نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 1-10-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5509
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الثانى: “غريزة العدوان”(من التفكيك إلى الإبداع) [2]
العدوان وحركية الإبداع (3)
……………..
……………..
نتائج كبت العدوان:
يمكن استقصاء بعض جوانب النتيجة الطبيعية لكبت العدوان كما يلى:
أولا: تراكمت هذه الغريزة كطاقة مقهورة في الإنسان المعاصر، فراحت تستنزف الطاقة البشرية فى محاولة إبقائها فى حالة كامنة خفية.
ثانيا: استعار العدوان مظاهر غرائز أخرى للتعبير عن نفسه كالتالى (كأمثلة):
(أ) غريزة الجنس: فى بعض الأحيان يختلط الجنس بالعدوان، ليس فقط بمعنى السادية، وإنما أصبح السلوك الجنسى فى بعض الأحيان تعبيرا عن العدوان، رغم مظهره الجنسى (حالات الاغتصاب المتزايدة، وحالات أخرى من الشذوذ مثل السادية).
(ب) غريزة الجوع: أحيانا لا يتوقف الالتهام عند الشبع (إرواء حاجة الجوع) بل يتمادى حتى ليعبر فى بعض الأحيان على نوع من العدوان على الذات والآخرين معا، مما يذكرنا ببعض أنواع الزواحف والعناكب، (وهو ما صوّرته فى إحدى قصائدى:)
أخاف: ألتهمْ
حسبتُ أن الثــقبَ سوف يلتــــئــــــمْ.
أزاحــــم الرموز أنتقمْ.
تعلو جبالُ موج الرعـــــبِ والنَّــــهمْ.
فى بؤرةِ الظَـــــلاِم والعــــدمْ.
أدوس أشــــلاء الأجــــــنّةِ، أرتــــــطمْ.
تخَــثَّرَ الوعىُ المغـــلف بالغــــباء والنـــــدمْ،
تمزّقَ النغمْ.([3])
23/7/1982
(جـ) غريزة التملك: ثمّ نوع من التملك يتزايد حتى يصبح عدوانا، مثل سلوك التخزين Hoarding (مع التذكرة بأن التخزين دافع أولى)، بما فى ذلك ما فيه من العدوان على الذات (تكاثرا مغتربا) وعلى الآخرين (حرمانا).
ثالثا: أُسقطت ظاهرة العدوان فى أشكال فنية أو شبه فنية فى شكل أفلام العنف والإجرام والكاراتيه، وقد تقوم هذه الأشكال بالسماح بالتقمص الذى قد يمتص طاقة العدوان عند المشاهد، أو هو يفجرها فى الخفاء عادة.
رابعاً: تزايدت وتنوعت الألعاب الإلكترونية الأحدث التى تبدو أنها تُستعمل كبديل لتفريغ طاقة العدوان بشكل أو بآخر.
مظاهر العدوان (الضار) الصريح
حين يفشل كبت العدوان أو استبداله أو إزاحته: يظهر صريحا فى صور متعددة، وقد يتخذ ذرائع تبريرية، كما قد يكون مباشرا تسلطيا ظالما، ومن أمثلة ذلك:
أولا: تتفجر العدوانية بين الحين والحين فى شكل حروب محلية أو عالمية، عادة غير مشروعة ولا مُبررة.
ثانيا: تتفجر الصراعات الطبقية، والعنصرية، بكل ما تحمل من حقد وانتقام واستغلال من كل جانب للآخر: الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى (باعتبار هذا الأخير هو الوجه السلبى لـعدوان “العبد على السيد” بالإذعان فى ديالكتيك هيجل).
ثالثا: قد يأخذ العدوان شكلا لفظيا مباشرا مثل الهجاء، والسخرية، والتنمر والأحكام الفوقية.
رابعا: تتعدد صور العدوان السلبى مثل العدوان بالإهمال أو بالتخلى (حتى ولو كان هذا التخلى تحت الشعار الأحدث: “أنت حر” مثلا) أو فى شكل “الرقة المتفرّجة” مما لا مجال لتفصيله هنا.
خامسا: هذا فضلا عن العدوان المباشر والمـُجـَرَّم فى صور جرائم العنف خاصة.
الأهمية البقائية للعدوان:
إذا كان العدوان بهذه القوة وهذا الإلحاح، فى نفس الوقت ليس له إلا أقل قدر من فرص التعبير الإيجابى والمسار البنـّاء، ثم كانت صوره المـُحـَوَّرة والخفية، وأيضا الصريحة العارية، هى من أخطر ما يمكن تصوره على مسيرة الإنسان عامة، فما هو الموقف المسئول تجاه كل هذا؟
تجليات العدوان ومحاولات احتوائه:
(1) توجه المهتمون بالأمر (من الإثولوجيين خاصة) إلى العودة إلى استلهام الحيوانات، نسألهم ماذا فعلوا هم وعجزنا عنه نحن بورطتنا المرعبة، ذلك أن العدوان بين نفس النوع Intraspecies هو أمر شديد الخطر على نوع بذاته، بحيث حاولت أغلب الحيوانات تحقيق غايتها دون ممارسته الى نهايته، أى دون القتل، وقد أثار إريك فروم تساؤلا مزعجا يقول: هل الإنسان نوع واحد؟ حيث عرض احتمال أنه نظرا لاختلاف اللغات والألوان والأوطان، فإنه قد يكون استقبالنا لبعضنا البعض قد وصل إلى اعتبارنا أجناسا متعددة، لا جنسا واحدا كما أن تينبرجن شرح ذلك نصا فى قوله:
“..إن القاعدة أن كل الأنواع قد نجحت فى تحقيق النصر دون أن يقتل أفرادها بعضهم بعضا، وفى الحقيقة أنه حتى مجرد إسالة الدماء يعتبر حدثا نادرا فيما بينها، والإنسان هو النوع الوحيد الذى يمارس القتل الجماعي، الوحيد ذو الوضع الناشز فى مجتمعه”.
إن الحيوانات قد حذقت فيما بين أفراد نوعها لعبة الإنذارات والتهديد (فيما يشبه الحرب الباردة) بدرجة أعفتها من القتال الفعلى أساسا، فضلا عن قتل أفرادها من نفس الجنس…، وقد درس علماء الحيوان وعلماء الإثولوجى هذه الإنذارات وتمنى بعضهم أن يحذق الإنسان مثل هذه الإنذارات وما يقابلها من علامات “الإذعان”، وأن يتعلم ترويض العدوان لإحلال التهديد محل القتل، حتى ضربوا مثلا سطحيا لذلك، وهو الضرب بقبضة اليد على المائدة بدلا من ضرب الخصم، وشبه بعضهم توجيه المسار هذا بعملية التسامى (أو الإعلاء) التى قال بها فرويد بالنسبة للجنس.
لكن الإعلاء والتسامى – أمل هؤلاء الباحثين- لا يمكن أن يـُـقبل إلا كمرحلة من مراحل النمو، وحتى فرويد، الذى أعلى من شأن “التسامى” خصوصا بالنسبة لغريزة الجنس، قد هوجم بشدة لحماسه لتأييد هذا التوجه.
(2) بالغ البعض فى قيمة “إعادة التعليم” كحل ترويضى (حضارى) يستنكر العدوان ويـُـحل محله أساليب أخرى تبدو أكثر إنسانية ورقيا مما يليق بالإنسان، وإن كان هذا الحل يـَـعـِـدُ بترويض العدوان وإبداله، فإنه يتجاهل قيمته البقائية الأساسية، إن مثل هذا الحل الذى يقلبها حربا داخلية قد ينقلب إلى مظهر مرضى لبعض من الاضطرابات النفسية.
ومع التسامح تجاه هذه التمنيات الطيبة !!!، والحذر من أن ينقلب الإنسان على نفسه لمجرد الخوف من الاعتراف بالحقيقة، علينا أن نبحث فى كيفية احتواء الغرائز عامة ومسارها وأولها غريزة العدوان.
احتواء الغرائر ومسارها:
علينا ألا نمل من مواجهة هذين السؤالين:
أولا: ما هو الموقف الحالى تجاه غرائزنا البدائية التى كانت فى صورتها الفجة لازمة لحفظ البقاء الفردى والنوعى معا؟
ثانيا: كيف يتم احتواء مثل هذه الغرائز واستيعابها وتحويرها مع تطور الحياة والأحياء، وكيف يسهم الوعى بذلك كله فى توجيه المسيرة؟
أبدأ بوضع تصورى للإجابة على هذين السؤالين فى صورة الافتراضات الأساسية للمداخلة الحالية، على الوجه التالى:
1- إن الغريزة، باعتبارها سلوكا أوليا مطبوعا، ومن ثم موروثا للنوع كافة، وموروثا للفرد، مع بعض التفاصيل المختلفة بين الأفراد، هى تنظيم “خلوى نيورونى” قائم بذاته، كما أنه تنظيم قائم ضمن ارتباطات وتنظيمات أكبر فى نفس الوقت، وهو قابل للبسط unfolding بقدر ما هو قابل للتكامل integration فى الكل الأكبر.
2- إن لكل غريزة تعبير بدائى مباشر، كما أن لها فى نفس الوقت، من خلال ارتباطات تنظيمها الحيوى النيورونى والخلوي، تعبيرات محورة تخدم أيضا المستويات الأعلى من الوجود الحيوى للنوع أو الفرد على حد سواء.
3- إن الغريزة لا تظهر فى صورتها البدائية الأولية الفجة تماما إلا إذا انفصلت عن سائرالغرائز من ناحية، وكذلك إذا انفصلت عن سائر الوظائف الحيوية النفسية من ناحية أخرى.
4- يمر نمو الغريزة على مستوى تطور النوع والفرد معا فى خطوات متتالية تصاحب اتساع دائرتها وشمول ارتباطاتها، بما يشمل الوعى بها حتى فى صورتها البدائية، وبما يشمل القدرة على تأجيلها وتنظيمها.
5- تتعرض هذه الارتباطات الأشمل للتفكيك المرحلى فى الحلم، أو أزمات النمو، تمهيدا لولاف أعلى وأشمل، فهى لا تُمْحى أبدا بصورتها البدائية إلا فى مرحلة “التكامل القصوى” التى تعتبر هدفا مستمراً متجدداً فى تطور الإنسان الحالي لا أكثر.
6- يستمر نمو الغريزة وتتسع ترابطاتها حتى تصبح قادرة على الالتحام الولافى فى حركية التكامل الجدلى، سواء كان ذلك مع ما يبدو نقيضها، أو مع صور تجاوزاتها، أو مع الواقع المكتسب من تحويرها.
……………..
……………..
(ونواصل غدًا)
(تابع) غريزة العدوان وتنويعات مسارها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و”غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3] – يحيى الرخاوى: ثلاثة دواوين (1981 – 2008)، الديوان الثانى: “شظايا المرايا” قصيدة: “التهام” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الأولى 2018
صباح الخير يا مولانا:
المقتطف:تتعرض هذه الارتباطات الأشمل للتفكيك المرحلى فى الحلم، أو أزمات النمو، تمهيدا لولاف أعلى وأشمل، فهى لا تُمْحى أبدا بصورتها البدائية إلا فى مرحلة “التكامل القصوى” التى تعتبر هدفا مستمراً متجدداً فى تطور الإنسان الحالي لا أكثر.
التعليق : سبحان من لا تأخذه سنة ولا نوم