الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق” الفصل السادس: من “العزلة وتشكيلات الارتباط الثنائى” إلى تخليق الوعى الجمعى

كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى “من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق” الفصل السادس: من “العزلة وتشكيلات الارتباط الثنائى” إلى تخليق الوعى الجمعى

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 15-11-2020

السنة الرابعة عشر

العدد:   4824

   كتاب: مقدمة في العلاج الجمعى  

 “من ذكاء الجماد إلى  رحاب المطلق” (1) 

الفصل السادس:

     من “العزلة وتشكيلات الارتباط الثنائى”

إلى تخليق الوعى الجمعى

الاختلاف الجوهرى الذى وجدته بين خبرتنا وخبرة “يالوم” هو أن منطلقه كان أقرب إلى التصحيح والتوفيق والدعم، أما ما وصلنى من خبرتنا فيمكن أن أزعم أن المنطلق كان أقرب إلى التعتعة فالتحريك فالإبداع فتخليق الوعى الجمعى القادر على إحياء جدل نمو التطور على مستوى الوحدات البشرية والوحدات الاجتماعية الصغيرة، وبرغم اتفاقنا وإياه على غموض العامل العلاجى وأيضا على إمبريقية الخبرة وضرورة قياسها بالنتائج العملية على أرض الواقع، بغض النظر عن الخلفية النظرية أو حتى حقيقة ما يحدث، إلا أنه يبدو أن علينا أن نواصل توضيح الخلفية النظرية المحتملة تأكيدا على اختلاف الثقافة من جهة، واحتراما لاختلاف نوعية التشخيصات من جهة أخرى وخصوصا اشتمال المجموعات لدينا على نسبة مناسبة من الذهانيين.

حين عرّفت هذا العلاج على انه “إحياء ديالكتيك النمو” فى بدايات هذه الممارسة لم تكن الصورة بهذا الوضوح بالنسبة لموقع هذا العلاج فى تحريك طور “البسط والتشكيل” فى نبض الإيقاعحيوى، وخاصة فيما يتعلق بالنقلة من العزلة أو الارتباط الثنائى إلى الانتماء للوعى الجمعى، إلا أن هذه المسألة أخذت تتضح لى مع استمرار الكتابة والمتابعة حتى فضلت أن أخصص لها هذا الفصل.

المرض النفسى (بعد استبعاد المرضى العضوى التشريحى مؤقتا) هو مرض العلاقات البشرية كما تتجلى فى مظاهر اضطرابات تشكيلات الوعى (فالسلوك) وكذلك صعوبات التواصل (فالمعاناة أو الإيذاء أو كليهما مع درجات من الإعاقة). نوبات النمو بالنسبة لنظرية التطور التى أنتمى إليها هى استعادة لمراحل نمو الحياة بشكل إيقاعى منتظم لا يتوقف، وفى نفس الوقت لا يوجد تماثل مطلق مهما ضؤل الفرق بين نبضة وأخرى، يحدث ذلك من أصغر نبضة ولادة الفكرة (ميكروجينى Microgeny) حتى أزمة النمو (الإريكسونيةEric Erickson  مثلا) مرورا بنبضات النوم/الحلم (نوم “رمك” واللا “رمك” REM & NREM) وسوف نقدم التصورات والمشاهدات على عدة محاور أهمها:

الأول: ربط الارتباط الثنائى بين الأحياء، بتجليات أنواع الارتباط الثنائى بين البشر آخذين المؤسسة الزواجية كنموذج.

الثانى: فروض النقلة من العزلة أو الارتباط الثنائى، الإيجابى والسلبى، إلى تشكيل الوعى الجمعى كمرحلة أرقى وأنضج تطورا، دون التخلى عن الارتباط الثنائى.

الثالث: حركية برنامج الدخول والخروج فى تطبيقاته وأثرها على استمرارية الانتقال من الثنائى إلى الجمعى وبالعكس بإيقاع مضطرد، لا يتوقف ولا يكتفى بأحدهما بديلا عن الآخر.

الرابع: فروض العلاقة التى تبين دوام نبض حركية هذا الوعى الجمعى المتشكل نحو الوعى الجماعى الأوسع إلى الوعى الكونى المطلق.

وبعد:

1- انطلاقا من التذكرة بأن الإنسان يحمل فى تركيبه الحيوى البيولوجى أغلب أنواع الأحياء، ومن ثم أغلب تنويعات العلاقات، فالأرجح أن تكون معظم هذه البرامج العلاقاتية الثنائية جاهزة فى تركيبه. ومن ثم فإن نجاح أو فشل مثل هذه العلاقات الشديدة الصعوبة قد يتوقف على تنـَاسـُبِ تنشيط حركية النمو بصفة عامة، مع المرحلة أكثر مما يتوقف على انتقاء وتفضيل نوع بذاته غير حاضر بالضرورة فى وقتٍ بذاته وغير مضمون استمراره.

2- إن حركية النمو ذهابا وجيئه، نكوصا وتطورا، اقترابا وابتعادا، دخولا وخروجا هى التى تسمح لكل هذه التنويعات أن تدخل التجربة وتخرج منها بشكل مرن واعد، مرورا بالآلام المصاحبة، وتعرضا للمضاعفات المحتملة.

3- إن الذى يسمح بالحفاظ على الأمل فى هذه العلاقات الثنائية الصعبة والضرورية فى آن، دون أن يعاق أو يضار أحد الطرفين أو كليهما بشكل دائم أو متزايد، هو دعم حركية النمو هذه لأطول وقت، ونحن نضع فى الاعتبار حتمية الإيقاع الحيوى وقوانينه التى تساعد على ذلك، ليأخذ كل طور حقه – إذْ تتبادل الممارسة المستوْعِبةْ مع البسط الإبداعى– بمعنى أن المسيرة تحتاج إلى وقت للامتلاء بالخبرات الإيجابية وغير ذلك، حتى تمتلىء – بالقدر المناسب للمرحلة، ثم يطلق النبض الحيوى طور البسط Unfolding phase الذى تصاحبه عادة أزمة نمو، لو أحسنّا معايشتها، فإنها تعيد تشكيل العلاقة على مستوى أعلى كما ذكرنا..،  وهكذا.

على هذا الأساس يمكن أن نضع فروضا لحركية العلاج الجمعى ومساره انطلاقا من هذه الأسس العامة ولكن دون محاولة التدقيق فى فصل أطوار النبض عن بعضها البعض ولا التركيز على تفاصيل حركية كل فرد فى المجموعة على حدة، تماما مثلما لا تستطيع رصد النبضات المتناهية الصغر (الميكروجينى) على مسار النمو الطبيعى للطفل فالراشد حتى نهاية العمر، وربما مثلما لا نستطيع أن نرصد حركية بلورات السكر في تشكيل السكر النبات: فى التجربة السالفة الذكر.

 البداية:

رحت أنتبه إلى فحص ومراجعة ظاهرة هذا التعالق الثنائىSymbiosis  بدافع البحث عن أبعاد مضاعفة معطلة نسبيا فى العلاج الجمعى، حين كنا نرصد ما يسمى “الثنائية Pairing (كما وصفها Bion) حين يرتبط أحد أفراد المجموعة ارتباطا خاصا جدا بآخر أو أخرى، وذلك أثناء العلاج، إما لأنه يشبهه، أو لأن دفاعات أحدهما تدعم دفاعات الآخر وبالعكس، كنا نسمى ذلك من باب الفكاهة (العلاجية) أو التعرية للإفاقة “سَنْبَطَهْ” من Symbiosis، (وذلك بعد أن نـَـحـَـتـْـنـَـا فعلا جديدا فى اللغة العربية هو فعل: سـَنـْبـَط، يـُسـَنـْبـِط)، وننظر إليها نظرة ذات دلالة، وتتعامل المجموعة – تحت قيادة المعالج (أو أكثر) – مع هذه الظاهرة وهى تهدف إلى التخفيف من حدة هذا الترابط السلبى عادة، حتى يعود انفتاح هذين العضوين على المجموعة، بما يدعم مسيرة نموهما وتقدم المجموعة الذى هو هدف العلاج أساسا، ليعود على أفرادها جميعا بحفز مسيرة التطور.

ثم إنى اضطررت أن أرجع إلى أصل كلمة Symbiosis  أثناء كتابة أطروحتى عن تحرير المرأة وتطور الإنسان سنة 1975 (2) بحثا عن تنويعات “العيش معا“ً عند مخّتلف الأحياء، فلم أتمكن – فى الوقت المتاح – من أن أحصد التباديل والتوافيق بسهولة من المراجع الأوسع، فلجأت إلى القاموس الطبى دورلاند (3)، وإذا بى أعثر على خمس تصنيفات متنوعة، بلغتْ من الوضوح والتمايز أن أوحت لى أن أحاول أن أنظر فى العلاقات البشرية الثنائية، خصوصا بين الرجل والمرأة، من خلال هذا المنظور.

بصفة أساسية، وبإيجاز أرجو ألا يكون مخلاً، وجدت أن تقسيم التنويعات يعتمد على مدى الضرر أو الفائدة، أو عدم التأثر، مما يعود على كل طرف من الطرفين نتيجة لهذا “التعايش معا”.

وقد وجدت أن عرض هذه التنويعات فى جدول موجز يمكن أن يكون أكثر فائدة وأوضح للمقارنة على الوجه التالى:

نوع الارتباط

الكائن الأول

الكائن الثانى

المقابل البشرى الثنائى

(فى الزواج كمثال)

الارتباط التكافلى

Mutualism

1

يستفيد وينمو بما هو، لما هو من خلال مواكبته للآخر.

يستفيد وينمو أيضا بما هو، لما هو من خلال مواكبته  للآخر

العلاقة التى ينمو من خلالها كلّ من الطرفين بالرؤية، والتكافل، والقرب، والحركة، والتقارب الجسدى، والتباعد الحميم، مع الاحتفاظ  بمسافة مرنة متغيرة  متجددة طول الوقت.

وهو المفروض أو المأمول فى العلاقات الزوجية أو الثنائية الناضجة المتطورة.

الارتباط التعايشى

Commensalism

2

يستفيد من خلال التواجد مع الآخر، وليس على حسابه.

لا يستفيد ولا يتضرر بما يفعله الآخر، ويواصل هو حياته وهو يسمح لهذا الآخر يما يأخذه حسب الأحوال والمتاح.

العلاقة من جانب واحد، حيث يستمر أحد الأطراف (الرجل مثلا) عادة، موافقا على ما يأخذه الطرف الآخر منه، أحيانا فى مقابل استعمال هذا الطرف استعمالا طرْفيا برضاً نسبى، أو بدون هذا الاستعمال، فتحقق –مثلا-  المؤسسة الزواجية للرجل تأكيد رجولته ومواصلة إنجازه فى حين تمارس المرأة (الزوجة) – ربة المنزل دون عمل خارجه عادة- اعتمادها غير الطفيلى عليه، وهو ماض فى سبيله لنفسه  وتقتصر استفادتها على الحصول على احتياجاتها الأساسية برغم توقف نموها نسبيا أو تماما.

الارتباط الطفيلى

Parasitism

3

يستفيد ويعيش على حساب الطرف الآخر معتمدا عليه، مستهلكا طاقته، (ماصٍّا غذاءه).

يصاب بالضرر من هذه العلاقة الاعتمادية الماصَّة، المستهلِكةْ.

الارتباط هنا مثلا فى الزواج الذى تصل فيه الاعتمادية الطفيلية إلى درجة أن يستعمل أحدهما الآخر لتفريغ شحناته على حساب انسانية هذا الآخر ونمائه وحقوقه، فمثلا:  الرجل يستعمل المرأة أُمّاً أو مجالا للتفريغ على حساب كيانها واستقلالها، أو تستعمل المرأة الرجل كممول للمصاريف أو  مُذَبْذب  للجنس فقط، فيعاق ويُستنزف.

الارتباط التساغبى

  Amensalism

4

يعاق أو يصاب بالضرر نتيجة لهذا الارتباط

لا يتأثر لا ضرراً ولا فائدة، وكأن أثره السلبى على الطرف الآخر هو نتيجة ثانوية يتحملها الطرف الآخر وحده الذى ارتضى ذلك، أو احتاج لذلك، أو اضطر لذلك

مثل بعض الزواج (أو العلاقة)  التى تدفع فيه الزوجة ثمن العلاقة دون أن يتأثر الزوج كثيرا إذْ يمضى فى طريقه المستقل(الناجح عادة) يستعملها بعض الوقت، وهكذا يتفاقم الضرر وتتمادى الإعاقة خاصة لو الظروف فرضت استمرار هذه العلاقة الظالمة مددا طويلة، وواضح أنه توجد مساحة تداخل بين هذا النوع وبين الارتباط الطفيلى، ربما الفرق فى درجة الاعتمادية، ومدى الضرر المحتمل.

الارتباط التحطيمى التَّهْلكُى

Synnecrosis

5

يتحطم ويعاق حتى التهلكة من خلاله وبسبب هذه العلاقة الثنائية.

يتحطم ويعاق أيضا حتى التهلكة من خلال وبسبب هذه العلاقة الثنائية.

مثل الزواج أو العلاقة التى تعطل الاثنين معا حتى لو أرضتهما بعض الوقت، إرضاءً طرْفيا يبرر بعض الاستمرار حتى التهلكة، ويبدو أن هذا النوع على خطورته يحقق نزوعاً عدميا لكلا الطرفين.

 

ونكمل الأسبوع القادم: تعقيب محدود وتنبيهات هامة

[1] – يحيى الرخاوى (مقدمة فى العلاج الجمعى (1) من ذكاء الجماد إلى رحاب المطلق) (الطبعة الأولى 1978)، (والطبعة الثانية 2019) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

[2]- يحيى الرخاوى: “تحرير المرأة وتطور الإنسان”، العدد‏ ‏الثانى ‏والثالث-  المجلة‏ ‏الاجتماعية‏ ‏القومية‏. ‏المجلد‏ ‏الثانى ‏عشر‏ ‏سبتمبر‏  1975  ‏

[3]-   Dorland’s Medical Dictionary (24th Edition) W.B’ Saunders Co. Philadelphia and London، .1967.

 

admin-ajax (1)

admin-ajax

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *