الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “مستويات الصحة النفسية” مقتطف من الفصل الثانى: ثانيا: “ولادة فكرة” (1)

“مستويات الصحة النفسية” مقتطف من الفصل الثانى: ثانيا: “ولادة فكرة” (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 14-4-2018

السنة الحادية عشرة

العدد: 3878

“مستويات الصحة النفسية”

مقتطف من الفصل الثانى: ثانيا: “ولادة فكرة”(1)

وسوف ننشر الجزء الأول اليوم وننشر الجزء الثانى باكر، والجزء الثالث بعد باكر.

والأجزاء الثلاثة “خطابات متبادلة سنة 1968 بينى وبين المرحوم أ.د محمد شعلان، وأنا فى باريس وهو فى الولايات المتحدة”

قبل الرسائل

………………..

………………..

“وبعد‏ ‏شهور‏ ‏طويلة‏ ‏حين‏ ‏استقرت‏ ‏الأشياء‏ ‏وأخذت‏ ‏الأسماء‏ ‏الجديدة‏ ‏مواضعها‏ ‏التقريبية‏، ‏كتبت‏ُ ‏إلى ‏زميلى ‏وصديقى ‏الدكتور‏ ‏محمد‏ ‏شعلان‏، وكان فى والولايات المتحدة الأمريكية، كتبت ‏خطابا‏ ‏سيئا‏ ‏للغاية، غالبا لغموضه،  ‏حاولت فيه‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏له‏ ‏الفكرة (فكرة مستويات الصحة النفسية على طريق النمو الفردى) ‏ ‏ببعض‏ ‏التفاصيل‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏شرحت‏ ‏فيه‏ ‏وجهة‏ ‏نظرى ‏فى ‏أن‏ ‏انتشار‏ ‏فرويد‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏لأصالته‏ فحسب، ‏وإنما‏ ‏لحاجة‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏تبرير‏ ‏توقفهم‏ ‏التطوري‏- ‏أو‏ ‏تدهورهم‏- فى العصر الفكتورى ‏خلال‏ ‏القرن‏ ‏التاسع‏ ‏عشر‏، ‏قلت‏ ‏له‏:‏

‏”‏يا محمد‏: ‏إما‏ ‏أن‏ ‏نساهم‏ ‏إراديا‏ ‏فى ‏التطور‏ ‏أو‏ ‏نموت‏، ‏والمسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏حوار‏ ‏متصل‏، ‏ولكنها‏ ‏لا تحتاج ‏- ‏فى ‏نظرى‏- ‏إلى ‏تحليل‏ ‏منظم‏، ‏المسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏حب‏ ‏جارف‏، ‏وصدق‏، ‏وتقشف‏ ‏نفسى، ‏وتصوف‏، ‏وإيمان‏ ‏بالأصل‏، ‏وبالاستمرار‏، ‏ويقين‏ ‏بالغد‏، ‏وبكل‏ ‏ماهو‏ ‏أصيل‏… ‏وأين‏ ‏هذا‏ ‏كله؟

يا محمد: هو‏ ‏موجود‏ ‏عبر‏ ‏التاريخ‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يجعلنا‏ ‏نفخر‏ ‏بأن‏ ‏ننتمى ‏إلى ‏هذا‏ ‏الجنس‏ ‏من‏ ‏المخلوقات‏…. ‏ليس‏ ‏هناك‏ ‏جديد‏ ‏بمعنى ‏الجديد‏، ‏وإنما‏ ‏الجديد‏ ‏هو‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏القديم‏، ‏أنا‏ ‏لاأشك‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏حوالى ‏ألف‏ ‏أو‏ أكثر أو أقل‏- ‏فى ‏مجال‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏فقط‏- ‏يفكرون‏ ‏فيما‏ ‏أفكر‏ ‏فيه‏ ‏الآن‏، ‏أنا‏ ‏لاأشك‏ ‏أنى ‏إن‏ ‏لم‏ ‏أكتب‏ ‏ما يدور‏ ‏فى ‏ خلدى‏- ‏الشئ‏ ‏الذى ‏يلح‏ ‏على ‏فيه‏ ‏البعض‏ ‏الآن‏- ‏لاأشك‏ ‏أن‏ ‏غيرى ‏سوف يكتبه‏، ‏وربما‏ ‏أفضل‏، ‏وأنا ‏ ‏أقترح‏ ‏أن‏ ‏تعتبرها‏ -إن شئت- ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الضلال‏ ‏المنظم‏ Systematized delusion، ‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏رأيتَ‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الضلال‏ ‏هو فى ‏خدمة‏ ‏الذات‏ ‏والتطور‏.. ‏إذن ‏فهو‏ ‏الخـَلـْق‏..‏

هل‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏أن‏ ‏أحدثك‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏كان؟‏. ‏فليكن‏..‏

الآن‏: ‏ماهو‏ ‏موقفنا‏ ‏من‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏وتقسيماته‏ ‏وعلاجه؟

‏يا محمد: راجع‏ ‏التقسيم‏ ‏الدولى ‏والأمريكى ‏وغيرهما‏ ‏وتعجب‏ ‏للمرحلة‏ ‏المتواضعة‏ ‏التى ‏تجمـَّدْنا‏ ‏عندها‏…‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏محاولة‏ ‏فهم‏ ‏المخ‏ ‏بالتفاعلات‏ ‏الكيميائية‏ ‏وفقط‏، ‏وستجد‏ ‏تقلصات‏ ‏العلماء‏ ‏فى ‏المعامل‏ ‏تشبه‏ ‏تشنجات‏ ‏الفئران‏، ‏إذ‏ ‏يحاولون‏ ‏تعميم‏ ‏ما‏ ‏على ‏الفأر‏ ‏على ‏الإنسان‏…‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏الموقف‏ ‏الأبله‏ ‏فى ‏تفسير‏ ‏الصدمات‏ ‏الكهربائية‏،….‏بما يصاحبه من رفض وتشويه، دون التعمق فى أثرها ومحاولة قراءتها مادام لها هذا‏ ‏المفعول‏ ‏الأكيد إذا أحسن توقيت استعمالها. (2)

ثم‏ ‏راجع‏ ‏النظريات‏ ‏السيكوباثولوجية‏ ‏وعدم‏ ‏ارتباطها‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏وبالوضع‏ ‏النيوروبيولوجى ‏للمخ‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى، ثم‏ ‏راجع‏ ‏أقصى ‏اليمين‏ ‏من‏ ‏المدعين‏ – ‏مثلا‏- ‏أن‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏ما هى ‏إلا‏ ‏نوع خاص‏ ‏من‏ ‏الصرع‏…. ‏وهم‏ ‏لا يعرفون عمق حركية‏ ‏الصرْع‏ ‏أصلاً‏.‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏الصراع‏  ‏بين‏ ‏التحليليين‏ ‏والسلوكيين‏.‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏علاقة‏ ‏الأمراض‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏: ‏الصرْع بالفصام‏  ‏ ‏والأخير‏ ‏بجنون‏ ‏والهوس‏ ‏والاكتئاب‏.‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏التاريخ‏…. ‏أعنى ‏تاريخ‏ ‏الحياة‏ وتطورها ‏وتناسبها‏ وتوازيها: ‏لا‏ ‏مع‏ ‏المرحلة‏ ‏الفمية‏ ‏والمرحلة‏ ‏الشرجية‏…. ‏ولكن‏ ‏مع‏ ‏الموقف‏ ‏البارنوى ‏والموقف‏ ‏الاكتئابى تطوريا ونمائيا …. ‏الخ‏”

ومضيت‏ ‏فى ‏خطابى ‏ألح‏ ‏على ‏حاجتنا‏ ‏إلى ‏جديد‏ ‏يربط‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏ببعضه‏ ‏البعض‏ ‏وأن فهما جديد لفاعلية‏ ‏الفارماكولوجيا‏ (‏علم‏ ‏العقاقير‏ ‏الطبية‏) ‏النفسية‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وتداخل‏ ‏الأمراض‏ ‏الذهانية‏ ‏فى ‏بعضها‏ ‏البعض‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعمق‏ ‏الفهم‏ ‏ويحل‏ ‏الإشكال‏.. (3) ‏

‏ثم‏ ‏عرضت‏ ‏فكرتى ‏عن‏ ‏أن‏ ‏مخ‏ ‏الإنسان‏ ‏ليس‏ ‏مخا‏ ‏واحدا‏ ‏بل‏ ‏عدة‏ ‏أمخاخ‏، ‏وأنى ‏أعنى ‏بالمخ‏ ‏تركيبا‏ ‏متكاملا‏ ‏وليس‏ ‏منطقة‏ ‏بذاتها‏، وأيضا مستوى من الوعى يمثل مرحلة من التطور، ‏وأ‏ن‏ ‏كل‏ ‏تركيب‏ ‏متكامل‏ ‏له‏ ‏نقطة‏ ‏انبعاث Pace Maker  ‏ ‏تنظم‏ ‏عمله‏، ‏وأنه‏ ‏فى ‏الأحوال‏ ‏العادية‏ ‏لا يقود‏ ‏إلا‏ ‏مخ‏ ‏واحد‏ ‏وتكون‏ ‏بقية‏ ‏الامخاخ‏ ‏كامنة متكافلة،‏ ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏المخ‏ ‏الواحد‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يسيطر‏ ‏على ‏كل‏ ‏أجزاء‏ ‏الجهاز‏ ‏العصبى فى وقت بذاته، ‏وفى ‏الأحوال‏ ‏المرضية‏ الأخطر ‏يعمل‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مخ‏ فى تنافس أو تصادم، ‏وأحيانا‏ ‏يعمل‏ ‏المخ‏ ‏القديم‏ ‏متفوقا‏، ‏وينتصر‏ ‏على ‏المخ الحديث فى الصراع بينهما، فيُشـَلّ الأخير وقد يتفسخ، وأن العقاقير تعمل بشكل تطورى انتقائى على بعض الأمخاخ دون الأخرى، وبذلك يمكن تهدئة المخ‏ ‏القديم الناشز‏ ‏اختياريا‏ ‏دون‏ ‏المساس‏ ‏بدرجة‏ ‏كبيرة‏ ‏بالمخ‏ ‏الحديث‏، ‏وأن‏ ‏الصدمة‏ ‏الكهربائية‏ ‏إنما‏ ‏تمسح‏ ‏النشاط‏ ‏الكهربائى ‏لكل‏ ‏الأمخاخ‏ ‏ثم‏ ‏تعطى ‏الفرصة‏ ‏للمخ‏ الأجهز ‏الأقوى ‏أن‏ ‏يلتقط‏ ‏عصا‏ ‏المايسترو‏ ‏ليوجه‏ ‏فرقة الأمخاخ‏ ‏كلها‏، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏يفسر‏ ‏اختلاف‏ ‏الاستجابة‏ ‏للعلاج‏ ‏الكهربائى ‏حسب الإعداد الكيميائى الانتقائى والتهيئة التأهيلية المناسبة‏، ‏وأن‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏عبر التواصل‏ ‏الإنسانى ‏يجذب‏ ‏طاقة‏ ‏المريض‏ ‏إلى ‏الخارج،‏ ‏إلى ‏الناس، إلى الموضوع، إلى الآخر،‏ ‏وهو يغرى ‏المخ‏ ‏الحديث‏ ‏بأن‏ ‏يعاود التقاط‏ ‏”عصا‏ ‏المايسترو”،‏ ‏وألا يخاف‏ ‏من‏ العلاقة بالآخر ولا من ‏الوحدة‏ ‏أو‏ ‏القهر‏، ‏وأنه‏ ‏بذلك يمكن أن ‏ ‏يتوافق‏ ‏العلاج‏ ‏الكيميائى ‏مع‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏مع‏ ‏العلاج‏ ‏الكهربائى، ‏وقسَّمت‏ ‏له‏ ‏الأمخاخ‏ ‏وسمَّيتها‏، ‏وكان‏ ‏بديهيا‏ ‏وأنا‏ ‏أعرض‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏فى ‏خطاب‏ ‏من‏ ‏بضع ‏صفحات‏ ‏أن‏ ‏أزيد‏ ‏الأمر‏ ‏تعقيدا‏ ‏وليس‏ ‏توضيحا‏، ‏كما‏ ‏قد‏ ‏يجد‏ ‏القارئ‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏متاهة‏ ‏وهو‏ ‏يتابع‏ ‏الفقرة‏ ‏السابقة‏ ‏مما‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏اعتذار‏ ‏جديد‏- ‏وكان‏ ‏بديهيا‏ ‏ألا‏ ‏أتوقع‏ ‏ردا‏ ‏إيجابيا‏… ‏وهذا‏ ‏ماحدث‏- ‏ولكنى ‏على ‏كل‏ ‏حال‏ ‏ختمت‏ ‏الخطاب‏ ‏قائلا‏:‏

‏”‏والآن‏: ‏هل‏ ‏نعلن‏ ‏الثورة؟‏ ‏هل‏ ‏نرفض‏ ‏الأسماء البالية؟‏ ‏هل‏ ‏آن‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نصمم‏ ‏على ‏التطور‏ ‏بإرادتنا‏ ‏وعلى ‏رفض‏ ‏المقدسات‏ ‏الخادعة‏، ‏هل‏ ‏نأخذ‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مخ‏ ‏أصالته‏ ‏وجوهره‏ ‏ونحاول‏ ‏أن‏ ‏نوافق‏ ‏بينها‏ ‏لنحوّل‏ ‏الناس‏ ‏المنشقين‏ ‏على ‏أنفسهم‏ ‏إلى ‏إنسان‏ ‏واحد‏ ‏متوافق‏ ‏مع‏ ‏تاريخه‏ ‏المجيد‏ ‏فى ‏الصراع‏ ‏للبقاء‏ ‏والتطور‏.‏

هل‏ ‏ تسمع يا محمد؟‏ ‏هل‏ ‏تكتب؟‏ ‏هل‏ ‏نتفاهم؟

هل‏ ‏نستطيع‏ ‏الصمود‏ ‏حتى ‏نموت‏ ‏لا‏ ‏تسرقنا‏ ‏أيامنا‏ ‏ولا‏ ‏أطماعنا‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يفتت‏ ‏عقولنا‏ ‏الكولسترول‏ ‏المترسب‏ ‏داخل‏ ‏شراييننا؟

هل‏ ‏نستمر؟

هل‏ ‏نيأس‏ ‏مثل‏ ‏الأنواع‏ ‏المنقرضة‏ ‏من‏ ‏الأحياء؟

هل‏ ‏أنت‏ ‏معى؟

ولك‏ ‏منى ‏الحب‏ ‏والسلام‏…‏”

يحيى

(وغدًا أكتب ردّ صديقى رحمه الله)

[1] – يحيى الرخاوى (“مستويات الصحة النفسية” من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة) الطبعة الأولى 2017  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.

[2] – وصلت بعد ذلك بعشرين عاما إلى تفسير نيوروبيولوجى لطريقة عمل هذا العلاج من منطلق كيف يعيد المخ بناء نفسه باستمرار، وكيف يمكن أن يكون هذا العلاج بمثابة “إعادة تشغيل Restart للمخ ليعيد بناء نفسه بعد الإعداد المناسب لذلك: أنظر “صدمة بالكهرباء .. أم ضبط للإيقاع”؟ www.rakhawy.net

[3]- تطور هذا بعد ذلك إلى أطروحتى عن “واحدية الأمراض النفسية”   Unitary Concept of Psychiatric Disorders ، وهى متاحة فى موقعى www.rakhawy.net  ولم تنشر ورقيا بعد.

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *