الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: “ما زلنا فى ضيافة المرأة المُهرة” (17)

مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: “ما زلنا فى ضيافة المرأة المُهرة” (17)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 7-10-2019

السنة الثالثة عشرة

العدد:  4419

مقتطف من كتاب:

الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)

الفصل الثالث: “ما زلنا فى ضيافة المرأة المُهرة” (17)

…………

…………

 الحمد لله. حمام المخيم الإيطالى هنا هو حمام شديد التواضع، وإن كان شديد النظافة، شديد الجمال، وناسه طيبون “منا وعلينا”، ولا يوجد تناقض ظاهر على بعد أمتار أو أميال، وكل من يملك ما يساوى بضعة جنيهات يستطيع أن يمضى هنا يوما أو بعض يوم، وهو أمر يشجع على النسيان، وحمدِ الله دون تنغيص ادعاءات حب العدل.

ونخرج من الحمام إلى الكوخ، وأرشو الطفلين ببعض “الفكة” التى يمكن أن يمارسوا بها ألعاب التسلية فى مقهى المخيم، واعدا إياهم بأنى لن أبلغ قيمة هذه المبالغ إلى أمينة الصندوق، ابنتى المسئولة ؛ كانت هذه الرشوة أملا فى أن أنفرد بنفسى أكبر وقت ممكن، لعلنى أكتب شيئا. وانفردت بها:

أخذت أتأمل نزلاء هذا المخيم الفخم ذى الأربعة النجوم (فالمخيمات مثل الفنادق تحدد درجتها السياحية بعدد النجوم أيضاً، ولكن ما كل نجمة نجمة) – وتساءلت: هل هؤلاء الناس ذوو العربات الفارهة والبيوت المتحركة، يسترخصون الإقامة فى مثل هذا المخيم، عن الفنادق اللائقة بأمثالهم أو حتى عن بيوتهم؟. ويجيئنى الجواب معادا: إن المسألة ليست فى درجة الرفاهية ونعومة الخدمات، وإنما فى فكرة الخلاء، والخدمات المشتركة، وتنشيط كل ما هو فطرى وكريم وسمح ومتعاون فى وجودنا الذى زحفت عليه دهون البلادة والخوف والحسابات. ويتأكد عندى هذا المعنى، حين أذكر أن مثل ذلك يحدث مع ناس أكثر ثراء، حين يبحثون عن المتعة والتغيير فى أماكن أقل خدمات وأوفرمشقة. ذلك أن من عادات أهل الجزيرة العربية من الأثرياء ـ مثلا ـ أن يخرجوا إلى “البر” بين الحين والحين. ولم أفهم فى بادئ الأمر أن “البر” هو الصحراء المترامية الخالية. فطول عمرى أعتبر البر هو الشاطئ، إذ هو “خلاف البحر” ومقالبه. الا أن “البر” عند إخواننا هناك كان يعنى “المخيم” و”التخييم”.

 مرة وأنا فى رأس الخيمة-لمدة أسبوع خاطف- علمت من صديق يسكن قصرا (بحق وحقيق) مكيف بكل شئ (…مما لايخطر على قلب بشر) أن عائلته فى البر منذ فترة، وعلمت – بطريق غير مباشر- أنهم هناك يمارسون حياة بدائية كاملة (بما فى ذلك- ولا مؤاخذة- قضاء الحاجة)؛ لأنه لا توجد خدمات متحضرة، كما هى الحال فى هذه المعسكرات المتواضعة فى أوربا. وجعلت أتساءل وأنا فى دورة مياه قصر هذا الشيخ، وكأنها من الذهب الخالص!!- “أيتركون هذا الحمّام الذى يخجل واحد مثلى أن يلوثه حتى ولو حيل بينه وبين وظيفة بيولوجية حتمية، “ليعملوها” هناك فى الخلاء كيفما اتفق؟. ياسبحان الله!! ـ ومازلت أذكر أيضا كيف عاد ابنه (متبنيه) الأصغر (7 سنوات) من البر، ومعه جحش صغير، يريد أن يدخل به الصالون المكيف!! (بعد أن عثر عليه فى البر و”شبط فيه”. حيث الحمير هناك بلا صاحب لأنها ملكية مشاع) – وتعلمت من هنا وهناك أن المسألة ليست مسألة رفاهية وتكييف طول الوقت، وأن هذا النشاط وذاك ليس وراءهما إلا التذكرة والتأكيد على ضرورة النكوص، والاتصال المباشر بالطبيعة

 نحن فى مصر لا حصّلنا هذا ولا ذاك. لم يبق لنا من مثل هذا النشاط إلا شد الرحال إلى بعض الموالد حيث مازالت الجِمال تحمل الأمتعة والعائلات أياما وليالى،  من الصعيد إلى مولد السيد البدوى، أو من وجه بحرى إلى سيدى عبد الرحيم القناوى. المهم : شد الرحال. والفرق شديد بين ناس يخرجون إلى الخلاء (الخاص… أو العام) من كثرة النقود ودغدغة الرفاهية، وآخرون يدخلون إلى ساحة الأولياء وزحام الناس من إلحاح الرجاء و “قلة مفيش”- ومع ذلك فقد أحسست أن الفكرة متشابهة. فثَمَّ انتقال، وتخييم، وناس أغراب يلتقون دون سابق معرفة، ونشاط جماعى دون اتفاق، وهدف مشترك- فى مساحة ما- دون إعلان.

أنا أعتبر نشاط الموالد من أهم ما تبقى لنا من فرص النكوص الدورى الجماعى، إلا أنى – بكل ألم- أسمع نغمة جديدة يتزايد علوها فى الهجوم – أيضا- على هذه الموالد، يهاجمها المتمدينون باعتبارها “تخلفاً وقذارة”، ويهاجمها المتدينون المتزمتون باعتبارها مسخرة وبدعة. ونحن شطار فى الهجوم دون إعطاء بديل أو اقتراح بتعديل. فبدلا من أن نوسع فى المكان، ونقدم خدمات النظافة والإخراج، نهاجم، وننذر، ونتعالى، بل إننا لانعتنى بمثل هذه الخدمات العامة حتى فى الأماكن السياحية المعدة للتخييم فى مصر، وما أقلها، وكأن ثمة خطة مدبرة قصدا عندنا تمنع الناس من مغادرة منازلهم… اللهم إلا القادرين.. يغادرونها إلى منازل أغلى وأثقل تسمى الفنادق،  أو القرى السياحية، والباقى يـُرَصُّ رصا أمام التليفزيون بأمر سلطوى، يبدو أنه متفق عليه بين أصحاب السلطة الفكرية والإعلامية والسياسية والدينية جميعا.

أتساءل بانزعاج: فماذا بعد؟.

لو أننا واصلنا حرمان شعبنا أكثر فأكثر من هذه النشاطات الجماعية النكوصية الدورية (الموالد، والمهرجانات، وحلقات النشاط الجماعية – النكوصية والإبداعية والإيمانية جميعا) تحت دعوى الإلتزام الدينى القامع، أو التحضر السطحى الكاذب… إلخ…أى مصير ينتظر حركة وجودنا الدورية؟. وأى خصام مع دورات الطبيعة، ودورات النكوص الحتمية؟

مازلت أذكر زفة مولد النبى فى زفتى. الحرفيون فوق عرباتهم “الكارو” يستعرضون أنشطتهم المختلفة فى بهجة ما بعدها بهجة، ولست أدرى هل مازالت هذه الطقوس تقام حتى الآن أم لا. ثم يحضرنى عبد الحكيم قاسم وهو يرسم حيوية مولد السيد البدوى “فى أيام الإنسان السبعة”، وأدعو الله دعوة إجمالية لا أعرف محتواها، وبالتالى لا أعرف كيف يمكن أن تتحقق، ولكنه ـ سبحانه ـ أدرى.

أفتقد فى هذا المخيم – فى رحلة تأملاتى وحيدا- هؤلاء “الغجر” من الخواجات الذين كان منظرهم مألوفا لدَّى فىّ أثناء إقامتى فى مخيمات فى سويسرا وإيطاليا (سنة 1969) فإذا كانت الأسر الكبيرة، والقادرون فى شبه الجزيرة العربية يخيمون نكوصا إلى ماهو قبيلة، فإن الشباب المحدثين (الهيبز وما شابه) يرتحلون ويخيمون نكوصا إلى ماهو “غجرى”… بما فى ذلك أخلاق الغجر بما لها وما عليها.

 تحضرنى لندا دارنل  بحول خفيف فى عينيها، يزيدها جمالا، فى فيلم “عنبر إلى الأبد”، تبتسم لى وتشير بسبابتها على فمها ألا أفسر أكثر من هذا، فلا أسمع لها، ويهف على وجدانى ذلك الخليط من المشاعر التى تحركت بى حين شاهدت ـ لأول مرة ـ فى معسكر ما فتى وفتاة من هؤلاء الغجر الخوجات، وقد تجمعت عليهما قاذورات الرحلة والطريق والزمن، حتى فاحت منهما رائحة العرق بالشبق والحرية، فاستقبلت كل ذلك بخليط من مشاعر الدهشة، والغيظ، وحب الاستطلاع، والغيرة، والإعجاب، ولا أطيل حتى لا أكشف أكثر على ماهو أكثر، ويمكن للقارئ- لو صدقنى- أن يقوم هو بجمع هذه الصفات والمشاعر بعضها إلى بعض، (لا على بعض). وقد يقرأ هو مالم أكتبه، وقد يتمتع  برائحة الشواء واللقاء مجانا.

أرجعت خلو مخيمنا هذا(الألبا دورو = أظن أن معناه هو “الذهب الأبيض” ربما)  من مثل هؤلاء “الغجر” إلى احتمال انحسار أمثال هذه الموجات (الهييبز.. إلخ) أصلا منذ بداية السبعينيات، أو لأن المخيم ذا أربعة نجوم، وهؤلاء الغجر يفضلون الأرخص والأقذر.

ويعود ولداى (حفيداى/ رفيقاى/ صديقاى) فرحين باكتشافهما لطريقة ممارسة ألعاب الحظ والشطارة، ويحاولان أن يستدينا منى مايصرفهما عنى، فأوافق طلباً لاستمرار خلوتى بنفسى، وينصرفان فأُخـْرج ماصحبت معى من أوراق، وقد عقدت العزم على الكتابة، وأجد موضوع “تطور الوجدان” يطل على من بين الأوراق البيضاء، فأخجل من أفكارى “العلمية” حول هذا الموضوع، فى هذا الجو المشحون بشتى العواطف والمشاعر والوجدان والأحاسيس.. وكل ماينتمى إلى هذه “المنطقة” من الوجود.

الفكرة وراء هذه “النظرية” التى تشغلنى عن تطور الانفعال، هى أنه – حين يتكامل الشخص نموا – لا يوجد عنده شئ اسمه عواطف أو انفعال أو حتى وجدان، بالمعنى الشائع الذى يصورها باعتبارها وظائف مستقلة ذات معالم خاصة بها. فإن صح ذلك وتم إلغاء ماهو عواطف ووجدان: فما هذا الذى أنا فيه؟. وبم أسميه؟. وكيف أصفه بمصطلحات العلم الوصى على الخبرات (الذى يقال له: علم نفس!!)

 قلت لنفسى. لنفرض أنى- شخصيا- أقترب من أعلى مراتب الوجدان تطورا فرديا (وهذا غير صحيح) فليكن ما أنا فيه هو ما أحب أن أسميه “المعنى الجوهر”، أو “المعنى الشامل” أو “الحقيقى” أو “النابض” أو “المتناغم”؛ وهو مايفيد نتاج الالتحام الطبيعى بين مايسمى وجدانا بما يسمى فكرا إذا أصبحا “واحدا” يستحيل فصمه إلى أجزائه، وبالتالى ما حاجتى إلى انفعال مستقل إذا ملأنى المعنى؟ فيردُّ علىّ قائلا: ولو!! وأعجز عن كتابة أى حرف، على أىة ورقة.. ولو على سبيل نقاط للتذكر مستقبلا.

ينقذنى من مواجهة عجزى هذا حضور بقية أفراد الرحلة من جولتهم، فى حالة من النشوة والانبهار ليس لها مثيل، ويعرضون على غنائمهم، وأستعيد حبى لألوان “المورانو” الرائعة، ويحاولون إفهامى أن مفارش “فينسيا” “صنع اليد” هى أكثر فنا وذوقا من هذا المورانو المقوْلب فى الغالب، فلا أفهم. وعموما.. فأنا من بلد لايقدّر “شغل اليد” حق قدره كما يفعل “الخواجات” والذين يفهمون، وتحاول ابنتى أن تشرح لى كم من الساعات أنفقتها الفنانة التى “شغلت” هذا المفرش. فأقول فى نفسى قولة جورج سيدهم فى “المتزوجون”: “ناس فاضية”.. ولكن: أبدا، هذا فن حقيقى يحتاج إلى تأمل خاص، هو ليس فى مجال قدراتى الآن، وأعد نفسى- مثلما أفعل بالنسبة إلى الموسيقى – أن أفرغ له يوما.

ويبدأ الإعداد للعشاء، وكانوا قد اشتروا من الآنية ما أغنانا عن استعارة جديدة، الحساء جاهز وكأنه يلوّح لنا بما خرج منه، والتقشف له طعم شهى.

أكلنا وشربنا الشاى، وسهرنا، وحاولنا أن نسمع إذاعة مصر فلم نفلح، وكنا فرحين بأول ليلة استطعنا فيها أن ننام فى مكان معروف لنا مسبقا من أول النهار!!،

وأذهب وزوجتى إلى المقهى النادى الملحق، نتأمل الوجوه، ونشارك من بعيد، ثم نشارك من قريب، ثم نشارك جدا،  ونحمد الله حمدا كثيرا طيبا نرجوا أن ننتفع به.

الثلاثاء  28 أغسطس 1984

صباح حقيقى آخر، بكل الآمال المجهولة، والرسائل الهامسة، والأنغام الجياشة الواعدة، والصمت الناطق بالهدهدة الدافئة، ويستيقظ الأولاد على راحتهم لأول مرة، ويعد الإفطار المناسب والذى منه، وكنا قد بدأنا نستعمل منضدة مخيمات اشتريناها من أثينا، فردناها، فجمعتنا فى رحابة ذكية. فضّل ولداى الأصغران (رفاق الأمس وحمام السباحة) أن يمضيا اليوم فى المخيم دون النزول إلى فينيسيا، ففرحت فرحا شديدا؛ لأنى سأجد سببا يبقينى فى المخيم بحجة رعاية الصغيرين، فأعلنت ذلك، وأخذت أعد نفسى بيوم كامل أرتب فيه داخلى.. وقد تتاح لى فرصة أفضل لكتابة بعض ماوعدت، وكان المخيم بكل أشيائه وأجوائه قد استقر فى وعيى حتى أحسست أنه بيتى وأكثر، وكأنى أقيم فيه منذ تناسخى الرابع عشر بعد المائة..، والمرأة الُمهرة المسئولة عن المخيم تمشى فوق قفزاتها الصغيرة، أمام “مكتب الإدارة”، وهى تطلق دفء الفتوة ذات الرائحة الشبقية، وإذا بزوجتى تفضل أن تبقى معنا فى المخيم . حاولت أن أثنيها عن عزمها خشية أن تكون “جاءت على نفسها” من أجل خاطرى، إلا أنها أصرت أن تبقى حتى لو ذهبتُ أنا والأولاد. وقلت: فرصة. أبدأ معها جولاتنا الصغيرة  فى الحوارى والأزقة المحيطة إن وجدت، ولا بد أن توجد، جولاتنا لايعرفها السياح فى مجموعات، ولا السياح ذوى الياقات الزرقاء.

 ما إن رحل الأولاد الكبار، وانطلق الأصغران إلى الحمام دونى، حتى صحبت زوجتى بعد الضحى إلى السوق الأعظم (السوبر ماركت).قصدت إليه أصلا لأصلح ما أفسدته تجربة بلجراد فى كيس نوم خيمتنا، وجدته مليئا بكل ماحلمت به من معدات التخييم ، فاشتريت ما أحتاج إليه وما لا أحتاج إليه استعدادا لأسفار مجهولة  لا تحدها ولا شطحات ألف ليلة ، أبتاع كلما أتصوّر أنه سيحافظ على استمرار حركتى فى بلاد الله لخلق الله، وأنوى أننى  حين عودتى سوف… وسوف… وسوف.

أعود، وأبوك عند أخيك..،إلا قليلا .

أسمِّى مثل هذا النشاط: الجولة السرية فى الأماكن غيرالسياحية، فدخلنا القرية الصغيرة التى واعدتها بالعودة؛ حين لمحتها ونحن نبحث عن مخيمٍ نبيت فيه من فور وصولنا. الشوارع خالية خالية، وأحسن وصف لها هو مانسميه فى بلدنا “ليس فيها سريخ ابن يومين”. وحقدت عليهم، ثم أشفقت علينا، ورفضت هذا وذاك، ماهذا الصمت كله؟. أين الناس الزحمة؟. يعملون؟. كلهم يعملون؟. كل الوقت؟ وأين العجائز والنساء؟. وتركنا العربة وأخذنا نمشى على أقدامنا فى دهشة وصمت مفروض علينا حتى لا نجرح الصمت المطبق حولنا، وبين الحين والحين تمرق بجوارنا سيارة صامتة أيضا، وكأنها تسير دون دوران الموتور، وأخيرا توقفت سيارة غير بعيدة منا، ثم عدلها صاحبها فى مواجهة باب حديقة منزل لا هو بالفيلا، ولاهو بالقصر، ولكنه جميل متميز بين هذا وذاك، نزل منها صاحبها(من الوجهاء) لابسا “أبيض فى أبيض”، ومضى فى هدوء باسم، فأمر باب الحديقة أن يفتح ذاكرا- بالضرورة- كلمة السر. شئ أشبه بــــ:- افتح ياسمسم”. وعاد هذا الرجل إلى سيارته وأخرج حقيبته، وذهب إلى باب المنزل بالهدوء ذاته. ليفتحه بحركات موسيقية ناعمة، وكأنه يرقص الفالس، لا يمشى مثلنا، هكذا لعب خيالى وصاحـَبـَهُ حتى دخل إلى برجه الخالى بالسلامة.

 طيب ، بالله عليكم ، ماذا فى هذا المنظر حتى أحكيه بهذه التفاصيل الدقيقة التى تبدو بلا معنى.. لابد من البحث عن دلالة هذا الحدث الذى انتقل من أرضية جولتنا إلى واجهة مسرح وعيى الآن، وحينذاك. ربما كان ذلك بسبب ما جذب انتباهنا من ذوق رفيع تميزت به “عمارة” هذا المنزل وما جاوره، بالمقارنة بالنشاز المعمارى الذى أصبح يتحدى أى حس سليم فى بلدنا، لا… هذا لايكفى، إذن ماذا؟ نعم: وجدتها، فقد بدا لى- رغم كل شىء- أن هذا الرجل المهذب جدا، الأنيق جدا، هو وحيد جدا-جدا، لماذا؟. لست أدرى. قلت لزوجتى: هل يمكن أن يؤدى فرط النظام، وعمق الهدوء، وتمام الاستكفاء الذاتى، وتناهى الذوق المتناسق، هل يمكن أن يؤدى كل ذلك إلى هذه الدرجة القصوى من “الوحدة”، فأجابت بصدق دون أن تعلن شكّها فيما ذهبت إليه: أنها “لا تدرى”، فكانت أطيب منى وأبسط، سألت نفسى: لماذا ألجأ إلى الانتقاص من أى تكامل بهذه الشطحات الفرضية؟. وما الداعى إلى افتراض “الوحدة” وسط هذا النسيج المتناغم من الجمال والدعة؟. ومع ذلك، برغم اعتراض زوجتى غيرالمعـلن، فأنا أكاد أقسم أن هذا المهندم (الذى لا عيب فيه): كان وحيدا، وحدة “بلبل” أسمهان المهجور، لم يستقبله أحد، ولايبدو فى المنزل أحد أصلا، ولاحتى كلب فى الحديقة يهز ذيله لصوت السيارة، ويتمسح بقدم صاحبه من فور نزوله منها، نحن فى وقت الظهيرة، أين ناس المنزل؟ فى الداخل، أو مازالوا فى الخارج؟.. وأنا مالى؟

دخلنا إلى أقرب مقهى، فلم نجد به أحداً إلا رجل البار واقفا وراء طاولته دون اهتمام بقدومنا- ربما- حتى نقرر، فقررنا أن نخرج من الباب الآخر، وقد بدأ ظل من حزن صامت يزحف إلى وعيى فأسـَـرِّبــُهُ بعيدا حتى لا تلحظ زوجتى، هل هذا وقته.. هل أعدتْـنى الوحدة المزعومة التى أسقطتـُها على هذا الرجل “الأبيض فى أبيض”؟

 ……………

ونكمل الأسبوع القادم  

 

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: “ فى ضيافة المرأة المُهرة ” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

admin-ajax-41admin-ajax-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *