نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 15-5-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5370
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” [1]
الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (20)
استهلال:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة أمس قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الرابع.
يحيى
الفصل الرابع
التركيب الأسرى والطفولة الباكرة (5)
……………..
……………..
ما آل إليه حال “ما هو مدرسة”!!
أبدأ برجاء أن يتحمل القلم والأصدقاء ما أقدمه وأنا أعرج إلى ما آلت إليه حال المدرسة (على الأقل فى مصر!! وقد بلغنى مثله للأسف فى بلدان عربية عزيزة أيضا) ولا حول ولا قوة إلا بالله. أخشى أن تستدرجنى هذه الحقيقة المُـرَّة إلى الإفاضة فى شرح أبعاد هذه المحنة كما وصلتنى وأتصورها، فنجد أنفسنا فى مواجهة أزمة من أكبر الأزمات القومية قد تتحدى الحل، وقد لا نرى آثارها السلبية (مثلما نرى الأزمة الاقتصادية مثلا) إلا بعد عشرات السنين، وحينئذ – لا قدر الله – قد يكون الأوان قد فات فامتنــَـع الإنقاذ، وسوف أحاول أن أذكّر نفسى، وأن أضبط حركة قلمى حتى لا يبتعد ما أمكن ذلك عن موضوعنا الأصلى ، وذلك على الرغم من يقينى باستحالة ذلك.
دعونا الأن نتمهل عند مرحلة ما قبل المدرسة، ونعتبرها ضمن الطفولة الأولى لتكون مرحلة المدرسة هى بدءا من المرحلة الابتدائية.
ثالثاً: المدرسة
المتن: (1)
يـُـعتبر الذهاب إلى المدرسة صدمة من حيث المبدأ، ويـُسأل الوالدان فى ذلك: عن كيف أعدّا طفلهما لهذه الخطوة، وماذا كان تصرفه فى اليوم الأَول، وهل كانت هناك فرصة للتعبير عن رفضه أو كراهيته لهذا الالتزام الجديد؟ أم أنه فوجئ بهذا الإجراء الغامض؟ وكيف كان أداؤه من البداية، ثم كيف كان أداؤه بعد ذلك، ودرجاته؟ وتقديراته؟ ومدى حدّة المنافسة الدراسية، وطبيعتها، وماذا كانت هواياته المدرسية، ونشاطاته الرياضية، وعلاقاته بزملاء الدراسة؟ وبالمدرسين؟ وبالنشاطات المدرسية خارج المدرسة مثل الرحلات ونوادى المدرسة، إن وجدت؟.
التحديث:
برغم أن الذهاب للمدرسة أصبح إجباريا، وفى حدود علمى يعاقبُ القانون الأهل الذين يحرمون صغارهم من الذهاب إلى المدرسة، إلا أنه يبدو أن هذا القانَون لم يعد له لزوم أصلا [2] ، وهو لا ينفذ تقريبا، وقد أصبح الذهاب إلى المدرسة بالنسبة للطبقات الأدنى جدا، اختيارا فائضا إما لإبعاد الصغار حتى لا يشغلوا أهل البيت عن أعمالهم الأخرى، أو للتخلص من ضوضائهم (دوشتهم) أو للحصول على وجبة مجانبة، لا يجدون مثلها بالمنزل، أما فى الطبقة الأدنى فقط (بدون جدا) فقد أصبح الذهاب للمدرسة فى سن السادسة أو ما قبلها تقليدا اجتماعيا يكاد يخلو من قيم التعليم فضلا عن قيم النمو والتربية.
هذا بالنسبة للمرحلة الابتدائية (ست سنوات) التى سيخرج منها الطفل وهو على وشك البلوغ (12 سنة) وهو عادة لا يعرف القراءة والكتابة وربما يعرف كيف “يرسم” اسمه بالكاد، فماذا كان يفعل طوال تلك السنين؟؟، وقد يكون من طبقة قادرة بشكل أكبر قليلا فيـُستعان بالدروس الخصوصية (و”المراكز”، أنظر بعد) التى أصبحت وظيفتها أن تضمن للطالب النجاح بغض النظر عن أدائه أو مستواه، كما تضمن للمدرسين تحسين أحوالهم المادية بالجهود الذاتية!!، ثم بدءًا من المرحلة الإعدادية تزداد المصيبة تفاقما لأن أغلبية المدارس (لا أعرف نسبة محددة إحصائيا، لكن على حسب ما يصل إلىّ فى عيادتى وممن حولى) تغلق المدارس أبوابها دون التلاميذ حتى أنهم غالبا ما يؤمرون بالانصراف إلى بيوتهم ومنها إلى “المراكز” الخاصة (الدروس الخصوصية) إن أسعدهم حظهم وقدرة أهاليهم المادية.
كما ألمحنا سابقا يمكن أن تكون المدرسة قد أصبحت بغير معنى بالنسبة للفحص الكلينيكى للمريض الذى نهدف من دراسة أحواله فى هذه المرحلة إلى التعرف على ما وصل للطفل من ثقافة أهله ومجتمع مدرسته فى هذه السن، حيث أن المدرسة لم تَعــــُدْ مجتمعا أصلا، ومدرسة بلا “فسحة كبيرة” مليئة بالنشاط، وبلا حوش متسع مرحـِّب بالألعاب، وبلا جماعات واجتماعات متكاملة، جنبا إلى جنب مع دروس الفصول والتلقين إن وجدوا أصلا، ليست مدرسة ولا يسرى عليها كلمة “مجتمع” يقضى فيه الطفل طفولته فمراهقته فى مستهل عمره ، كل هذا لم يعد له وجود أصلا غالبا.
لا يعود خطر نتائج اختفاء “مؤسسة” المدرسة بهذه الصورة فقط إلى الافتقار إلى التعليم والتربية وزرع القيم وتوجيه الثقافة، وإنما ثمة خطورة أكبر حين تـُـملأ هذه الفترة من العمر، بالفراغ، وغياب المعالم الجامعة لمدة ست سنوات هى من أهم سنوات عمره حالة كونه “يتكوّن”. لا أحد يعرف تحديدا وبمسئولية كافية بماذا يملأ جيل بأكمله يبلغ الملايين وعيه طوال هذه السنوات.
المتن: (2)
ويمكن الاعتماد – بشكل ما – على تاريخ التحصيل الدراسى كمؤشر لمستوى الذكاء، وإن كانت المطابقة لم تعد دقيقة أو كافية، لابد من التأكد من مصداقية درجات الدراسة وأن المجاملة أو التوصيات أو الغش لم تتدخل بدرجة جسيمة أو منتظمة، ولهذا فقد يكون مناسبا فى هذا الصدد الاعتماد على تقديرات الشهادات العامة أكثر من درجات سنوات النقل، وإن كان الشك قد لحق – أيضاَ – ببعض مصداقية تقديرات هذه الشهادات العامة.
التحديث:
لعل ما كتب فى هذا الشأن، ونحن نحث الطبيب (الفاحص) فى المقابلة الكلينيكية على التأكد من مصداقية درجات النقل والنجاح يقودنا إلى التعرف على درجة المجاملة والتوصيات التى قد لحقت أيضا بامتحانات الشهادات العامة، إذا كان الأمر كذلك منذ ثلاثين عاما ، فإلى أين وصل الآن؟؟
إننى أخجل من أن أذكر – فى حدود علمى – ما وصل إليه الحال ليس فقط من غياب القيم الإيجابية الأخلاقية والدينية والاجتماعية، هذا بالإضافة إلى زرع قيم سلبية زرعا فى وعى جيل يتكون، حتى كاد هذا الجيل أن يعتبر أن تلك القيم السلبية هى الأسلوب الأنجح لحياة عملية، باعتبار أن ما تعلـّمه هكذا، وباكراً، هو السبيل العملى السائد اللازم لمواصلة العيش بأى قدر من النجاح الذى كاد أن يصبح مرادفا للشطارة اللاأخلاقية.
هذا، وقد بلغتنى هذه الظاهرة بعد كتابة هذا المتن الباكر، وكتبت عنها [3] أرصد ما لاحظته آنذاك فى معظم الصحف ووسائل الاعلام الآخرى حتى أصبح هو القاعدة، حتى أننى الآن فى ممارستى الخاصة، لم أعد أسال عن حالة المريض المدرسية فى سنوات النقل أصلا لأننى أكاد أعرف الإجابات المؤلمة المكررة، وبالنسبة لاجتياز الشهادات العامة “الإعدادية” و”الثانوية العامة” و”الثانوية الفنية بتنويعاتها المهنية الحرفية” اصبحتُ ألحق سؤالى العام عن اجتياز هذه الشهادات، وعموما: بسؤال تفسيرى لاحق، وهو عن وسيلة الحصول على تلك الشهادة: “بغش؟ ولاّ من غير غش؟؟”، فتأتينى الإجابات فى حوالى ما هو أكثر من 70% على الوجه التالى:
-
-
-
-
زى ما حضرتك عارف! بالغش طبعا..!!
-
زيـِّى زى غيرى…! طبعا … بالغش..!
-
-
-
ثم إنه أخيرا وصلتنى إجابة جديدة من طالب فى جامعة الأزهر، سألته أسئلتى الروتينية عن اجتيازه الثانوية الأزهرية التى أهــَّلته لدخول الجامعة، وكان والده (الموجـِّه بنفس التعليم) يجلس بجواره، فأجابنى الطالب بهدوء باسِم على سؤالى: “بالغش ولاّ من غير غش“، أجابنى: “بالغش إن شاء الله”!! وحين التفتُّ إلى والده المعمـَّـمْ وجدتُ ابتسامة عريضة راضية تملأ وجهه، وهو فرِحٌ بابنه!! أى والله.
المتن: (3)
وفى مصر، وبعض البلاد العربية، كان الفشل الدراسى المفاجئ لشخص كان متفوقا طول دراسته، من العلامات المنذرة التى تدعو للبحث عن احتمال بداية مرض بسيط أو خطير، وقد بدأ الاهتمام فى مصر بهذه الملاحظة بالنسبة لطلبة الثانوية العامة بشكل خاص. لكن يبدو أن الأمر اختلف.
التحديث:
كانت هذه العلامة ومازالت علامة هامة فى تاريخ الشباب ومسارهم الدراسى، لكن بعد أن اختلطت الأوراق أصبحت أقل أهمية، حيث تفاقمت هذه المشكلة المسماة “أزمة الثانوية العامة”، وساهمت وسائل الإعلام فى ذلك من منطلقات سطحية دعائية غير مسئولة، وحين كنت أقرأ أخبار هذه الأزمة كنت – كما الآن – أشعر بالخجل مما آلت إليه مسئوليتنا عن أبسط قواعد التربية والامتحانات والتعليم، وتذكرت الآن أننى تناولت هذه المسألة فى مقال باكر كنت قد نشرته قبل أن تصل الأحوال إلى ما وصلت إليه، ونشرته فى الأهرام منذ أكثر من عشر سنوات، وقد فضلت ألا أعيد نشره كاملا مكتفيا بمقدمته الضرورية وبعض فقراته للمختص النفسى وخاصة فى القياس، وللطبيب النفسى طبعا، “ولمن يهمه الأمر”!! عموماً!.
مقتطفات: من مقال: الأهرام فى 28/7/2003
مقاييس التغيير: بدءا بمغزى ومعنى الثانوية العامة
…وأنا أتابع نتائج الثانوية العامة، انتبهت إلى أن هناك 124 طالبا حصلواعلى أكثر من 100% علمى ..إلخ. أنا ليس عندى أى تحفظ على حصول طالب نابه على 200 %، لكن اهتزاز موضوعية معنى الأرقام، (سواء فى الثانوية العامة أو فى بيانات الاقتصاد الحكومية، أو نتائج الانتخابات) يستتبعه غموض معنى التفوق (مثل غموض معاني: تحسن الاقتصاد، وفوز حزب الأغلبية جدا!!). ثم إن فكرة تنمية الإبداع من خلال مناهج التعليم، وهى الفكرة التى يصر المسئولون والهواة جميعا:على ترديدها، هى أبعد ما تكون عن دلالة هذه النتائج.
إلى أن قلت:
مع الحرص على عدم حرمان أحد من فرحة تفوقه، فإننى أتصور أن تتبع هؤلاء المتفوقين (جدا جدا) بعد سنوات، قد يخبرنا أن أيا منهم لم يحقق أى إبداع بالمعنى الحقيقى. الإبداع – من حيث المبدأ – يرفض النهايات المطلقة، إن النقص اللازم فى الحياة، وحتمية قصور أى إنجاز عن الكمال، هو من أهم حوافز الإبداع، إن نجيب محفوظ شخصيا لا يستطيع (ولا يرحب بـ) أن يحصل على 100% فى إبداع الرواية حتى لا يتوقف إبداعه، إن استمراره فى المحاولة والتجريب، حتى “أحلام فترة النقاهة”، بعد الإعاقة اللاحقة لنوبل، إنما يرجع لأنه يصر على أن يواصل محاولة الإقتراب من المائة فى المائة دون أن يحققها. إن تمام المطلق هو لله وحده، وكل ما دونه هو إبداع متوجـِّه إليه على أحسن الأحوال.
………………..
………………
(ونواصل الأسبوع القادم)
____________________________
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.
[2] – ملحوظة: لابد أن هناك استثناءات نادرة لما سيرد فى الفقرات التالية من تحديث.
[3] – يحيى الرخاوى: جريدة الوفد، “دراسة الغش الجماعى وجذوره فى أعماق المجتمع” بتاريخ (7/1/1987)
يادكتور يحيى ده حتى التوجه الان ناحيه ان المدرسة تبقى اونلاين ..لم يعد للحضور داخل مؤسسة تعليميه مهم مادام بتحفظ وبتسمع وتمتحن ..معلش قلت هنكد عليك ..
عندك حق، لقد أسفت لما آل إليه الحال، لكن ليس لدرجة “النكد”!
صحيح أن المدرسة مجتمع والأونلاين “إنغلاق” إلكترونى، لكن لا يمكن الوقوف أمام الإنجازات التكنولوجية المتسارعة، والخوف أن يتمادى هذا التوجـّه حتى ينقرض هذا النوع المسمى “الجنس البشرى”، مع أنه نوعٌ، أو كان نوعاً واعداً بفضل الله!!..!!