الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كراسات نجيب محفوظ صفحة 8 وصفحة 9

كراسات نجيب محفوظ صفحة 8 وصفحة 9

نشرة “الإنسان والتطور”

28-1-2010

السنة الثالثة

العدد: 881

28-1-2010

 الحلقة الثامنة

الجمعة‏ 30/12/1994‏

كنت‏ ‏قد‏ ‏عرّفت‏ ‏الأستاذ‏ ‏بزميلى وإبنى وصديقى ‏د‏. ‏رفعت‏ ‏محفوظ‏ ليكون بجواره أثناء غيابى إذا اضطررت لذلك‏، ‏وقد‏ ‏كلفته‏ ‏باصطحاب‏ ‏الأستاذ‏ ‏يوم‏ ‏الجمعة‏ ‏بدلا‏ ‏منى أثناء سفرى‏، ‏كما‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏سألت‏ ‏عن‏ ‏الدكتور‏ ‏فتحى ‏هاشم‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏أتعرف‏ ‏عليه‏ ‏بعد‏، ‏والذى ‏كان‏ ‏مصاحبا‏ ‏للأستاذ‏ ‏يوم‏ ‏الحادث‏، ‏سألت‏ ‏الأستاذ‏ ‏لماذا‏ ‏لا‏ ‏يحضر‏ ‏معنا‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏لأشكره‏ ‏نيابة‏ ‏عن‏ ‏مصر‏ ‏والعالم‏، ‏فطلب‏ ‏من‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏أن‏ ‏يطلب‏ ‏منه‏ ‏أن‏ ‏يحضر‏ ‏معنا‏ ‏صباح‏ ‏الجمعة‏، وللأسف‏ ‏سافرت‏ ‏ولم‏ ‏ألقه‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏اليوم‏.‏

حدثنى ‏د‏. ‏رفعت‏‏ ‏عند‏ ‏عودتى ‏أن د. فتحى هاشم‏ حضر اللقاء، وأنه أبلغه ‏رغبتى ‏فى ‏مقابلته‏ ‏والتعرف‏ ‏عليه‏، ‏كما‏ ‏ذكر‏ لى ‏كيف‏ ‏أن د.فتحى‏ ‏تساءل ضاحكا: ‏ ‏لماذا‏ ‏أصر‏ ‏على‏ ‏مقابلته؟‏ ‏هل‏ ‏هى‏ ‏مهنتى ‏التى ‏تفترض‏ ‏وراء‏ ‏كل‏ ‏تصرف‏ ‏عادى ‏سبب‏ ‏غير‏ ‏عادى ‏هى ‏التى ‏تدفعنى ‏للسؤال‏ ‏عنه‏ ‏والحرص‏ ‏على‏ ‏التعرف‏ ‏عليه؟‏، ‏ويؤكد‏ ‏له‏ ‏د‏. ‏رفعت‏ ‏أننى ‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أشرُف‏ ‏بمعرفته‏ ‏وأشكره‏، ‏على فضله بما فعل، ويبدو أن الحديث تدرج إلى أن طلب منه د.رفعت أن يحكى له بعض ما كان أثناء الاعتداء، راح د.فتحى يشرح بعض ذلك شاملا ‏حالته شخصيا ومشاعره‏ ‏التى تعجب لها آنذاك وحتى الآن (وقت الحكى)، وأنا‏ ‏أنقل‏ ‏الآن‏ ‏من‏ ‏رواية‏ ‏د‏.‏رفعت‏:‏

‏”…. ‏حكى ‏د‏. ‏فتحى  بطيبة سمحة أنه ‏ ‏ساعتها‏ – ‏ساعة‏ ‏الحادث‏ – ‏لم‏ ‏يدر‏ ‏ماذا‏ ‏يفعل‏، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏خيل‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏هول‏ ‏المفاجأة‏ ‏أنه‏ ‏كان فى حالة لا يعرف كيف يصفها وكأنه يريد‏ ‏أن‏ ‏يشاهد‏ ‏المشهد‏ ‏بالتصوير البطىء، ‏وبرغم‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يتأخر‏ ‏ولا‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏ثانية‏ ‏فى ‏عمل‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ عمله‏ ‏للإنقاذ و‏الإسعاف والنقل فورا إلى المستشفى‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الشعور‏ ‏ظل‏ ‏يلازمه‏، ‏وها هو‏ ‏يتعجب وهو يسأل د. رفعت‏ ‏هل‏ ‏هذا‏ ‏شعور‏ ‏طبيعي‏؟‏ ‏وهل‏ ‏يلوم‏ ‏نفسه‏ ‏لأنه‏ ‏شعر‏ ‏بهذا‏ ‏الشعور‏، ‏ويقول‏ ‏له‏ ‏أ‏. ‏د‏.رفعت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏أحس‏ ‏به‏ ‏لم‏ ‏يتدخل‏ ‏فى ‏التصرف‏ ‏الرائع‏ ‏الذى ‏تصرفه‏، ‏وأن‏ ‏تكوين‏ ‏الانسان‏ ‏يسمح‏ ‏بكل‏ ‏ذلك‏، ‏وأن مثل ‏هذا‏ ‏ ‏الشعور‏ ‏قد‏ ‏ينتاب‏ ‏المسافر‏ ‏وهو‏ ‏يرى ‏عربة‏ ‏تتهشم‏ ‏فى ‏الطريق‏ ‏السريع‏، ‏وأن هذا لا‏ ‏يعنى ‏أنه‏ ‏يشمت‏ ‏لتحطيمها‏، ‏ربما يحّرك مثل ذلك “داخلنا” “البدائى”، فينفصل عنا يصور الواقعة دون أن يعوق تصرفنا المسئول الأنضج،‏ ‏وتذكرت‏ ‏من‏ ‏حديث‏ ‏د‏. ‏رفعت‏ ‏شيئا‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏حدث لى شخصيا وسجلته ‏‏فى ترحالاتى (الترحال الأول “الناس والطريق”: الفصل الثانى: بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين)، ‏وازداد‏ ‏حرصى ‏على‏ ‏لقاء‏ ‏هذا الإنسان الصادق الطيب د‏. ‏فتحى ‏هاشم‏، الذى أتاح لمصر ولكل الناس – بفضل الله وستره – بضع سنين أخرى من عطاء هذا الإنسان النادر، كما أتاح لى أن أكون بجواره فأتعرف على نفسى وعلى مصر وعلى الإنسان، وعلى ربى أكثر فأكثر،  من خلاله.

الاثنين‏ 2/1/1995‏

رجعت‏ ‏إلى ‏القاهرة‏، ‏من‏ ‏سيناء‏ ‏ومررت‏ ‏على‏ ‏الاستاذ‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏اليوم‏، ‏وتهلل‏ ‏وهو‏ ‏يستقبلني‏، ‏فوصلتنى ‏ ‏رسالة‏ ‏ذات‏ ‏معني‏، ‏وخفت‏ ‏من‏ ‏تمادى ‏العلاقة‏، ‏فـرِحتُ‏ ‏طبعا‏، ‏لكن‏ ‏الخوف‏ ‏كان‏ ‏أكثر‏ (‏لست‏ ‏أدرى ‏لماذا‏) ‏حدثنى ‏الأستاذ‏ ‏باختصار‏ ‏عما‏ ‏كان‏ ‏أثناء‏ ‏غيبتي‏، ‏ثم‏ ‏ذكر‏ ‏لى ‏شكوى‏ ‏ذات‏ ‏دلالة‏، ‏وهى‏ ‏أن‏ ‏طعم‏ ‏الماء‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏كما‏ ‏كان‏، ‏وكذلك‏ ‏الطعام‏، ‏مازال‏ ‏الماء‏ ‏يروى‏ ‏ويطفيء‏ ‏ظمأ‏ه  ‏مثل‏ ‏الأول‏، ‏لكن‏ ‏الطعم؟‏ ‏أين‏ ‏الطعم‏؟ ‏يبدو‏ له ‏الماء‏ الآن بغير‏ ‏طعم‏، ‏كذلك‏ ‏الطعام‏، ‏دخلت‏ ‏زوجته‏ ‏علينا‏ ‏فمازحتـُه‏ ‏سائلا‏، ‏ولكن‏ ‏السجائر‏ أنت ما زلت ‏تدخنها‏ ‏بشغف‏ ‏شديد‏ ‏فيبدو‏ ‏أن‏ ‏طعمها‏ ‏بالذات‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏رجع‏ ‏أولا‏، ‏ضحكت‏ ‏زوجته‏ الكريمة وقد‏ ‏التقطت‏ ‏المفارقة‏ ‏وشاركتنى ‏أنه‏ “‏إشمعنى ‏السجائر‏”؟ ‏لكنه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أنهى ‏ضحكته‏ ‏قال‏ ‏كمن‏ ‏يتذكر‏، “‏ولا‏ ‏حتى‏ ‏السجائر‏، ‏عادت  ‏رغبتى ‏فيها‏ ‏فعلا‏، ‏لكن‏ ‏الطعم‏ ‏لم‏ ‏يعد‏”.  ‏وما‏ ‏زال‏ ‏عجبى ‏لهذا‏ ‏المدخن‏ ‏الرائع‏ ‏الذى ‏يدخن‏ ‏سيجارتين‏ ‏كلما‏ ‏خرجنا‏، ‏ولا‏ ‏يدخن‏ ‏أبدا‏ ‏فى ‏البيت‏ ‏احتراما‏ ‏لأهل‏ ‏البيت‏، ‏وللتعليمات التى اتفقنا عليها، وحتى لو ‏ ‏توالت‏ ‏أيام‏ ‏عدم‏ ‏الخروج‏ لظرف أو لآخر، فإنه يظل لا يدخن فى المنزل أبدا، وظل كذلك حتى غيبوبته الأخيرة، لا يدخن ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ السيجارتين اللتين اتفقنا عليهما فى ‏ ‏كل‏ ‏مرة‏ ‏خروج‏، ‏أى‏ ‏مزاج‏ ‏منضبط‏ ‏هذا يا ناس!!!!، وكأنه أَمَرَ داخله أن ينصاع للتعليمات، فانصاع؟

فسرت‏ ‏له‏ ‏افتقاده‏ ‏للطعم‏، ‏طعم‏ ‏الماء‏ ‏بالذات‏، ‏من‏ ‏منا‏ ‏يعرف‏ ‏أن‏ ‏للماء‏ ‏طعما‏ ‏هكذا‏، ‏ألم‏ ‏يعلمونا‏ ‏أن‏ ‏الماء‏ ‏بلا‏ ‏لون‏ ‏ولا‏ ‏طعم‏ ‏ولا‏ ‏رائحة‏، ‏ولكننى ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏انتبهت‏ ‏من‏ ‏قديم‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏المفارقة‏، وأنشدته ما كتبته من أننا‏:

 ‏وتعّلمنا‏:

 ‏أن‏ ‏الماء‏َ ‏بلا‏ ‏لون‏ٍ ‏وبلا‏ ‏طعمٍ‏ ‏وبلا‏ ‏نكْهةْ‏،

 ‏لكن‏ ‏الحق‏ ‏يقول‏:

 ‏إن‏ ‏الماء‏ ‏العذب

‏ ‏هو‏ ‏شهد‏ ‏الفطرة‏”‏

ألحقت ذلك بشرح رأيى بوضوح: إن‏ ‏من‏ ‏لا‏ ‏يستطعم‏ ‏الماء‏ ‏لا‏ ‏يستطعم‏ ‏شيئا، ‏فسرت‏ ‏له‏ الأمر بأن ‏احتمال‏ ‏ارتجاج‏ ‏بعض الأعصاب، وهو ‏ ‏الذى ‏أثر‏ ‏على‏ ‏صوته‏،‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏أثـّر‏ ‏على ‏أحد‏ ‏فروع‏ ‏هذا‏ ‏الأعصاب‏ ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏التذوق‏ ‏فى ‏اللسان‏، ‏فأومأ‏ ‏وكأنه‏ ‏اقتنع‏، ‏لكنه‏ ‏أضاف‏ ‏بعد‏ ‏صمت‏ ‏قصير‏ (‏وهذه‏ ‏عادته‏ ‏التى ‏أدركتها‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏، ‏فرحت‏ ‏أسكت‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏عدة‏ ‏جمل‏ ‏حتى‏ ‏أسمح‏ ‏بهذه‏ ‏الفترة‏ ‏من‏ ‏الكمون‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يرد‏) ‏أضاف‏: ‏أو‏ ‏لعله‏ البرد  ‏الخفيف‏ (‏الانفلونزا‏) ‏الذى ‏أعانى ‏منه‏ ‏الآن، فعقبت أن هذا ممكن لو كانت  ظاهرة فقد الطَّعم طارئة أو مؤقته، إلا أنها – كما بلغنى منه – ظهرت منذ الحادث، ولا تزال ممتدة. ثم أردفت أن الأعصاب شديدة الكسل فى إنماء أطرافها بعد الإصابة، فنظر إلى مبتسما وقال: “ونحن؟؟، لم افهم لأول وهلة، لكننى بسرعة علقت: “ونحن أيضا كذلك”، فربّت على ساقى وأنا أجاوره وقال: “من فمك لباب السماء”! وابتسم. ‏

الجزء الثانى

من كراسات التدريب (1)

صفحة (8)

1

 

نجيب محفوظ

أم كلثوم

فاطمة

الهدى لمن اهتدى

الصدق منج

العمل عبادة

نجيب محفوظ

2-2-1995

القراءة

وددت لو أننى بدأت بتكرار الاعتراف بخطئى فى تفسير تواتر كتابة  اسمىْ كريمتيه، فها هو مرة أخرى يكتب اسميهما  مجردين دون لقبهما، وهو ما ذكرته فى قراءة الصفحة السابقة.

أما تلاحق هذه الجمل فى حـِكَمٍ مرسلة هكذا، فهى لم تصلنى على أنها منفصلةٌ دلالاتها كما ذكرت سالفا. وذلك حين عقبت على ما كتبت منذ يومين: “يعجبنى الصدق فى القول، والإخلاص فى العمل” (الحلقة السادسة فى شرف صحبة محفوظ)، أقول إن تعاقب هذه الجمل قد لا يعنى ربطا ضروريا فيما بينها.

نجيب محفوظ لا يكتب حِـكـما، ولا يلقى مواعظ كما ذكرنا، وهو نادرا ما يستشهد بالأمثال.

فيما كتب هنا، هو يضيف إلى”العمل” صفة شديدة الدلالة عنده، إذ يبين أن العمل عبادة، حين تابعت علاقته بما يعمل، بعد كل ما أعاقه، حتى بالنسبة لإعاقات الحواس قبل الحادث، كنت أشعر فعلا أنه يصلى وهو يعمل، وأنه أقرب إلى ربه ، ربنا، وهو يبدع (يعمل إبداعا).

العبادة عند نجيب محفوظ تشمل “التوجّه” و”الإتقان” و”الناس”، سعيا غير معلن، حتى لنفسه إلى وجه مطلق لا سبيل إليه إلا بالإيمان بتفتح آفاق الإبداع على ما لا نعرف: الغيب.

العمل عنده، كما بلغنى منه، وما شاهدته كان كذلك تماما.

العبادة تشمل رضا الله من ناحية، ونفع الناس من ناحية أخرى

مدح الصدق بأنه مـُنْجٍ كما شاع عند الغالبية هو أقل من قيمة الصدق الذى ينتمى إليه هذا الرجل، وقد أعود إلى ذلك فى مقام آخر إذا سمحت كتابات التدريب بذلك، لكننى أكتفى بأن أبين كيف أن ما وصلنى منه يبرر أن أقرر أنه لا يعنى –هنا –  النجاة من مأزق، أو أنه أسهل لحل المشاكل مما لو كذبنا، وأشياء من هذا القبيل، غلب على ظنى أنه يعنى أيضا، وربما أصلا:  الصدق مع النفس، نعم، الصدق مع النفس ينجى الواحد منا من أن يكون غير نفسه، ما أمكن ذلك، نجيب محفوظ يمارس الصدق لأنه صادق، وليس بهدف النجاة بالمعنى البسيط السائد، ولعله يدعونا أن ننجو بأنفسنا لأنفسنا مما هو ليس كذلك.

حين أمارس النقد فى إبداعه (وكان آخر ذلك تلك الدراسة المقارنة التى أشرت إليها فى الحلقة قبل الماضية بين (“سيميائى” كويلهو، ورحلة “ابن فطومة”) أقف أمام عبارة واحدة من كتاباته وصفا أو حوارا، وأشعر أنها المثال النموذجى لما هو صدق، لا أريد أن أسمى ذلك بالاسم الشائع لمثل ذلك “المعادل الموضوعى”، لكننى اشعر أن هذه الجملة صادقة من حيث أنها تفيد ما يريد توصيله بلا زيادة ولا نقصان، فهو صادق حين كتبها بهذا الإحكام، وفى هذا ما يجعلها تصل إلى متلقيها بما تحمل بالضبط، وأن النجاة هى فى هذا التطابق الجميل للتواصل.

ربما.

أجلت التعليق على ما كتبه أولا، وهو يقرر، أو يكرر أن “الهدى لمن اهتدى”، لأن هذا المعنى شغلنى كثيرا جدا، وتمنيت أن ترد مناسبة أرحب أتناوله فيها كما جرى بيننا أحيانا، فهى قضية مهمة بالنسبة لى، وقد انتبهت إلى أنها مهمة بالنسبة له أيضا استوقفتنى طويلا مع ما وردنى من تداعياتها، مثل:  “إن الهدى هدى الله”، و”…الله يهدى من يشاء”، كل هذا يثير التساؤل البدئى الذى يقول:  كيف يكون الهدى لمن اهتدى؟ وهل ينبغى أن يهتدى الإنسان أولا حتى يستحق أن يعيش الهدى، أو ينال الهدى أو يكمل الهدى، تماما مثلما  استوقفتنى الآية الكريمة ” يا أيها الذين آمنوا، آمِنوا…”، لقد آمنوا فعلا، فكيف يؤمنون من جديد. كان ذلك حين كان تفكيرى يميل إلى السكون نوعاً، أما حين تحرك وعيى مع حركية المعرفة، وعلمت أنه “لا شىء فى ثبات”، لا الهدى ولا الإيمان ولا حتى الموت، بمعنى أن كل شىء، وكل فكر، وكل وجدان، هو فى حركة متجددة، وبالتالى يكون الهدى (الجديد المتجدد)، لمن اهتدى (لمن حسب أنه وصل إلى غاية الهدى).

أنا لا أزعم أن هذا كله كان وراء هذه الجملة البسيطة الكبيرة فى وعى محفوظ وهو يتدرب، ويعلم يده الكتابة، لكن لعلمى به، ولمناقشتنا طوال هذه السنوات، ومن خلال نقدى أعماله، كنت أرى هذه الحركة المتجددة، حتى فى نقدى الأخير لابن فطومة، ذلك أنه حين وصل قنديل العنابى (إبن فطومة) إلى ما حسبه “الجبل”، وهو من بداية رحلته لم يسع إلا ليصل إلى “دار الجبل”، أقول “حين وصل لم يصل”، فها هو يظهر أمامه فى الأفق البعيد  جبل آخر على مدى الرؤية، جبل لا يصله إلا من يسعى إليه “فردا”، لتنتهى  الرواية ، الرحلة، كما تنتهى الحياة، تنتهى وقنديل يسعى، كما كان محفوظ يسعى، وكما كان يرجو لنا أن نسعى، مثله، ومعه، وبعده قنديل يصل إلى الجبل ليواصل إلى دار الجبل…

طيب، إذا كان “الهدى لمن اهتدى”، فماذاعن من لم يهتدِ، من أين يحصل على حقه فى الهدى؟

مادامت العملية مستمرة، لأن نبض الحياة/الموت هو عملية إيقاع حيوى مستمر، مما جعلنى أرى  الموت-أخيرا- باعتباره “أزمة نمو”، فالفرصة متاحة لمن لا يكف عن الحركة، والهدى ليس له حجم محدد، ولا نهاية معروفة، وهو ليس مرتبطا أيضا بمضمون بذاته، وفاتحة الكتاب تشهد بذلك، فهى لم تحدد الصراط المستقيم (اهدنا الصراط المستقيم) كما خنقه بعض المفسرين بغير وجه حق، وإنما أشارت إلى السائرين فيه، ليهتدوا، فيهديهم الله، فيهتدوا، فيهديهم الله بلا توقف

عشت هذا مع محفوظ فى نقدى إبداعه مكررا،  

وأدعو الله أن أعود إليه حين أعاود نقده،  

ثم ها هى الفرصة تتاح لى أن أعايشه وعيا لوعى، بمصاحبته شخصيا.

صفحة (9)

2

نجيب محفوظ

الأنسة فاطمة

الأنسة أم كلثوم

 

الحلم سيد الاخلاق

الله يهدى من يشاء

ويرزق من يشاء

 

نجيب محفوظ

3-2-1995

  القراءة

ياه !!! يا شيخنا ! فى اليوم التالى مباشرة تواجهنى بما أردت أن أزوغ منه، منك.

 أمس قلتَ، كتبتَ، أن الهدى هدى الله، واليوم تقذف فى وجهنا أن الله يهدى من يشاء،

طيب، دعنا نرى ، والله يجمعنا معك على خير.

“الله يهدى من يشاء”،

“مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً..”، ” ومن يضلل الله فلا هادى له..”.

إنك لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ .

أعتقد، أو أذكر، أو أتصور، أننى تناقشت معه فى كثير من ذلك، سواء ونحن نفتح ملف موضوع التسيير والتخيير، أو الحرية، أو ونحن نناقش احتكار تفسير كلام الله لمن لا يعرف من اللغة إلا ما فى معاجمها، ولم نختلف كثيرا، وإن كان الأستاذ لا يقبل بسهولة ، وأحيانا: ولا بصعوبة،  الأبجدية التى أستعملها فى بعض شطحاتى الاستلهامية، مثل ألفاظ : “بيولوجى”، و”الإيقاع الحيوى”، و”الغريزة التوازنية”، ومثل هذا الكلام

المهم فى هذا الصدد هو أن كتابته لهذا الجزء من الآية الكريمة، مثل كل كتابات التدريب، قد لا تستدعى كل هذه التداعيات،  لكن بنفس منهج قراءة هذه المخطوطات التى تدرب فيها،(خجِلا من التكرار) أتصور أن كثيرا من  ذلك كان حاضرا فى مستوًى ما من مستويات وعيه، وليس عندى ما أضيفه أكثر من توضيح بسيط يقول:

 عندى أن حركية الهدى والهداية هى عملية متصلة متصاعدة، ما بين الداخل والخارج فى اتساق لا ينفصل ولا يتصل، لا ينفصل بمعنى لا يستقل، ولا يتصل بمعنى لا يتلاشى،  وأن الحرص على التأكيد على أن البداية من الله ليست اغترابا أو انتظارا لفضل يهبط بالصدفة من بعيد، لكنه حفز أو دعوة أن نطمئن إلى أن نقطة البدء هى أن يقبل الواحد منا هذه المسلمة “ربى كما خلقتنى”، لتنطلق منها هذه الحركية فى تواصل الكدح فى طريق الهداية. هذه البداية من الله الأقرب من حبل الوريد ، والذى وسع كرسية السماوات والأرض فى نفس الوقت، هى الضمان لاستمرار دفع الفرص للانتماء لهذه الحركية التى متى بدأت فهى الطريق (إلى الهدى).

أعرف أننى ألغزت أكثر

سامحونى

ننتقل إلى تحد آخر، وموقع محفوظ منه ، حين رصد أنه :

“ويرزق من يشاء”

أين يقع هذا من فكر محفوظ، ومن الإخلاص فى العمل، ومن العمل العبادة، هل هو مجرد تلاحق ما اعتدنا عليه من أنه بمجرد ذكر أن الله يهدى من يشاء، نجد  أنفسنا نلحقها بـ “ويرزق من يشاء”، وخلاص؟ وأحيانا نضيف “بغير حساب”؟

أولا: لم لا؟ لم لا يكون محفوظ أثناء تدريبه وجد قلمه يلحق هذا بذاك، وخلاص.

هذا هو الأرجح عندى الآن  فى هذا المقام

أذكر أننى تكلمت معه فى الرزق كثيرا، وذكرت له ذات مرة، كيف أن أبى كان يتنافس مع قريب لنا لا يتمتع بما يتمتع به  أبى من ألمعية وشطارة وإبداع، بالإضافة إلى حبه للارض وللناس وللاختلاف، وكان الفارق بين أبى وبين قريبى هذا الذى تخرج معه من دار العلوم ربما فى نفس السنة، واضحا للعامة قبل الخاصة، وحين فتح الله على قريبى هذا برزق قريب مما اجتهد أبى فيه بذكائه ومثابرته وواقعيته، قال فلاح أمى عجوز أعرف معزته عند أبى حتى الصداقة، قال لأبى وكأنه قد التقط دهشة أبى وربما حقده لما  اصاب قريبنا من رزق، قال هذا العجوز الطيب اللئيم: يا توفيق افندى، ما انت عارف، ما هو “الرزق بيستلطخ”، وكنت حاضرا وشاهدت وجه الشيخ الفلاح وهو يندهش لما نطق به تلقائيا، فبدا لى أنه انتبه، ولكن بعد فوات الأوان، أن أبى من المرزوقين أيضا، وبالتالى فقد يصيبه المثل ويجعله “لطخا” بالضرورة، فاستدرك الشيخ لفوره قائلا لأبى دون أن يعتذر حتى لا ينبهه أكثر: “….ساعات يعنى”.

حين حكيت للاستاذ هذه الحكاية لم يكن تعليقا على ما كتب، فكما ذكرت من قبل، أنا لم أكن اقرأ ما يكتب أولا بأول، لكنه راح يضحك بعد سماعه الرواية وهو يتعرف على نوع آخر من المصريين، فهو قاهرى قاهرى حتى النخاع، وكان يفرح حين أحكى له عن لؤن (بالنون) أهل بلدنا، ويؤكد أنه على قدر ما يعرف القاهرة بشوارعها وحواريها، ونوع ذكاء أولاد البلد والفتوات فيها،  ليس له علم بمثل هذا الذكاء الفلاحى المصرى المختلف، وحين قلبوا قصته “حكاية بلا بداية ولا نهاية” إلى مسلسل تجرى أحداثه فى الريف، وأنا لم اشاهده، لكن صديقا ذكر له ذلك، صفق بيديه بهدوء، وهو يتساءل: “لا يا شيخ، هل هذا معقول”؟ وخلاص.

 أمثال أخرى كثيرة جرت فى حديثنا معا عن الرزق، وكيف يمكن أن يكون للموعودين دون الحسابين، وأن الشخص لا يحصل فى النهاية إلا على رزقه “إجر يا ابن آدم جرى الوحوش غير رزقك لم تحوش”، وكان يتعجب من حضور هذه الأمثال جاهزة فى حديثى، فأعزو ذلك إلى مخالطتى للفلاحين فى بلدنا فى الاجازات الصيفية بشكل أطلعنى على طباع أهلى التى لا يعرفها إلا من عاشها، وبالتالى لابد أنه لدغ منها مرارا، ويضحك الأستاذ لحكاية لدغ منها هذه، وأيضا لإصرارى على أن لؤم الفلاحين هو لؤن بالنون، وليس بالميم، ويسأل وهو يعرف الإجابة وهل هناك فرق؟ وأقول، طبعا، ويضحك ثانية.

أما أن الحلم سيد الأخلاق، فمنظومة شيخى الأخلاقية تحتاج لموسوعة لترتيب هيراركيتها وبيان تعريفاتها، ربما نعرف ما هو “الحلم” عنده، وهل صحيح أنه السيد، سيد الأخلاق، ثم ما الذى يليه، ثم ما إذا كانت الأخلاق ترتب أصلا.

 أتذكر أننى تناولت بعض منظومته الأخلاقية فى كثير من دراساتى النقدية لأعماله، خاصة  أصداء السيرة الذاتية، وملحمة الحرافيش، وليالى ألف ليلة، وفى الأغلب سوف أعود إليها فى تكملة نقدى لابن فطومة، وغيرها، إن كان فى العمر بقية.

وإلى الحلقة القادمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *