الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (19) الفصل الرابع: التركيب الأسرى والطفولة الباكرة

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (19) الفصل الرابع: التركيب الأسرى والطفولة الباكرة

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 14-5-2022

السنة الخامسة عشر

العدد: 5369

مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” [1]

الكتاب الثانى: المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (19)

استهلال:

نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة الأسبوع الماضى قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الرابع.

          يحيى

 الفصل الرابع

التركيب الأسرى والطفولة الباكرة (4)

……………..

ثانياً: عن مرحلة ‏الطفولة‏ ‏الباكرة‏:

المتن:([2])

يَسأل الفاحصُ فى هذه المرحلة عن‏ ‏عادات‏ ‏الأكل‏، ‏والإخراج‏، ‏ونمو‏ ‏الكلام‏، ‏والسمات‏ ‏العصابية‏: [‏مثل‏ ‏قضم‏ ‏الأظافر‏، ‏ومص‏ ‏الإصبع‏، ‏ونوبات‏ ‏الشكاسة Temper Tantrum‏، ‏والبوال‏ ‏الليلى، ‏والنهارى، ‏واللازمات‏، ‏وفرط‏ ‏النشاط‏] ‏وكذلك‏ ‏يُرصد‏ ‏أى ‏سلوك‏ ‏انحرافى ‏أو‏ ‏سوء‏ ‏تصرّف‏، كما‏ ‏يُسأل‏ ‏عن‏ ‏علامات‏ ‏باكرة‏ ‏لأى ‏احتمال‏ ‏تخلف‏ ‏عقلى ‏بسيط‏ ‏أو‏ ‏جسيم‏، ‏وهى ‏علامات تظهر‏ ‏أكثر‏ ‏فى ‏تأخر‏ ‏معدّل‏ ‏النمو‏ ‏عامّة‏، ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالتعلم‏ ‏البسيط‏ ‏للعادات‏ ‏الجديدة‏.، ويَسأل‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الفترة‏ ‏أيضا عن‏ ‏تاريخ‏ ‏ضِرَار‏ ‏الأطفال“Child Abuse  (‏من‏ ‏الوالدين‏ ‏أو‏ ‏غيرهم‏) ‏دون الاقتصار على الجانب القهرى أو العقابى ولكن أيضا بالبحث عن‏ ‏الجانب‏ ‏السلبى ‏للضِّرار‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏الإهمال‏ ‏أو‏ ‏الحرمان أو الاستعمال‏.

التحديث:

أبدأ بالتذكرة بأن المعلومات المتاحة عن هذه المرحلة هى معلومات تقريبية، وإن كان يمكن الحصول عليها أحيانا من المريض نفسه – مهما كان عمره – بدرجة أفضل من المرحلة السابقة، فكثيرا ما يذكر المرضى أحداثا ذات دلالة فى سن قبل دخول المدارس (حتى السادسة وأحيانا قبل ذلك)، وليس نادرا أن تكون هذه الأحداث لها دلالتها الخاصة، وآثارها المتبقية ، وكثيرا ما تتعلق هذه الذكريات ليس فقط بأحداث وقعت للشخص (المريض نفسه)، وإنما فى الأسرة كلها، وتركت ما تركت فيه بما قد يتذكره ويحكيه، أو لا يتذكره لكنه أثــَّر فيه.

ويلاحظ أيضا بالنسبة لمعلومات هذه الفترة (وما بعدها بقليل) أن الأمهات المصريات (وربما العربيات عموما) يصفن أولادهن بصفات كثيرة أغلبها حسنة، كما ينكرن أى نقص أو قصور وخاصة فى الذكاء والقدرات المعرفية، وهناك من الأمثال العامية المصرية ما يؤكد وجود هذا النزوع فى ثقافتنا، وسوف أكتفى بضرب مثلين داليِّن، مع التماس العذر لكل الأمهات اللاتى ينطبق عليهن شطر البيت العربى القائل “وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ..”، لكن المثلين العامين اللذان يعرّيان هذا الموقف: أقسى وأدق من هذا الشعر العربى المهذب، المثل الأول يقول “القرد فى عين امه غزال“، أما المثل الثانى الأكثر قسوة فهو يقول “خنفسة شافت بنتها عالحيط : قالت دى لؤلؤة فْ خيط“.

وقد ألهمنى هذا التحذير شعراً أحدث، فى قصيدة:“طفلى الخاص” [3]

-1-

طفــْـلــــِـــى ‏طفـْلى

طفلى طفلى:

طفلى: ليس‏ ‏كمثل‏ ‏الأطفالْ

طفلــــــى ‏الخاصْ

             مـِلـْكـِى ‏الخاصْ        

الضحكة‏ ‏غير‏ ‏الضحكةْ

واللفتـَـةُ ‏والبسمـَةُ‏ ‏والغمـَّازة

‏-2-‏

طفلـــِـــى ‏طفلي

“طفلــــِــى ‏غير‏ عيال  ‏النــاسْ”

أكذبُ‏ ‏مـــثـــلِى ‏مثـــلَ‏ ‏الناسْ‏.‏

إذْ لو‏ ‏أنـّى ‏قلت‏ ‏حقيقة‏ ‏نـَفـْسي

أو‏ ‏قالتْ‏ ‏مـثــلــى ‏مـَنْ‏ ‏هـُــنَّ ‏ ‏كمثلي

تشتعـــلُ‏ ‏الحربُ ‏بغير‏ ‏أوانْ

بين‏ ‏النـــاسِ‏ ‏الأطفالْ

فالأطفالُ‏ ‏الناسْ،… أطفالُ الناسْ

أفضل‏ ‏دومـــًـا:‏ ‏

                        من‏ ‏كل‏ ‏الناس.

ولا ينبغى على الفاحص أن نرفض هذا الموقف أو نعيبه، فهو موقف إنسانى طيب تسمح به ثقافتنا، لكن لا ننسى ما له من أضرار قد تستمر مدة، وتتراكم حتى يحضر الشخص مريضا إلينا، ذلك أن إنكار القصور المعرفى الخـٍلقى، الذى هو أقرب إلى القضاء والقدر في هذه السن ولو كان متوسطا أو نسبيا، قد يترتب عليه أن يـُـطلب من الطفل، أو يـُـتوَقّع منه ما هو فوق قدراته، وتتسع الهوّة بين قدراته وبين المطلوب أداؤه سنة بعد سنة حتى يـُصـْدَم الأهل بموقعه فى التحصيل الدراسى، أو بأى اختبار فى خبرة عملية موضوعية.

أما عن مسألة فحص وتقييم الضِّـرار [4] فى هذه السن، فهذا عادة ما يرتبط بمفهوم الضرر والضرار للأطفال بالذات، وهو مفهوم يختلف اختلافا شديدا حسب الثقافة الفرعية، فالثقافة المستوردة الراقية قد تجعل التدخين فى حضور الأطفال أو بالقرب منهم جريمة يعاقب عليها القانون، حتى أن المدخن فى الشارع مثلا فى مونتريال (كندا) لا بد أن ينظر حوله ليتأكد من عدم وجود طفل على بعد كذا مترا من سيجارته، وإلا..!..إلخ.

أما الثقافة المحلية عندنا ففيها لا يجازى الوالد الذى يقوم بختان ابنته ضد كل الفتاوى والنصائح الطبية الواضحة ، إذ لا يـُعتبر مجرما حتى الآن [5]،

أما الثقافة المحلية الإيجابية فهى تتبنى المبدأ الأشمل وأن “كل راع مسئول عن رعيته، وأنه “لا ضرر ولا ضرار”، بدءا بالأطفال والكهول وأصحاب الاحتياجات الخاصة. وكذلك تختلف المواقف باختلاف الثقافات الفرعية، فضرار الأطفال فى الزمالك غير ضرار الأطفال فى عزبة القصيّرين فى غمرة، وضرار الاطفال بالعقاب الجسدى، غير ضرار الأطفال بالاعتداء الجنسى بدرجاته، وكل ذلك يحتاج إلى صبر ومعرفة قصوى بالاختلافات التطبيقية بين كل ثقافة فرعية وأخرى، هذا فضلا عن أن الآثار المسببة، والمسئولة عن هذا الضرار تختلف اختلافا هائلا مع الاختلافات الفردية وأيضا بين الثقافات الفرعية المختلفة.

ثم إن البحث فى هذه المنطقة، فضلا عن ما يتعرض له من ألعاب الذاكرة إيجابا وسلبا، هو أمر بالغ الحرج فى مجتمعنا خاصة، وبالتالى على الفاحض ألا يهمله، وفى نفس الوقت ألا يختزله وألا يتعامل معه من منطلق أخلاقى أو دينى بحت، فهو فى البداية والنهاية طبيب لا قاض ولا إمام أو خطيب.

وهو أيضا لا يتوقف عند ظاهر الضرار .

ومن منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى، فإن الباحث الذى ينتمى إلى هذا النوع من الطب والتطبيب إنما يسمح بحركية – دون قصدواعٍ – أطفاله بداخله، يحدث ذلك ليس فقط وهو يفحص المرضى الأطفال، ولكن أيضا وهو يتلقى المعلومات من وعى (أكثر من ذاكرة) المريض أيا كان عمره،

ثم علينا أن ننتبه كما علـّمنا “إريك بيرن” صاحب مدرسة “التحليل التفاعلاتى”، أن حالات الذوات Ego States ليست فقط الحالات المعروفة (الطفل واليافع والوالد)، وإنما هى وحدات نمو متعاقبة ومتراصة الواحدة فوق الأخرى، وقد أغفل هذه الحقيقة  – حتى بعض تلاميذه – كل من اختزل هذه النظرية العظيمة، وقد أضاف إريك بيرن أن “وحدات الذات” Ego Units  وليس فقط “حالات الذات”  Ego States هى الَّلبِنَات التى تبنى بها الشخصية، وأن الَّلبِنَات الأولى أهم، لأنها “الأساس”، (وهى تمثل الطفولة خصوصا الطفولة الباكرة) وأن الجرح (سوء التربية أو عجز التنمية)  إذا لحق هذا الأساس، فإن البناء يكتمل مائلا معرضا للانهيار، وكلما تأخر الجرح ليلحق بوحدات الذات (اللبنات) المتأخرة نسبيا: (مثلا فى منتصف العمر أو بعد ذلك) كان الميل أقل، والعرضة للانهيار أبعد، أما إذا استقامت وحدات الذات (اللبنات: وحدات النمو)  الواحدة تؤسس للتالية وهكذا، فإن البناء يتصاعد مع أقل ميل، وأخف خطر (أنظر الشكل).

……………….

………………

(ونواصل غدًا)

___________________________

[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.

[2] – نذكّر القارئ بأن “المتن” هنا يشير إلى النصوص التى وردت فى النسخة الأولى “ثنائية اللغة” من هذا العمل منذ أكثر من ثلاثين عاما (1986)  وهو عمل غير منشور وأن التحديث هو ما طرأ على هذا المتن وخاصة بالنسبة لمنظور الطبنفسى الإيقاعحيوى.

[3] – يحيى الرخاوى: ديوانى: “من باريس إلى الطائف وبالعكس”، مرورا بأى باريس وأى طائف داخلنا وخارجنا، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الأولى 1983، الطبعة الثانية،2017

[4] – Child Abuse  ضرار الأطفال هو اللفظ الذى فضلت أن يكون ترجمة لهذا المصلح  (ضَارَّتْهُ الْحَوَادِثُ: أَضَرَّتْ بِهِ ، آلَمَتْهُ ، أَلْحَقَتْ بِهِ ضَرَراً “وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ” البقرة آية 282، وفى الحديث الشريف: “لا ضرر ولا ضرار.”.

[5] – أقصد: الآن: أى وقت كتابة الأصل، ولكن نما إلى علمى أنه قد صدر مؤخرا قانون بتجريم هذا السلوك (2021)، ومع ذلك فإنى أشك فى إمكان تطبيقه بشكل كاف !!!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *