نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 23-4-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5348
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”([1])
الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (13)
استهلال:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة الأسبوع الماضى قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الثالث.
يحيى
الفصل الثالث
التاريخ المرضى السابق (4)
(مع إشارة إلى المرض العضوى، والشخصية قبل المرض)
أولا: التاريخ المرضى السابق
…………….
……………..
الشخصية قبل المرض
فى الطبنفسى الايقاعحيوى التطورى نتعامل مع كل مريض على أنه فريد (ليس كمثله آخر)، كما نتعامل مع الصحة النفسية على أنها متعددة المستويات، وبالتالى تختلف من كل فرد إلى الأخر حسب مرحلة نموه، ومستوى وآليات توازنه، من هنا وجب التعرف على موقع المريض ليس فقط حالة كونه مستشيرا الآن، وإنما من خلال التعرف على موقعه قبل المرض، وبالذات قبيل الاستشارة، وربما أمكن الحكم على أى مستوى كان يتمتع بما يسمى “الصحة النفسية” التى هى – من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى – ليست مرادفة تماما لما هى “العادية”، ثم إن المقارنة بين “الشخصية قبل المرض”، وبين ما آل إليه الحال بعد ما طرأ عليه ما يستدعى الاستشارة هى التى سوف تحكم على مدى، وأحيانا على نوع، مرضه، والأهم هى التى سوف تسهم بأكبر قدر فى رسم (ولا أقول تحديد) نفسمراضيته، ومن ثَمَّ علاجه.
وتسمى دراسة الشخصية قبل المرض: الدراسة المستعرضة الأولى وهى تهدف إلى التعرف على سمات وطباع وشخصية المريض قبل ظهور ما يسمى المرض بفترة مناسبة، ليست أقل من ستة أشهر إلى سنة، حتى يمكن التحقق مما طرأ على المريض من تغيّر (هو الباعث إلى الاستشارة غالبا) وذلك من خلال المقارنة بالدراسة المستعرضة الثانية (المسماة الحالة العقلية الراهنة Present Mental State وتشمل وصف الأعراض وكثير من التفاصيل الماثلة “الآن” (أى وقت الفحص) ويمتد هذا “الآن” إلى شهر كاملَ من تاريخ الفحص (وأحيانا أكثر فى الأمراض المزمنة طبعا).
المتن:
للتعرف على الشخصية قبل المرض يستحسن أن نحدد فترة زمنية محددة ندرس فيها سمات وعادات وسلوكيات المريض أثناءها قبل بداية المرض ، كما يستحسن أن تكون هذه الفترة سابقة للمرض الصريح بدرجة كافية، حتى لا تختلط الأمور (تصل إلى ستة أشهر أو أكثر قبل أن يمرض المريض أصلا) ثم يُسأل عن الصفات العامة التى كانت شخصية المريض تتميز بها فى هذه الفترة (وعموما طبعا) من حيث العلاقات، وعدد الأصدقاء، والاهتمامات (بما فى ذلك الاهتمامات الأدبية والفنـّية والدينية) والهوايات، وكمّ الطاقة الحيوية ومسار انطلاقها فى أىٍّ من أنواع السلوك، ونوع وموضوعات النشاط العقلى والعادات والسمات الخاصة.
وتفصيل مناطق البحث والاستقصاء تشمل ما يلى:
أولا: العلاقات الاجتماعية البينشخصية:
وتشمل العلاقات داخل الأسرة، وفى العمل، وخارج هذا وذاك (الأصدقاء)، وتوصف فيها درجة الحميمية، وطول العلاقة، والتفاعل للهجر أو الصد أو الخلاف، ثم موقع الشخص فى الجماعة (قائدا؟ تابعا؟ مهرجا؟ متفرّجا؟!....إلخ).
التحديث:
من واقع الممارسة طولا قرابة نصف قرن حتى الآن، اختلفت أنواع العلاقات الاجتماعية بالذات نتيجة لدخول عامل تواصُلِى جديد – له وعليه – وذلك بعد قفزة تكنولوجيا التواصل وظهور ما يسمى “مواقع التواصل الاجتماعى” (الفيسبوك وغيره)، وخصوصا أن استعمال هذه التقنيات الأحدث لم يعد قاصرا على الكبار، بل امتد إلى كل الأعمار، وأيضا لم يعد قاصرا على قضاء المصالح وتسهيل الإداريات وتشهيل المهام، أو حتى النقد السياسى أو التهييج العشوائى، وإنما امتد ليحل محل التواصل البشرى المباشر على كل المستويات، حتى كادت تتوارى قنوات التواصل وجها لوجه <=>: “وعيا لوعى”، وحين يبدأ مثل ذلك منذ الطفولة، علينا – خصوصا من وجهة نظر الطبنفسى التطورى – أن نرصد خطورة إحلال هذا النزوع الالكترونى محل برامج البقاء التواصلية التى وضعها خالق كل شىء فى كل حى استطاع أن يبقى مع سائر أفراد نوعه!! وبرغم ما لهذه الخطوة التقنية التواصلية من بعض الإيجابيات فى مجالات الإعلام والسياسة وربما الإنتاج بما لا يمكن إنكاره، إلا أنها بالنسبة لمهمة الطبيب النفسى عامة والطبنفسى الإيقاعحيوى خاصة أصبحت مسألة إشكالية تحتاج إلى وقفة ونقد ومراجعة، وخاصة فى مجتمعاتنا المخلخلة “بالتقادم” أو “بفعل فاعل” حيث أصبحت هذه الثورة التواصلية مصدرا لكثير من السلبيات المتعلقة بالمرض النفسى مباشرة، وليس فقط بما يسمى إدمان “النت” أو إدمان “الفيسبوك”.
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
أ) أصبحت الأسرة تجتمع “فى المكان” أكثر من اجتماعها فى المعاملات أو الحوار أو النقد أو المشورة أو التوجيه أو حتى اللعب معا، ولو ألعاب التسلية فلم يعد ثَمَّ وقت باق بعد أن ابتلعته هذه الآليات!
ب) كاد البعض يستغنى عن السعى لعمل علاقة حقيقية فيها كل روعة وصعوبة العلاقات الإنسانية النمائية الإنمائية، باستسهال إحلال آلات التواصل – حتى دون تواصل – محل البشر اللازمين لنموه وأنـْسـَنـَتـِهْ واستمراره إلى ما بعده!!
جـ) أصبحت الصداقات التى تتم عبر قتوات التواصل الاجتماعى التقنى هذه أسهل وأجهز، لكنها –غالبا- ليست إلا تواصلا عن بعد وبالألفاظ (الكلام أو الكتابة أو كليهما) مع إغفال كل قنوات التواصل الأخرى بالوعى المتبادل، والوجدان المشارك، والمعية المباشرة، والدفء البشرى.
هكذا راحت حركية النمو وإعادة النمو من خلال دورات نمو العلاقات المتجددة (حسب تنظيرات الإيقاعحيوى المستمر) تسير تحت رحمة وبتوجيه مباشر لتحريكات غامضة، تكاد تفرض ثقافة تجزيئية أغلبها مستورد، هذه الآليات من حيث المبدأ قد وسَّعت من احتمالات فرص التواصل بين دوائر أوسع فأوسع من البشر، إلا أنها فى الوقت نفسه راحت تغرى بتواصلات يصعب ربطها ببرامج بقائية صحية مؤكدة الإيجابية، ولكن مازال هذا الأمل قائما لكنه يحتاج إلى جهود عملاقة لتخليق وعى إنسانى جديد فى مواجهة النظام الاغترابى التكاثرى المسمى النظام العالمى الجديد.
وفى حدود ما نمى إلى علمى من الممارسة وغيرها، أكاد أجزم أنه لا يمكن ضمان حجم وتأثير القوى الأكثر اغترابا وبالتالى الأكثر إمراضية لإساءة استعمال هذه الإنجازات المفروض أنها تقدمية ورائعة، الأمر الذى لا يمكن تجاهله وخاصة أن تأثيراته من ناحية هى تأثيرات خفية، ومن ناحية أخرى فإن تقييم نتائجها السلبية مؤجل عادة.
وبعـد
اعتدنا فى الفحص التقليدى أن نصنـِّف “الشخصية قبل المرض” إلى نوع محدد من الشخصيات المعروفة: مثل الشخصية الانطوائية، أوالشخصية الشيزيدية، أو الشخصية الوسواسية، أو الشخصية البارنوية، وهذا توجّه مفيد، ولكن الاقتصار عليه يختزل ما نبحث عنه تفصيلا للتخطيط والعلاج، كما ينبغى التنبيه على أن مجرد ذكر هذه الصفة أو تلك، لا يعنى اضطرابا فى الشخصية، فالشخصية البارنوية، غير “اضطراب الشخصية البارانوية”، والشخصية الوسواسية غير “اضطراب الشخصية الوسواسية”، فلابد من إضافة كلمة “اضطراب” إذا كنا نعنى نوعا مرضيا يدل على تمادى صفات هذه السمات فى شخصية ما إلى درجة الإضرار أو الإعاقة (= المرض).
لكل ذلك فضَّلت ألا أشير إلى مثل هذا التصنيف تحديدا أثناء وصف “الشخصية قبل المرض” تجنبا للاستسهلال، وخشية من الخلط، وأن أركز على الحصول على معلومات تفصيلية تحت البنود الأقرب للتوصيف العام دون تحديد نوع بذاته، وعموما فإن أمكن الوصول إلى تصنيف عام (مثل “إنطوائى” – “انبساطى” مثلا)، أو تصنيف مزاجى خاص (مثل: “شكاك” “متوجس”، “متجنب”، “منسحب”، “متشائم”، “نـِكـَدى”: إلخ) فيمكن أن يـُثبت هذا التوصيف دون أن نجزم بنوع بذاته للشخصية لأنه من الصعب الوصول – دون اختزال – إلى نوع منفرد استبعادا لما هو غيْرُهُ تماما.
……………….
………………
وكل عام وأنتم بخير، ونحن نحاول!!
(ونواصل غدًا)
________________________
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.
في انتظار صدور الكتاب
عندك حق
لا أذكر أنى وعدت بصدوره، لكن لعلك تقرئين النوايا، عندك حق ولا أعدك بالوفاء بالصدور لأننى أخشى أن أفعلها، وربنا يستر، ويسهل.
صباح الخير يا مولانا:
المقتطف :…حركية النمو وإعادة النمو من خلال دورات نمو العلاقات المتجددة (حسب تنظيرات الإيقاعحيوى المستمر)
التعليق: عفوا يا مولانا ،لقد راجعت معلوماتى وما وصلنى من تنظيرات للطبنفسى الايقاعحيوى التطورى ،كى أتعرف على دورات نمو العلاقات ،فلم أستطع الوصول إليها ،وصلت فقط إلى دورات نمو الفرد ،التى هى استعادة الانتوجينى للفيللوجينى ،والنقلات الكبرى التى أسمتها النظرية بالماكروجينى ،وحتى النقلات السريعة الصغرى ( الميكروجينى)،هل دورات نمو العلاقات هى دورات مصاحبة لنمو الفرد ؟! أرجو إرشادى إلى الطريقة التي يمكننى من خلالها الوصول إلى إجابة السؤال
الدورات والتشكيلات جميعا أعقد وأصعب من أى شرح مفصل، هي تتنوع وتتجدد وتختلف حسب المتفاعلين والمتجادلين طول الوقت، وأسئلة مثل سؤالك الأفضل ألا تكون لها إجابة وأن نرضى بالتركيز على تصنيف إيجابيتها ونتائجها، فنحمد الله على كل ذلك ونحن لا نعرف كل ذلك.