الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / (مقتطفات متعلقة) من أعمال يحيى الرخاوى النقدية والإنشائية والإبداعية من كتاب: “الفهد الأعرج والكهلُ النـَّمرْ”

(مقتطفات متعلقة) من أعمال يحيى الرخاوى النقدية والإنشائية والإبداعية من كتاب: “الفهد الأعرج والكهلُ النـَّمرْ”

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 31-12-2018

السنة الثانية عشرة

العدد: 4136

 (مقتطفات متعلقة) من أعمال يحيى الرخاوى

   النقدية والإنشائية والإبداعية

مقتطفات من كتاب: “الفهد الأعرج والكهلُ النـَّمرْ” (1)

(دروس من قعر الحياة!!)

مقدمة:

بعد تردد طال، وبعد أن تشجعت بسبب الترحيب بما ظهر من سلسلة كتب “بعض معالم العلاج النفسى من خلال الإشراف عليه” قررت أن أنشر مقتطفات مما تيسر مما كان يصدر تباعا فى النشرة اليومية “الإنسان والتطور” فى باب “حالات وأحوال”.

وقد صدر هذا الأسبوع أول كتاب من هذه السلسلة بعنوان “الفهد الأعرج والكهلُ النَّمرْ” وهو ما جرى من مقابلة ومتابعة حالتين يمثلان عمق وبؤس وتقشف هذه الطبقة الكادحة المكافحة فى مجتمعنا المصرى المناضل!.

الحالة الثانية (موضوع مقتطف اليوم): هى لكهل جاوز الثمانين أمضى حياته فوق عربته “الكارو” ومع حماره المنهك فى شوارع القاهرة يصارع أمواج السيارات والبشر والرزق والتحديات، وحين أنـْـهـِـكَ قالها: “آه” بنبل وعـِـزّة ومـَـرَض، وظل محتفظاً بقدراته المعرفية ودرايته الحاضرة طول الوقت.

فضـّـلتُ فى كلتا الحالتين أن أقلل قدر الإمكان من الشرح والتعقيب، وأن أترك النص والحوار يواصلان الرسالة ما أمكن ذلك، وباللغة التى دار بها الحوار غالبا.

وأكتفى بنشر مقتطف من مناقشة الزميلة مقدمة الحالة الثانية “الكهل النمر” وهى طبيب مقيم بقسم الطب النفسى. قصر العينى:

مقتطفات من المناقشة مع الزميلة مقدمة الحالة (ص 68)

قبل لقاء المريض:

د.يحيى: …… أنا متشكر على اختيارِك ده، هو غريب شوية بالنسبة للحالات اللى بتقدموها لىّ هنا كل خميس، عمره 84 سنة!!! أنا مابعالجشى المسنين عموما، ده مش اختصاصى الدقيق، مش عشان هما ما بيتعالجوش، أنا باحبهم وباحب العيال، يمكن عشان كده مابعالجهمش، زى ما اكون باعتبر الغلط مش فيهم، والعلاج كمان فى إيد اللى حواليهم، لكن مسألة علاج حدّ من دول أو من دول ومتابعته واحد اتنين تلاته، لأ، دى مسائل مش تبعى قوى، مش اختصاصى الدقيق، أنا مركّز على مرحلة منتصف العمر زى يونج، وساعات حوالين سن المراهقة، أنا باعرف أتفاهم مع العيال والعواجيز تمام التمام، وباعرف أعمل علاقة سريعة جداً معاهم هما الاتنين، العيال والعواجيز، لكن علاج ونظام وتأهيل، غيرى أحسن منى.

لكن قولى لى ياساندرا: أنا بيتهيألى إنتِ بتحبى الراجل ده، …. ليه يا ترى؟

د.ساندرا:  باحبه ليه؟! علشان … عشان …

د.يحيى: أولاً أنا إيش عرفنى إنك بتحبيه؟ أنا لسه ما شفتهوش

د.ساندرا: لأ هو أنا فعلاً أول ما شفته فى العيادة يعنى كنت عايزة أعالجه، يمكن عشان راجل كبير يعنى

د.يحيى: عشان راجل كبير بتحبيه بحق وحقيقى، دا كويس، بس برضه هوّا راجل وأنتِ ست، يعنى، ولا ناسيه

د.ساندرا: لأ مش ناسيه

د.يحيى: بتحبيه كبنى آدم، وبتحبيه كمريض، وبتحبيه وانتى ست كواحد مصحصح، بتحبيه كواحد قريّب حاضر، مش كده ولا إيه؟ كل ده موجود مع بعضه، باين فى المشاهدة (Sheet)

د.ساندرا: آه

د.يحيى: عشان كده أنا أشكرك مرة تانية إنك بتقدمى حد، وانت عاملة علاقة كويسة معاه، لما أنتِ رسمتى صورة له زى بورتريه يعنى جمعتى معلومات عن العائلة من أول أبوه واخواته، ومش عارف إيه، لغاية كل عياله، والبنت اللى اتشلت، وبعدين روّحتى بيتك، وانتِ قاعده لوحدك بقى بعد ما سبتيه، قعدتى تتصورى العائلة دى عايشة ازاى؟ فى أوضه بين أربعة عائلات كل عيلة فى أودتها؟ بمعاش 79 جنيه، وشوية مساعدات من العيال، يايدفعوا، يالأّه؟  ودورة ميه واحده فى الحوش للعلائلات دى كلها اللى الساكنة حواليها؟

د.ساندرا: تخيلتهم فقرا أوى يعنى

د.يحيى: قِدِرْتى تتقمصى هذا المستوى من الفقر والصعوبة اللى همّا عايشين فيها

د.ساندرا: أنا حسيت بصراحة إنهم من أفقر الناس اللى شفتهم، أو حتى سمعت عنهم، ازاى هّم عايشين فى الأوضة دى،

د.يحيى: طيب إنت ليه يا ترى ماحبتيش مراته؟

د.ساندرا: هى صُعبت عليا برضه

د.يحيى: بـَـسَ خلىِّ بالك، الصعبانية غير الحب، إنتى حبيتى الراجل، إنما مراته صعبت عليكى، هل لاحظتى الفرق؟ هوّا فرق صعب لكن مهم، لمّا تكبرى حاتعرفى

د. ساندرا: ربنا يسهل

د. يحيى: إنت لاحظتى معنى قيمة الفلوس اللى اتقالت “الشيلة بكام، والنقلة بكام

د.ساندرا:  أيوه لاحظت، وماقدرتش أتصور قوى

د. يحيى: لابد من التدقيق فى كل كلمة

د.ساندرا: ازاى يعنى؟

د.يحيى: ساعات مقارنة الأسعار تحدد لـِـكْ نقلة الحياة اللى حصلت، ويمكن تساعدك فى تقمص المريض.

د.ساندرا: آه

د.يحيى: انتى لاحظتى لما مراته بتقولّك وهى بتوصف تجاوزه: “وكمان ممكن يندهلى باسمى، ولو فى وسط 100 راجل، واحنا عندنا ده ما يصحش!؟”

 تفتكرى الأصول ينده لها إزاى فى المجتمع ده فى السن ده فى الزمن ده؟

د.ساندرا: هى بتقول لى إنه كان حقه يقول لها يا “أم محمد”

د.يحيى: شفتى هيا بتعلّمك الفرق إزاى! خلّى بالك إحنا بنتعلم من مرضانا كل حاجة بما فى ذلك الأصول، والعادات، والتاريخ، والحياة اللى احنا مانعرفهاش.

د.ساندرا: آه صحيح، بس أنا مافهمْتش قوى الفرق بين إنه يناديها باسمها أو بأم محمد.

د.يحيى: عند الناس دول يا بنتى اسم المرأة حاف كده “عَوْرة”، لازم يدّارى، العَوْرة اليومين دول بقت والعياذ بالله حاجات تانية، عشان كده الحالة بتاعتك دى تفيدك فى التعرف على ثقافتنا وعلى النقلات اللى حصلت واللى بتحصل فينا، فى مجتمعنا، ودى أمور مهمة، بتورينا يعنى طول وعمق طبيعة الجارى، العيان ده كتاب كامل، ما استغربتيش لما قال إن الناس بيقولوله “من يوم ما طْلِعْت الحج نِفًسَك كِبْرت” طلع الحاج ازاى وهوّا بالفقر ده؟ “حج” ازاى؟

د.ساندرا: هوّ راح عمرة مش حج

د.يحيى: عندك حق يا بنتى، العمرة غير الحج، بس الطبقة دى بتسميها حج ساعات، وساعات فيه ناس أغنيا يتصدقوا على الناس دول بمصاريفها ويطلبوا منهم الدُّعـَا.

د. ساندرا: آه صحيح، أظن ده اللى حصل.

 د.يحيى: يبقى هوّا طلع عمرة بس، وصَدَقة كمان، لكن الأصوات بتقول له: “من يوم ما طلعت الحج نفسك كبرت وما بقيتش تكلم حد”

د.ساندرا: آه، هما بيقولوا له كده

د.يحيى: هما مين؟ الناس؟ ولاّ الأصوات؟

د.ساندرا: الأصوات

د.يحيى: يعنى هو عمل عمرة، والأصوات كتبتها له حج، شفتى الأصوات وفرت له قد إيه!!! إوعى تنسى إن الراجل الطيب ده عنده 84 سنة.

د. ساندرا: لأ فاكرة كويس، ويمكن عشان كده باقدّمه لحضرتك

د.يحيى: إنت بتوصفى شخصيته إنها كانت “ضد المجتمع” مش عايزة تراجعى نفسك؟ ده لو ضد المجتمع ماكنتيش حبتيه كده، ما هو صعب إنك تستعملى ألفاظ موضة موجودة فى الكتب توصفى بيها فترة تاريخية وثقافة مختلفة ما تعرفيش عنها حاجة، طبعاً أنا عاذرك يابنتى، إنتِ ماتعرفيش الدنيا كانت ماشية إزاى أيام لما كان شيل الصندوق بربع جنيه، لو استقبلتى ربع جنيه ده بنفس الأرقام بتاعة اليومين دول حتلاقيكى بعيده عن الراجل ده، العلاج أساسه التعرف على حقيقة أبعاد ووعى اللى قدامك، وإنتِ صغنطوطة لسه، صعب عليكى تعملى علاقه مع راجل كبير زى ده، مع راجل بالفقر ده، إنت عارفه يعنى إيه حمام بلدى مشترك لتلات عائلات فى تلات غرف حوالين حوش، ودا بيعمل إيه فى النفسية بتاعة أفراد تلات أو أربع أسر، كل أسرة فى أوده، لو تقمصت أى حد من السكان دول مش ضرورى الراجل الطيب ده،  مش ضرورى يكون عيان، حاتعرفى العلاقات شكلها إيه وبتتشكل ازاى، وبعدين مع راجل بالتاريخ ده صعب، صعب إنك تلملمى كل التفاصيل بحجمها، كل كلمة تسمعيها عايزة واحد يترجمها لك عشان تعرفى دلالتها الحقيقية، واحد زى ده تختبرى ذكاؤه بإنك تسأليه تقولى له إيه وجه الشبه بين الموزة والبرتقالة؟ بقى ده اسمه كلام؟

د.ساندرا: ما هو ما فهمشى قصدى، وقعد يضحك

د.يحيى: والله كويس إنه ماضربكيش،

وأنا نايب سنة 58 كنا بنعمل اختبارات لبحث كان بيقوم بيه استاذى الدكتور عبد العزيز عسكر، كان بحث عن الثعلبة (سقوط موضعى لشعر الرأس أكثر، لأسباب نفسية غالبا)، وأنا باطبّق اختبار ذكاء اسمه “بورتس ميز” (متاهة بورتس) على واحد صعيدى عنده ثعلبه، كان مفروض العيان يمسك قلم ويمشى فى متاهة زى اللعبة بتاعة العيال اللى بتتنشر فى “ميكى” أحيانا، وفيه فار فى ناحية وحتة جبنة فى ناحية تانية، وخطوط مقطعة، وكلام من ده، وكل سنة من العمر لها متاهة أصعب فى أصعب، والصعوبة بتزيد واحدة واحدة حسب السن، وانا باقول للراجل الصعيدى الطيب ده: يالاّ ورينا شطارتك، وارسم خطوط، إزاى الفار ده الناحية دى يوصل لحتة الجبنة دى الناحية الثانية، بص لى الرجل باستغراب زى ما أكون باهبّل وقال لى: ما ينفعشى، فأنا قعدت اتحايل عليه عشان البحث وخايف من الأستاذ،، وهو آخر زَرْجـَـنه، وإن راسه وألف سيف مستحيل الفار يوصل، قلت له يا عم فلان، إذا كان الاختبار ده معمول إنه ينفع، وإن الفار يقدر يوصل، قال لى “لا يمكن مستحيل”، قلت له من غيظى “طب أوريك”، نسيت بقى البحث، ومسكت القلم وبدأت، لكنه قاطعنى وهـّوا بيقول: طبعاً “إنت تقدر ونـُصّ”، قلت له: “إزاى بتقول مستحيل؟ وفى نفس الوقت أنا أقدر؟ قال لى” إمال أبوك علّمك ليه؟ ما هو أبوك صرف عليك عشان تخلى الفار ده ياكل “حتة الجبنة دى”، بصراحة ضحكت وقررت ما اعملوش الاختبار، وابتديت اكمل المعلومات اللازمة للبحث، وإذا به يقاطعنى ويقول: “ألاّ قل لى يا بيه، بقى هو الفار لما حياكل حتة الجبنه دى شعرى حايطلع”؟ ولا كان بيهزر ولا حاجة خالص، يمكن كان بيستقل عقلى وبيوعـِّـينى، زى ما يكون كان بيقوللى كبّر عقلك يابيه وقول كلام ينفع لحالتى.

إنتِ يا ساندرا لو ماكنتيش تاخدى بالك إنتى بتكلمى مين، وإيه اللى ينفع وإيه اللى ما ينفعش، مش حاتتعرفى على عيانينك كويس. لكن قولى لى: إنت عارفه اسم رئيس الوزراء بتاعنا إيه؟

د. ساندرا: اسمه نظيف.

د. يحيى: وهوّ قال لك اسمه إيه؟

د. ساندرا: أظنه قال اسمه احمد بيه حاجة.

د. يحيى: يبقى مين الأشطر فيكم؟ يبقى نلم اللى انت قلتيه، على اللى هوّا قاله على بعض: يبقى اسمه “أحمد نظيف”.

 الراجل ده لا بيقرا ولا بيكتب، ولا له علاقات من اللى احنا بنحكى عنها اليومين دول، يا ترى إيه اللى حافظ عليه مصحصح كده، ومنتبه زى ما شفنا فى إجاباته عليكى، إنت شطورة خالص إنك تقدمى لى حالة زى دى عشان نراجع الإشاعات اللى إحنا مطلعينها على كبار السن، حالة زى دى تخلينا نعيد النظر، إحنا مجرد الواحد ما يكبر نقول ده بينسى، وتايه، وبيلخبط، كأنها قاعدة.

أنا عادة لمـّـا يخش علىّ فى العيادة حد فى السن دى، أروح قايم وانا منحنى، وساعات أروح بايس إيده، وانا لا أعرفه ولا حاجة، حتى لو كان أول كشف، لما ألاقيها ست طيبة كده وكبيرة، أقول لها إدْعـِـى لى، ساعات قبل ما أقولها أسمك إيه ولا بتشتكى من إيه، ده أحسن ما أبدأ أهين العيان الكبير وابدأ أسئلتى بامتحانات النهارده إيه فى الأيام، وانت فطرت إيه الصبح، بالشكل ده أنا باحاول أكسر الحواجز من بدرى، وباقدر أحصل على معلومات تفيد للعلاج

يا ترى إيه اللى حافظ على ذاكرة العيان ده كده، وعلى تماسكه بالشكل ده؟

 الراجل ده بيورينا حاجات شديدة الأهمية، يا رب نعرف من خلالها إن النشاط المعرفى، الانتباه والإدراك والذاكرة، ماهماش قراية وكتابة، مش ده اللى بيحافظ على الذاكرة، نوع العلاقة بالحياة، وبالتفاصيل وبالناس هوّا دا المهم اللى حانحاول نشوفه مع بعض.

*****

(وللحالة بقية طبعا فهى تشغل نصف الكتاب!!)

[1] – المقتطف من كتاب “الفهد الأعرج والكهلُ النمر”  (الطبعة الأولى 2018)  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط،

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *