نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 20-1-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 5985
مقتطفات من كتاب:
“الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” [1]
الفصل الثانى:
الطبيب (المعالج النفسى) (1 من 2)
بين الأيديولوجيا والأسطورة الذاتية
“سقراط: لقد كنت أدرك أيها الصديق أنك لن تقنع برأى الآخرين فى هذه المسألة.
جلوكون: ذلك لأنه لا يليق بمن قضى حياته مثلك وهو يفكر فى هذه المسائل،
أن يكتفى بعرض آراء الآخرين دون أن يعرض آراءه هو.
سقراط: ولكن أتظن أنه يليق بالمرء أن يتحدث عما لا يعلمه وكأنه يعلمه؟
جلوكون: كلا، لا يصح أن يتحدث وكأنه يعلمه، ولكنه يستطيع أن يقول ما يعرفه على سبيل عرض رأيه الخاص”
أفلاطون- محاورة الجمهورية
الكتاب السادس
الطبيب أداة العلاج الأولى، فكيف هو؟
الفكرة الأساسية التى اكتشفتها باكرا جدا هو أن الطبيب النفسى الحقيقى إنما يعالج المريض (وخاصة الذهانى: المجنون) بما “هو” كله، وليس فقط بما يعرف، أو بما يحفظ، أو بما يبحث فيه بأدوات العلم المتاحة، فما بالك إن كان تصوره إنه إنما يعالجه بما يقرأ ويسمّع ويُفرض عليه من قوانين وتنظيمات غير نابعة من ثقافته، ولا من ممارسة إمبريقية موضوعية مستمرة، المفروض أنه لا يوجد تناقض بين هذا وذاك، لكن الأمر عند التطبيق شديد الصعوبة.
الحوار الدائر بين مستويات وعى المعالج ومستويات وعى المريض أعمق وأوثق من تصور كل النظريات المتاحة.
من خلال الممارسة النشطة عبر عشرات السنين تأكدت من حجم مشاركتى الشخصية فى العملية العلاجية، ومسئوليتى المتجددة تجاه الأداة الأساسية التى أستعملها – شخـْـصى – بالإضافة إلى علمى ومعلوماتى وأبحاثى وما إلى ذلك، نقلت يقينى هذا إلى زملائى الاصغر وتلاميذى، وأنا أشعر أننى مسئول عن شحذهم وتدريبهم، لعلهم ينصقلون كأدوات سوف أسأل عنها، كما أسأل عن نفسى، ولو ألقيت معاذيرى، وهذه المعاذير فى هذا الصدد هى أبحاث موثقة منشورة، وكتب مطبوعة مغلفة مشهورة، لكنها تظل معاذير غالبا.
“فن” التطبيب النفسى (وهو اسم ينبغى أن يكون أكثر شيوعا من مصطلح “العلاج النفسى”، حتى لو لم يقم به طبيب) هو فن وحرفة يقوم بها فنان مبدع، يستعمل كل ما عنده من أدوات ومعارف، مما يعرف ومما لا يعرف، ليتقن بها عمله، ويساعد من يطلب حذقه ومهارته وعلمه، وعلى رأس كل هذا يستعمل نفسه كأداة لخدمة مرضاه، فى طريقهم نحو الشفاء.
قبل أن يوجد شىء اسمه الصحة النفسية، كان الناس – أغلب الناس– يعيشون حياة طيبة، منتجة، قاسية، كريمة، صعبة، وكانوا فى امتحان دائم مع ظروف لا تسمح لهم بذلك، وظلم يحول بينهم وبين ذلك، وحرمان يقلل فرصهم فى ذلك، وبرغم هذا يعيشون بكفاءة مناسبة، صحيح أن منهم من يتعثر، ومنهم من يتوقف، ومنهم من ينحرف، ومنهم من يتراجع، ومنهم من يمرض، ولكن أغلبهم يكمل حياته وهو يمارس دوره جيدا، دون حاجة لأن يعلق على جبهته لافتة تثبت أنه يتمتع بما يسمى “صحة نفسية”، للأسف تطور الامر حتى أصبحت أغلب مناحى الحياة، والناس، يمكن أن توصف بما هو صحيح نفسيا، وما هو غير ذلك، وأصبح مصطلح الصحة النفسية يترادف مع مصطلحات أخرى ليست أفضل كثيرا منه مثل “السعادة”، و”الرفاهية”، و”الطمأنينة”، و”اللاقلق!”، و”العيش فى التبات والنبات”، و”إنجاب صبيان وبنات”!!!
فرويد كان حكيما تماما حين صرح قبيل وفاته أن الصحة النفسية هى “أن تعمل، وأن تحب”، وخلاص!! وأعتقد أن هذا هو خلاصة الأمر، على شرط أن ننتبه أن يكون العمل عملا بحق، أى أن يكون غير مغترب كثيرا (يمكن أن يكون مغتربا قليلا)، وان يكون الحب ناضجا نسبيا (أى أنه يمكن أن يكون غير ناضج نسبيا).
فرويد بكل موسوعيته، وتاريخيته، وخبرته، ونظرياته، وإبداعه، استطاع، قرب نهاية حياته، أن يلخص ما هو صحة نفسية بهذه البساطة، والعمق، والمسئولية، والموضوعية، وقد انتهيتُ تقريبا إلى نفس الموقف، وهو ما وصلت إليه من مسالك أخرى، فى ثقافة أخرى، بعد رحلة أخرى.
قبل ان ننتقل إلى التفصيل اللازم لمن يلزمه، يمكن أن أصيغ الخطوط البسيطة العامة لما هو صحة نفسية كما انتهيت إليها على الوجه التالى:
(1) إن من يذهب إلى عمله، ويعمل، (هذا إذا وجد عملا، وإلا فيكفى أن يبحث طول الوقت جادا عن عمل أى عمل، دون تأجيل متمادٍ، انظر بعد).
(2) ويتواصل مع من حوله ويستمر، فى علاقة نشطة، وهو يحتمل أن يختلف ويتفق مع من هو فى علاقة معهم، لكنه يستمر.
(3) ثم هو ينام ليلا، فيتوازن نهارا،.
إن مثل هذا الشخص هو يتمتع بصحة نفسية مناسبة.
وذلك: بغض النظر عن وجود ما يسمى أعراض نفسية أو أمراض نفسية!!.
هذه هى نقطة انطلاقى فى هذا الفصل، قبل وبعد كل التفاصيل برغم أهميتها.
إذن: فمهمة الطبيب النفسى، (والمعالج النفسى، ولن أكرر بعد ذلك أن المعالج هو طبيب بغض النظر عن ما يحمل من شهادات) هو أن يساعد مريضه على كلِّ ما يلى:
(1) أن يعاود العمل، أو يبادر به ، أيا كان العمل (المذاكرة للطالب هى العمل طالما هو ما زال طالبا، أليس كذلك؟).
(2) وأن “يأخذ ويعطى” وهو يعيش بيننا، بينهم : بما حوله ومن معه.
(3) وأن ينام طبيعيا بما يكفى “لإعادة تنظيم إيقاعه” مع نفسه ، ومع “ما” و”من حوله”،
وكل ما عدا ذلك، يأتى بعد ذلك، أو لا يأتى إطلاقا.
فماذا يحدث فى الطب النفسى – الآن– غير ذلك؟
كثير مما يحدث الآن هو غير ذلك:
(1) فالطبيب النفسى الآن يتعلم التركيز على أعراض المريض واسم مرضه، أكثر من التركيز على المريض نفسه وكيف يملأ وقت يومه، وماذا يميزه عن غيره متفرداً
(2) وهو يتصور أن مهمته الأساسية هى أن يصل إلى توصيف وتصنيف يسمحان له أن يعدل مواد كيميائية معينة يعتقد أنها اختلت عند مريضه، وأنها سبب مرضه، فيضيف ما نقص من مواد، أو ينقص ما زاد، أو يعادله، أكثر من أنه يستعمل ذلك ليتواصل مع مريضه، ويتواصل مريضه مع من حوله (ومع نفسه)، وهو يقوم بعمله وسط ناسه.
ما الذى أوصل الطبيب إلى مثل ذلك، ولماذا؟
الطبيب هو فرد فى مجتمع، وهو ممثل لثقافته بشكل أو بآخر، سواء كانت ثقافته المحلية، أو ثقافة عصره، وللأسف فهو معرَّض – مثل غيره وأكثر– أن ينتمى إلى سلبيات ثقافة عصره (العولمة، ومجتمع الرفاهية كمثالين) على حساب ثقافة ناسه الأقربين، وإذا كان الإنسان المعاصر قد انحرف به المسار – بفعل فاعل غالبا– بعيدا عن أبسط قواعد المنطق السليم، والناتج العملى البسيط اللازم لاستمرار الحياة والحفاظ على البقاء ودفع التطور، فالواجب أن نعيد النظر بدءا بما هو نحن، وانطلاقا من جذور المسألة.
عن الأيديولوجيا والفطرة والأسطورة الذاتية:
لفظان شاع استعمالهما فى مجال الطب النفسى وغير الطب النفسى، مع أنهما لم يحظيا بقدر كاف من الوضوح والتحديد، سواء عند الشخص العادى، أو عند المتخصص، ألا وهما “الأيديولوجيا” و”الفطرة”. سندع مؤقتا لفظ الفطرة جانبا، وغالبا سوف نعود إليه تفصيلا حين يلزم ذلك، برغم أن علاقته وثيقة تماما بالقضية التى نحن رهن بحثها، وسوف نبدأ بأن نتناول “الأيديولوجيا” هنا.
ما دمنا قد أقررنا أن الطبيب هو أداة العلاج الأولى، فعلينا أن نفحص هذه الأداة جيدا، وأن نفك شفرتها ما أمكن ذلك ظاهرا وباطنا، ويعتبر التشكيل الذاتى جدا الذى تكون به الطبيب فكان هو الموجّه الأخفى والأقوى لكل ما هو نفسه ، هو ما يجدر بنا أن نسميه باسم غير مألوف فى هذا المجال ، ألا وهو “الأسطورة الذاتية” فهى العامل الفاعل الفاعل فعلا طول الوقت فى انتقاء الطبيب للأسلوب العلاجى الذى يمارسه، بما يشمل معايير الصحة والمرض، والتخطيط نحو الشفاء، وهدف الممارسة، ونوعية الحياة وغير ذلك، وعلاقتها بالأيديولوجيا الخاصة به وثيقة، وإن كانت الأيديولجيا اظهر نسبيا.
ما هى الأيديولوجيا (عموما)؟
يتصور معظم الأطباء أن التنظير حول هذا الموضوع هو تزيُّد لا لزوم له، حيث يعتقد بعضهم أنه يعرف عن ماهية الأيديولوجيا ما يكفى، فى حين يعتقد الباقون (أو أغلبهم) أنهم ليسوا فى حاجة لمعرفة ماهية الأيديولوجيا أصلاً، وهم يتصورون أنها لفظ أقرب إلى السياسة أو الفلسفة، لهذا سوف أبدأ بتقديم بعض “ما اخترت” للتعرف على هذا اللفظ البراق، الغامض معا (دون إضافة أو تعديل تقريبا):
* الأيديولوجيا: هى رؤية تصبغ فكر شخص ما أو مجموعة من الناس.
* الأيديولوجيا: هى تصور تنظيرى معين.
* الأيديولوجيا: هى مجموعة من المعتقدات والغايات، (خاصة حين تستعمل فى مجال السياسة).
* الأيديولوجيا: هى رؤية مشتملة لطريقة التعرف على الأشياء والعالم.
* الأيديولوجيا: هى مجموعة أفكار تعكس آمال واحتياجات وتطلعات فرد أو مجموعة أو طبقة أو ثقافة معينة.
* الأيديولوجيا: تشير إلى كيفية فهم العالم الذى نعيش فيه، وهذا الفهم يشمل التفاعل بين منظومتنا النفسية الفردية، والتركيبة الاجتماعية من حولنا.
* الأيديولوجيا: تتضمن أن ترجـَحَ وجهة نظر بذاتها على كل ما عداها، وأن تتمسك بوجهة النظر هذه (عادة حتى التعصب).
* الأيديولوجيا: هى جـُمّاع منظومة من المفاهيم حول الحياة والثقافة.
* الأيديولوجيا: هى كيفية ترتيب محتوى الفكر ظاهرا أو باطنا أو كليهما.
* الأيديولوجيا: هى تأكيد متماسك لثوابت ونظريات وأهداف تمثل برنامجا ثقافيا اجتماعيا بذاته.
الأسئلة البديهية تأتى بعد ذلك لتقول:
1) هل يوجد شخص على وجه الأرض يعيش دون “أيديولوجيا” (بأى من المعانى السالفة الذكر)؟
2) هل يمكن لطبيب أن يمارس مهنته، فضلا عن أن يعيش حياته، دون أيديولوجيا؟
3) هل يوجد مريض يحضر للعلاج دون أن تمثل أيديولوجيته – الظاهرة والخفية – محورا هاما لا بد أن يوضع فى الاعتبار؟
4) كيف يمكن أن يتحكم الطبيب، وكذلك المريض، فى حوارهما على أكثر من مستوى من مستويات الوعى، فى ضبط جرعة تأثير أيديولوجية كل منهما على الآخر؟
5) ماذا عن من يدعى – تحت زعم الموضوعية أو التعادلية – أنه ليس عنده أيديولوجيا معينة؟
6) أليس من المحتمل أن يكون الموقف “اللاإيديولوجى” هو أيديولوجيا خفية، أو أيديولوجيا عدمية، تؤثر بطرق خفية أصعب، لأنها أبعد عن التحكم والانضباط؟
7) وماذا عن تصارع الأيديولوجيات وعلاقة ذلك بالحوار العلاجى على مختلف المستويات، وخاصة بين من يملك القوة والسيطرة فى مقابل من يعانى ويضعف ويضطر للتبعية؟
الدين والأيديولوجيا والطب النفسى
الأبعاد الثلاثة لأى دين، وهى التى لابد أن تتكامل لتصف دينا بذاته هى: المعتقد والسلوك (بما فى ذلك العبادات) وحركية الإيمان، وينقلب الدين إلى أيديولوجيا محكمة حين يقتصر على المعتقد ثم السلوك دون حركية الإيمان، أى دون أن يشمل حركية الإبداع المتجدد “إليه”، ويترتب على ذلك نتيجة لعمق الجذور الدينية عبر التاريخ، وأيضا نتيجة لمساحة انتشار ما هو دين عبر العالم، أن يمثل الدين كما شاع وامتد: أيديولوجيا متينة على مستوى الشعور واللاشعور!!
حتى الإلحاد الذى يبدو أنه تخلص من وصاية الدين، هو أيديولوجيا مضادة بشكل حاسم عادة، كثير من الثقافات الأحدث حاولت أن تتجنب مواجهة الاختناق داخل أيديولوجيا الدين سابقة التجهيز، فشطبت – بقدر ما تصوَّرتْ – كل ما يتعلق بالدين من المشاهدة الكلينيكية ومن الأوراق الرسمية من قبيل أن الاحتياط الواجب!! أو “الطيب أحسن”.
على الجانب الآخر، شاعت ممارسة الطب النفسى، والعلاج النفسى، تحت عنوان دين بذاته (الطب النفسى الإسلامى، الطب النفسى المسيحى، العلاج النفسى الإسلامى..إلخ) فبدت وكأتها ترضى بالحركة داخل سياج الأيديولوجيا (الدين) التى أعلنتها وأنها بذلك أكثر صراحة لأنها على الأقل أيديولوجية معلنة مسئولة بشكل ما، وقد تجاوزت بعض هذه الممارسات شكلية الدين إلى تحريك الوعى دون التصريح بأن هذا تجاوز صريح للأيديولوجيا المعلنة.
فى ثقافتنا، وفى ممارسة فى مؤسسة خاصة عنيدة، تعمدت أن أدرج – ضد كثير من توصيات الثقافة المعاصرة – ما يسمى “التاريخ الدينى” فى بنود المشاهدة، أسوة بالتاريخ الجنسى، باعتبار أن التوجه الدينى (فالإيمانى) هو برنامج بقائى (غريزى) مثله مثل الجنس والعدوان، بدءًا بالسؤال عن التجليات السلوكية فيما هو أوامر ونواهِ دين بذاته، بل يمتد السؤال أو التساؤل عن علاقة المريض بما هو “الله” كما يصله من ثقافته ومن نفسه، وعلاقة ذلك بموقفه الشخصى الآنى (المـَـرَضـِـى أو عامة!) دون أية تفاصيل، وقد أفادت هذه المصارحة فى التخطيط العلاجى والتأهيل بطريق غير مباشر عادة.
الأيديولوجيا والسياسة:
فى معظم الدول الغربية تكاد الممارسة الطبية أن تهمل ذكر المذهب السياسى للمريض أو سؤال المريض عنه، بدرجة ليست أقل من التحفظ حول سؤاله عن دينه، والمبررات – على ما أعتقد – واحدة، وهى تصور أننا بذلك نتجنب الاقتراب من منظومات ثابتة قد تصل إلى حد التقديس، وأن نقصر جهدنا على “بقية” المريض بعيدا عن تلك المنظومات ما أمكن ذلك.
فهل هذا ممكن؟
نعم، أحيانا!.. (أو نادرا)
العلم والأيديولوجيا:
أغلب ما يسمى النشاط السائد حاليا تحت اسم “العلم” يمكن أن يندرج تحت ما يسمى: أيديولوجيا منهجية، باسم “الموضوعية”، وذلك يتجلى فى حماس وشروط المؤسسة العلمية الرسمية العاملة على إحكام إغلاق المنهج، واحتكار طرق البحث، وهو نشاط يمكن أن يندرج بسهولة تحت مفهوم الأيديولوجيا كما قدمناه الآن، وبالتالى يصبح أبعد ما يكون عن الموضوعية التى يزعمون أنها من دعائمه الأساسية، الأرجح عندى أن الأيديولوجيا المالية (وهى ليست بالضرورة مرادفة للرأسمالية) تمارِسُ برْمَجَة العلماء، ثم الأطباء لصالح المال فى المقام الأول، وهى تسهم فى إحكام السيطرة ووأد الإبداع الذى يهددها أولا بأول، فيصبح بعض العلم بذلك ليس مرادفا للمعرفة ولا هو أحد تجلياتها، يصبح أيديولوجيا تبلغ أحيانا قوة أكبر من قوة الدين كأيديولوجيا، فى حين أنها قد تخدم أغراضا أكثر اغترابا، وأخطر تعجيلا بالإنقراض.
لا ينبغى أن تـَـشجـُبَ هذه الحقائق فضل العلم والأبحاث العلمية، لكن لعلها تساعد على أن توضع نتائج العلم، وباستمرار، من جانب اصغر ممارس إلى أكبر عالم موضع الاختبار العملى، الذى يتجاوز الجداول المعاملة إحصائيا، والمعلومات المنشورة، وأرقام المعامل!!!
إن الممارسة الكلينيكية الإبداعية، تحتاج أن نتخلص من الاختناق وراء أسوار الأيديولوجية العلمية([2])، وأن تسمح بتقديم نتائجها لكل الممارسين، حتى يمكن انتقاء الأصلح من الحقائق النافعة والباقية من كوم الإضافات المحكومة بهذه الأيديولوجيا العـِلـْماَليـّة المغلقة، حتى أن هذه الأيديولوجيا اعتبرت “ضلالا”([3]) حديثا عند البعض.
هذه المهمة أولى بالقيام بها الفقراء أمثالنا الذين لا يمتلكون أدوات ولا إمكانات الأبحاث الباهظة التكلفة، فى حين أنهم قد يتمتعون بفرص أكثر رحابة فى التفكير والإبداع، ويمارسون علاقات أكثر حميمية ومرونة وإبداعاً مع مرضاهم ويصلون إلى نتائج عملية (إمبريقية) ليست أقل نفعا من نتائج المعامل المقدسة.
اللغة والأيديولوجيا:
كل لغة تحدد نوع التواصل بين من يستعملها، كما تؤثر بدرجة ما على الوجدان والمعتقدات التى تمثلها أية أيديولوجيا، حين استعملتُ لفظ الوجدان لأصف به بعدا من الأبعاد التشخيصية لم أجد لفظا بالإنجليزية يقابل استعمالى الخاص للفظ الوجدان (أنظر بعد) لذلك استعملته بحروف لاتينية مع شرح المعنى الذى أريده، WIJDAN،([4])
كذلك أنا أمارس تحريك ما هو “حزن” فى الممارسة الكلينيكية، حتى فى المقابلة الأولى مع المريض، وأحاول أن أقارنه بما هو “الزهق”، أو “الهم”، أو “الغم”، أو “النكد”،([5])، كما أننى من البداية أنبه مريضى أننى لا أسأل عن الحزن “على” أو الحزن “لأن..” (عشان) ويستجيب أغلب مرضاىَ لما أريد توصيله لهم عن “حقهم فى الحزن” كما خلقه الله، كما خلقنا الله ، لكننى حين حاولت أن أترجم هذا اللفظ (الحزن)، إلى الانجليزية بمضمونه الخاص جدا فى لغتنا العامـّية ، والعربية، لم أعثر حتى الآن على كلمة بالانجليزية تنبض بما ينبض به لفظ “حزن” بالعربية، وطبعا رفضت أن أترجمه إلى “اكتئاب” لأنه أصبح لفظا يصف عرضا مرضيا ليس له نبض ألفاظ الأسى والمرارة عندنا (لا فى الفصحى ولا العامية).
إن اللغة([6]) بقدر ما هى أداة للتواصل هى أيضا سور أيديولوجى محكم، يمكن أن تتشكل المشاعر داخله باختناق معطـِّــل لحركية النمو، كما أنها هى هى التى قد تتيح تحريكا مرنا لبسط مستويات الوعى لاحتواء الوجدان فعلا .
المال والأيديولوجيا:
لم يعد المال هو الأداة التى ترمز إلى، أو تستعمل فى، تنظيم التعاملات، فحسب، ولا هو الوسيلة الأولى أو الأساسية لتحديد الطبقات بين البشر، ولكنه أصبح معتقدا راسخا يصبغ الحياة الإنسانية كلها بمنظومة فكرية سياسية سلوكية تخدم قيماً اغترابية مالية مطلقة معلنة أوخفية، بغض النظر، عن جدوى ذلك ونفعه فى معركة التطور والبقاء، وتعلن محاولات العولمة الأخيرة لتوحيد العملة، وعولمة الاقتصاد، واحتكار الإدارة المالية عالميا، تعلن كل ذلك، وقد تحول المال إلى إله، تماما مثل تحول العلم المؤسسى إلى دين سلطوى حديث، ثم منظومة ضلالية محكمة.
إن ما ذكرناه فى فقرة العلم والأيديولوجيا ، ينطبق بشكل مباشر على هذه الفقرة فى حدود ما يخص الطب النفسى بالذات، أما فى مجال الاقتصاد والسياسة والجارى فى العالم طولا وعرضا، وهو ما يقبع وراء الحروب المبيدة والاستباقية، والتطهير العرقى، والاستعمار الظاهر والخفى مرورا بالاستعمار الاستيطانى الماحى ، كل ذلك له علاقة بهذه الأيديولوجيا التى تهدد الجنس البشرى بالانقراض، إن ما يسمى “سياسة السوق”، بقدر ما يدور حولها من نقد ومراجعة هو بصورته الحالية المتمادية، يمثل كارثة بكل معنى الكلمة، وهى كارثة لها تأثيرها فى مجالات كثيرة، أخفاها مجالات العلم والعلماء والبحث العلمى والنشر العلمى، ومن ثم على ممارسة الطب، وعلى الهدف منها، ومحكات قياسها، ومآل المرضى، بل هى مسئولة عن ما آل إليه الطب عامة والطب النفسى خاصة من سلبيات معاصرة، لقد أثـَّـرَت هذه الايديولوجيا حتى على توجه تجديد تشخيصات لأمراض معينة، ووضع مواثيق بذاتها للممارسة الطبية، مما ترتب عليه، وسوف يترتب عليه أخطر الآثار على الإبداع فى مجال الطب النفسى كمثال، وفى الأغلب على الحياة المعاصرة عامة.
إن هذه الأيديولوجيا المرتبطة بالمال الأعمى، والعلم المغلق، والمنهج الكمّى المقارن معا: هى ما يصبغ معظم ممارساتنا الطبية النفسية بشكل أو بآخر، وبالتالى هى التى تتحكم فى مدى انتشار كثير من النظريات شبه العلمية دون غيرها.
…………………
………………….
ونواصل الأسبوع القادم والتعرف على الأيديولوجيا والوعى والأسطورة الذاتية
ـــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2019) “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور“، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2] – اعتبرت الأيديولوجيا العلمية “ضلالا” عند البعض مثل روبرت شيلدراك
The Science Delusion Freeing the Spirit of Enquiry, Rupert Sheldrake, First published in Great Britain in 2012 by Coronet, An imprint of Hodder & Stoughton, An Hachette UK company.
وقد نشر الكتاب بعنوان آخر فى أمريكا هو “العلم يتحرر“ “Science Set Free” ( 4 September 2012)
[3]- لا يوجد خطأ مطبعى.
[4] – يحيى الرخاوى. (1990) آفاق وخداعات حول تصنيف وتسمية الأمراض النفسية. الجزء الأول: اختراق النظام التشخيصى السائد. المجلة العربية للطب النفسى 1: 81-92 (إفتتاحية).
– يحيى الرخاوى. (1990) “فى تصنيف الأمراض النفسية: “تعدد الأبعاد وجها لوجه أمام تعدد المحاور”. إفتتاحية المجلة العربية للطب النفسى.
[5] – وبديهى أنه ليس “الدبرشـَنْ” ولا هبوط “المودْ”.
[6]- يمكنك الرجوع إلى: “مخاطر الترجمة بين تسطيح الوعى واختزال المعرفة” قضايا فكرية الكتاب السابع والثامن عشر – مايو 1997 فى موقعى، وإلى أرجوزة كتبتها للأطفال أدافع عن “الحق فى الحزن” قلت فيها:
حزنى مش زن وشحاته وصُـعْـبَانِـيَّـهْ,.. حزنى حقى لمّا تغمرنى الأسيــّـة
حزنى بيفجــّر مشاعري: إللى هيـَّـا
هما شايفين أنى لازم أبقى دائم الابتسام!….، يبقى كده أنا فى السليم كله تمام
كل ما أضحك أبقى أشطر؟!!
طب وأنا بالشكل ده ازاى راح أكبر..؟؟