الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ماذا حدث لقِيَم المصريين؟! (1 من 2)

ماذا حدث لقِيَم المصريين؟! (1 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 25 -4-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4620

ماذا حدث لقِيَم المصريين؟! (1 من 2) (1)

 السيدة أجنبية أوربية غربية تعيش فى مصر من سنوات، جاءت تطلب مشورتى فى أمر من أمور بناتها، تدرج الحديث إلى تفاصيل تاريخ تكوين أسرتها ومسار معاشها، ولماذا فضلتْ، فأقنعت زوجها المصرى، أن تقيم الأسرة بقية حياتها فى مصر دون بلدها المتقدم، وصلتنى إجاباتها تقرر بأمانة أنها وجدت فى ناس مصر (الحاليين جدا) شيئا مختلفا هو أقرب إلى ما تريد، شيئا لا هى سمّته، ولا أنا حاولت أن أتمادى فى السؤال عنه حتى لا أحبطها أو أحبطنى.

الحديث عن الشخصية المصرية بشكل يمكن تعميمه يكاد يكون مستحيلا حتى من خلال نتائج الأبحاث التى تصدرها مراكز الأبحاث عندنا، وذلك لأسباب لا داعى لذكرها. من باب أولى ينبغى الحذر من الاعتماد على الانطباعات الشخصية وخاصة حين نعمم من خلالها أحكاما دامغة. مهنتى تضعنى فى مأزق آخر: فمع أنها أتاحت لى معايشة عدد هائل من ناسنا من كل بقعة من بقاع مصر، فإن معايشتى لهذا الكم من المصريين عبر هذا العدد من السنين، هى قاصرة – أغلبها – على المرضى وذويهم. هناك زعم يقول إن المرضى (وذويهم) لا يصح أن يكونوا المرجع الذى نقيس به، أو نرسم من خلاله، خريطة الأسوياء، وُجِّـهَ هذا النقد لسيجموند فرويد حين عمم ما حصل عليه، من عيادته وتحليلاته، على الشخص العادى. هذا اعتراض خاطئ حيث المسألة غير ذلك، المريض يتعرى فنرى فيه أنفسنا التى لا نجرؤ أن نراها إلا من خلاله، اختلاف مسار المرضى إلى السلب والهزيمة بعد ذلك هو المرفوض تعميمه.

أعترف ابتداء أن ما سوف أطرحه فى هذه المداخلة هو انطباعات قابلة للقبول والرفض، غير صالحة للتعميم، وهى أساسا، وربما تماما، من واقع خبرتى الإكلينيكية خلال نصف قرن إلا عاما واحدا، (1957-2006) كما أنها بالضرورة، غير قاصرة على المصريين فى نهاية النهاية.

المأزق صعب، والأزمة عامة

أزمة القيم عبر العالم تفرض نفسها بشكل لحوح ومنذر. ربما يرجع ذلك إلى أمرين: أولا: مأزق انتصار قطب أوحد فى آخر جولة عالمية من جولات الحرب الباردة، وثانيا: تزايد إمكانيات التواصل بين سائر البشر بقدر أكبر وأسرع من أن تحول دونه أية وصاية أو رقابة. هذا بالإضافة إلى أن ثم تداخلا مشوشا بين “القيم” و”الأخلاق”.

بعد انتهاء الحرب الباردة لم يتسلم القطب المنتصر قيادة العالم عسكريا واقتصاديا فحسب، وإنما وجد نفسه داعية (حتى كأنها النبوة) لمعتقداته (أيديولوجيته) الخاصة، وبالتالى تصور أنها الأرقى، والأبقى، ما دام هو الأقوى والأكثر ثراء والأنشط إعلاما وتسويقا. انتشرت لذلك قيمه الخاصة نتيجة لما يسمى “تأثير الهالة”. أغلب هذه القيم سبق اختبارها وفشلت من قبل، ومع ذلك فقد عادت تطل من خلال نجاح لا يعزى إليها بقدر ما يعزى إلى غباء منافسيها. من تلك القيم مثلا: قيمة الاستهلاك، وقيمة الرفاهية، وأغلب ما يسمى قيم السوق، ثم تفرعت قيم أخطر وأدنى مثل قيمة الحق فى تصنيف الناس إلى أخيار وأشرار. بل إن قيمة الديمقراطية نفسها كما تُسوَّق لنا، وكثير من القيم التى تدرج تحت ما يسمى بحقوق الإنسان، تحتاج إلى مراجعة طول الوقت.

فى نفس الوقت اهتزت حتى تشوهت قيم كانت دائما أكثر إنسانية وأكثر نفعا على مسار التطور، مثل قيمة العدل وقيمة الدفاع عن النفس، فقد تم إدخال تعديلات عليها حتى أصبحت تفيد عكسها، فثم عدل انتقائى، وعدل استثنائى، وعدل خصوصى (بالمقاس). قيمة “الدفاع عن النفس” أطلقوا عليها أسماء حركية لتصبح صالحة للاستعمال فى قتل آلاف الأبرياء دون حساب، أسماء مثل الهجوم الاستباقى، أو مكافحة الإرهاب أو التطهير العرقى للجنس الحامل جينات الشر اكتسابا. أغلب هذه التحولات ليست نابعة من مصر، وفى نفس الوقت هى غير بعيدة عن مصر.

حين طلب منى أن أرصد التحولات التى جدت على الشخصية المصرية ترددت طويلا حتى كدت أتراجع تماما. مع احترامى لكل الكتابات المجتهدة التى حاولتْ أن ترصد ما جرى للمصريين خلال عشرين عاما أو خمسين عاما، لابد من التنبيه – على الرغم من جودتها- أنها تحمل قدرا من السيرة الذاتية عممها أصحابها حتى تصبح هى المرجع لما ذهبوا إليه. ثم إنى نبهت إلى خطورة التعميم، ثم تصورت أن أية مداخلة جادة لابد أن تتعدى المرحلة الوصفية إلى ما يلوح من بدائل لنا ولغيرنا، ولو كانت آمالا أو وعودا، أو حتى شطحا.

إن أية ممارسة سلبية فى أى مكان فى العالم هى خطر على سائر البشر، كما أن كل اجتهاد أو إبداع إيجابى فى أى مكان فى العالم هو خير عام. موقف بوش من تقسيم الناس إلى خيرين وأشرار، ثم قتل الأبرياء استباقا، هو خطر على الجنس البشرى كله بما ذلك شعبه الذى انتخبه، كذلك ما يحدث من إسرائيل – فيها وفينا- هو خطر عليها وعلى جيرانها بقدر ما هو خطر على البشرية، فى حين أن موقف النقاد المبدعين الأمريكيين والألمان والإنجليز من سلطاتهم الظالمة فى كل مجال (العلم والاقتصاد والسياسة)، هو قيمة تعود بالخير على الجنس البشرى كافة دون استثناء.

ما أقدمه فى هذه المداخلة ليس إلا فروضا ناقصة ، ربما غير قابلة حتى للتحقيق، إلا أنه يمكن أن نلتقط منها ما لا يتحمل الانتظار، ففائدة الفرض العامل قد تسبق إثباته بدهور، وهل بقيت الأحياء التى نجت من الانقراض إلا بفروض لم تثبتها إلا حقيقة بقائها؟

تقسيم هادف يتجاوز الوصف:

لتحقيق هدف هذه المداخلة سوف أقدم أمثلة لمجموعات من القيم قيد النظر، ربما يتيح ذلك فرصة للنظر فيما يمكن أن يترتب على إقرار أو رفض ما تيسر منها مما يحتاج إلى إضافات وتفاصيل وحوار ومراجعة:

المجموعة الأولى: ترصد التحول الذى حدث ويحدث فى منظومة القيم، ليس فقط بإحلال قيم سلبية محل قيم إيجابية، ولكن بتحويل كثير من منظومة “الرذائل”، إلى قيم جديدة نكاد نفخر بها، وذلك من خلال التكرار، والتعميم، والتعود، حتى كادت تصبح نموذجا لما ينبغى أن نعلمه لأولادنا حتى يتمكنوا أن يواصلوا الحياة بمقاييس النجاح الجديد، بشكل أو بآخر.

المجموعة الثانية: تشمل سلسلة من المبادئ والمواقف التى تجمدت فى موقعها نتيجة لحسن سمعتها، وكثرة ترديدها معه أنه انتهى عمرها الافتراضى برغم أدائها واجبها فى حينها.

أما المجموعة الثالثة فهى ما لن أتناوله فى هذه المداخلة بأية تفاصيل، مع أنها هى التى يمكن أن تبين ما أردت أن أعنيه وأرجوه أن نتحول إليه نحن البشر(ما أمكن ذلك!).

المجموعة الأولى:

قيم الفخر بالسلبى

أولا: قيم ‏الغش‏ ‏

تدرجت فى مجتمعنا ممارسات الغش متسحبة، ثم معلنة، فردية ثم جماعية، حتى أصبحت صنعة متقنة لها مدارسها وأساتذتها، بل وكتبها وبرامجها، يتباهى من يفعلها ويحكى عنها، حتى كادت تصبح موضع حقد من يعجز عن ممارستها. يبدأ الغش منذ الرضاعة، حين تُرضع الأم رضيعها لبنا انتهت مدة صلاحيته أو اختلفت محتوياته، وقد غشها بائِعُهُ أو صانِعُهُ بتزوير التاريخ أو تلويث أو تزوير مكوناته. قد تعلم الأم أو لا تعلم ذلك، ومع ذلك تصل رسائل الغش إلى نسيج الثقافة دون حاجة إلى إخطار صريح. يتواصل الغش حين يذهب الأطفال للمدارس تحت عنوان التعليم، وهم لا يذهبون إلا ليتناولوا الوجبة المجانية أو المخفضة، ثم يتأكد الغش الصريح بإقرار الأسرة له كقيمة تزهو بها على غيرها، حين تفخر الأم أمام ابنها وصاحبه (خصوصا إذا كانت مدرسة أو ناظرة مدرسة أو زوجة رئيس مجلس المدينة) على أهل زميل ابنها لأنهم لم يتمكنوا أن يغششوا إبنهم بنفس القدر الذى نجح به زوجها، كلُّ حسب مركز أبيه، ثم تتأكد قيمة الغش الجماعى بمكبرات الصوت خارج سرادقات الامتحانات، وبإملاء المراقيبين الإجابات للطلبة (الغلابة)…الخ، وصلتنى أرقام مرعبة عبر العالم أرجو ألا يتوقف القارئ عندها مرتاحا وهو يقول “مثلنا مثل غيرنا”، فيضيف إلى الرذيلة رذيلة أخرى. إن انتشار قيمة سلبية حتى عبر العالم لا يعطيها شرعية. من أول الغش حتى الحرب، مرورا بشطارة احتكار السوق. من هذه الأرقام إحصائية لمركز النزاهة الأكاديمية فى جامعة ديوك على 50 ألف طالب جامعى و18 ألف طالب ثانوى أمريكى اعترف أكثر من 70% بأنهم مارسوا غشا فى الامتحانات. كما أقر التقرير أن نسب الغش ارتفعت اربع مرات خلال السنوات الست الماضية، (ثم أرقام أخرى متاحة من الهند وكوريا الجنوبية وبكين) ولكن يبدو أن هناك أنواعاً من  الغش تسير جنبا إلى جنب مع الانتاج، وأنواع أخرى تدعم البلادة والكسل والتزوير إلى مالا نهاية، نحن أقرب إلى النوع الأخير: يتخرج النشء عندنا بعد ذلك أو لا يتخرج، فنقابله هو هو فى سوق المال، أو على كرسى الجامعة، أو فى مجلس الشعب أوفى مراكز أعلى فأعلى!

 تقع تحت بند الغش بعض الإجراءات التى تقوم بها الدولة خداعا للمواطنين حين توهمهم بأمور لصالحهم وتعمل عكسها تماما، كأن تنقص من وزن رغيف الخبز وهى تعلن عدم زيادة سعره بالصوت الحيانى، وهكذا. أما التهرب من الضرائب- غشا-، فهو القاعدة.

نختم التذكرة بما وصلت إليه هذه القيمة من رسوخ بحضورها الدائم والمتكرر فى تزوير الانتخابات. المداخلة الحالية لا تتوقف عند الاهتمام بالموقف القانونى لإثبات التزوير أو تجريمه. إن التزوير كقيمة لا يقتصر على اللعب الصريح فى كشوف الانتخاب، بل إنه يمتد إلى فكرة الخداع بأية صورة، مثل أن تخدع الناخب، بأمانة شديدة! حتى ينتخب سيادتكم مرشحا مستقلا ضد مرشح الحزب الوطنى (مثلا) !!!! فيصدقك وينتخبك، فتنجح، ثم تأخذ صوته دون استئذانه وتنضم للحزب الوطنى، تحت زعم أنك هكذا سوف تتمكن من أن تخدمه وتسهل مصالحه. ثمَّ خداع أخفى لا يعلمه إلا الله والراسخون فى الغش (لا شعوريا؟ ربما)، وذلك حين ترشح نفسك إخوانيا (مثلا)، وتتصرف بما يجعل الناخب يعتقد (لا شعوريا أيضا) أنه بانتخابك سيدخل الجنة، مع أنك واثق (شعوريا) أنك لا تملك مفاتيحها، أو حتى لو كنت تخدع نفسك أنك تملكها (لاشعوريا)، فأنت شخصيا لا تضمن دخولها لا بترشيح نفسك، ولا بانتخابه إياك، بل قد يكون فى هذا وذاك توجُّها للناحية الأخرى.

ثانيا : مجموعة القيم البدائية (القبيلة- القرية)

حين نتحسر على الماضى جدَّاَ، ننسى أننا بذلك نتمنى لو أن الزمن كان قد توقف، وكأن الحل هو أن نحاول إرجاع الساعة. للماضى بنبضه وجمالياته وعطائه، لكن علينا ألا ننسى أنه ماض، لا يمكن – إلا فى ظروف استثنائية، ولفترات محدودة – أن يكون هو الأفضل. من منا يريد أن يرجع قردا، أو حتى أن يحب بنفس الطريقة التى أحب بها “كُثير عزة”، أو يعيش تحت حكم المماليك. هذا المنحى للإعلاء من قيم الماضى دون تحفظ له آثاره السلبية على حركية منظومة القيم من ناحية، وعلى ما آلت إليه هذه القيم الأقدم التى تحَّور استعمالها حتى أصبحت رذائل برغم تاريخها وسمعتها.

 قيم القبيلة تدعم أخلاق الثللية والوساطة، وهى تنتهى بنصرة أخيك ظالما أو مظلوما، مرورا بـ “أنا واخويا على ابن عمى، وانا وابن عمى على الغريب”. أثر هذه القيم على القيم الأخرى مثل العدل وحتى الديمقراطية هو أثر سلبى خطير، كثير من الانتخابات التى تفخر بأنها ديمقراطية جدا مبنية على هذه القيم أولا، وأحيانا: أولا وأخيرا. خطر حضور هذه القيم بثقلها السلبى لا يقتصر على أنها تخل بقيم أنفع وأرقى، ولكن لأنها موضع فخر معلن من كل من يمارسها، برغم كونها خطايا مؤثمة فى كل الأديان. المصيبة أنها تمتد إلى القبيلة الدينية إن صح التعبير، فالذى يجمع أهل دينٍ ما إلى بعضهم البعض ليس بالضرورة الاتفاق الحقيقى فى المعتقد، وإنما هذا الشعور بالأمان الذى يمثله الانتماء إلى القبيلة الدينية التى تنتمى إلى نفس المعتقد. ثم إن كثيرا مما يسمى “أخلاق القرية” ليس إلا تجليات بعض هذه الرذائل التى تُسوَّق على أنها فضائل. الانتخابات بوجه عام تحكمها هذه القيم أكثر من أية قيمة سياسية أو اقتصادية أو برنامج مستقبلى محدد، لايُستثنى من هذا الاتجاه أى من التجمعات الإثنية والدينية والعنصرية فى لبنان والعراق وأيرلندا وحتى الولايات المتحدة. تكمن هذه القيم وتعلن بدْءًا بالوعود الشخصية التى يعدها المرشح لأهل دائرته فى مصر-مثلا- حتى مهارة المرشح عندما ينجح فى الحصول على توقيعات الوزير المختص. يتم تقييم “شعبية” المرشح وكفاءته بمدى دائرة اتصالاته القادرة على تحقيق تسهيلات خاصة لأفراد القبيلة. تتبدى مهارته فى أصرح صورة وهو يصطحب العشرات من أهل دائرته إلى القومسيون الطبى العام للحصول على تراخيص العلاج على حساب الدولة، دون سائر المرضى.

الأخلاق الثللية تمتد إلى دوائر اصغر فاصغر حتى تصل إلى ما يسمى الصالونات الثقافية، الخاصة والعامة، وبرغم ما يدور فيها من بعض التفريغ للاحتقان السياسى، وأيضا بعض النقد الثقافى، فإنها أصبحت مجالا لنوع من التعاون الانتقائى على حساب من هو خارج دائرتهما.

قيمة الثللية لها طيف ممتد من أول تعيين الوزراء حتى الترشيح للجوائز حتى نيلها، (دون تعميم) مرورا بعشرات التشكيلات والتحيزات، وكلها –مع أنها رذائل- هى موضع للفخر والتباهى

ثالثا: مجموعة قيم الشطارة

 أين تقع “الشطارة الآن على متدرج منظومة القيم عندنا؟ هل هى أقرب إلى الفضيلة أم إلى الرذيلة؟ الرد الماسخ سوف يقول لك إن ذلك يرتبط بنتيجتها، وفيم تستعمل” مِن مَنْ إلى أين، ، هذا الرد يبدو ردا صحيحا طيبا حذرا، فلماذا وصفته حالا وابتداء بأنه رد ماسخ؟ لأنه رد هروبى غالبا، ذلك أن المتابع لتطور لغة عامة الناس فى الشارع يعرف أن الشطار لم يعودوا أبناء “على الزيبق” المصرى، ولا حتى أولاد أولاد عمومة أرسين لوبين، وإنما أصبح تعبير الشطارة قاصرا على من يمشى حاله، ويعرف طريقه، ويكتشف نقاط الدخول إلى المحظور دون أن يقع فى المحظور، أنواع الشطارة الرذيلة التى يتباهى بها أغلب الناس، والتى سادت مؤخرا، كثيرة ومتعددة، ولا مجال لتفصيلها (أنظر حولك).

رابعا: مجموعة قيم “الشكل” “للشكل”

أن تفخر بأنك ولِّيت منصب كذا أو حصلت على جائزة كيت، هذا حقك، لكن أن يصل الأمر إلى أن يصبح الكرسى نفسه قيمة نهائية بغض النظر عن ما يسمح لك أن تقوم به، أو يفرض عليك أن تؤديه، وأن تكون الجائزة فى ذاتها هى قيمة قصوى غير قابلة للنقد أو للتمحيص، حتى من نائلها، حين يصير الأمر كذلك فنحن نمسخ الإنجاز الجيد إلى عكسه. إذْ تحل الوسيلة محل الغاية تماما ودائما، مما يُفْرغ الشكل من محتواه. هذا التوجه يصبح أكثر خطراً كلما اقتربنا من مناطق شاع عنها ما يدعو للاحترام حتى التقديس. خذ مثلا مجال البحث العلمى: يتطلب هذا النشاط “المحترم” شروطا بذاتها، وشكلا متفقا عليه، ومواصفات محكمة، حتى يسمى البحث بحثا علميا!! كذلك، لكن الوفاء بأغلب هذه الشروط الشكلية لا يعنى بالضرورة أن المحتوى يستأهل صفة البحث العلمى اصلا.

الذى حدث للاسف فى هذا المجال، وفى مصر خاصة، أن مهارة الحبكة والشكل والتراسل المستوفى شروط النشر، قد أخذت كلها مسارا مستقلا بذاتها، حتى وصل الأمر إلى أن يكون هم من يقوم بالبحث (ولا أقول هم الباحث) هو أن يتعلم تلك المهارات أولا وأخيرا، ليصبح ناتج عمله محبوك المنظر حتى لو تجاوز كل القيم الأخرى. هذه المهارة الشكلية أصبحت تحتاج إلى خبرة منظمة معقدة معا، الأمر الذى استتبعه ظهور مدارس، ومراكز، وتسعيرة، إما لتعليمها، أو للقيام بها نيابة عن صاحبها، وكله بثمنه. زاد هذا التوجه مؤخرا بما أتاحه الإنترنت من برامج، ومصادر، وأدبيات كاملة ومختصرة، مدفوعة أو مجانا. وهكذا ينتهى الأمر إلى إفراغ البحث من مصداقيته وجدواه بغض النظر عن أين نشر ومتى، المهم -فى سياق هدف هذه المداخلة – هو بيان أن من يقوم بمثل ذلك لا يخطر على باله أنه يفرغ وجوده نفسه من فحواه، كما أنه يفرغ المنصب من دلالته، والنشر من فائدته، وهو لا يتذكر عادة أن حسابه قبل وبعد البحث، وقبل وبعد النشر، هو على الله، ولو ألقى معاذيره. بل إن بعض من أتقن هذه الصنعة قد يتبرع بتعليم الأصغر طرق التوفيق (والتلفيق) والتنسيق كذبا وخداعا، وهو يرى أن فى ذلك ثوابا يثاب عليه لأنه ساعد هذا الصغير فى بحثه، وخفف عنه مشقة الجدية والمعاناة فى طلب العلم.

خامسا: مجموعة قيم اللاعمل

المفروض أن الانسان “عامل بطبعه”، وإلا فلماذا الحياة، وكيف؟ لكن ما آل إليه حالنا هو أن العمل كاد يصبح استثناء عند بعضنا (ما أمكن ذلك) يشمل ذلك تقديس الكسل، والتفنن فى تجنُّب العمل. الاكتفاء “بالذهاب إلى العمل دون عمل، كاد يصبح هو القاعدة”، وكأنه إجماع على العصيان المدنى. الجهد الذى يبذله من يمارس هذه القيمة لينجح فى أن يتحايل على الوقت حتى يملأه باللاشئ، يبلغ– فى تصورى أحيانا – قدرا أكبر مما لو كان قد عَمِلَ فعلاً، حتى أنى أشفق على مثل هذا الشخص أنه حرم نفسه من متعة العمل، ولذة الكسل معا. تشكيلات اللاعمل والفخر بها تتضاعف حين يكون الشخص على ميسرة تسمح له بالاستيقاظ بعد العصر، والاستمرار فى الوضع ساكنا حتى الفجر.

كل هذا ليس مربط الفرس كما يقولون، ما يهم هنا هو التنبيه بأن هذه القيمة أصبحت موضع فخر فى كثير من الاحيان، يدعمها وصف من يعمل بانه “كرودية” ، أو”غبى” أو على أحسن الظروف “يستأهل”.

……………………

وغدًا نقدم المجموعة الثانية وهى القيم المتجمدة الثابتة مهما كانت معيبة أو معطلة وأيضا مهما كانت “حسنة السمعة”.

 

[1] – مجلة وجهات نظر – يوليو 2006  

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *