نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 21-10-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4433
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)
الفصل الرابع: “الحافة والبحر” (19)
الأربعاء 29 أغسطس 1984
قمنا من الكوخ فى نشاط ليس لنا فضل فيه، وفى خلال ساعة وبضع ساعة، كان كل شئ قد أُعـِــدّ، حتى الوظائف العبادية والبيولوجية تُــؤدّى بسرعة وإتقان، بحيث تتفق مع مراحل الرحلة وظروف الخدمات وفروق التوقيت (!!). وسبحان الله الذى جعل ركعتى الفجر فى السفر لا تدخلان فى رخصة الجمع والقصر، والذى جعلهما(ربما، بالذات) خيراً من الدنيا، وما فيها، ولكنى أتصور أن ثمة مواصفات لهاتين الركعتين لازمة لتكونا كذلك، (خيراً من الدنيا، ومافيها). ومن ذلك التصالح مع الخارج/ إلى الداخل، وأيضا أن نفهم “الدنيا” ليس فقط بمعنى الحياة الأولى (هذه الحياة)، كما أن التصالح عندى لا يعنى الاستسلام والتخدير، وإنما يعنى حوارا فاعلا يـُعقد كل صباح (كل فجر) يجعلنا نقبل التحدى، مستعينين بالفوق والتحت إلى الأمام، مهما بلغت لزوجة الموْحل.
قمنا، وتصالحنا، وشفينا، وشربنا الشاى، وأعددنا شاى الرحلة وتوكلنا. المرأة “المهرة” المسئولة عن المخيم تودّعنا، وكأنها تستقبلنا،بنفس الترحاب والدفء والطيبة، نفس الضحكة الرحبة، والصوت الممتلئ الخشن فى أنوثة قوية خاصة، وتساءلت. كم ألف بنى آدم يأتى هنا وكم ألف يذهب؟ كل عام، كل صيف، كل موسم…إلخ. وهذه المرأة ترحب بهم قادمين، وتودعهم ذاهبين، هكذا؟ صعب أن أفترض أن هذه الضحكة تعنى ما أتصور من قوة، ودعوة، وأمن، وتشجيع، ورضاعة، وهدهدة، و…، ولكن الأصعب أن أتصور أن هذه الضحكة ليست سوى قناع تلبسه لزوم الشغل فحسب، هذه امرأة تعيش ما تفعل، وتحب ما تقرر، وربما هذا ما يجعلها، وسيجعلها، دائمة الحيوية، حاسمة الردود، دافئة الجذب.
انطلقنا حسب تعليمات المرأة المهرة فى خط مستقيم إلى فينيسيا، ثم لاحت لافتات “بادوفا”، وكان مرشدى فى هذه المرحلة من الرحلة هو الإبن الأكبر، مصطفى، وهو على أبواب الجامعة حقيقة، لا تقريبا (هو الأكبر فى الرحلة فقط، لكنه أصغر أبنائى من ظهرى، فقد تركنا إبنى الأكبر”محمد” مجندا جدا فى الجيش) – وأنا لم أتعرف على مصطفى هذا بعد.
كان مصطفى وهو صغير، شديد الطفولة صارخها، رقصا وفرحة واقتحاما، ثم شب صبيا، فأصبح شديد الإبداع “المنزلى”: أثاثا وطهيا!!. وفى الوقت ذاته، بالغ القوة العضلية، رفعا ونطرا!!، ثم صار يافعا (أحذّره مازحا من أن يشتط فيتجاوز طوله طولى إلا بإذنى) ثم بدا لى شديد الجهامة (أمامى خاصة) وراح يبالغ فى الالتزام (الدينى خاصة) وأيضا فى الصمت والحذر والحسابات والتردد، وقد بدا لى أن كل هذه الصفات ليس لى فيها يد مباشرة، بالإضافة إلى أننى أحسست مؤخرا أن المسافة تتزايد بينى وبينه، فتركتُها تفعل، وقنعتُ بتواصل حوار صامت لا أعلم تفاصيله، وإن كنت متأكدا من استمراره، وأحسب أنه يدرك بعضه فى مستوى ما من وجوده. أما مصير كل ذلك، سواء بالنسبة إليه أو إلى سائر أولادى، فهذا ما لا أعلمه.
ياليت الأهل يعرفون أنهم غير مطالبين بالتوجيه والإرشاد، بقدر ماهم مطالبون بإعلان “الحضور فى الوعى”، و “صدق المحاولة”. وما أصعب المهمة. ومن هذا المنطلق، كان دور ابنى هذا كمرشد فى أية فترة من فترات الرحلة صعباً علىّ تماما؛ حيث كنا نتبارز فى حدة يقظة مسنونة. أقول أو أسأل فيستجيب بانتباه مفرط؛ حتى أشعر بأشواك انتباهه تلكزنى فى جنبى، ليس انتباهاً هذا، ولكنه وقفة استعداد، (ستاند باىْ) وتوجّه الوعى على زناد الرد. هو يريد أن يثبت لى أنه لا يخطئ، وأن تعليماتى هى المسئولة عن أى انحراف فى الطريق “كذا”، أو “كذا”، وأنا أريد أن أثبت له أنه بهذا التحدى لا يحسن التلقى، فإذا أحسن التلقى فهو لايحسن التصرف، وأنه السبب، وتتصاعد حرارة الحوار الصامت حتى يتقد الجمر، وتكون النتيجة أن ننحرف عن الطريق السريع (الأوتوستراد) لنجد أنفسنا داخل “بادوفا” شخصيا، ونحن لم نكن ننوى أن نزورها أصلا. مدينة ككل المدن، ناسٌ وبيوت وشوارع وحوانيت وحاجات، هى هى، ونبدأ فى السؤال للخروج: ميلانو؟. أتوستراد؟. يا سنيور : ميلانو ولا مؤاخذة؟…والنبى ياعم أوتوستراد؟. ونخترق البلدة من أقصاها إلى أقصاها، فأفرح بالتعرف الاضطرارى عليها، وينفعنى ذلك عند العودة، لأننا بفضل صُدفة (مختارة!) قضينا بها ليلة عند العودة؛ ما كنت أحسب أنى سأفوز بها لولا هذه الغلطة، وقد سبق أن نبهت إلى أنه “لاتـَوْه فى سفرْ” حين يكون الحبل على الغارب بقصد الاستطلاع لا الوصول؛ لأن كل توه هو معرفة جديدة، مفاجِئة حتما.
(حذفت من هنا ثلاث صفحات استطراد عن توّه عشته مع زوجتى فى أمريكا فى سان فرانسيسكو لأنه كان تداعيات تصعب المتابعة)
……………….
……………….
ما زلنا نسير تائهين فى “بادوفا”، ثم رحنا نخترقها ببطء رائع حتى خرجنا منها إلى الأوتوستراد، وهات يا جرى وهات يا نوم لمن فى المؤخرة. وقد سبق أن تحدثت عن هذه الطرق السريعة المملة العملاقة القبيحة القاسية. وهذه المرة زادت صفة عليها حين رأيتها ملساء كوعى الملحد، وقارنتها بالطرق الوطنية المتثنية فى دلال، والمخترقة للبلاد الصغيرة محاطة بجنان الخضرة ولفحات نسيم الناس.
نام الجميع لمدة مائتى كيلو وأكثر، وحين توقفنا عند محطة بنزين على مشارف ميلانو أحسست أن أغلبهم كاد يفقد معنى السفر، وكأن المسألة أصبحت – بعد ستة أيام لا أكثر – مجرد روتين، إذا أصبحت المسألة كذلك انتهى معنى السفر ليحل محله معنى “الوصول” (كما ذكرت)، فزادت المسافة بينى وبينهم؛ حيث تصورت أنى لم أعد إلا سائقا بلا أجر، وهم الركاب بلا غاية واضحة (لى). واذا ما انقلبت علاقة الصحبة إلى مثل هذا الكلام، تراخت أسلاك التواصل حتى لا تتلامس إلا بالصدفة، فإذا حاولتُ، تكهرب الجو. وقد اتفقت الأغلبية على عدم دخول ميلانو، وفرحت رغم أسفى على رغبة الأقلية التى كانت “نِفسها تشوفها”، وإن كنت قد رجحت أن رأى الأقلية هذه لم يكن هدفها استكشافيا، بقدر ما كان من باب تعليق لافتة اسم مدينة، “زيادة” على أسماء المدن التى مررنا بها. وميلانو هى عاصمة إيطاليا الشمالية الصناعية، والمرور حولها فى الطريق السريعة يكاد يصل إلى طول المسافة بين القاهرة وبنها، وشكلها – من الخارج- لا يوحى الا بمعنى الميكنة. فالهباب يغطى الجو، وسقوف المصانع متراصة بجوار بعضها كالمقابر العملاقة، ولابد أن بداخلها ـ كما هو بخارجها ـ أناساً يقاسون، ولو بطريقة سرية، من عذاب هذه القبور الصناعية الحديثة.
مررت بميلانو أثناء عودتى من فرنسا سنة 1969، ووقفت أمام كاتدرائيتها الضخمة وناسها القساة، وشعرت آنذاك بأنى أريد أن أترك السيارة لأعدو على قدمى هاربا منها، وكأن العدو على الأقدام أسرع من الضغط على بدال البنزين فى السيارة، أو كأنه يعلن رفض السيارات (الفيات وغير الفيات) وما إليها إذا ما أصبحت وظيفتها هى أن تطحن الناس، لا تحملهم.
اعتقدت أن هذا المكان المتحفز ليل نهار لا يكف عن مساءلة هؤلاء الناس عن ما جنوا، فلمّا رجحت كفـّة سيّئاتهم، حكموا عليهم بالسخرة فى هذه الحياة الدنيا – هكذا – (لحساب من؟)..، مجرد خيال، ربما يعلن العجز أكثر مما يعلن السخط، لكنى أعترف أنى أمام الإنتاج العملاق (مصانع فيات فى إيطاليا هنا مثلا) الذى لا أعرف له صاحبا بالذات، صاحبا له اسم ولقب، أقول أمام هذا التنظيم المؤسسى العملاق الحديث أقف مشدوها وكأنى طفل ضاع من أمه فى زحمة مولد ضخم يزوره لأول مرة. وأنا أرجع ذلك إلى الفلاح بداخلى، فعندنا يقين ـ نحن الفلاحين ـ بأن الأرض بلا صاحب، والرجل بلا ولد، والولد بلا خال، ليسوا بشىء، وربما لهذا أنا لا أحب، أو قل لا أعرف أصلا، هذه العلاقات الإنتاجية المعقدة، ولا أرتاح فى هذه المدن الغول.
انحرفنا جنوبا تاركين ميلانو دون أن ندخلها، ومن جديد، هات يا جرى، وهات يا نوم، ولم يعد يعنينى ـ كما قلت ـ أن يكون فى صحبتى من يظل يقظا إلا المرشد أو المرشدة، وتهل رياح الجنوب، ويقترح ابنى و ابنتى وقد سبق لهما زيارة روما أنها تستأهل، وانظر فى الخريطة فأعرف أن ما يقولانه هو المستحيل نفسه؛ فالعلامات تشير إلى اتجاهين متباعدين جنوة فى ناحية، وبولونيا إلى روما فى ناحية أخرى، ونحن متجهون إلى جنوة دون بولونيا، رغم توصية مدرس البيانو العجوز الذى تتمرّن لديه ابنتى فى مصر أن تزور بلده بجوار بولونيا.
هو رجل قد ناهز الثمانين، يعيش فى مصر وحيدا، وأسمع حكاياته من ابنتى فأحبه من بعيد، وخاصة حين ذكر لابنتى سبب استمرار إقامته فى مصر وحيدا فى هذه السن، فقد قال لها – مشترطا ألا تضحك عليه – إنه إنما يقيم فى مصر من أجل عيون قطه الأليف الذى ليس له (القط) غيره، إذ لو سافر، فمن ذا الذى سيعتنى بالقط من بعده، ثم إنه يعتقد أن القط لم يعد يمكنه أن يتكيف فى بيئة أخرى لو أنه أخذه وسافر إلى إيطاليا؟.
عند مفترق الطرق إما إلى بولينا وإما إلى جنوة، نشير بأيدينا بالتحية إلى اتجاه بلد هذا العجوز الطيب. وكأننا ننفذ وصيته، أطال الله عمره وعمر قطه، ونعتذر له، ونمضى نحو جنوة، (التى كنا نقرؤها فى البداية جانوفا حسب الحروف بالإنجليزية لكننا نكتشف أن النطق بالإيطالية أقرب إلى نطق اسمها بالعربية)، ونقرر من جديد ألاَّ ندخلها، لكننا نضطر إلى اختراقها حتى نغير اتجاهنا، غـربا على الشاطئ المسحور، ولا نمكث فيها إلا أقل القليل، فلا أحبها ولا أكرهها، ولكنى أعجب على طبعها التجارى “الرمادى” أيضاً، ولا نطيل المكوث فننطلق فى اتجاه فرنسا الذى تحدده اللافتات باسم بلدة بدت لى ثانوية على الخريطة اسمها: “فنتميجليا”.
سرعان ما أصبحنا نسير بحذاء شاطئ البحر المتوسط. إذن فهذه هى ما تسمى بالريفييرا الإيطالية، وهذا هو “شاطئ الزير” (الكوت دازير) الشهير الممتد حتى فرنسا، ذلك الشاطئ الذى يعنى شيئا خاصا عند المصريين حيث يتباهى بعضهم بزيارته فى حين يتبرأ البعض الآخر من الإقامة فيه، ويعاير به البعض بعضا فى موقف ثالث؛ ذلك أنه كان مصيف الملك فاروق بكل ما كان وما لم يكن، ثم أصبح مصيفا سريا لرجال القوى الجديدة، ثم أصبح مصيفا رمزيا للطبقات الصاعدة فوق أكوام البنكنوت دون درجات الوعى أو مدارج الحضارة، ثم أصبح ما لست أدرى عنه شيئا، وآخر ما قرأت حول هذا الشاطئ كان دفاع محمد حسنين هيكل عن نفسه، من أنه لم يزره إلا مؤخرا بسبب العمل!!. وتعجبت حتى تصورت أن عدم زيارة هذا الشاطىء، هو فى ذاته علامة التقشف والاشتراكية الجديدة، وقلت فى نفسى: والآن، حين نسمع من يتكلم عنه “الكوت دازير”، سواء بترفع، أو وهو يشجب زواره بحماسة اشتراكية مشبوهة، حين نسمع هذا أو ذاك نستطيع أن نهز رأسنا هزة الذى هو “عارفه” “عارفه”!.
عايشت هذه الخبرة حين كانت لى بعض الاستشارات مع المرحوم الدكتور محمد حلمى شاهين وكيل وزارة الصحة سابقا، وكنت أزوره فى منزله بالدقى قبيل سفرى، وذكر لى أنه سيكون فى “كان” فى التاريخ من كذا الى كيت، فقلت له إنى سأكون فى “نيس” من كيت إلى كذا (فقد كنت أخطط لهذه الرحلة) فظن هو أن نيس بالذات (التى لم أرها قبلا) هى مصيفى المفضل (!!)، فسألنى: وأين تنزل؟، وزغـت فى الكلام؟، وكدت أقول له – رحمه الله ـ : أنا لا أنزل، أنا أطلع حيثما تصعد بى سيارتنا.
نحن الآن فى الكوت دازير، نعم : كم هو جميل، ولكنه مثل كل جميل فى بلدنا، وربما أقل، لكنه نظيف أكثر، ربما، وهادئ جدا، لكن إيش عرفنى وأنا داخل السيارة هكذا، ولماذا أسبق الأحداث؟. سوف نظل فيه مئات من الكيلومترات الأخرى، لماذا أسارع بالحكم هكذا على كل شىء؟.
……………
ونكمل الأسبوع القادم
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: “الحافة والبحر” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net