الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (30) الفصل الثامن: الأبعاد وفن حركية التصنيف

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (30) الفصل الثامن: الأبعاد وفن حركية التصنيف

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 19-6-2022

السنة الخامسة عشر

العدد: 5405

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”([1])

الكتاب الثانى: المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (30)

استهلال:

نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة أمس قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الثامن.

          يحيى

الفصل الثامن

“الأبعاد” وفن حركية التصنيف

     إلى أصحاب الوعى الفائق:

البنات والأبناء والإخوة والأخوات (أصحاب الفضل)

رجاء واعتذار:

يمكنك ألا تقرأ  هذا الفصل أصلاً، فهو خاص، كـُتب فى ظروف خاصة: للخاصة، وقراءته على مسئوليتهم.

 الأبعاد:

تطور ارتباطى بالفكر التطورى منذ انبهارى بهوجلج‏  جاكسون([2]) طبيب الأعصاب، ثم بـ”هنرى إى”([3]) رائد سيكولوجية الوعى: حتى انتهى بى الأمر إلى البدء بتقسيم الأمراض إلى قسمين رئيسيين بعد استبعاد الزُّملة العضوية البحتة، كان الدافع إلى ذلك هو الاختلاف الجذرى في علاجهما ومسارهما والتكهن بمآلهما وقد قسمتُ الاضطرابات النفسية على هذا الأساس إلى: ‏الاضطرابات‏ ‏النشطة‏ ‏بيولوجيا‏ Biologically active disorders في مقابل ‏الاضطرابات‏ ‏المستتبه (الراسخة) Established disorders و‏قد بدا لى‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التقسيم‏ هو ‏أكثر‏ ‏ارتباطا‏ ‏بحقيقة تأكدتْ لى مؤخرا انطلاقا من ‏ ‏اعتبار أن‏ ‏المخ‏ ‏عضو‏ ‏نابض أساسا‏- ثم تمادت الاجتهادات بمحاولة الإفادة من ذلك فى ‏التطبيق‏ ‏العملى ‏المباشر، وافـْتـَقـَدْتُ وسيلة دعم هذه الحقيقة عمليا بأساليب البحث التقليدية‏، مع أن هذا ‏التقسيم أصبح‏ بالنسبة لى ‏شديد‏ ‏الأهمية‏، ربما لأنه شديد الإرتباط بالنظرية التى كانت تنمو معى من الممارسات التى ترتبط بها، سواء ‏بالنسبة‏ ‏للعقاقير‏ ‏التى ‏تعطى، ‏أو العلاج‏ ‏النفسى ‏المناسب‏، أ‏و مدى ‏المسئولية‏، ‏وطبيعة‏ ‏المسار، لكن ظلت صعوبة انتقاء العقاقير وتغييرها في الوقت المناسب قائمة مع مواصلة الاتجاه لتخفيفها، وكذلك ازدادت الحيرة فى تحديد “العامل العلاجى“‏ الأساسى طول الوقت احتراما لتضفر أكثر من عامل فى نفس الوقت([4]).‏

ولابد‏ ‏أن‏ ‏نعترف‏ ‏أنه‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يؤثر‏ ‏تشخيصٌ‏ ‏مَا‏ ‏على‏ ‏خطوات العلاج وطبيعته‏ ‏فإنه يصبح وصفا خاملا أكثر منه مفتاحاً علاجيا‏، ‏ومثال‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏تشخيص‏ ‏الفصام‏ ‏البارنوى‏، ‏وبين‏ “‏الفصام‏ ‏المزمن‏ ‏غير‏ ‏المتميز”‏ ‏ليس‏ ‏له أثر مباشر على الموقف العلاجى‏‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏الفصام‏ ‏البيولوجى ‏النشط‏ ‏والفصام‏ ‏المستبب‏، ‏هو‏ ‏فرق‏ ‏فى ‏الموقف‏ ‏والمفهوم وكفاءة القدرات العقلية‏ ‏وخطة‏ ‏العلاج ‏ و‏مسار‏ ‏المرض‏ والتكهن بالمآل.

أما عن تعريف ‏الأمراض‏ “‏النشطة‏ ‏بيولوجيا‏” فهو المفهوم المحدد المتعلق بماهية ‏ ‏الإنسان قيد الفحص: انطلاقا من الفرض الذى يقول:

‏ ‏إن‏ ‏التوازن‏ ‏البيولوجى ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏استمرار‏ ‏الحياة الطبيعية:‏ ‏ينشط‏ ‏دوريا‏،ويتبادل‏ ‏نشاطه‏ ‏هذا‏ ‏مع‏ ‏كمون‏ ‏نسبى إيجابى: بإيقاع منتظم، ‏ونحن‏ ‏إنما‏ ‏نعنى ‏بهذه‏ ‏الصفة،‏ “الأمراض: النشطة‏ ‏بيولوجيا‏”: ما يشمل ‏الأمراض‏ ‏التى ‏تظهر‏ ‏مصاحبة‏ ‏بفرط هذا‏ ‏النشاط‏، أو‏ ‏كأحد‏ ‏المصاحبات‏ ‏لهذا‏ ‏النشاط‏ ‏الدورى وقد ‏أثير‏ ‏فى ‏تشكيلات‏ ‏غير‏ ‏مناسبة‏ ‏أو‏ ‏‏توقيت‏ ‏غير‏ ‏ملائم، أو بقدر غير مطلوب، أو كل ذلك: فكان المرض‏.‏

أما الأمراض المستقرة التي همدت بعد هذا النشاط سواء نتيجة للإزمان أو لفرط التثبيط بالمهدئات الجسيمة (النيورلبتيات أو ما يعادلها) فهى التي تفتقد إلى كل هذا التنشيط والحركة الدورية، فهى ما نطلق عليها الأمراض المستتبة Established

‏ومع تطور  الفرض انتبهت إلى أنه يمكن ‏تقسيم‏ ‏كل‏ ‏زملة‏ ‏تقريبا‏ ‏تبعا‏ ‏لهذا‏ ‏المنظور‏ ‏المؤثر‏ ‏مباشرة‏ ‏فى ‏نوع‏ ‏المرض‏ ‏ومساره‏ ومآله، ‏وتخطيط‏ ‏العلاج‏، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏علاج‏ ‏يمكن أن يتأثر بتحديد ‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏أساسا‏، ‏وأحيانا‏ “‏تماما‏”، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏من‏ ‏الاكتئاب‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏نشط‏ ‏بيولوجيا‏ ‏ومنه‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏مستتب‏، ‏ومن‏ ‏الفصام‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏نشط‏ ‏بيولوجيا‏ ‏ومنه‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏مستتب‏، ‏وهكذا‏ ‏وهكذا‏، وتختلف “النفسمراضية” (السيكوباثولوجيا) ومن ثـَمَّ التخطيط العلاجى تبعا لتحديد مستويات النشاط فى تركيبات الأمخاخ  أو حالات الذات، وعلاقتها ببعضها البعض.

‏ونحن‏ ‏لا‏ ‏نملك‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏من‏ ‏تطور‏ ‏هذا‏ ‏الفرض إلا‏ ‏أن‏ ‏نعتمد‏ ‏على دور ‏الفاحص‏، ‏وطول‏ ‏خبرته‏، ‏ونوعها‏، ‏ومدى ‏تطوره‏..، ‏ليكن هذا هو السبيل الفنى الذى‏ ‏يسمح‏ بالاعتراف‏ ‏بهذا‏ ‏التناول الذى ‏يتطلب‏ ‏مسئولية‏ ‏تدريب‏ ‏وشحذ‏ ‏القدرات‏ ‏الكلينيكية الفنية للممارسين‏ ‏بشكل‏ ‏مضاعف‏ ‏ومتصل‏ ‏باستمرار‏.‏

فى نفس الاتجاه، ومن واقع الممارسة فى ثقافتنا الخاصة التى سمحت لنا باستلهام الثقافة العربية عامة والثقافة المصرية خاصة وبعض ثقافة جنوب شرق آسيا أيضا، قمت بمحاولة الإسهام فى هذا التوجه فوضعت فروضا تكميلْية لما أسميته “أبعادا” Dimensions،  وقد تأكدتُ وأنا أرتب هذه الأبعاد أن ماهو “بُـعْـد” يختلف نوعيا عن ما يسمى “محورا” axis، (كما جاء فى أكثر من دليل وطنى وعالمى لتنصنيف الأمراض النفسية) كما تبينت أن هذه الأبعاد التى عايشتها وتعاملت معها فى الممارسة الكلينيكية سواء على مستوى التشخيص أو على مستوى العلاج، وخاصة فى العلاج الجمعى وعلاج الوسط: أنها مرتبطة باستمرار بكل من الخطة العلاجية بما فى ذلك الاستعمال الانتقائى المتغيِّـر للعقاقير  حسب فروض مستوى عملها على مختلف الأمخاخ: المخ الأقدم أو الأحدث.. فالأحدث..الخ، ثم تغيير العقاقير تبعا لتطور الحالة ثم النظر في تطور مراحل تشكيلات الأمخاخ وعلاقتها ببعضها البعض مع كل علاج، على مسار التفاعل مع الحالة.

دعونى أبدأ بالتنبيه أن البعد: هو إضافة للتشخيص وليس بديلا عنه، ولا هو جزء منه وأيضا أنه ليست كل الأبعاد صالحة للتطبيق فى كل الحالات والأحوال لمختلف التشخيصات، ولا داعى لإقحامها إقحاما إلا لما تصلح له.

الأبعاد محاولة لتحسين دقة وجدوى التشخيص

 بمراجعة ما سبق ذكره عن التشخيص وقصوره عن الإسهام فى مصداقية Validity ما يعنى برغم كفاءته فى توفير ثبات الاتفاقية  Reliability بين مختلف الفاحصين، نعود فنؤكد ضرورته وفوائده، وقد حاولتْ دلائل التشخيص الوطنية والعالمية أن تُحسـِّن من قدرة التشخيص في ذاته بقدر المستطاع لكن ظل القصور قائما، والحاجة إلى تطوير هذا الموقف مـُـلحّة بشكل أو بآخر.

من هذا المنطلق، انتبهت إلى أن ‏المشكلة‏ ‏يمكن  الإسهام فى حلها بتحديد ‏مواصفات لاحقة بعد كل تشخيص تقليدى بشكل يكمـّل النقص ويحسـّن الموقف ولو أنه يزيده غموضا وصعوبة، وحين رجعت إلى المحاور Axes التي أضافتها بعض دلائل التشخيص السابقة والمتاحة: القومية والعالمية من دول أسبق تقدما: وجدت أنها مفيدة وهامة لكنها لا تشمل غالبا ما يتعلق بحركية الإيقاع الحيوى وملامح التطور التى تلتزم بها هذه المحاولة المطروحة حاليا والتي استدعت إضافة ما أسميناه “أبعادا”.

توصيات تطبيقية لاستعمال الأبعاد بصفة عامة:

1- يحتاج كل بُعد بطبيعة الحال إلى مزيد من التفصيل والتحديد والوصف من أجل تطبيقه بشكل صحيح. ذلك لأن صلاحية وفائدة ودرجة التوافق المحتمل باستخدام مثل هذا النهج، تحتاج إلى جهد عدد من العاملين المدربين فى الممارسة الكلينيكية المسئولة، وكثيرا ما تطول المناقشة بين الفاحصين إذا تعددوا.

2- يتم تحديد اختيار البعد المناسب من خلال مجموع الصورة التشكيلية الكلينيكية بما في ذلك تحديد التكهن يسير المرض Prognosis والتخطيط للعلاج، ثم التعرف على حركية الجدل وأبعاد التناصّ Intertexuality([5]) الآنى (بين الطبيب والمريض) والتاريخى. ما أمكن ذلك، حتى تقييم المسئولية، ومحاولة قراءة  غائية المرض ومعنى وطبيعة أعراضه..إلخ.

وتحديد هذه الأبعاد يحتاج إلى خبرة خاصة وتدريب طويل، فهى خبرة فنية متميزة، جنبا إلى جنب مع الرحابة العلمية، والموقف النقدى مفتوح النهائية.

  ………………..

………………..

 (ونواصل الأسبوع القادم شرح هذه الأبعد كلها وكيفية الاستفادة منها)

_____________

[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.

[2] – ‏ولد‏ ‏جون‏ ‏هوجلج‏ ‏جاكسون‏ ‏فى 4 ‏أبريل ‏1835 ‏وتوفى ‏فى 7 ‏أكتوبر‏ 1911 ‏وهو‏ ‏إنجليزى‏. ‏عمل‏ ‏كطبيب‏ ‏بالمستشفى ‏الوطنى ‏للمشلولين‏ ‏ومرضى ‏الصرع‏ ‏بلندن‏، ‏وهو‏ ‏رائد‏ ‏فى ‏علم‏ ‏الأمراض‏ ‏العصبيه‏ ‏بسبب‏ ‏دراساته‏ ‏فى ‏الصرع‏ ‏واضطرابات‏ ‏الكلام‏ ‏والأمراض‏ ‏العصبيه‏ ‏الناتجة‏ ‏عن‏ ‏خلل‏ ‏فى ‏المخ‏ ‏أو‏ ‏النخاع‏ ‏الشوكي‏، ‏ومن‏ ‏أهم‏ ‏أعماله‏ ‏أنه‏ ‏أكتشف‏ ‏فى ‏سنة‏ 1863 ‏النوبات‏ ‏الصرعية‏ ‏التى ‏عرفت‏ ‏باسمه‏ ‏فيما‏ ‏بعد (نوبات جاكسون) Jacksonian Fits.

[3] – ولد هنرى إى سنة 1900، بفرنسا، طبيب أعصاب وطبيب نفسي ومحلل نفسي وفيلسوف فرنسي، وقد قام بتطوير “علم النفس العضوي الدينامي” وله نظرية لبنية حالات الوعي ، حيث طور أفكار بيير جانيت وجون هوجلج جاكسون، تحت عنوان علم النفس العضوي الدينامي، وتوفى 1977.- يسرية أمين، هنرى إى والمرض النفىسى والتطور، مجلة الإنسان والتطور الفصلية، عدد ابريل 1981.

[4] – يحيى الرخاوى “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور”(2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.  

[5] – يحيى الرخاوى: “حيرة طبيب نفسى” (ملحق الكتاب: مستويات الصحة النفسية)، دار الغد للثقافة 1972 (ص184/185)

– يحيى الرخاوى، الطب النفسى: بين الأيدلوجيا والتطور، الفصل السابع: المدارس النفسية والنماذج العلاجية، ص 123، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2019

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *