الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى بين الأيديولوجيا والتطور”.. الفصل الأول: الصحة النفسية للأنسان المعاصر (2 من 2)

مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى بين الأيديولوجيا والتطور”.. الفصل الأول: الصحة النفسية للأنسان المعاصر (2 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 13-1-2024

السنة السابعة عشر

العدد: 5978

مقتطفات من كتاب:  

   “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” [1] 

      الفصل الأول:

الصحة النفسية للإنسان المعاصر ( 2 من 2)

(عرض ونقد)

……………….

……………….

نص المتن (6):

…… ‏يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏المساحة‏ ‏التى ‏يتحرك‏ ‏فيها‏، ‏أكثر مما هو‏ ‏بقدر‏ ‏الإنجاز‏ ‏الذى ‏يحققه‏ ‏منفصلا‏ ‏عنه‏، ‏وهذه‏ ‏المساحة‏ ‏متصلة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏بمرونة‏ ‏الحركة‏، ‏ومتصلة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏بتحمل‏ ‏وفرة‏ ‏المعلومات‏ ‏لدرجة‏ ‏تسمح‏ ‏بالحركة‏ ‏منها‏ ‏وبها‏، ‏لا‏ ‏بالغرق‏ ‏تحتها‏ ‏أو‏ ‏بإنكارها‏.‏ وهذا‏ ‏كله‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تغيير‏ ‏جذرى ‏فى ‏طرق‏ ‏التعليم‏، ‏وتنمية‏ ‏الخيال‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏اليومي‏، ‏وتنظيم‏ ‏العلاقات‏ ‏بشكل‏ ‏حيوى ‏متجدد‏.

المناقشة:

مرونة الحركة، وحركية المسافة، يحتاجان إلى مساحة، والمساحة ليست فقط مكانا بل هى زمن مكانىّ متسع، ومتنفس قادر على النتح والتلقى، وأعتقد أن التأكيد المتكرر على هذه الأبعاد يؤكد ضرورة أن تظل الحركة، والمسافة، والمساحة وما إليها تربطنا باستمرار بالإيقاع الحيوى كأساس لأى صحة نفسية (لا تحتاج أن تسمى كذلك).

نص المتن (7):

…… يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ما ظلَّ قادرا‏ ‏على ‏مواجهة‏ ‏قضايا‏ ‏التلوث‏، ‏والحديث‏ ‏الجارى ‏الآن‏ عن التلوث ‏يغلب‏ ‏عليه‏ ‏مفهوم‏ ‏تلوث‏ ‏البيئة‏، ‏بالمخلفات‏، ‏والعادم‏ ‏وما‏ ‏شابه‏، ‏ولا‏ ‏يجرى ‏الحديث‏ ‏بقدر‏ ‏مناسب‏ ‏أو‏ ‏كاف‏ ‏عن‏ ‏تلوث‏ ‏الوعي‏، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏ملوثات‏ ‏الوعى ‏الحديثة‏ ‏كثيرة‏، ‏ومرعبة‏، ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏أية ‏معلومة‏ ‏تقتصر‏ ‏على ‏مخاطبة‏ ‏مستوى ‏من‏ ‏الوعى ‏دون‏ ‏الآخر‏، ‏هى ‏معلومة‏ ‏كالجسم‏ ‏الغريب‏، ‏فهى ‏ملـِّوثة‏ ‏لأنها‏ ‏معـِّـِوقة‏ ‏للتناغم‏، ‏وهى أيضا‏ قد تكون ‏مخدِّرة‏ ‏وليست‏ ‏مفجِّرة، نحو إعادة التشكيل‏.‏

المناقشة:

هذا الاستعمال الخاص لمعنى “التلوث” يقربنا من الانتباه إلى أن إطلاق حركية التناغم فى نبضات الإيقاع الحيوى، يتعارض جذريا مع حشر هذه النغمات النشاز منفصلة عن كلية اللحن الحيوى، والتركيز هنا على عمل مستويات الوعى معا، دون التسليم لغلبة مستوى على الآخر طول الوقت، مهما كان هذا المستوى هو الأحدث، أو مهما سمى باسم محترم له سمعة طيبة مثل احتكار لفظ “العقل” له، أقول إن هذا المعنى للتلوث يؤكد أن غلبة مستوى ما، طول الوقت، حتى لو سمى “عقلا” إنما يحمل مخاطر الاغتراب فى آليات الدفاع المعقلنة، أما غلبة العقول الأقدم فهو يعرضنا لبدائية  النكوص، أو حتى لعشوائية الجنون ونشاز البدائية، ولا سبيل لفض التلوّث إلا بالتعتعة والتناغم والتبادل والتكامل فالجدل دائما أبدا.

نص المتن(8):

يكون‏ ‏الإنسان‏  ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏حركته‏ ‏فى ‘‏الزمن‏’ ‏بالمعنى ‏الآنىوالموضوعى والممتد‏ ‘‏معا‏’، ‏والامتداد‏ ‏هنا‏ ‏ليس‏ ‏بمعنى ‏التأجيل‏ ‏الآمـِل‏، ‏أو‏ ‏الخيال‏ ‏المحتمل‏، ‏وإنما‏ ‏بمعنى ‏حرية‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏الزمن‏ ‏ذهابا‏ ‏وجيئة‏، ‏وعلى ‏مستويات‏ ‏مختلفة‏، ‏وهذه‏ ‏قيمة‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏خاصة‏ ‏بموجة‏ ‏حديثة‏ ‏فى ‏الأدب‏ ‏أو‏ ‏الإبداع‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏قيمة‏ ‏تصف‏ – ‏أو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تصف‏ – ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏الذى ‏أصبح‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏أن‏ ‏يرصد‏ ‏ويتحرك‏ ‏فى ‏الكون‏ ‏الأبعد‏، ‏فيرحل‏ ‏إلى ‏القمر‏ ‏ويغازل‏ ‏المريخ‏ ‏ويرصد‏ ‏المشترى، ‏وبالتالى ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏يتناسب‏ ‏ذلك‏ – ‏ ‏مع‏ ‏قدرة‏ ‏مماثلة‏ ‏للتحرك‏ ‏فى ‏طبقات‏ ‏الوعى (‏دون‏ ‏حاجة إلى تحليل‏ ‏تفسيرى ‏أو‏ ‏فك‏ ‏عقلانى ‏للرموز‏) ‏وهذه‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏طبقات‏ ‏الوعى ‏هى ‏البعد‏ ‏العرضى ‏لطبقات‏ ‏الزمن‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نتصور‏ ‏أنها‏ ‏ماض‏ ‏وحاضر‏ ‏ومستقبل‏، ‏ثم‏ ‏ها‏ ‏نحن‏ ‏نستقبلها‏ ‏جميعا‏ ‏فى “‏واقع‏ ‏الحال: الآن”‏ ‏مع‏ ‏اختلاف‏ ‏بعد‏ ‏المسافة‏ ‏والمساحة‏.‏

المناقشة:

تحتاج هذه الفقرة إلى هامش يمكن أن يصل إلى كتاب بأكمله، علما بأن ما جاء بها من خطوط عريضه، قد وصلنى أساسا من العلاج الجمعى (فى قصر العينى خاصة) من خلال نقلات الوعى “معا”، مع مجموعات من المرضى متوسطى التعليم أو “بدون”!، كما ذكرتُ، مرارا.

مسألة بعد الزمن كبعد جوهرى للوجود، وعلاقتنا به، وامتلاكنا إياه، وتحركنا فيه، ليست مسألة رياضية بحته، ولا هى فلسفية نظرية، ولكنها واقع ماثل، ومسئولية متجددة، دون أن تسمى كذلك، وقد تناولت هذا البعد من قديم فى مناقشتى ندوة جمعية الطب النفسى التطورى لكتاب “حدْس اللحظة” لجاستون بشلار [2]، ثم عدت وتناولته فى نقدٍ حديث بعنوان “تشكيل الزمن وإحياء التاريخ، إطلالة من وحى إبداع محفوظ”[3]، وقد أشرت فى عملى الباكر عن “إشكالة الزمن“، إلى دور العلاج الجمعى فى تعرفى على اللحظة تلو اللحظة، وحركتنا فيها من خلال “الهنا والآن”، طول الوقت، أكتفى هنا بتعقيبات محدودة عن هذا البعد، وهو برغم صعوبة التنظير فيه، إلا أنه بـُعـْدٌ حياتـِىّ عادى: يتشكل فيه وبه الإنسان العادى، ومن ثم فحين يتحدث المتن عن”‏ ‏حرية‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏الزمن‏ ‏ذهابا‏ ‏وجيئة‏، ‏وعلى ‏مستويات‏ ‏مختلفة‏”، لا يقصد به إلا ما يجرى فعلا فى النوم والحلم وكذلك اليقظة: والمقصود هنا بالحرية، يتعلق ببعدين سبق الحديث عنهما حالا وهما بعد “الحركة”، و”المساحة”، أساسا.

كل ذلك يجعلنا نراجع النص الذى جاء فى المتن، فنتحفظ على قياس حركية الزمن فى الإيقاع اليومى العادى، بقدرة الإنسان المعاصر “أن‏ ‏يرصد‏ ‏ويتحرك‏ ‏فى ‏الكون‏ ‏الأبعد ‏فيرحل‏ ‏إلى ‏القمر‏ ‏ويخاطب‏ ‏المريخ‏ ‏ويغازل‏ ‏المشترى‏..إلخ”، أقول إنه قد آن الأوان أن أتراجع عن هذا القياس، لأن حرية التحرك فى الزمن وبالزمن، ليس لها علاقة مباشرة أو قياسية بهذه الإنجازات التقنية الأحدث فالأحدث، فى نفس الوقت أؤكد على فرحتى بما جاء فى المتن تأكيدا لارتباط الصحة النفسية بالقدرة على التحرك ‏”…. فى ‏طبقات‏ ‏الوعى” (‏دون‏ ‏حاجة إلى تحليل‏ ‏تفسيرى ‏أو‏ ‏فك‏ ‏عقلانى ‏للرموز‏)، ‏إن هذه‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏طبقات‏ ‏الوعى ‏هى ‏البعد‏ ‏العرضى ‏لطبقات‏ ‏الزمن‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نتصور‏ ‏أنها‏ ‏ماض‏ ‏وحاضر‏ ‏ومستقبل‏، ‏ثم‏ ‏ها‏ ‏نحن‏ ‏نستقبلها‏ ‏جميعا‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الحال‏ ‏مع‏ ‏اختلاف‏ ‏بعد‏ ‏المسافة‏ ‏والمساحة‏” هذه الجملة التى وردت حدْسا قد تكون مفتاحا لإدراك معنى الزمن/المكان، ومعنى الزمن/ الحركة، فى علاقة هذا وذاك بمستويات الوعى (التاريخ الحاضر بيولوجيا)، وأعتقد أن تعبير “..‏ها‏ ‏نحن‏ ‏نستقبلها‏ ‏جميعا‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الحال”  إنما يشير إلى فضل الممارسة “هنا والأن” فى العلاج الجمعى فى الكشف عن هذا الحضور للزمن، وعلاقة الصحة النفسية به.

نص المتن(9):‏  

‏يكون‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يصبح‏ ‏الجنون‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏وجوده‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لا‏ ‏ينفصل‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏الوجود‏ ‏ليقوده‏ ‏إلى ‏التناثر‏ ‏أو‏ ‏التدهور‏، ‏حين‏ ‏يحدث‏ ‏ذلك‏ ‏نكتمل‏ ‏به‏ – ‏بجنوننا‏ – ‏فى ‏نفس‏ ‏اللحظة‏  ‏التى ‏ننتصر‏ ‏فيها‏ ‏عليه‏، ‏وهكذا‏ ‏فإن‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏الصحيح‏ ‏إنما‏ ‏يكون‏ ‏صحيحا‏ ‏ليس‏ ‏بفرط‏ ‏التعقل‏ ‏وإحكام‏ ‏ضبط‏ ‏الداخل‏، ‏وإنما‏ ‏بحجم‏ ‏التكامل‏ ‏والسماح‏ ‏والتناوب‏ ‏المرن‏ ‏والامتداد‏ ‏المتعدد

المناقشة:

بدأت هذه الفكرة تلوح لى باكرا بغموض عام، ثم تبلورت فى عمل سابق فى أطروحتى عن: “جدلية الجنون والإبداع”، والتى نشرت باكرا[4]، فقط أنبه الآن إلى أن استعمال لفظ الجنون هنا باعتباره “جزءا من وجود (الإنسان)، وفى نفس الوقت لا ينفصل عن كل الوجود” هو مفتاح التعامل مع هذا اللفظ (الجنون) بحضوره الحيوى الحركى، أكثر من حضوره المرضى التفسخى أو الشاطح، كذلك سوف نعود غالبا إلى شرح هذه الجملة التى تبدو معقدة، وهى غير ذلك، وهى الجملة التى تقول “ليس‏ ‏بفرط‏ ‏التعقل‏ ‏وإحكام‏ ‏ضبط‏ ‏الداخل‏، ‏وإنما‏ ‏بحجم‏ ‏التكامل‏ ‏والسماح‏ ‏والتناوب‏ ‏المرن‏ ‏والامتداد‏ ‏المتعدد“، لأن كل لفظ فيها قد يحتاج إلى شرح تفصيلى قد تتاح له الفرصة لاحقا.

هذا وقد تطور هذا المنطلق إلى فرضِى عن “حالات الوجود المتبادلة” وهو الفرض الذى اعَتَبَرَ أن الايقاع الحيوى يجرى فى اتساق تتابعى وجدلى فى نفس الوقت بين حالات ثلاث فى الأحوال الطبيعية وهى الحالات المتناوبة بين “الجنون” و”الإبداع” و”العادية”، علما بأن حركية الإبداع قد تخمد وتتجمد ناحية السكون والنمطية فيما يسمى “فرط العادية” كما أن حالة الجنون قد تتمادى فى التفكك حتى يحل التفسخ محل الإبداع فيستتب الجنون الصريح (أنظر حالات الوجود المتبادلة)[5].

نص المتن (10):

يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يصاحب‏ ‏الموت‏ ‏الواقع‏ ‏حالا‏ ‏فى ‏داخله‏، ‏فالموت‏  – ‏بالمفهوم‏ ‏التطورى‏ – ‏ليس‏ ‏سلبا‏ ‏كله‏، ‏وليس‏ ‏نهاية‏ ‏مغلقة‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏حقيقة‏ ‏موضوعية‏ ‏آنية‏، ‏وحتمية‏، ‏وحين‏ ‏تتضح‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏ ‏فى ‏وعى ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏بنفس‏ ‏درجة‏  ‏وضوح‏ ‏الحياة‏، ‏ووضوح‏ ‏الإنجاز‏ ‏المادى ‏المحدد‏، ‏ووضوح‏ ‏القوة‏ ‏السلطة‏، ‏حين‏ ‏يحدث‏ ‏ذلك‏، ‏تحضر‏ ‏ظاهرة‏ ‏الموت‏ ‏فى ‏حجمها‏ ‏الموضوعى ‏فى ‏بؤرة‏ ‏الوعى ‏مما‏ ‏يعطى ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏القيم‏ ‏معنى ‏آخر‏ ‏أقوى ‏وأبقى‏، ‏مما‏ ‏يجعل‏ ‏قوة‏ ‏الحياة‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏الانتصار‏ ‏المتكامل‏ ‏ما‏ ‏استمرت‏ ‏الحركة‏ ‏المبدعة‏.‏

فالإنسان‏ – ‏المعاصر‏ – ‏ومع‏ ‏تحقيق‏ ‏وجوده‏ ‏بقدرته‏ ‏على ‏الإحاطة‏ ‏بالمعلومات‏ ‏الموضوعية‏ ‏المعاصرة‏ – ‏لا‏ ‏يكتمل‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏أدرك‏ ‏وعايش‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏الموت‏ ‏الشخصي‏، ‏والموت‏ ‏الحتمى ‏لأفراد‏ ‏النوع‏، ‏بحجمه‏ ‏الموضوعى ‏فى ‏مكانه‏ ‏المناسب‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏الآنى.‏

المناقشة:

هنا مبالغة قد تثير رفضا حذرا، حين نطلب من الصحيح نفسيا أن يضع الموت كـ “حقيقة موضوعية أنية، وحتمية” …” فى بؤرة الوعى” فهى قد تبدو بعيدة عن الواقع تماما، بل إن هذه الفقرة وهى تحاول أن تعلى من قيمة هذا التأكيد قارنت ذلك بوضع الإنسان السليم وكأنه يعامل “الحياة” كحقيقة موضوعية فى بؤرة الوعى، وهو أمر لا يمكن الجزم به طول الوقت، فالأرجح أنه لا الموت، ولا الحياة يقعان فى بؤرة الوعى الظاهر كما تزعم (أو ترجو) هذه الفقرة.

 قد يكون الإنسان صحيحا نفسيا وهو يعيش الحياة بالقصور الذاتى، وأيضا وهو يعيش الموت باعتباره صدفة حتمية واردة، ليست “الآن” بالضرورة، أما أن نتصور، أو نصوِّر، أن السلامة تقتضى أكثر من ذلك فهذه مبالغة قد تبعدنا عن واقعنا البسيط القادر على تحقيق الصحة بغير كل ذلك، ثم إن الزعم بأن معايشة الموت (للفرد والنوع) بحجمه الموضوعى هو الذى “….‏يجعل‏ ‏قوة‏ ‏الحياة‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏الانتصار‏ ‏المتكامل‏ ‏ما‏ ‏استمرت‏ ‏الحركة‏ ‏المبدعة‏” هو أيضا زعم قد  يبعدنا عن الواقع الضرورى للاستمرار دون الحاجة إلى أن تتصف الحياة بالقدرة “على الانتصار الكامل ما استمرت الحركة المبدعة” (ما هذا؟ كدت أقول: يا صلاة النبى!!!)[6]

نص المتن (11):

‏يكون‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتمكن‏ ‏من‏ ‏الحفاظ‏ ‏على ‏نشاطه‏ ‏الذهنى ‏ليتحمل‏ ‏مسئولية‏ ترامى أبعاد و‏موسوعية‏ ‏المعرفة‏، ‏التى ‏لم‏ ‏نعد‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى أن‏ ‏نزحم‏ ‏بها‏ ‏أدمغتنا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏وجدت‏ ‏لها‏ ‏مكانا‏ ‏فى ‏الأشرطة‏ ‏والاسطوانات‏ ‏المضغوطة‏ ‏والممغنطة والموسوعات الإلكترونية المتاحة،‏  ‏بما‏ ‏يتيح‏ ‏فرصة‏ ‏حقيقية‏ ‏للعقل‏ ‏البشرى ‏أن‏ ‏يتفرغ‏ ‏لإعادة‏ ‏ترتيب‏ ‏المعلومات‏ ‏دفعا‏ ‏إلى ‏التوازن‏ ‏الخلاق‏.‏

المناقشة:

بالله عليكم هل أجرؤ أن أعيد كتابة هذه الفقرة الآن بعد ما حكيته عن الصحة النفسية التى أمارس محاولة العودة إليها، أو التصعيد بها فى جلسات العلاج الجمعى فى قصر العينى؟؟ موسوعية ماذا وترامى أبعاد كيف وتوازن خلاق ماذا؟

مرة أخرى أذكركم أن النمل والصراصير وأسماك القرش والنوارس والكلاب الجبلية لا تحتاج إلى الموسوعية ولا إلى التخلص من وصايتها حتى تبقى وتستمر، وهى قد تتمتع بصحة نفسية بنسب قد يثبت أنها أعلى مما يتمتع به النوع البشرى برمته حاليا، دون أن تسميها كذلك، ثم إنه يحق لى أن أنبه الآن إلى أن التوازن فى حد ذاته احتاج فى المتن هنا إلى إضافة صفة “الخلاّق” ربما ليبتعد عن التوازن الاستاتيكى الهادئ (الهوميوستازس)، الذى سبق أن أشرنا إلى احتمال سكونه  حالا فى الهامش رقم (4)، التوازن الخلاق ليس له علاقة بالموسوعية من عدمها، بقدر ما له علاقة بكفاءة برامج التطور، وتحديات البقاء، بل إن الموسوعية المعطـِّلة، ولا حتى بالتوازن الذى نسميه الخلاق من باب الحذر، إذا ما انتقل من برنامج الفعل التلقائى إلى التنظير المعقلن، فقد يثبت أنه ليس هو البرنامج البقائى الذى يحافظ على الحياة ويدفع بها، بل إنه قد يعطلها برغم صحة معطياته فى ذاتها.

إذن: ليس مطلوبا جدا من “العقل ‏البشرى“… ‏أن‏ ‏يتفرغ‏ ‏لإعادة‏ ‏ترتيب‏ ‏المعلومات‏ ‏دفعا‏ ‏إلى ‏التوازن‏‏ بالمعنى الإرادى الذى توحى به هذه الجملة، فالنشاط الحالم الصحىّ العادى – مثلا-  يقوم بالواجب تلقائيا من وراء ظهورنا، المأمول لكى نصحّ فنبقى ألا تحولُ الموسوعية دون تلقائية هذا التوازن الخلاق، مثلا: ألا تقف موسوعية سيجموند فرويد عن الأساطير وعلم المصريات والتاريخ والترميز وغير ذلك، حائلا دون أن يستوعب، (ونستوعب) إبداع حركية الحلم بغض النظر عن محتواه وتفسيره، وهكذا.

نص المتن(12)‏:

 ‏يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يرعى ‏ما‏ ‏وصله‏ ‏من‏ ‏معارف‏  ‏كقاعدة‏ ‏إنطلاق‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ (‏إيمانا‏ ‏بالغيب‏ المفتوح النهاية).‏

المناقشة:

إذا كنا قد انتبهنا بقدر كاف لما جاء فى الفقرة السابقة السابقة، فغنى عن البيان أن نفهم مساحة ابتعاد هذا الشرط أيضا عن واقع ما نريد توصيله، بمعنى أن رعاية المعارف التى تصلنا تتم تلقائيا بقوانين البقاء، وليس معنى ذلك الا نتعهد المعارف التى تصلنا كما يقول النص، لأننا لو لم نفعل لاصبحت عبئا على وجودنا، وإعاقة ليس فقط للصحة النفسية، وإنما للبقاء والتطور.

أما مسألة أن “تصبح المعارف نقطة انطلاق“، فهذا يتطلب فتح ملف مستويات التفكير، ومدى فاعلية وإسهام “العقول الأخرى” فى حركية المعرفة، ومنها: فائدة اللافهم تكاملا مع الفهم[7]، وكل ذلك عادة ما أتناوله فى شرح قضية “الإيمان بالغيب” الذى هو الباب الإبداعى المفتوح، بل الداعى، لكل الناس، للاغتراف مما  هو “ليس كذلك”، واستيعابه مع ما هو “كذلك”. إن اعتبار ما يصلنا من معارف مجرد نقطة انطلاق إلى ما يمكن أن نصل إليه، هو كلمة السر لما هو “إيمان بالغيب”.

نص المتن(13):

‏يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتمتع‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏حرية‏ ‏واعية‏، ‏وذلك‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أتاحت‏ ‏وسائل‏ ‏الاتصال‏ ‏فرصا‏ ‏أكبر‏ ‏لحرية‏ ‏أصدق‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏أصبح‏ ‏تحديا‏ ‏حقيقيا‏ ‏إذ‏ ‏أنه‏ ‏يتيح‏ ‏الفرصة‏ ‏للإنسان‏ ‏العادى ‏أن‏ ‏ينتقل‏ ‏عبر‏ ‏عشرات‏ ‏الآلاف‏ ‏من‏ ‏الأميال‏ ‏باللعب‏ ‏فى ‏زر‏ ‏عن‏ ‏بعد‏، ‏فالحرية‏ ‏هنا‏ ‏أصبحت‏ ‏فرصة‏ ‏رائعة‏ ‏للتوازن‏، ‏وهى ‏أيضا‏ ‏امتحان‏ ‏خطير‏ ‏للاختيار‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏تحٍّد‏ ‏مرعب‏ ‏لما‏ ‏يصاحبها‏ ‏من‏  ‏مسئولية‏.‏

المناقشة:

يشمل هذا النص  ثلاثة علامات لما يسمى حرية لها علاقة إيجابية بالصحة النفسية، وهى أن تكون:

‏* فرصة‏ ‏رائعة‏ ‏للتوازن

‏* امتحانا‏ ‏خطير‏ا ‏للاختيار

‏* تحديا‏ ‏مرعبا‏ ‏لما‏ ‏يصاحبها‏ ‏من‏ ‏مسئولية‏.‏

لكن المسألة تتجاوز ذلك أيضا، وقد يكفى الآن، حتى نعود إليه لاحقا، أن نشير إلى الأطروحة السابق نشرها بواسطة المؤلف عن “الحرية والجنون والإبداع”[8] الحرية التى يمكن أن نتكلم عنها هنا فيما يتعلق بالصحة النفسية ترتبط ارتباطا وثيقا بأبعاد المساحة، والحركة، والزمن، كما ترتبط تماما بما يسمى العلاقة بالأخر (الآخرين)، وهى ليست اختزالا فى القول السائر: إن حريتك تنتهى عند بداية حرية الآخر، بل لعل العكس هو الصحيح، بمعنى أن الحرية تستحق هذا الاسم حين يتحقق الجدل ويحتد الصراع مع حرية الآخر، ناهيك عن حرية العقول كل على حدة، ثم معا، ثم كل على حدة، وهكذا على مدى مستويات الوعى المتعددة، عبر استمرارية النبض الخلاق الذى هو وظيفة الإيقاعحيوى المستمر طول الوقت فى “اليقظة والنوم” ثم أتمادى لأقول فى “الحياة والموت” (دون تفصيل الآن).

وبعد:

ماذا يهم الطبيب النفسى والمريض النفسى، وكل البشر من كل هذا التنظير، وما علاقته بأنواع الطب النفسى؟ بين اليوتوبيا والجدل والأيديولوجيا؟

إن ما وصلنى عن علاقة ما هو “أسطورة ذاتية” غائرة فى اللاشعور – عند كل الناس–  بالأيديولوجيا ظاهرة فى السلوك هو الذى يمكن أن يرد على هذا التساؤل.

……………………

…………………..

ونواصل الأسبوع القادم عرض الفصل الثانى: “الطبيب (المعالج النفسى) بين الأيديولوجيا والأسطورة الذاتية”

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2019)  الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – مجلة الإنسان والتطور عدد ابريل – سبتمبر سنة 1988 “إشكالية الزمن”، (الإنسان والتطور “إشكالة الزمن” عدد ابريل – سبتمبر 1988سنة

[3] – يحيى الرخاوى “دورية نجيب محفوظ” المجلس الأعلى للثفافة، العدد الثالث: ديسمبر 2010،  (التاريخ والزمن “قراءات فى الزمن”)، مقدمة عن: حركية الزمن، “وإحياء اللحظة” فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ.

[4] – يحيى الرخاوى “جدلية الجنون والإبداع” مجلة فصول “المجلد الثالث، العدد الرابع 1986 ثم أعيد نشرها وتحديثها فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع: المجلس الاعلى للثقافة سنة 2007

[5]- أنظر نشرات “حالات الوجود المتبادلة”  بموقع المؤلف www.rakhawy.net

[6] – أكتفى الآن بالإشارة لمن يريد، إلى بعض ما كتبته من فروض عن الموت أساسا فى نشرات “الإنسان والتطور اليومية ” على سبيل المثال : نشرة 7/11/2007 “مقتطفات بلا موقف …. عن الموت والوجود”، ونشرة 21/11/2007 “الموت والشعر”، ونشرة 5/1/2008 ” الموت: ذلك الوعى الآخر”، ونشرة 4/9/2010 (“الموت لا يجهز على الحياة”: نجيب محفوظ)  بموقعى   www.rakhawy.net

– وأيضا فى نقد ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ: “دورات الحياة، وضلال الخلود ملحمة الموت، والتخلق فى الحرافيش” (مجلة فصول المجلد التاسع، العدد الأول والثانى سنة 1990)، وكتابى “قــــــراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992

–  وأيضا عن الموت للأطفال عند هانز كريستيان أندرسون: “كيف ومتى يعرف الطفل ما هو “الموت”؟ ونحن أيضا!!؟” مجلة روز اليوسف، بتاريخ 25/11/2005، ومجلة وجهات، عدد أكتوبر 2006، “همسةٌ عند الفجر تشكيلات الموت/الحياة” بموقعى www.rakhawy.net  

[7] – يحيى الرخاوى “السماح بعدم الفهم ينشط الإدراك” )لعبة: ياخبر!! ده أنا لما ما بافهمشى يمكن……)  نشرة الإنسان والتطور: 10-4-2012

[8] –  يحيى الرخاوى (2007) “حركية الوجود وتجليات الإبداع”، الفصل الثالث: “عن الحرية والجنون والإبداع” المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *