الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطفات كتاب “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (17)

مقتطفات كتاب “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (17)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 22-1-2022

السنة الخامسة عشر

العدد:  5257

مقتطفات كتاب  

“الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)

الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (17)  

مقدمة:

نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل السادس، وأوصى بالبدء بقراءة نشرة الأسبوع الماضى.

      يحيى

الفصل السادس

(تابع) أسباب المرض النفسى

من منظور إيقاعحيوى تطورى (2)

 Screenshot (129)

 ……………..

……………….

كيفية مواجهة هذه الأسباب من  جذورها:

يمكن التعامل مع هذه الأسباب حسب تاريخها ودرجة عمقها على الوجه التالى:

1 – الوراثة: تصعب مواجهة الوراثة بشكل مباشر، إلا أن معرفة قوتها وآثارها قد يوجه إلى بعض الإجراءات ذات الفاعلية النسبية – على الأقل – مثل: تجنب التزاوج من الأقارب فى عائلات رصدت فيها نوعية شحن معين بطاقة عشوائية قد يكون لها جذور فيلوجينية، ثم إن معرفة هذا العامل الوراثى قد ينبه إلى الاهتمام أكثر بالعوامل الأخرى التى يمكن أن تخفف منه أو تحوِّل مساره إلى مآل إيجابى، ومن ذلك أنه إذا أمكن ومنذ الولادة، ومن خلال المعلومات عن الأسرة والأجداد، وحتى عن الثقافة الفرعية استنتاج حجم وزخم الطاقة الجاهزة للحركة  والتنشيط فى مستوى وعى (مخ) معين بغض النظر عن توصيفه السلبى أو الإيجابى، إذا أمكن ذلك دون أن يقتصر البحث فى التاريخ الأسرى على تاريخ الأمراض النفسية، وإنما يمتد إلى البحث عن الإبداع بين الأقارب وعن أية ظاهرة دورية لحوح فى الأسرة، وكذلك عن أية سمات أو طباع يمكن الاستنتاج منها عن قوة أى مستوى بذاته قد تدعَّم عبر الأجيال، ووراثه الشخص لهذه الطاقة الجاهزة، إذا أمكن كل ذلك،  أو أى من ذلك، فإن هذا يمكن أن يشحذ الاستعداد لمواجهته واستيعابه إيجايبا بطرق تنشئة مسؤلة توجه الطاقة إلى مسارات إيجابية سواء في العلاقة الحقيقية مع  “الموضوع” أو في إنتاجية نشطة متجددة في أى مجال حيوى، هذه المسارات: هى قادرة على استيعاب هذه الطاقة وتفعيلها نموا وإبداعا وغير ذلك، ثم بطرق علاجية إذ أتيحت الفرصة تستثمر هذه الطاقة إيجابياً.

2- ‏التدعيم‏: ‏يراعى فى كل فرد أثناء تنشئته أن يأخذ كل مستوى من مستويات الوعى (أنواع العقول – حالات العقل) حقه من التدعيم، تجنبا لغلبة مستوى أقدم ناشز ومستقل على المستويات الأحدث خاصة إذا كان الاستعداد الوراثى يمهد لذلك، فمثلا الطفل الذى ولد وعنده ‏‏المستوى ‏الشيزيدى (البدائى) ‏جاهز للتنشيط والتمادى‏ – ‏كما‏ ‏ثبت‏ ‏من‏ ‏دراسة‏ ‏الوراثة‏ ‏والسلوك‏ ‏الأولى ‏منذ‏ ‏الولادة‏- ‏يُعْطَى ‏حقه‏ ‏فى الأنشطة ‏‏الدورية المنّظــِّـمة لدورات التناوب بين الانسحاب والبسط:‏ ‏دون‏ ‏عجلة لاهثة‏ ‏أو‏ ‏تطويل‏ معوِّق ‏فى توقيت ‏نقله‏ ‏إلى ‏المستوى ‏التالى (مثلا: من مخ “‏الكر‏ ‏والفر” إلى ما بعده‏) ‏وهكذا‏، وفى نفس الوقت يتم تعهد وتغذية المراحل التالية لحفظ التوازن وتحقيق التآلف وتوجيه الأنشطة الدورية لتصحيح الدورات السابقة إلى وجهة بناءة أولا بأول.

3- ‏التراكم الإيجابى‏: ‏مع‏ ‏احترام‏ ‏الوراثة‏ ‏والانتباه‏ ‏إلى ضبط ‏جرعات‏ ‏التدعيم‏ ‏المناسب‏ ‏الذى ‏يهدف‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏القوى ‏النسبية‏ ‏بين المستويات‏، فإنه من اللازم مراعاة ‏نوع المعلومات‏ ‏المدخلة وجرعاتها‏، ‏فكلما‏ ‏كانت‏ ‏المعلومات‏ “‏ذات‏ ‏معنى” ‏كافٍ ‏ومناسب‏ ‏كان‏ ‏ملء مستويات‏ ‏الوعى ‏متناغما ومتناسبا: مما يبعدنا تدريجيا‏ ‏عن‏ ‏الاقتراب‏ ‏من‏ ‏عتبة‏ ‏الإنجراح‏، كل هذا يتطلب الانتباه إلى ما يحمله الوالدين من عوامل طبع وراثية أيضا، ولعل أحدهما أو يحمل كلاهما ‏نفس‏ ‏المستوى الايجابى ‏المراد‏ ‏تحقيقه‏، فإن ذلك يحفز تهيئة سلالته إلى مزيد من الإيجابية إذا ما أحُسن رصد وتخطيط قوة المستويات النسبية عن الأخرى، مما يمكن أن يخفف من الاستهداف للمرض بأية درجة ممكنة.

ويتم ذلك بأساليب متنوعة مثل:‏

 ‏(1) ‏البعد‏ ‏عن‏ أساليب التربية التى تـُـنـَـمـِّـى ‏الاغتراب‏ ‏بأنواعه، مثل الأساليب التلقينية، أو المذَبـْـذِبـَـة، أو التشييئية (اعتبار الطفل أو الابن شيئا) أو الاستثمارية (الطفل المشروع الاستثمارى) ‏أو التقليل منها ما أمكن ذلك.

(2) ‏التعليم‏ المرِن ‏الهادف‏، ‏الذى يشمل تنمية قدرات الأطفال وليس فقط كم المعلومات للحفظ، أو على الأقل الحفاظ على اضطراد الفرص المتوازنة، وإعطاء الفرص للنقد والحركة والاختلاف فالإبداع (العادى!!).

‏(3) ‏ضبط‏ ‏جرعات‏ ‏المعلومات‏ ‏الداخلة‏ وأنواعها‏ ‏المناسبة‏ للمستويات المختلفة عبر كل الأعمار‏ فى التوقيت المناسب أولا بأول.

 (4)‏ الحرص على دعم الاستقرار النسبى ‏ ‏لحركية المعلومات المدخلة مع دوام النبض،‏ دون تجميد، مع تنشيط القدرة على التجديد والحفاظ على الدهشة.

 (5) ‏استيعاب‏ ‏المعلومات المُـدخلة‏ ‏أولا‏ ‏بأول‏ ‏و‏تشغيلها‏ ‏فى إتاحة مجالات وأدوات الإبداع الذاتى والأدائى على مسار النمو‏  طول الوقت

‏(6)‏ ‏الحفاظ‏ ‏على ‏الأفكار‏ ‏المحورية‏ ‏الجاذبة نحو الوعى الجمعى فالوعى المطلق فالمجهول اليقينى‏ بالتوجه الإيمانى الإبداعى الفطرى المضطرد، مع تجنب المبالغة فى الترهيب والترغيب  والقَوْلبة.

 (7) ‏الاهتمام‏ بتوفير ‏العائد‏ ‏لدعم الاتجاه السليم، علما بأن العائد هنا‏ ليس مجرد نجاح جزئى بالمعنى التشريطى Conditioning، وإنما يكون العائد ثريا ووقائيا بقدر تناسب فاعليته مع استمرار تحقيق التوازن واضطراد النمو نحو الدفء والتواصل والامتداد والإيمان الذى يغذى المعنى ويغذى تصعيد مستويات الوعى معا.

‏(8) المبادرة بالتخلص‏ ‏من ‏العوامل‏ ‏المُبقْيِة‏ ‏والمديمة (الدوامية) للتراكم العشوائى، والتلوث الاغترابى.

وبعد:

إن كل ذلك لا ينبغي أن يقــَـدّم تلقيًنا جاهزا لكنه يتم فى جوٍّ صحىّ نابضٍ يسمحُ: بإتاحة‏ ‏الفرص‏ ‏لاضطراد إيقاعية‏ ‏النبضحيوى ‏الدورى ‏السليم: ‏فما دامت ‏الوقاية:‏ ‏هى ‏أن‏ نمنع‏ ‏نبضة طاقة‏ ‏جسيمة‏ ‏أن تقتحم مستوى السلوك الرشيد‏ ‏على ‏حساب‏ ‏الكل‏ ‏الواحد‏:

 ‏وما‏ ‏دام‏ ‏إلغاء‏ ‏النبض‏ ‏أو تهميده غير وارد لأنه‏ ‏إلغاء‏ ‏الحياة ذاتها: فإن‏ ‏مُنْطلق‏ ‏الإيقاعحيوى ‏يهتم‏ ‏أكبرالاهتمام‏ ‏‏بفرص‏ سلامة وإطلاق النشاط الإيقاعحيوى فى مساره الطبيعى، المتوازن بجرعات مناسبة وذلك بطرق مباشرة وغير مباشرة، مثل:

 I  – مراعاة سلاسة النبض‏ ‏السوى بدءًا: بالتصالح مع النوم، والسماح لحركية الحلم – من حيث المبدأ – أن ‏ ‏تقوم‏ ‏بدورها‏، من خلال ‏الاهتمام‏ ‏بها‏ ‏والحفاظ على نتائجها التنظيمية والإبداعية دون الاسراع ‏بمسخها‏ ‏بالترميز‏، ‏والتفسير‏، ‏وفحص‏ ‏المحتوى، ‏وبألفاظ أخرى: ترجيح قبول الحلم وآثاره الإيجابية بغض النظر عن فهمه أو حتى حكيه، وترجيح الاحترام الغامض لحركيته قبل التفسير الجاهز الذى قد يؤدى إلى تسطحيه.

 II ‏‏السماح‏ ‏بالتناوب‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العادية‏ ‏بين‏ ‏العمل‏ ‏والراحة‏، ‏بين‏ ‏النوم‏ ‏واليقظة‏، ‏بين‏ ‏الكمون‏ ‏والحركة‏، ‏بين‏ ‏الإقداموالإنسحاب، بين الاستقرار والترحال بين الدخول والخروج…الخ. جنبا إلى جنب مع الحرص على مواكبة الإيقاع اليوماوى حيث الليل لباسا والنهار معاشا، فيكون الحرص على النوم ليلا وليس نهارا هو الأكثر اتساقا لمواكبة الإيقاعحيوى للطبيعة وما بعدها.

III‏- العمل على تنشيط فرص حركية الجدل بين مستويات الوعى البينشخصى والجمعى فالجماعى،‏ ‏بإتاحة مساحة مناسبة للاختلاف، والحوار، والمراجعة، والتراجع، وبالتالي: زيادة فرص‏ ‏النشاطات الذهنية‏ القابلة للتمثُّل.

IV ‏تناسب‏ ‏التربية‏ ‏مع‏ ‏الاستعداد‏ ‏الوراثى‏: ‏من‏ ‏منظور فردى متغير‏ ‏إيقاعىتطورى: حيث ‏لا‏ ‏يجوز‏ ‏تصور‏ ‏خطة‏ ‏واحدة‏ ‏لكل‏ ‏البشر‏ ‏تصلح‏ ‏لوقايتهم‏ ‏من‏ ‏المرض‏ ‏النفسى، ‏فالمولود‏ ‏الذى ننتبه أن لديه‏ ‏طاقة‏ ‏دافعة‏‏ ‏جسيمة‏ (‏مثلا: من‏ ‏واقع‏ ‏التاريخ‏ ‏العائلي‏) ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏إحاطة أكبر‏ ‏وفرص‏ ‏أرحب‏ ‏لإطلاق‏ ‏هذه‏ ‏الطاقة‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏الإبداع‏ ‏أكثر‏ فأكثر.

V  ‏- الاهتمام‏ ‏بالمراحل‏ ‏المفترقية‏: ‏إذا‏ ما ‏انتقلنا‏ ‏إلى ‏مستوى ‏الوقاية‏ ‏الثانوية‏ ‏أمكن‏ ‏القول‏ ‏بأن من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏تعتنى ‏به‏ ‏هذه‏ ‏النظرية‏ ‏هو‏ ‏رصد‏ ‏بدايات‏ ‏حركية النبضة الجسيمة ‏بمجرد‏ ‏البزوغ‏ ‏من‏ ‏عتبة‏ التهديد بالانجراح ‏ ما أمكن ذلك، ‏لأن هذا يعتبر إعلانا ضمنيا‏ ‏أن‏ ‏طاقة‏ ‏كبيرة‏ ‏لم‏ ‏تـُسـْتـَوعب‏، ‏وأن‏ ‏مخزونا‏ ‏زائدا‏ ‏من‏ “‏المعلومات‏ ‏الجسم‏ ‏الغريب”‏ ‏قد‏ ‏تراكم‏، ‏وهنا يكون التشخيص‏ ‏المبكر‏ هو السبيل الأمثل لاحتمال ‏‏تحويل‏ ‏المسار‏ ‏إلى ‏ناتج‏ ‏إيجابى ‏‏من‏ ‏واقع فرض لا نمل من تكراره، يقول:

‏ ‏أن‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏الموروث، ‏ ‏والمدعم‏ ‏بتربية‏ ‏معينة‏ ‏هو‏ ‏أساسا ليس مرضا جاهزا، ولكنه استعداد نشط من مستوى معين‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏”يكون‏ ‏قوة”‏ ‏نمو‏ ‏إذا‏ ‏ظل حضوره ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏الكل‏ ‏الواحد‏، ‏فالمهم‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏الباكرة‏ ‏هو:‏ ‏عدم‏ ‏الإسراع‏ ‏برفضه بمجرد ظهور علامات الحركة البادئة فى التعتعة، ‏وإنما‏ ‏العمل‏ ‏على ‏فهم‏ ‏حركية الطاقة وتهدئة حدّتـها لإمكان استيعابها بكل وسائل الضبط والتوجيه والتفعيل وليس بمجرد التنفيث أو قمعها تماما وفورا ودائما. (2)

مع التذكرة طول الوقت بأن بداية المرض هكذا هى إعلان حركة فى “مفترق طرق” بما يمكـِّـن من خلال الوعى المشارك المسئول (بما فى ذلك فرص الرصد المبكر والعلاج المواكب) اختيار الطريق الأسلم والأقدر، ومواصلة التقدم حتى تحقيق وعوده فى مواصلة النمو أو أى من تجليات الإبداع.

 

Screenshot (137)

 تفاؤل ومحاذير:

أولاً: إننا – كبشر – لا نختلف عن سائر الأحياء التى بقيت: خاصة فى ضرورة اتباعنا لبرامج البقاء التى وضعها خالقها وخالقنا إذا كان لنا أن نستمر  لنبقى (لا ننقرض).

ثانياً: إن هذه الأحياء من حولنا، وفى كل مكان، تعرف طريقها الذى أبقاها دون أن تنقرض حتى الآن، وهى تمارس وجودها بوعيها التلقائى، وفطرتها السليمة بدون لغة مرموزة، أو كتابة مثل هذا الكتاب أو حاسوب أو تلفاز أو “فيس بوك” أو نشرات.

ثالثاً: إن نمو الإنسان المعاصر عبر العالم قد انحرف بما يهدد بُعده عن هذه البرامج الطبيعية الإبداعية، وهو مسئول عن هذا الانحراف، لو استسلم له، كما تنذر معالم تزايد الااغتراب المعاصر!!!!

رابعاً: إن مسئولية بقاء أى “نوع” تقع على عاتق كل فرد من هذا النوع بلا استثناء، وإن كانت النتيجة النهائية تقع على جميع الأفراد معا، فكل فردٍ في نهاية النهاية مسؤول عن مآل كل الناس على كل المستويات بلا استثناء!! “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”

 خامساً: إنه ليس بالضرورة أن كل معلومة تتكشف لنا يكون لها تطبيقٌ: محددٌ وفورىّ، وعائدٌ سريعٌ ومرصودٌ: حتى نمارسها أو ننمــِّيها، وقد علّمتنا برامج التطور كما علـّمنا الإبداع، كما علـّمنا قبل هذا وبعده: خالق كل هذا وذاك: أن التغير يحدث بتراكم ما يجرى فى أجزاء الثوانى من أفعال الأحياء معا، حتى لو لم تظهر آثاره إلا بعد آلاف السنين أو أكثر، وهذا مبرر قوى لأن يفعل كل واحد منا ما عليه الآن دون تأجيل مهما تأخر رصد ناتجه!.

سادساً: إنه برغم كل الانحراف الذى وصلت إليه مسيرة هذا النوع من الأحياء المسمى “هوموسابيانز” Homo sapiens (الإنسان العاقل) فإن قلة منهم فى: كل مجال، وكل موقع، ومن كل ملة، و كل مذهب، وبكل فن، وعلم، وحركة، ونبض، وتواصل، وإيمان، يقاومون احتمال الانقراض بإصرار ومثابرة (ربنا يخليهم ويبارك فيهم ويجزيهم خيراً):  لتواصل كما خلقها منظم هذا الكون وحافظه ولابد أن يرحـِّـب بها كل من يستشعر قيمتها ولزومها.

سابعاً: إن الفرصة التى اتيحت لأمثالى، وهم يعايشون وعيا لعدد من البشر مِمّن يواجهون أزمات الكسر فالتعرّى والإعاقة لدرجة المرض:  يعايشون فعلاً أزمة تسمح لهم أن يشاركوا فى تخليق “وعىٍ بينــــذاتى” مع مرضاهم إلى “وعىٍ جمعىّ” “فوعىٍ مطلق”، إلى “وعىِ الأصلِ وأصلِ الأصل”، هذه الفرصة لابد أن تحمِّل صاحبها أمانةً سوف يـُحاسَب عليها، فعلى من يمارسها أن يتحمل مسئولية ما كشفت عنه دون أن يطمسها أو يتجاهلها، ربما بما فى ذلك أن يسجلها: ملاحظات، وفروض، ونظريات فى حدود قدراته.

ثامناً: إن الكتابة والنشر وما شابه ذلك ليست هى الأصل القادر على التغيير، وإنما هى قطرة فى محيط، ومع ذلك فهى قد تـُسهم فى أن ينضم إلينا من يتلقاها بوعى متناغم مع وعى من يحاول فى نفس الوقت أيـًّا كان موقعه ولونه ولغته ودينه ومعتقده ونوعه:  فنتكاتف، فنتآلف، فنتعارف، ونبقى إذ يمتد وعينا إليه؟!

تاسعاً: ومن جديد وهذا كله بفضل التفاؤل العلاجى، وليكن هو هو التفاؤل البقائى:

مرة أخرى: “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً”

فماذا‏ ‏هو‏ هذا ‏الطب‏ ‏النفسى الإيقاعحيوى التطورى الذى أقدمه؟

‏ ‏بما‏ ‏استلهمته‏ ‏من‏ ‏الموقف‏ ‏المعرفى ‏والكيانى ‏النابع من ثقافتى ومهنتى: بلغتى وإيمانى؟ وبما وصلنى من الممارسة فى حدود ما ذكرت، أستطيع أن أقول:

‏ 1- هذا الطب النفسى هو‏ ‏رصد‏ ‏إعاقة، وتحديد فرص المعونة.

‏2- هذا الطب النفسى هو محاولة فهم‏ ‏معنى ‏العَرَض‏ (‏لغة‏ ‏المرض‏)، أى ماذا يقول المرض، وأيضا: ماذا يقول المريض من خلال مرضِهِ إذْ هو يمرض، ثم العمل على أن تتاح له فرصة قول وجهة نظره بطريقة أسلم، وليس بالضرورة على حساب تماسكه واستمراره وامتداده.

‏3- ‏ إن العلاج بكل تشكيلاته: النفسى وغير النفسى: هو تعديل فإكمال‏ ‏بسط‏ ‏نبضة‏ ‏نـمو كادت تُجهض، أو بدأت فعلا فى التراجع أو السير فى طريق غير مأمون.

‏4- ‏ إن العلاج النفسى (وعلاج المريض النفسى) هو احتواء‏ ‏متناقضاته للإسهام فى مواكبة إعادة توجيه نبضة النمو المهددة بالاجهاض أو الانحراف إلى الجدل التشكيلى الخلاق.

 ونخلص من كل ذلك إلى ما يلى:

إن‏ ‏أخطر ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتسطح‏ ‏به‏ ‏الطب‏ ‏النفسى و(الإنسان) ‏هو اختزال‏ ‏الإنسان‏ ‏إلى ‏مستواه‏ ‏الظاهر‏!

 ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏ينفع ذلك‏ ‏التصور‏ ‏الفرويدى ‏الذى ‏يتفق من حيث المبدأ‏ ‏مع‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏ثم‏ ‏يحلـّه ‏حلا‏ ‏تشريحيا‏، ‏ديناميا ‏و‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت ثابتا‏ -مغلقا نسبيا-، و‏ذلك‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏التركيز على ما‏ ‏أسماه‏ “‏اللاشعور”‏، فالمسألة‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏شعورا‏ ‏ولا‏ ‏شعور‏ ‏فى ‏استقطاب‏ ‏اختزالى‏، ‏وإنما‏ ‏الرؤية‏  ‏الجديرة‏ ‏بمواكبة‏ ‏العصر‏ ‏هي : ‏رؤية‏ ‏الإنسان‏ ‏بشكل‏ ‏”متعدد‏ ‏فى ‏واحد”‏، ‏وهذا‏ ‏التعدد‏ هو أحوال متجادلة مبدعة نامية أبدا، فهو ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏كثرة‏ ‏متجاورة‏، ‏أو‏ ‏هو‏ ‏ظاهر‏ ‏وباطن‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏تركيبات‏ ‏متصاعدة‏‏، ‏وجدلية‏، ‏ومتبادلة‏ ‏متناوبة معا‏، ولا يمكن الإحاطة بهذه الطبيعة البشرية بما يختزل هذه‏ ‏التركيبات‏ ‏إلى ‏غير‏ ‏ما‏ ‏هى ‏عليه، أو بما‏ ‏يفضِّل‏ ‏بعضها‏ ‏على ‏بعض‏ ‏بالمعنى ‏السلطوى الفو%D

2 تعليقان

  1. صباح الخير يا مولانا::
    إن الكتابة والنشر وما شابه ذلك ليست هى الأصل القادر على التغيير، وإنما هى قطرة فى محيط، ومع ذلك فهى قد تـُسهم فى أن ينضم إلينا من يتلقاها بوعى متناغم مع وعى من يحاول فى نفس الوقت أيـًّا كان موقعه ولونه ولغته ودينه ومعتقده ونوعه: فنتكاتف، فنتآلف، فنتعارف، ونبقى إذ يمتد وعينا إليه؟!
    التعليق : تلقيت نشرة اليوم بوعى مختلف ،وجدت الله حاضرا فيها ،حتى وصلت إلى فقرة المقتطف هذه ،فسبقتنى إليها دموعى ،وتمثلت عندئذ مقطعا تغنى فيه الست أم كلثوم قائلة :” إن مر ع الخاطر ذكراه ،تنزل من الوجد دموعى…

  2. صباح الخير يا مولانا:
    المقتطف : مراعاة سلاسة النبض‏ ‏السوى بدءًا: بالتصالح مع النوم، والسماح لحركية الحلم – من حيث المبدأ – أن ‏ ‏تقوم‏ ‏بدورها‏، من خلال ‏الاهتمام‏ ‏بها‏ ‏والحفاظ على نتائجها التنظيمية والإبداعية دون الاسراع ‏بمسخها‏ ‏بالترميز‏، ‏والتفسير‏، ‏وفحص‏ ‏المحتوى، ‏وبألفاظ أخرى: ترجيح قبول الحلم وآثاره الإيجابية بغض النظر عن فهمه أو حتى حكيه، وترجيح الاحترام الغامض لحركيته قبل التفسير الجاهز الذى قد يؤدى إلى تسطحيه.
    التعليق : أحببت أن أشارك حضرتك والزملاء هنا تطبيقا مباشرا لما هو مكتوب فى هذا المقتطف ،حيث كنت قد شرحت لابنىى محمد (كان وقتها ١٧ سنة )ما تلقيته سابقا من خلال قراءتي لكتابك ” حركية الوجود وجدليات الابداع ” ( لم أفهمه إلا بعد القراءة الثالثة ),ولأن ابنى كان آنذاك مهتما بكتاب تفسير الاحلام لفرويد ويسالنى عنه كثيرا ،فكنت أجيبه فى مقارنة مع ما وصلنى من نظرية الرخاوى فى الاحلام ،حتى أتانى صباح يوم بوجه رائق بشوش مستبشرا يحادثنى عن حلم ليلته التى رأى فيها أنه قد قام بضرب المدرسين الذين كانوا يضايقونه وهو فى المرحلة الابتدائية ،ثم يعقب بأن ليس المهم ما رآه : من ضربهم ،أو كيف ضربهم ….،لكن المهم تلك المشاعر وهذه النقلة الوجدانية التى يشعر بها ،حتى عبر بقوله :” أنا حسيت انى نمت نومة جميلة قوى ” هكذا تعلمت منه كيفية التقاط أثر الحلم ،حتى أسميته ” الحلم الرخاوى “