الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات من سلسلة “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الأول: “النظرية والفروض الأساسية” (22)

مقتطفات من سلسلة “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الأول: “النظرية والفروض الأساسية” (22)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 6-2-2022

السنة الخامسة عشر

العدد:  5272

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)

الكتاب الأول: “النظرية والفروض الأساسية” (22)  

مقدمة:

نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل السابع، كما أوصى بالبدء بقراءة نشرة أمس.

                      يحيى

الفصل السابع

جدل مستويات الوعى “التناص” Inter-textuality  (5)

……………

…………….

ولم يتوقف النقد الأدبى المعاصر عند حدود وصف ماهية المصطلح بل تمادى فى اعتبار النص خطوة جوهرية فى تأسيس عملية تحويل التناص إلى طريقة ومنهج إجرائى له أدوات ووسائل تحليلية تساعد “الناقد أو القارئ المتخصص” فى كشف البنية التحتية للنصوص وتعرية دواخلها حيث يقوم بعدة عمليات إجرائية مختلفة بينها الاستدعاء القصدى واللاقصدى أو التوافقى والامتصاص الاسفنجى الموظف، والتداخل والتحويل.

تعقيب:

توقفت فرِحا لفترة ليست قصيرة أمام تعبير “الامتصاص الأسفنجى” مع احترامى وقبولى لكل العمليات الإجرائية الأخرى المذكورة، دون التهوين من بعضها والإعلاء من آخرى، برغم ما خطر لى من أن الاستدعاء القصدى هو أقل هذه المناهج فاعلية فى عملية التناصّ مقارنة بالاستدعاء اللاقصدى، ناهيك عن “الحضور” اللاقصرى دون استدعاء.

رجعت استرجع ما يحدث فى العلاج الجمعى تحديدا حين يتراوح انتباه أحد المرضى (أو المتدربين) زيادة ونقصا أثناء الخمس والثمانين دقيقة المحددة للجلسة الواحدة، وإذا بنا ونحن نلتقط خفوت انتباهه ثم نعاود “نَكـْشَهْ” إذا بنا نكتشف أنه “كان معنا” بدرجة لم نتوقعها، وحين قرأت الآن تعبير “الامتصاص الأسفنجى” فرحت كما ذكرت حالا لأنه لم يكن يخطر على بالى أن تسعفنى اللغة حتى أرصد ما يحدث بهذه الدقة، وبصراحة تساءلت:

 إذا كانت فرصة العلاج الجمعى قد أتاحت لى ولمن أراد مثلى أن يعايش عيانا بيانا مثل هذا “الامتصاص الأسفنجى” فأية مهارة وأى إبداع نقدى يمكن أن يتيح  الفرصة لناقد مهما بلغت درجة إبداعه النقدى أن يرصد مثل هذا الامتصاص الأسفنجى، علما بأن عليه أن يرصد هذا الامتصاص الذى جرى بين نص أو نصوص أسبق وبين النص الأحدث الحالى، هذا ما ينبغى أن نحترمه أبلغ الاحترام، وأن نواصل ونحن ننسج على منواله فروضنا ومقارنات قد تعيننا فى موقفنا العلاجى، كما قد تتيح لنا وصفا أدق وعلما أرصن، ونحن نعايش هذا “الامتصاص الأسفنجى” بين مستويات وعينا معا بهذه المباشرة، حين تتاح لنا فرصة تقييم ما نفعل بنتائج مسيرة العلاج أولا بأول دون اختزال أو استعجال!!

ثم يقول نقاد الأدب:

“إن التناص مفتاح لقراءة النص، لفهمه، لتحليله، لتفكيكه، وإعادة تركيبه لمعرفة كيف تم انتاج الخطاب، حيث يؤكد على ضرورة استخراج المصادر اللاواعية للنص، لأنها ستمكن الناقد من ربط سياق النص الذى هو موضوع التحليل بسياق الثقافة التى تَشَكَّلَ النص فى إطارها”.

تعقيب:

…أتوقف هنا أمام تعبير استخدام “المصادر اللاواعية” خشية أن يتصور أطباء النفس والمحللين النفسيين بل وغالبا عامة الناس أن المقصود هو اللاوعى الفرويدى بمحتواه التذكّرى أو حتى المتداعى، ذلك أن الباحث يكمل قائلا: “لأنها ستمكن الناقد من ربط سياق النص …. بسياق الثقافة التى تَشَكَّل النص فى إطارها“، وشتان بين هذا التعبير وبين اختزال ما نحصل عليه من محتوى اللاوعى أو مخزون الذكريات لنفسر به -وبسببية خطـِّــية عادة- ما جدّ على النص البشرى فأمْرَضَهٌ، إن تعبير “سياق الثقافة التى تشكل النص البشرى فى إطارها” يمكن أن نستلهم منه أن العلاج الذى يزعم أنه يقوم بنقد النص البشرى عليه أن يستوعب “سياق الثقافة التى تشكل النص فى إطارها” أو على الأقل أن يهتم بسياق هذه الثقافة بنفس القدر و أكثر من اهتمامه بمحتوى المحكى من ذكريات وتصورات عن أحداث اللاشعور (كما يتصورها المحلل النفسى أو المريض أو كلاهما)  بأقل تركيز على علاقتها بسياق الثقافة التى جرت فيها.

ومن بين المعلومات الرائعة والقوانين التى وصلتنى من دراسات التناص فى النقد الأدبى ما قام به نقاد التناص بالإشارة إلى ثلاث قوانين هى :

 (1) “الاجترار”: وهو عملية إعادة كتابة النص الغائب بوعى سكونى وتمجيد بعض المظاهر الشكلية:

 (2) “الامتصاص”: وهو عملية إعادة كتابة النص الغائب وفق حاضر النص الجديد ليصبح استمرارا له متعاملا معه بمستوى حركى وتحولى.

(3) “الحوار”: وهو عملية تغيير النص الغائب ونفى قدسيَّته فى العمليات السابقة.

تعقيب:

ألهمنى هذا الرأى أن أرى ما يجرى فى العلاج الجمعى قياسا على هذه القوانين، بدءًا أن أخذ المعالج ممثلا للنص المقابل لنص أحد المرضى، وذلك باعتبار أن المعالج هو النص البشرى الأساسى، علما بأن ما يسرى عليه يمكن أن يسرى على أى من المشاركين في العلاج الذى يشمل أكثر من الاثنين، ثم إنه يسرى على علاقة أى نص من الحاضرين بالنص الجماعى الذى يتكون داخل المجموعة، ونسميه عادة “الوعى الجمعى”

* أما عن”الاجترار” فإن ما يجرى فى العلاج الجمعى قد يستقبله أحد المرضى على مستوى سطحى فلا يصله من حركية “الوعى معا” إلا ألفاظ حكمةِ المعالج أو ألمعية زميل مريض جاهز التعقيب، فيلتقط ألفاظه وأسلوبه أكثر من معايشته التداخل بين وعيه ووعى المعالج أو الزميل “الألمعى”، ويروح يرددها (يجترها) دون عمق، بل وقد يتمادى حتى يستعملها خارج نطاق جلسات العلاج الجمعى (أو الوسط) مما قد يجعله عرضه للسخرية حتى من المجموعة وقد وصل الأمر بنا أن رصدنا هذه المضاعفة فرحنا نسخر ممن يتورط فيها ونصفه بأنه أصبح “جروبيّا”: (جروبّي: بمعنى أنه انتمى إلى فئة خاصة – وهى المجموعة – لها طقوسها الخاصة ولغتها الخاصة لكن من الظاهر فقط).

* أما القانون  الثانى وهو “الامتصاص” فهو الأقرب إلى ما فرحت له وأنا أعــْـلـِن استقبالى لتعبير “الامتصاص الأسفنجى”، فهو  وصف يكاد يتطابق مع تسحُّب تأثير وعى (نص) على وعى آخر (نص آخر) من خلال الامتصاص (الإسفنجى خاصة) الذى ينفى التأويل والتفسير بالإيحاء أو الإقناع أو التقليد أو كل ذلك، وقد لاحظنا مثل ذلك فى العلاج الجمعى – مع عجزنا عن تسميته- حين يتحرك الوعى وينشط فى لقاء مع النص المقابل، وهو حاضر هنا والآن – وليس غائبا وماضيا كما فى النص الأدبى- وبالتالى لا ينتج عن الامتصاص الإسفنجى هنا إعادة كتابة نص غائب، وإنما تخليق نص جديد – وعى نامٍ احدث – عند الطرفين.

* القانون الثالث الذى اسماه الناقد”الحوار” لاحظناه أيضا فى العلاج الجمعى ورجحنا له دور سلبى حين تنقلب المسألة إلى تراشق بالآراء، واثـْـبـِـتْ لِى واثْبتْ لَكٌ”، و”عشان”، و”أصل” و”ماهو يعنى “، و”بما إن”، و”لأن” وهذا ما نسميه أحيانا فى العلاج الجمعى نشاط “المَكْلَمَةْ (2)، أو “تدريبات عضلة العقل المعقلن فى المحل“،  بديلا عن مشاركة الوعى مع الوعى بالجدل والإبداع معا دخولا وخروجا : تخليقا متجددا طول الوقت.

 وأخيرا، يـَـرِد فى نفس المقام:

“التناص هو الوقوع فى حال تجعل المبدع يقيس أو يضّمن ألفاظا وأفكارا كان التهمها فى وقت سابق دون وعى صريح بهذا الأخد المتسلط عليه من مجامع ذاكرته ومتاهات وعيه…..

 ويضيف باحث آخر أن النتيجة هى أن النص الغائب: يُمتص ويتحول ويذوب ولا يعود له إلا وجود إيحائى، فإذا زاد وجوده عن ذلك خرج عن حدود التناص والإبداع إلى حدود التأثر والمحاكاة.

تعقيب عام:

فإذا انتقلنا إلى القياس بما يحدث فى العلاج الجمعى (و علاج الوسط) وجدنا أن الذى يحدث هو “أقرب” و”أوضح” بل أكاد أقول أجهز لو عرفنا الطريق إليه ، وذلك لأنه لا يوجد فى العلاج نص غائب – كما ذكرنا – وإنما نص حاضر: آخر مع آخر “معا” و “هنا والآن” وعلى ذلك فلا يوجد مَنْ يأخذ ويقتبس من نص آخر، دون أن يأخذ هذا النص الآخر منه ما تحرك به وما تحرك فيه، مهما تباينت نسبة الأخذ والاقتباس.

 لكن المهم بعد، ومع، هذه الفرص المتاحة “الآن” هو أن ما يؤخذ على الجانبين “يُمتص” و”يتحول” و”يذوب”: فهو الإبداع المتبادل معا!!!.

وبعد

هل نواصل التعلم من منظومة النقد الأدبى ونواصل استعارة بعض أبجديتها  لعلها تعيننا على وصف ما نفعل، ربما تساعد فى نقله للآخرين؟

ليس عندى أمل كبير أن ما قدمته حالا كما وصلنى يمكن أن يصل ولو إلى خمسة أو عشرة ممن يمارسون العلاج الجمعى أو علاج الوسط بمجرد قراءة الكلمات برغم ما فيها من دهشة وانبهار، لعلهم يفيدوننى إن كانت الأبجدية النقدية الأدبية التى استعرناها من النقد الأدبى، قد أوضحت العلاج  كما نمارسه من منطلق “نقد النص البشرى” الذى هو الواجهة العملية الحالية لتقديم “الطبنفسى الإيقاعحيوى”، ومع ذلك دعونا نتابع دراسات النقد الأدبى عن “التناص” فى محاولة القياس عليها لعلنا نستطيع أن نتعرف على طبيعة وخطوات ما نفعله فعلا بما يفسر ما نلقاه من نتائج نوعية متميزة خاصة فى كل من العلاج الجمعى وعلاج الوسط.

ابتداءً: أتمنى أن يكون مقبولا كيف يكون هذا الكائن الإنسان العاقل (الهوموسابينس) مجرد نصّ  له كل مواصفات النص الأدبى ولكن بأرقى ما يمكن أن يتصف بها نص كائن حى، حيث أن مبدعه هو بديع السماوات والأرض، قبل أن يتشوه، وذلك عبر ملايين بل بلايين السنين من التطور بما يترتب على هذه التذكرة من محاذير.

…………….

…………….

(ونكمل الأسبوع القادم)

 

[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022) (تحت الطبع)

[2] – هذه الكلمة : “المـّكْـلـَمهْ” ، صكّها صلاح جاهين لتعنى المناقشات اللفظية لقتل الوقت، والتباهى بالشطارة المناقشاتية، أكثر من دورها فى حمل معنى أو الوصول إلى هدف

 

 

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *