما علىّ أن أتذكر أن الأبواب مفتوحة لمن يريد أن يساهم فى مسيرة العدل الممكن.

وأنجح فى طرد هذه الأفكار الدائرية، واعدا نفسى بأداء الديْـن، وأعود إلى صحبتى المتلهفة فأقرر أن أتقدم “بدعم محدود”، يمثل فرق السعر بين ما سمعه ابنى أولا، وما تيقن منه أخيرا، حتى يمكن أن ننام فى هدوء نسبى، فنتمتع بفضل الله، بالدرجة التى قد تعيننا على حمل أمانته إلى سائر خلقه.

أكاد أصدق نفسى.

فعلا، كان الفندق فخيما، اسمه فريزيا، وكنا نتذكر اسمه بعجول الفريزيان المبرقشة. استقبلنا فيه بمنتهى الذوق والأدب، ورغم منظرنا الأشعث، واحد “بيه”، يصلح – والله العظيم- سفيرا لهولندا فى الدانمرك، لا أقل، وراح يحترمنا احتراما شديدا.

تذكرت حين كنا أطباء امتياز، وذهبنا إلى كازينو بأعلى المقطم (سنة 1975) وكان معنا أحد الزملاء الذى لم يدخل كازينو فى حياته، ولم يلبس رباط عنق أصلا، ولا يعرف حتى كيف يربطه، وكلما حضر لنا النادل (“الجارسون”) بسترته البيضاء و”البابيون”، والسروال الأسود، وقف زميلنا منتفضا يحييه، وكأنه يعتذر له أنه جلس قبله، أو أنه جلس أصلا، ونقول له: يا دكتور فلان، هذا “جرسون”، وهذه وظيفته، وهو يخدمنا ويحترمنا مقابل ما ندفع، ولكن رأسه وألف سيف أنه “لا يصح”، و “هذا لا يجوز”. ونقول له: ما هذا الذى لا يجوز؟. هذا أكل عيشه..إلخ، فيقتنع زميلنا بالكاد. ولكن ما إن يحضر “الجارسون” مرة أخرى، حتى يهم زميلنا هذا بالقيام فيمسكه جاره بالعافية… وهكذا. مازلت أذكر هذا الصديق، وقد رفض أن يختار تخصصا دقيقا – كطبيب مقيم – يسمح له بالتعيين فى الكلية فى هيئة التدريس. لأنه “لا يصح” أن يطمح إلى هذا، رغم أنه كان متفوقا علينا جميعا، وفضَّل التخصص العام فى الجراحة بلا فرصة للتعيين فى هيئة التدريس، وحين ناقشتُـه فى ذلك راح يبتسم ويقول لى: هل تعلم ماذا يعمل أبى؟. إنه بائع متجول فى الأسواق الريفية، يعرض الأقمشة على ظهر حمار، فأقول له: ولو…، هذا حقك، أنت أحسن منا بكل المقاييس، أنت ترتيبك السادس وأنا السبعة وثلاثون، فيغيظنى حين يُنهى الحديث باسما طيبا شاكراً حماستى شارحا لى كيف أن الجراحة العامة تصلح فى كل كفر وقرية، أما التخصص الدقيق (أعتقد أنه كان جراحة القلب) الذى أشيرعليه به، فهو لا يصلح إلا فى العاصمة للناس الآخرين، وهو بتخصصه فى الجراحة العامة يكاد يكون مثل والده وهو يلف على الأسواق بكل أنواع ما تريده نساء القرى المحيطة، لأنه لا يستطيع أن يفتح محلا متخصصا وينتظر من يأتيه ممن يريد بضاعته هذه دون غيرها، ولا أقتنع ، وأعاود محاولة إقناعه،  ولكنه ينفّذ ما فى يقينه، فيختار التخصص العام- مثل والده ، وأيضا مطيعا لرأى  والده. ويضحى بفرصة تعيينه فى الجامعة.

رحت أتذكر زميلى هذا الطيب كلما أقدم علينا هذا البيه فى فندق فريزيا، فأكاد أقوم له من على المقعد احتراما لأنه فعلا “لا يصح”، بعد أكثر من خمس وعشرين سنة، فهمت ماذا كان يعنى صديقى بـ “هذا” الذى “لا يصح”،!! !!.

نستقر، ونترك الأولاد الساعة 30،9 مساء، وأنزل من فورى مع زوجتى أتعرف على هذه البلدة ذات الاسم على مسمى “البقعة الجميل على البحر”. فنجد الشوارع “هس هس”.والمحال مقفلة أبوابها، إلا من مقهى متواضع يلملم أشياءه. ولا تمضى بنا أرجلنا أكثر من ربع ساعة، لكنا نقنع به كنوع من “التوقيع فى “دفتر التشريفات”. فقد اعتدنا- زوجتى وأنا- حتى فى مصر، ألا تكون نهاية السفر، مهما طال وشق: هى إغماءة النوم، أو تأوهات الإرهاق. وهكذارحنا نوقع هذا التوقيع الحانى على سيقان المدينة من شوارع، وعلى شفاهها من مقاه، قبل أن يضمنا الفندق بكل ما يشعه من دفء الجنوب.

قبل أن أصعد حجرتى، رحت أسأل “سعادة البيه” المستقبِل عن رقم تليفون فندق مارتيناز Martinaze فى”كان”؛ حيث كان لزاما علىَّ أن أتصل بهذا الزميل الأكبر الذى سبق أن أشرت إليه أ.د. حلمى شاهين. فجعل يبحث عنه فى دفتر للتليفون كأن حروفه مكتوبة بسن إبرة؛ مما يضطره إلى إحضار عدسة مكبرة، ويعتذر فى كل مرة لا يجده حيث تصور وقدّر، ثم يتلطف فيلتمس منى الصعود إلى حجرتى وأنه سيأتينى حتما بالرقم. وفعلا لا أكاد أستقر فى الحجرة، حتى يدق جرس التليفون، فأسمع صوته مهللا إنه “وجده”. ولا أعرف كيف أشكره داخل نفسى، بعد أن كنت قد نسيت مثل هذه المعاملة التى سمعت أنها تضاءلت مع تنامى احتقار الفندقيين العجم للبتروليين العرب، ذلك الاحتقار الذى يتزايد طرديا مع زيادة النقود وضحالة الذوق. لكن يبدو أن هذا التدهور الفندقى لم يسر إلا على الفنادق الأغلى و الأفخم، حيث ينزل العرب الأغنى والأسطح، حتى استحالت تلك الفنادق إلى أن تكون الأوقح  لقاءً والأسخف معاملة لأمثالنا على الأقل.

……………

ونكمل الأسبوع القادم

 

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: “الحافة والبحر” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

admin-ajax-41admin-ajax-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *