الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / فى شرف صحبة نجيب محفوظ الحلقة السادسة الجزء الأول الثلاثاء‏ 27/12/1994

فى شرف صحبة نجيب محفوظ الحلقة السادسة الجزء الأول الثلاثاء‏ 27/12/1994

نشرة “الإنسان والتطور”

14-1-2010

السنة الثالثة

العدد: 867

 naaguib yehhhh

الحلقة السادسة

فى شرف صحبة نجيب محفوظ

الجزء الأول

الثلاثاء‏ 27/12/1994

الساعة‏ ‏السادسة‏ ‏إلا‏ ‏ربع‏ – ‏موعد‏ ‏الأستاذ، أدق جرس الباب السادسة إلا دقيقتين، أو دقيقة، ونكون فى العربة فى السادسة ودقيقة، أصبحت الدقائق عندى أكثر امتلاءا، وأحكم تتابعا، ‏استأذنته‏ ‏أن‏ ‏أوصله‏ إلى فرح بوت، ‏ثم‏ ‏أذهب‏ ‏إلى‏ ‏ندوة‏ تعقدها لجنة الثقافة العلمية فى المجلس الأعلى للثقافة، الذى أنا عضو فيها منذ سنوات طويلة، والندوة عن ‏الثقافة‏ ‏العلمية‏ ‏ والإعلام، ‏فقال‏: “‏لا‏ ‏تتأخر،‏ ‏سننتظرك،‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تحضر‏ ‏قبل‏ ‏الأكل”، ‏هو لا يأكل ‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المساء إلا ‏ ‏ ‏قطعة‏ ‏جبن،‏ ‏و”طعمياية”،‏ ‏وفنجان‏ ‏من‏ ‏الينسون‏ (‏أو‏ ‏اثنين‏)، كان‏ ‏يدعونى ‏أن أحضر لأشارك‏ ‏الباقين‏ ‏فى ‏تلك‏ ‏الوليمة‏ ‏الثلاثائية‏ (‏الوقـْفية‏!!: ‏أنظر‏ ‏بعد‏) ‏فطمأنته‏ ‏ونبهت عليه أنه‏‏: “لك‏ ‏سيجارة‏ ‏واحدة‏ ‏وأنا‏ ‏غائب، ‏والثانية‏ ‏حين‏ ‏أعود، ‏فهذا‏ ‏أدعى ‏لتأكيد‏ ‏عودتى ‏وتعميق‏ ‏انتظارك لى”، فهم، و‏ ‏ضحك، ومال إلى الخلف، ‏ ‏وسررتُ أنا جدا‏.‏

فى ‏ندوة الإعلام والثقافة العلمية، ظل حاضرا‏ ‏معى ‏بشكل‏ ‏ما، ‏فالمقارنات‏ ‏لا‏ ‏تنقطع، ‏ما‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏يجرى ‏فى ‏تلك‏ ‏الندوات، ‏ما‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏يجرى ‏بين‏ ‏كل‏ ‏المثقفين، برغم‏ ‏أن‏ ‏الندوة‏ ‏كانت‏ ‏غير‏ ‏تقليدية، ‏وأن‏ ‏الحضور‏ ‏كان‏ ‏نابها‏ ‏ومنتبها، ‏إلا‏ ‏أننى ‏لا‏ ‏أكف‏ ‏عن‏ ‏التساؤل‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏عن‏ ‏جدوى‏ ‏كل‏ ‏هذا، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏الندوة‏ ‏أرحم‏ ‏من‏ ‏المؤتمرات‏ ‏المسماة‏ ‏علمية، ‏والتى ‏أصبحت‏ -غالبا- ‏إعلانات‏ ‏عن‏ ‏علم‏ ‏غير‏ ‏قائم، ‏وعلماء‏ ‏ليسوا‏ ‏كذلك، ‏كنت‏ ‏مشغولا‏ ‏أثناء‏ ‏الندوة‏ ‏بمقارنة ما يجرى مع ‏نقاشنا مع الأستاذ فى ‏ ‏العوّامة‏: “فرح بوت”‏ ‏الثلاثاء‏ ‏الماضي،‏ ‏رجعت‏ ‏ووجدت‏ ‏الاستاذ‏ ‏مبتهجا، ‏حمدت‏ ‏الله، ‏إلا‏ ‏أننى ‏سمعت‏ ‏بقايا‏ ‏حديث‏ ‏عن‏ ‏شخصين‏ ‏كانا‏ ‏قد‏ ‏حضرا‏ ‏فى ‏البداية، ‏وأن‏ ‏أحدهما‏ ‏مصرى ‏يقيم‏ ‏فى ‏لندن‏ ‏منذ‏ ‏ثلاثين‏ ‏عاما‏ ‏أو‏ ‏أكثر، ‏وأنه‏ ‏أثار‏ ‏نقاشا‏ ‏جرح‏ ‏فيه‏ ‏مصر‏ ‏والمصريين، ‏و‏أنه‏ ‏تكلم‏ ‏من‏ “‏فوق‏” ‏جدا، ‏فنال‏ ‏من‏ ‏الرد‏ ‏والرفض‏ ‏ما‏ ‏اضطره‏ ‏هو‏ ‏وصديقه‏ ‏الذى ‏اصطحبه‏ (‏ابن‏ ‏طبيب‏ ‏مشهور ، كان أستاذى‏) ‏إلى‏ ‏الانسحاب، ‏وجعل ‏الاستاذ‏ ‏يتلفت بين الحين والحين ويتساءل‏ ‏أين‏ ‏ذهبا، ‏وراح يكرر‏ ‏السؤال، ‏والجلوس‏ ‏فرحين‏ ‏بذهابهم، ‏يذكرون‏ ‏هذا‏ ‏المهاجر‏ ‏”المثالى على الورق” ‏ ‏بكل‏ ‏سوء، ‏الأستاذ‏ ‏عادة لا يسمع كل الحديث الجارى، إلا ما يقصد المتكلم توصيله إليه مباشرة، فينتقل إلا جوار أذنه اليسرى، ويميل عليه، ويعلى صوته، الأستاذ يصر أن يسأل عن الضيفين، فرجحت أنه يطمئن عليهما، وأن ما نالهما من رفض ونقد لم يجرحهما، وحين‏ ‏عرف‏ ‏أنهما‏ ‏انصرفا‏ ‏غاضبين، بعد أن وصلهما رفض عام تقريبا، ‏ ‏اكتسى ‏وجهه‏ ‏بألم‏ ‏أبوى‏ ‏رفيق، ‏وقال‏ ‏كان‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏الصبر‏ ‏على‏ ‏النقاش‏ ‏مهما‏ ‏اشتط، ‏لماذا‏ ‏لا‏ ‏نحتمل‏ ‏الاختلاف!!؟‏ لم‏ ‏يعقب‏ ‏أغلب‏ ‏الحضور‏ ‏فى ‏الاتجاه‏ ‏الذى ‏أشار‏ ‏إليه‏ ‏الاستاذ، وقال بعضهم بصوت لا يصله، إن هذا ليس اختلافا ‏بل‏ وقاحة، أن تنتقد شىء، وأن تسب بلدك وأنت لم تعد تقيم فيه وتتحمل مسئوليته شىء آخر، جاء تليفون واستـُـدعى الصديق الداعى لهذين الشخصين للرد، وبعد أن ذهب وعاد، أبلغ الحضور والأستاذ أوّلٌنا، أن صديق المسئول عن هذا الغضب المتبادل، ‏يبلـّغ الجميع والأستاذ خاصة أسفه لما حدث، واعتذاره ‏لاصطحابه‏ ‏لهذا‏ ‏المهاجر‏ ‏المنسلخ‏ ‏عن‏ ‏جلده‏،‏ ‏الناسى ‏أصله‏ … إلخ، فرح الحضور ورحبوا بالاعتذار، لكن الأستاذ‏ ‏رفع‏ ‏حاجبيه‏ ‏دهشة‏ ‏لفرحة‏ ‏الحضور، وعلق بأن هذا اعتذار‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏محله، وأن الخطأ متبادل، ‏وأثناء‏ ‏العودة‏ ‏ألمحت‏ ‏له‏ ‏أننى ‏راض‏ ‏عن‏ ‏حدة‏ ‏النبرة‏ ‏هذا‏ ‏الثلاثاء، وعن حرارة الاختلاف، ‏ ‏وعن‏ ‏إيقاع‏ ‏الحديث‏ ‏هذه الليلة،‏ ‏بالمقارنة‏ ‏بالثلاثاء‏ ‏الماضى، ‏لكنه‏ ‏قال‏: “‏إن‏ ‏الحديث‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏كذلك‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تحضر، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏تضجرنى ‏حدته‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏آلمنى ‏انصراف‏ ‏الضيفين‏ ‏مغضبين”، ‏ثم‏ ‏أردف‏ ‏مرة‏ ‏أخرى: “‏لماذا‏ ‏لا‏ ‏نطيق‏ ‏الاختلاف‏ ‏هكذا؟‏ ‏إن السماح‏ ينقصنا، علينا أن نكون جادين فعلا فى ‏ ‏تحمل‏ ‏الاختلاف، إن الاختلاف الحقيقى هو الذى يجعلنا نعيد النظر، وبالتالى يتسع الوعى، وتعمق البصيرة”.

كان قد حضر اللقاء ‏ ‏الناقد‏ ‏المتميز‏ د. “‏صبرى ‏حافظ، كنت قد ‏تعرفت عليه لظروف حكيتها للأستاذ فيما بعد، ولم أكن قد التقيته بعد تلك الظروف إلا هذا اليوم، لم أفتح معه موضوعى الخاص أصلا، وفرحت بحضوره جدا، على خلاف الضيفين اللذين انصرفا غاضبين، بدا حضور د. صبرى ملطفا يعادل الموقف، فها هو مصرى آخر يقيم فى لندن باستمرار تقريبا، ويقوم بدور متميز فى عمله وإنتاجه الناقد كما أعلم، بل إنه يكاد يمثل ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏المَعْبَر‏ ‏السلسل‏ ‏بين‏ ‏الإبداع‏ ‏الأدبى ‏العربى ‏وبين‏ ‏المجتمع‏ ‏الثقافى ‏الانجليزى (‏أو‏ ‏المتحدث‏ ‏بالانجليزية‏)‏، ‏كان‏ ‏حضوره‏ ‏تعويضا جيدا عما بدر من الضيفين المنصرفين، هو‏ ‏حضور‏ ‏إبن‏ ‏بلد‏ ‏مصرى ‏جدا، ‏يشير‏ ‏إلى‏ ‏حدث‏ ‏أو‏ ‏علاقة‏ ‏صافيه‏ ‏بـِكر‏ ‏بأنها‏ “‏على ‏ميه‏ ‏بيضا‏”، مثل أولاد البلد، ‏فرحت‏ ‏به، ‏وأبلغته ‏ ‏بهذه‏ ‏الفرحة‏ ‏بأنه‏ ‏لم‏ ‏ينس بلده ولا اللغة الشعبية الجديدة، ‏ويبدو أن ‏ ‏تعليقى بدا له ‏تحصيل‏ ‏حاصل، ‏إذ‏ ‏كيف‏ ‏ينسى ‏ما لا‏ ‏ينسي، ‏وتطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏تراجم‏ ‏محفوظ‏، ‏وأن ملحمة‏ ‏الحرافيش‏ ‏بترجمتها‏ ‏ونقدها‏ ‏قد‏ ‏أخذت‏ ‏حقها‏ ‏بشكل‏ ‏واسع‏ ‏طيب‏ ‏فى ‏مجتمع‏ ‏لندن‏ ‏الثقافي، وعند المتحدثين بالإنجليزية كافة، ‏وأنهم‏ ‏قد‏ ‏التقطوا‏ ‏ما‏ ‏بها‏ ‏من‏ ‏أصالة‏ ‏وجده‏ ‏بشكل‏ ‏ملأ‏ ‏الوعى ‏وشغل‏ ‏الناس، ‏فرح‏ ‏الأستاذ‏ ‏فرحته‏ ‏الهادئة، ‏كما‏ ‏داخله‏ – ‏حسب‏ ‏ظنى – ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الرضا‏، ‏والدكتور‏ ‏صبرى ‏يخبره‏ ‏بتزايد‏ ‏توزيع‏ ‏تراجمه‏ ‏فى ‏انجلترا‏ ‏والولايات‏ ‏المتحدة، ‏وفى ‏أمريكا‏ ‏الجنوبية‏ ‏بعد‏ ‏الحادث، ‏لكن‏ ‏الاستاذ‏ ‏ينبهنا‏ ‏إلى ‏أن هذه‏ ‏التقديرات‏ ‏الجزافيه‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تراجع بطريقة أخرى، فالحديث عن التوزيع بالملايين لا يأتى دائما من مصدر ثقة، وقال إنه أحيانا تبلغه مثل هذه الأخبار كأنها صيحة جماهير مشجعى الكرة، وأصدر بصوته الذى ما زلا متحشرجا ما يشبه صوت تشجيع الجماهير حين تدخل الكرة المرمى، وضحك الجميع ووافق د. صبرى على تحفظ الأستاذ.

ويدور‏ ‏حديث‏ ‏حول‏ ‏موقف‏ ‏النشر‏ ‏والتوزيع‏ ‏فى ‏انجلترا‏ ‏مثلا، ‏وقال‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏د‏. ‏صبرى ‏حافظ‏ ‏كلاما‏ ‏طيبا‏ ‏وقد‏ ‏اعتبرته‏ ‏يهمنى ‏شخصيا، ‏فقد‏ ‏ذكر‏ ‏أن‏  ‏ ‏رقم‏ ‏ثلاثة‏ ‏آلاف‏ (‏أول‏ ‏طرْحَهْ‏) ‏لأى ‏عمل‏ ‏منشور‏ ‏يعتبر‏ ‏رقما‏ ‏مرضيا، ‏أما  ‏رقم‏ ‏عشرة‏ ‏آلاف‏ ‏فهو رقم جيد جدا، ثم إن ‏الأرقام‏ ‏تقفز إلى ‏الملايين‏ ‏فعلا‏ ‏فى ‏الرواية‏ ‏البوليسية، ‏وروايات ‏المغامرات‏ ‏أو‏ ‏الجنس، ‏ويهز‏ ‏الأستاذ‏ ‏رأسه‏ ‏موافقا‏ “‏أن‏ ‏هكذا‏ ‏معقول‏” ‏ويقول أحدنا ‏ ‏أليست‏ ‏رواية‏ “الطريق”‏ ‏تعتبر‏ ‏رواية‏ ‏بوليسية، ‏ويوافق‏ ‏الأغلب، ‏وأرفض‏ ‏أنا‏ ‏ولا‏ ‏أعلن‏ ‏رفضي، ‏لا‏ ‏ليست‏ ‏رواية‏ ‏بوليسية‏ ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الوصف هو فى سياق‏‏ ‏أحقيتها‏ ‏بالتوزيع‏ ‏بالملايين‏.‏

وأسأل‏ ‏د‏. ‏صبرى ‏حافظ‏ ‏عن‏ ‏موقف‏ ‏نشر‏ ‏الشعر‏ ‏عامة‏ ‏وتوزيعه، ‏فيقول‏ ‏إنه‏ ‏ضعيف‏ ‏ضعيف، ‏وأؤكد‏ ‏إننى ‏لا‏ ‏أعنى ‏الشعر‏ ‏المترجم‏ ‏وإنما‏ ‏أعنى ‏الشعر‏ ‏بلغة‏ ‏أهله، ‏الشعر‏ ‏الانجليزى ‏للانجليز‏ ‏مثلا، ‏فيؤكد‏ ‏أنه‏ ‏ضعيف‏ ‏أيضا، ‏ضعيف‏ ‏جدا، ‏وأتساءل‏: ‏هل‏ ‏انتهى ‏زمن‏ ‏الشعر؟‏ ‏أم‏ ‏أن‏ ‏الشعر‏ ‏قد‏ ‏أخذ‏ ‏شكلا‏ ‏جديدا‏ ‏لا‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏القصيدة‏ ‏المألوفة‏، ‏القصيدة‏ ‏بكل‏ ‏أشكالها‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏قصيدة‏ ‏النثر، ‏وأصل‏ ‏إلى‏ ‏اقتناع‏ ‏يفسر‏ ‏إحجامى ‏عن‏ ‏آخر‏ ‏دعوة‏ ‏وجهت‏ ‏إلىّ‏ ‏من‏ ‏د.جابر‏ ‏عصفور‏ ‏للكتابة‏ ‏فى ‏عدد‏ ‏الشعر، ‏طبعا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏هذا‏ ‏الإحجام‏ ‏قرارا‏ ‏إراديا‏ ‏واضحا، ‏لكننى ‏أكتشفه‏ ‏الآن‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏لم‏ ‏أفِ‏ ‏بما‏ ‏طلب‏ ‏مني،‏ ‏أو‏ ‏بتعبير‏ ‏أدق‏ ‏بما‏ ‏عصى‏ ‏علىّ،‏ ‏لى ‏مع‏ ‏الشعر‏ ‏ونقد‏ ‏الشعر‏ ‏وتعريف‏ ‏الشعر‏ ‏جولات‏ ‏وصولات‏ (‏ولا‏ ‏أقول‏ ‏مع قرض‏ ‏الشعر، ‏برغم‏ ‏بعض‏ ‏تعقيبات‏ ‏الشعراء‏ ‏الطيبين‏ ‏والنقاد‏ ‏أحيانا‏) – ‏أقول‏ ‏إننى ‏تصورت‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏الإجابة‏ ‏من‏ ‏د‏. ‏صبرى ‏حافظ‏ ‏أن‏ ‏الشعر‏ ‏الآن‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يغير‏ ‏شكل‏ ‏حضوره، ‏فهو‏ ‏حتما‏ ‏سوف‏ ‏يتجلى ‏فى ‏إبداعات‏ ‏كثيرة‏ ‏ليس‏ ‏أدلها‏ ‏ولا‏ ‏أهمها‏ ما يسمى ‏القصيدة، ‏قلت فى نفسى إن الشعر ‏ ‏قد‏ ‏يتجلى ‏فى ‏أى‏ ‏إبداع‏ (‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الابداعات‏ ‏العلمية‏ ‏البحتة‏) حين ‏يتصف الإبداع‏ ‏بالجمال، ‏والتصوير‏ ‏المتداخل‏ ‏المكثف، ‏واللغة‏ ‏الجديدة‏، ‏وبأصالة‏ ‏الإضافة، ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏المحتوى ‏المعرفى ‏والتنظير‏ ‏الرمزي، ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ذلك‏ ‏إنه‏ ‏يمكن‏ ‏وصف‏ ‏نظرية‏ ‏علمية‏ (‏فى ‏العلوم‏ ‏الانسانية‏ ‏والعلوم‏ ‏الطبيعية‏ ‏مثلا‏)، ‏بأنها‏ ‏تتحلى ‏بما‏ ‏هو‏ ‏شعر‏ ‏إذا‏ ‏توفرت‏ ‏فيها‏ ‏هذه‏ ‏المواصفات، ‏وأخرى ‏بأنها‏ ‏نظرية‏ ‏نثرية‏ ‏أو‏ ‏رياضية‏ ‏بحتة، ‏إذا‏ ‏افتقرت‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏المواصفات، ‏الشعر‏ (‏فى ‏كل‏ ‏عمل‏) ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يضم‏ ‏الأجزاء‏ ‏إلى ‏بعضها‏ ‏فيوحى ‏بكلية‏ ‏مختلفة‏ ‏عن‏ ‏المضمون‏ ‏وعن‏ ‏مجموع‏ ‏الأجزاء، ‏وبالتالى ‏يختفى ‏الشعر‏ ‏كنتاج‏ ‏مستقل‏ ‏بذاته‏ ‏يسمى ‏كذلك، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الوجود‏ ‏الفردى ‏حتى‏ ‏دون‏ ‏إبداع‏ ‏منتـَج‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏شعرا‏ ‏فى ‏ذاته، ‏فوجود‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏الذى ‏أعايشه‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏هو‏ ‏قصيدة‏ ‏طويلة‏ ‏رائعة‏ ‏فى ‏ذاتها، ‏هو‏ ‏يقول‏ ‏أنه‏ ‏كف، ‏أو‏ ‏بتعبير‏ ‏أصدق‏ ‏كف‏ (‏حاليا‏) ‏عن‏ ‏الإبداع، ‏وهذا‏ – ‏فى ‏رأيى – ‏قد يصح لظاهر هذه المرحلة‏، (وإن كان قد ثبت لاحقا من خلال أحلام فترة النقاهة أنه غير صحيح فقد ظل يبدع حتى آخر لحظة) ‏أما‏ ‏إبداع الحياة شعرا كما أشرتُ حالا، فهو ما ‏يمثله‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏بشخصه‏ ‏لى ‏هذه‏ ‏الأيام‏، ‏هو‏ ‏حضور‏ ‏يشمل‏ ‏ما يتميز به الشعر بشكل أو بآخر، ‏ذلك‏ ‏الحضور ‏ ‏الذى ‏يجمع‏ ‏بين‏ ‏البساطة‏ ‏الكلية‏ ‏والعمق‏ ‏التفصيلي، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يفسر‏ ‏احتفاظ‏ ‏الأستاذ‏ ‏بالقدرة‏ ‏على‏ ‏الدهشة‏ ‏الطفلية‏ ‏المتجددة‏ – ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏احتفاظه‏ ‏بالقدرة‏ ‏على ‏اتخاذ‏ ‏الموقف‏ ‏النقدى ‏الصارم‏ ‏من‏ ‏أية‏ ‏مقولة‏ ‏تطرح‏ للمناقشة ، ‏حتى‏ ‏ولو‏ ‏بدت‏ ‏بديهية‏ ‏أو‏ ‏مسلمة‏ ‏أو‏ ‏نظرية‏ ‏يقينية، ‏‏ ‏الموقف‏ ‏الشعرى ‏هو‏ ‏الذى ‏يجعل‏ ‏حضور‏ ‏وعى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الشخصية‏ ‏بمثابة‏ ‏صورة‏ ‏جمالية‏ ‏حية، ‏يجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نستقبلها‏ ‏فى ‏كليتها‏ ‏لا‏ ‏أن‏ ‏نقف‏ ‏عند‏ ‏جزئياتها‏ ‏متفرقة، ‏وغير‏ ‏ذلك‏ ‏مما‏ ‏ألهمتنى ‏إياه  ‏هذه‏ ‏الليلة

هل‏ ‏أستطيع‏ ‏القول‏ ‏أن‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏هو‏ ‏الآن‏ – ‏وربما‏ ‏كان‏ ‏دائما‏ – ‏قصيدة‏ ‏بشرية‏ ‏رائعة، ‏لا‏ ‏أقل، ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يخط‏ ‏حرفا‏ ‏بعد‏ ‏اليوم‏؟‏

نعم‏ ‏أستطيع

ويدور‏ ‏حديث‏ ‏حول‏ ‏كاتب‏ ‏رئيس‏ ‏تحرير‏ ‏مجلة‏ ‏ثقافية‏ ‏شهرية‏ ‏اشتهر‏ ‏بمواقفه‏ ‏الملتوية‏ ‏ذات‏ ‏الأوجه‏ المتعددة، ‏وبقلمه‏ ‏الجاهز‏ ‏ذى ‏السن‏ ‏المدبب‏ ‏حسب‏ ‏توجه‏ ‏البوصلة، ‏ويذكر‏ ‏بعض‏ ‏الشهود‏ ‏ملاحظات‏ ‏حول‏ ‏موقفه‏ ‏من‏ ‏نشر‏ ‏أولاد‏ ‏حارتنا‏ ‏دون‏ ‏إذن‏ ‏صاحبها‏ ‏ولأغراض‏ ‏صحفية‏ (‏وربما‏ ‏شخصية‏ ‏ ‏خاصة‏) ‏ولا‏ ‏يعقب‏ ‏الاستاذ، ‏وإنما‏ ‏يبتسم.  ‏الاستاذ‏ ‏عادة‏ ‏لا‏ ‏يعقب‏‏ ‏إذا‏ ‏جرح‏ ‏الحديث‏ ‏غائبا، ‏ولكنه‏ ‏لا‏ ‏ينسحب‏ ‏ولا‏ ‏يدعى ‏مثالية‏ ‏أخلاقية‏ ‏ماسخة، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏يشارك‏ ‏بهز‏ ‏الرأس‏ ‏والتعجب‏ ‏وفرد‏ ‏الظهر‏ ‏مع‏ ‏ضحكته‏ ‏المجلجة‏ (‏المحشرجة‏ ‏الآن‏) ‏أحيانا‏، ‏وابتسامته‏ ‏المتعجبة‏ ‏أو‏ ‏الراضية‏ ‏أحيانا أخرى ، ‏وعلينا‏ ‏نحن‏ ‏أن‏ ‏نستنتج ‏ما‏ ‏نريد‏، ‏أصبـْـنا‏ ‏أو‏ ‏أخطأنا‏.‏

تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏الحريات، ‏ومساحة‏ ‏حركة‏ ‏الفكر‏ ‏فى ‏أوروبا‏ ‏مثلا، ‏فذكرت‏ ‏ما‏ ‏قرأت‏ ‏مؤخرا‏ ‏من‏ ‏حديث‏ ‏أدلى ‏به‏ ‏فرانسوا ميتران‏ ‏للتليفزيون‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏ثارت‏ ‏مسألة‏ ‏مرضه‏ ‏بالسرطان، ‏مع‏ ‏اقتراب‏ ‏نهايته‏ ‏الحتمية، ‏وأبديت‏ ‏ملاحظة‏ ‏حول‏ ‏إعجابى ‏بشجاعته‏ ‏لإعلانه‏ ‏ذلك‏ ‏مع‏ ‏إعلان‏ ‏تمسكه‏ ‏ألا‏ ‏يترك‏ ‏منصبه‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏إنتهاء‏ ‏مدة‏ ‏رئاسته‏ ‏فى ‏مايو‏ ‏القادم‏ (‏إن‏ ‏كان‏ ‏فى ‏العمر‏ ‏بقية‏) ‏سأل‏ ‏المتحدث‏ ميتران: ‏هل‏ ‏تؤمن‏ ‏بالله، ‏فأجاب‏: ‏هذه‏ ‏مسألة‏ ‏فيها‏ ‏آراء‏ ‏كثيرة‏ ‏مختلفة، ‏فمضى ‏المتحدث‏ يسأل ‏بجرأة‏ ‏أكبر‏: ‏ماذا‏ ‏لو‏ ‏واجهتَ‏ ‏الله‏ ‏بعد‏ ‏الموت، (فى ‏الآخرة‏) ‏فأجاب ميتران‏ ‏بنفس‏ ‏الصدق‏ ‏الجريء‏: ‏سوف‏ ‏تكون‏ ‏مفاجأة، ‏وسأقول‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏مسألة‏ ‏الخلود‏ ‏هذه‏ ‏مسألة‏ ‏مملة‏ ‏جدا‏ (‏ولم‏ ‏يذكر‏ ‏أى‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الخلود‏، ‏ولم أذكر للحاضرين ما دار بذهنى من أنه يبدو أن ميتران، الذى أحترمه، وأحترم شجاعته خاصة،  لم يصله أن ثَّم خلود فى الجنة، وآخر فى النار!) ‏

علق‏ ‏كثير من الحضور‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الرواية، ‏ووافقونى ‏على‏ ‏وصف هذا الموقف ‏بالشجاعة، وأنه دليل على حرية الرأى عندهم إلى هذه الدرجة، ‏فهذا‏ ‏رئيس‏ ‏جمهورية‏ ‏يعلن‏ ‏بصراحة‏ ‏موقفه‏ ‏على‏ ‏الملأ‏ ‏فى ‏التليفزيون،‏ ‏فلا‏ ‏الدين‏ ‏اهتز،‏ ‏ولا‏ أحد ‏أفتى ‏بتكفيره، أو أوصى بإعدامه‏، ‏حسبت‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏سوف‏ ‏ينبهر‏ بهذه الرواية وهذه الحرية ‏مثل‏ ‏الآخرين، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏ظل‏ ‏مطرقا‏ ‏بعض‏ ‏الوقت، ‏ثم‏ رفع ‏رأسه‏ ‏قائلا‏: ‏لا‏ ‏أظن‏ ‏أنه‏ ‏محق‏ ‏تماما، ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏عند‏ه  ‏حق‏ ‏فى ‏الجزء‏ ‏الأول‏ ‏من‏ ‏الإجابة‏ ‏فوجود‏ ‏الله‏ ‏مسألة‏ ‏فيها‏ ‏آراء، ‏وخاصة‏ ‏عندهم‏ ‏بلا‏ ‏أدنى‏ ‏شك، ‏أما‏ ‏الجزء‏ ‏الثانى ‏فإجابته‏ ‏تدل‏ ‏على ‏أنه‏ ‏رجل‏ ‏يفتقر‏ ‏إلى ‏الخيال، (‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏تصورت‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏سوف‏ ‏ينبهر‏ ‏من‏ ‏مسألة‏ ‏وصف‏ ‏الخلود‏ بالملل، وخاصة‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏عرّى‏ ضلال‏ ‏الخلود‏ ‏فى ‏الدنيا فى الحرافيش،‏ ‏وكان‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏محور‏ ‏نقدى ‏لهذا‏ ‏العمل‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏فكرة‏ ‏دورات‏ ‏الحياة‏) ‏أكمل‏ ‏الاستاذ‏ وهو ‏يخاطبني‏: ‏إن‏ ‏مسألة‏ ‏رفض‏ ‏الخلود‏ ‏مع‏ ‏الله‏ ‏باعتباره‏ ‏عملا‏ ‏مملا‏ ‏غير‏ ‏مقبولة‏، ‏وتدل‏ ‏على ‏افتقار‏ ‏ميتران‏ ‏للخيال، ‏لأنه‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏بقائى ‏مع‏ ‏واحد‏ ‏أحبه، مثلك مثلا، ‏ ‏يزيد‏نى‏ ‏بهجة‏ ‏ويملؤنى ‏فرحة، ‏أليس المنطقى هو أننى كلما ‏ ‏بقيت معك‏ ‏أكثر‏ ‏فرحتُ‏ ‏أكثر‏، ‏فما‏ ‏بالك‏ ‏ببقاء‏ ‏دائم‏ ‏مع‏ ‏الله‏ ‏سبحانه إلى‏ ‏غير‏ ‏مدى، اليس هذا أدعى لفرحة متجددة، فمن أين يأتى الملل؟‏.‏

هذا‏ ‏هو‏ ‏الاستاذ، ‏يشجب‏ ‏خلود‏ ‏الدنيا، ‏ويفرح‏ ‏فى ‏الاستمرار‏ ‏بغير‏ ‏حدود‏ ‏فى ‏رحاب‏ ‏الحبيب‏ ‏الأكبر، ‏ويرجوا‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏أن‏ ‏يفسحوا‏ ‏فى ‏خيالهم‏ ‏حتى‏ ‏يتصوروا‏ ‏ما‏ ‏يوعدون‏ ‏به‏ ‏أعمق‏ ‏وأصدق‏.

فى فرصة لاحقة، جاء ذكر د. صبرى حافظ مرة أخرى، وألمحت للأستاذ عن ظرف شخصى سمح لى أن أعرفه أقرب، فطلب منى حكْيه، فحكيت له عن معرفتى به قارئا لنقده فحسب، وكيف أننى أحترم نقده وريادته تماما، ثم أننى فوجئت منذ شهور أنه  كان قد أرسل لى رسالة مع ابنه طالب الطب عندنا فى قصر العينى، يطلب محادثتى ليستأذننى فى ترجمة النقد الذى كتبته عن ملحمة الحرافيش، ونشر فى مجلة فصول، عن‏ ‏دورات‏ ‏الحياة‏ ‏وضلال‏ ‏والخلود‏، كان أ.د.صبرى يعد كتابا مترجما إلى الإنجليزية عن النقد الأدبى فى مصر، واختار عملى هذا بين ما يمثله، وافقتُ طبعا وفرحت فرحا شديدا، ثم إنه أرسل لى مسودة الترجمة منذ أسابيع، فوجدت بها أخطاء جوهرية، غيرت الفكرة الأساسية التى يبدو أنها لم تصل إلى المترجم، فاعترضتُ عليها، وأبلغته اعتراضى، فقال إن المترجمة تقيم حاليا فى القاهرة، وأنه مستعد لترتيب لقاء لى معها، وقد كان، وذهبت لشقتها بالزمالك، وحدثتها عن نظرية الإيقاع الحيوى التى هى فى عمق فكرى فى النقد وغير النقد، والتى هى بيولوجية الأصل فى معظم تجلياتها، وأفهمتها علاقة ذلك بدورات الحياة، بما فى ذلك دورة الموت البعث، فعلت ذلك لأوصل لها الأرضية النظرية  التى من خلالها كتبت أطروحتى النقدية عن ملحمة الحرافيش، لكن يبدو أنها رفضت كل ذلك، ولا أقول لم تفهمه، وانصرفتُ من عندها وقد وصلنى إحساس أنها غير راضية عن المقابلة، أو لعلها كانت  ممتعضة، أبلغت أ.د. صبرى شعورى ووافق عليه، ففهمت أنها أبلغته ما لا يسرنى. استأذنت أ.د. صبرى حافظ أن أقوم أنا بالترجمة، ثم أعرضها على المترجمة ، لتقوم بإعادة تحريرها وصياغة إنجليزيتها بما ترى، ووافق د. صبرى من حيث المبدأ، ووعد أن يتصل بى بعد أن يناقش الأمر معها، ولم يفعل، وكنت قد بدأت الترجمة فعلا، ووجدتها من أصعب ما يمكن، فتوقفت، ولم يتصل بى د. صبرى بعد ذلك، ورجحت أن المترجمة – متذكرا وجهها حين انصرافى – قد رفضت العرض.

 حين حكيت للأستاذ هذه الواقعة اعترض بشدة على تصرفى، ونبهنى إلى أن الترجمة تجعل النص ملك المترجم تقريبا، حتى يمكن أن يصبح نصا آخر، وليس من حق صاحب النص الأصلى أن يعترض، ولكن من حقه أن يسمح بترجمة أخرى، وتذكرت كتاب الإمراضية العامة لكارل ياسبرز، وهو الكتاب المرجع الأول فى الطب النفسى  منذ سنة 1923 وقد كتب بالالمانية، ولم يترجم للإنجليزية إلا سنة 1963، ثم إنه ترجم للفرنسية، عدة مرات ، كان آخرها محاولة علمتها من الأستاذ بيير بيشو حين كنت فى فرنسا 1967 -1968 ، وكنت أعمل فى قسمه فى مستشفى سانت آن التابع لجامعة باريس، وهو شخصيا الذى أخبرنى بذلك، وأنا أعلم أنه يتقن الألمانية إتقانه للفرنسية، ثم تذكرت – مع اعتراض الأستاذ على تصرفى- علاقة الأستاذ بأعماله التى يقلبونها إلى سينما أو مسلسل، فتبتعد تماما عن الأصل، ولا يعترض، ولا يعقب.

فى نفس الليلة خطر لى سؤال حين احتد النقاش حول التطبيع، وقلته، وطرحته على الأستاذ طالبا رأيه‏: ‏هل‏ ‏هناك‏ ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏هذه‏ ‏الإغارة‏ ‏الجديدة‏ ‏تحت‏ ‏أى‏ ‏اسم‏ جديد (مثل ‏الشرق‏ ‏أوسطية، أو‏ ‏السلام‏ ‏الشامل‏ ‏المشروط‏ ‏المعلب‏ ‏المغلوط‏… ‏المؤمَّن‏ ‏المحطوط‏، أى كلام…‏إلخ‏) ‏هل‏ ‏هناك‏ ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏يحمل‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏داخله‏ ‏ما‏ ‏يحرك‏ ‏وعينا‏ ‏العام‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏يقبل التحدى فى مواجهة‏ ‏هذه‏ ‏النكسة‏ ‏الحضارية‏ ‏التى ‏نتعرض‏ ‏لها‏ ‏من‏ ‏هجوم‏ ‏الجمود‏ ‏السلفى ‏دون‏ ‏انبعاث‏ ‏الإبداع‏ ‏الإيماني؟‏ ‏ولم‏ ‏يدرك أغلب الحاضرين ما أعنى، (‏وعندهم‏ ‏حق‏)، ‏ويرد‏ ‏البعض‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏آخر‏ (‏وأظن‏ ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏عندهم‏ ‏حق‏) ‏ويتوجه‏ ‏زكى ‏سالم‏ إلى أذن الأستاذ ‏ ويعيد طرح السؤال بطريقته الأسهل، ‏فينصت‏ ‏ويطأطيء‏ ‏رأسه‏ ‏ولا‏ ‏تتاح‏ ‏الفرصة‏ ‏للإجابة‏ ‏وسط‏ ‏زحمة‏ ‏نقلات‏ ‏الحديث‏.‏

أثناء‏ ‏العودة‏ ‏فى ‏السيارة، ‏يعيد‏ ‏زكى ‏سالم ‏السؤال‏ ‏عليه‏ ، ‏فيجيب‏ ‏إجابة‏ ‏مقتضبة‏ ، ‏أظن‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏متعلقة‏ ‏بحاجات‏ ‏الناس، ‏ومدى‏ ‏وفاء‏ ‏هذه‏ ‏النقلات‏ ‏السياسية‏ ‏أو‏ ‏التعليمية‏ ‏أو‏ ‏الاقتصادية‏ ‏بهذه‏ ‏الحاجات، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏يتوقف‏ ‏عليه‏ ‏نجاح‏ ‏أية‏ ‏خطوة جديدة، ‏أو فكرة مطروحة، ‏وأتحفظ‏ ‏فى ‏قبولى‏ ‏هذه الشروط التى تصورت أنها نابعة من ‏ ‏التفسيرات‏ ‏الاقتصادية‏ ‏المتعجلة، والأستاذ ليس كذلك، فرجحت عدم فهمى، واتهمت نفسى بالغموض. المسألة‏ ‏التى ‏كنت‏ ‏أعنيها‏ ‏تتعلق‏ ‏أساسا‏ ‏بفكرة‏ ‏أخرى‏ ‏عجزت‏ ‏عن‏ ‏إيضاحها‏ ‏وأنا‏ ‏أطرح‏ ‏سؤالي، ‏وهى ‏أننى ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏انفتاح‏ ‏الوعى ‏على ‏ناس‏ ‏آخرين، ‏وفكر‏ ‏آخر، ‏وتجارة‏ ‏أخرى، ‏ونوع‏ ‏وجود‏ ‏آخر، ‏بما فى ذلك العدو المتحدى، هو‏ ‏السبيل‏ ‏إلى ‏توسيع‏ ‏دائرة‏ ‏الاختيار، ‏ليس‏ ‏بين‏ ‏دين‏ ‏ودين، ‏أو‏ ‏بين‏ ‏حزب‏ ‏وحزب، ‏أو‏ ‏بين‏ ‏يمين‏ ‏ويسار، أو بين ‏ذاتوية‏ ‏وآخرين، ‏وإنما‏ ‏بين‏ ‏حركة‏ ‏وسكون‏، ‏بين‏ ‏تطلع‏ ‏واستسلام، ‏بين‏ ‏إبداع‏ ‏وتكرار، ‏وأؤجل‏ ‏شرح‏ ‏وجهة‏ ‏نظرى ‏على الأستاذ ونحن ما زلنا ‏ ‏فى ‏السيارة، ‏وأنا‏ ‏أمسك‏ ‏بعجلة‏ ‏القيادة، والحارس بجوارى، ‏ ‏والاستاذ‏ ‏يركب‏ ‏فى ‏المقعد‏ ‏الخلفي، ‏والكلام‏ ‏يصل‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏مبلغ – زكى سالم- ، ‏

وآمل‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏لنا‏ ‏عودة، ‏أطال‏ ‏الله‏ ‏عمره‏.‏

الجزء الثانى

من كراسات التدريب (1)

صفحة 5

5

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

يعجبنى الصدق فى القول

والإخلاص فى العمل

وأن تقوم المودة بين الناس

مقام القانون

نجيب محفوظ

29-1-1995

القراءة

لا أظن أن أحدا يمكن أن يمثل ” الصدق فى القول، والإخلاص فى العمل مثل هذا الرجل”، ما وصلنى أنه كان يجسد هذا القول فى حياته، سلوكا معيشا، وليس حكمة أخلاقية وعظية، الصدق والعمل يعطيان للوجود معنى، ما وصلنى هو أنه هو شخصيا تجسيد لهما،

كنت أكتب هذا الأسبوع (1/1/2010) دراسة نقدية عن مقارنة بين سيميائى كويلهو ورحلة ابن فطومة لمحفوظ، وتكررت طرح هذه القضية (الصدق/العمل) فى كل الدور التى زارها قنديل (المشرق، والحيرة، والحلبة، والأمان والغروب)، الصدق فى القول والإخلاص فى العمل. اقتصرت دراستى النقدية البادئة على التفرقة بين “البحث عن الذات”، لتأكيد روعة وجواهر الذات الداخلية الكنز” عند كويلهو، فى مقابل “تخليق الذات” متكاملة حالة كونها تكدح كدحا نحو “دار الجبل” لرؤية وجهه فيما وراء الأفق، أى الفرق بين تأكيد الذات، (كويلهو بخلفيته الثقافته)، وبين تخليق الذات (محفوظ بخلفيته الثقافيه، وليس بالضرورة ثقافة ناسه الآن). المهم هو أن هاتين القيمتين “الصدق” و “العمل” قد تأكدت قيمتهما طوال رحلة ابن فطومة، وإن كنت لم أتناولهما بشكل خاص (مثل قيم أخرى كثيرة سوف أعود إليها) فقد اكتفيت بمقارنة “غاية”، و”توجه”، و”نهاية”، كل من العملين، مما سوف ينشر فى العدد الثانى من دورية نقد نجيب محفوظ قريبا.

أما “أن تقوم المودة بين الناس مكان القانون”، فهذه قضية جوهرية أخرى شغلتنى طول حياتى، وقد ناقشته فيها كثيرا كثيرا، حين يدافع (حتى التقديس تقريبا) عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، فأنا أتخذ موقفا ناقدا (رافضا فى كثير من الأحيان) أن تكون الكلمات المكتوبة، والرأى الظاهر، والمواثيق المعلنة المدعمة بالقانون هى غاية ما نرجو، أو كل ما يمكن، لتنظيم تواجدنا معا، وكان يكرمنى الأستاذ مبدئيا بقبول تحفظاتى، لكنه يبادر بقرص أذنى حين أعجز عن طرح بديل أفضل، وينبهنى أن أفضل الأسوأ هو الأفضل، وأنتبه بعد ذلك أن هذا قد يصح على مستوى تنظيم المجتمع، وتشكيلات السياسة، أما فى المجال الفردى، والشخصى، والحميمى بين الناس، فها هو يأمل “أن تقوم المودة بين الناس مكان القانون”،ياه !! يا شيخى الجليل، لم لم تقل لى ذلك أثناء حدة نقاشنا، كم دافعتُ أنا عن العرف ومجالس التحكيم الأفضل من دور القضاء، وعلاقة الطبيب بمريضه الأقوى من أى تنظيم قانونى أو تأمينى أو حقوق إنسانى، لكن يبدو أن هذا مستوى، وذاك مستوى. البشر لا يكونون بشرا بالاحترام المطلق للقانون على حساب علاقاتهم الأعمق والأرقى، وإنما يكونون كذلك “حين تقوم المودة بين الناس مقام القانون” ، لاحظ أنه لم يقل: حين تحل المودة بين الناس محل القانون!!!!!

صفحة 6
6

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

ولكن لا حياة لمن تنادى

سبحان الله الوهاب

يأتيك بالأخبار من لـ(م) تزود

 

نجيب محفوظ

3-1- 1995

القراءة

لم يكتب شيخنا  اليوم اسمى كريمتيه فى البداية، إذن، فهو غير ملزم، فهما دائمتا الحضور فى وعيه، برغم أنه نادرا ما يذكرهما باللسان، أو يحكى أخبارهما لأحد، حماهما الله ورعاهما.

بدأ هذه المرة بكتابة اسمه ثلاث مرات – كالعادة غالبا- ثم ألحقه بأنه لا حياة لمن تنادى.

نجيب محفوظ هو المتفائل الدائم، تفاؤلا بمسئولية رائعة، كنت كلما حدثته عن احتمال أن ثورة التوصيل والتواصل، خاصة بين الشباب، يمكن أن تنقل الإنسان المعاصرإلى ما ينقذه فى مواجهة السلطات العالمية المستهلكة والمغتربة، فرح فرحة من وجد وسيلة لتحقيق تساؤله.

حين يكتب اليوم، انه “لا حياة لمن تنادى”، لا يكتبها بمعنى التقرير، بقدر ما يكتبها بمعنى الحث أن نحيا.

المنهج الذى اتبعته حتى الآن (لم نتعد بعد الصفحة السادسة) هو أن أعتبر العينة التى قفزت إلى وعيه أثناء التدريب، فكتبها، ليست هى بالضرورة كل ما يحتاج إلى تعليق او قراءة تأويلية، بل إننى آخذها مفتاحا لما وراءها، فأبحث عن أصل النص، أو بقيته، وأعتبر أن النص قد حضر كله، أو على الأقل أكثر مما دوّن بكثير، يحضر النص  فى عمق ما من مستويات وعيه، لكنه لا يدون منه إلا بضع الكلمات التى سطرها، والتى أعتبرها مجرد قمة جبل المعرفة الذى حل بقلمه وقتها، البيتين الذين يوحيان باليأس، يكتبهما شيخى وهو لا يعرف اليأس، هما لعمر بن أبى ربيعة

وقد أسمعتُ إذ ناديت حيا  ولكن لا حياة لمن تنادى

ولو نارا نفختَ بها أضاءت ولكن أنت تنفخ فى رماد

لو أن محفوظ تصور ثانية واحدة أنه ينفخ فى رماد، أو أنه ينادى موتى، لما استمر يخط كل ما خط حتى آخر لحظة فى حياته، لقد ظل ينحت فى صخر وعينا طول الوقت، طول العمر، وهو يتناول قضايا الوجود بعد أن تغطت بالخوف والتأويل السطحى والتفسير الوصى، كما يتناول قضايا الواقع من ناحية أخرى، كل ذلك من جوف جوف وعيه الخلاق، فثم حياة لمن ينادى، وثم نورا يضيء من نفخه فى نار إبداعه، وفى رأيى أنه ما جاء ذكر هذا الشطر من هذين البيتين فى تدريبه، إلا ليقول لنا: إياكم أن تكونوا مثل ذلك، فأنتم لستم كذلك، لأننى أواصل النداء، وأواصل النفخ فى النار لتضىء لكم، لى، لنا ، الطريق ، إليه، إلينا!!

يلحق هذا المقتطف مباشرة أنه “سبحان الله الوهاب”،

فإن لم تكن ثمة حياة لمن تنادى، فالوهاب – سبحانه- هو واهب الحياة وباعث الموتى

أليس كذلك؟

ثم ينهى تدريبه هذا اليوم بأنه “…يأتيك بالأخبار من لم تزود”

يمكن أن نختصر التعليق فى أنه بعد الحادث، وربما كان كذلك قبله، كان محفوظ فى حالة تلق دائم، ومتابعة دقيقة يومية لكل ما يجرى، كان الحاج صبرى يأتيه كل صباح، يقرأ له الأهرام بانتظام، حتى بعد أن تدهور الأهرام إلى ما صار إليه، وكان يوسف القعيد هو راوى الأخبار الشفاهية التى لا تكتبها الصحف، لأسباب مختلفة طبعا، وبمصداقية يوسف أدرى بها، كان الأستاذ يستمع إلى هذا وذاك، ويعقب بطريقته على ما شاء منها، ويحتفظ برأيه فى مايقال، إلا إذا سئل، فى فرح بوت أولا بأول، فيرد بما يريد، أو يلف إلى مايريد.

وبحسب المنهج الذى أشرت إليه حالا، رجعت إلى أصل البيت، فى القصيدة التى أفترض أنها حضرت فى وعيه بشكل ما، فقفز منها شطر هذا البيت الذى جاء فى معلقة طرفة بن العبد، وهو بيت فى سياق شديد الجمال والدلالة فى موقفنا هذا، كما يلى :

ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً 

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

ويأتيك بالأخبار من لم تبع له

بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد

ثم:

لعمرك ما الأيام إلا معارةٌ

فما اسطعت من معروفها فتزودِ

…..

لعمرك ما أدرى و إنى لواجل

أفى اليوم إقدام المنية أم غد؟

طبعا لا أدرى أى من هذه الأبيات كان فى خلفية وعى الأستاذ من معلقة طرفة، لكننى انتقيت ما خطر ببالى، وأود ان أنبه ما سوف أعود إلى ذكره كثيرا غالبا، وهو أن الأستاذ لم يكن أبدا واجلا متى يأتيه الموت، وما زال يتردد فى أسماعنا حديثه المذاع مرئيا، والمسجل منذ سنوات من أنه يحب الحياة، ويحب الناس، ويحب الموت، وما جاء فى هذه النشرة اليوم من ذكره كيف أنه يحب البقاء قريبا من الله، وكلما امتد ذلك زمنا فزمن، كان أفضل، وكان ذلك  تعقيبا منه على حديث ميتران عن الموت، وبالرغم من ذلك، نلمح صدقا إنسانيا، وواقعا حيا يعلن أن انتظاره لما تأتى به الأيام، وما تفاجئه به الأحداث، هو مثل انتظار أى بشر طيب رهيف، لم يكن انتظارا وجِلا، كان انتظارا يقظا، لا أكثر.

وإلى الحلقة القادمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *