الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأفكار الموءودة

الأفكار الموءودة

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 14-11-2020

السنة الرابعة عشر

العدد:  4823

 الأفكار الموءودة (1)

“‏وإذا‏ ‏الموءودة‏ ‏سئلت‏ ‏بأى ‏ذنب‏ ‏قتلت”، ‏كان‏ ‏ذلك غالبا‏ ‏فى ‏الجاهلية‏، ‏وجاهلية‏ ‏عصرنا‏ ‏الحديث‏ ‏أخطر‏ ‏لأنها‏ ‏أخفى” ‏وموءودة‏ ‏هذه‏ ‏الأيام أضعف لكن يبدو أنهم يعتبرونها أخطر‏ و‏هى ‏الفكرة‏ ‏الجديدة‏، ‏حديثة‏ ‏الولادة‏.. ‏حين‏ ‏تدفن‏ ‏حية‏ ‏فور‏ ‏ظهورها‏ ‏تحت‏ ‏أكوام‏ ‏الأفكار الجاثمة‏ ‏ ‏ ‏القاهرة‏، ‏والكيمياء‏ ‏النشطة‏ ‏المتحفزة‏، والأيديولوجيا سابقة التجهيز.‏

نحن‏ ‏نعيش‏ ‏فى ‏عصر‏ ‏الملابس‏ ‏الجاهزة‏، ‏والوجبات‏ ‏الجاهزة‏، ‏والعقائد‏ ‏الجاهزة‏، ‏والأفكار‏ ‏الجاهزة‏، ‏ويبدو‏ ‏أنه‏ ‏على ‏إنسان‏ ‏العصر‏ (‏وخاصة‏ ‏من‏ ‏الشباب‏ ‏إذ‏ ‏يطرق‏ ‏باب‏ ‏الحرية‏ ‏الفكرية‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏) ‏أن‏ ‏يتكلم‏ ‏اللغة‏ ‏السائدة‏ ‏بلا‏ ‏بديل‏، ‏إذ‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يتوجه‏ ‏إلى “‏سوق‏ ‏الأفكار‏ ‏‏ويطلب‏ ‏الفكرة‏ ‏أو‏ ‏العقيدة‏ ‏التى ‏على ‏مقاس‏ ‏عقله‏، ‏ويحبسها ‏ وقد عمل حسابه أن يهربها‏ ‏من‏ ‏جمرك‏ ‏المسئولية‏، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏تجرأ‏ – ‏لا‏ ‏سمح‏ ‏الله‏ ‏وفكر‏ ‏بنفسه‏ ‏لنفسه‏ ‏فكرة‏ “‏كذا‏.. ‏أو‏ ‏كذا”، ‏أو‏ ‏تشجع‏ ‏والف‏ ‏بين‏ ‏مذهب‏ ‏كذا‏ ‏وعقيدة‏ ‏كيت‏، ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الشر‏ ‏المستطير‏ ‏وبئس‏ ‏المصير‏، ‏وقد‏ ‏أصبح‏ ‏تصنيف‏ ‏الفكر‏ ‏إلى ‏فكر‏ ‏حر‏ ‏وفكر‏ ‏غير‏ ‏حر‏ ‏تصنيفا‏ ‏مضحكا‏، ‏لأن‏ ‏أصحاب‏ ‏الأفكار‏ ‏الحرة‏ ‏قد‏ ‏علقوا‏ ‏لافتات‏ ‏التقدمية‏ ‏والثورية‏ ‏ونسوا‏ ‏فى ‏غمرة‏ ‏حماسهم‏ ‏وتصنيفهم‏ ‏للآخرين‏ ‏أن‏ ‏الفكر‏ ‏لا‏ ‏يصبح‏ ‏حرا‏ ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏يتقولب‏ ‏أو‏ ‏يحمل‏ ‏لافتة‏ ‏خاصة‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الفكر‏ ‏لا‏ ‏يصبح‏ ‏فكرا‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏حرا‏، ‏وعلى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏نجد‏ أن ‏التقليديين‏ ‏الذين‏ ‏لم‏ ‏يدعوا‏ ‏الحرية‏ ‏بشكل‏ ‏خاص‏ ‏كانوا‏ ‏أكثر‏ ‏تواضعا دون اختيار،‏ ‏لأنهم‏ ‏قالوها‏ ‏صريحة‏ ‏بلا‏ ‏التواء‏ ‏أنه‏ “ليس‏ ‏فى ‏الأفكار‏ ‏إبدع‏ ‏مما‏ ‏صار”‏، فصار ‏لزاما‏ ‏‏علينا أن نسرع ‏بحفر‏ ‏القبور‏ ‏للأفكار‏ ‏الجديدة‏ ‏الوليدة‏ ‏سواء كانت تنتمى ‏إلى ‏هؤلاء‏ ‏أو‏ ‏إلى ‏هؤلاء‏ ‏لندفنها‏ ‏حية‏ ‏ناسين‏ ‏العار‏ ‏الذى ‏سيحمّلنا‏ ‏إياه‏ ‏التاريخ “‏وإذا‏ ‏الموءودة‏ ‏سئلت‏، ‏بأى ‏ذنب‏ ‏قتلت”.‏

ولاضرب‏ ‏لذلك‏ ‏مثلا‏ ‏من‏ ‏مهنتى ‏حيث‏ ‏يوجد‏ ‏عرض‏ ‏مرضى ‏نسميه‏ “‏الأفكار‏ ‏شبه‏ ‏الفلسفية”، ‏وفى ‏تدريسى ‏لطلبتى وزملائى ‏أقول‏ ‏إن‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ ‏لكى ‏يعرف‏ ‏ما‏ ‏هى ‏الأفكار -‏ ‏شبه‏ ‏الفلسفية‏ – ‏حتى ‏يحق‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يحكم‏ ‏على “‏عادل” ‏أنه‏ ‏مريض‏، ‏وعلى “‏سعاد” ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏كذلك‏، ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يعرف‏ ‏ماهى ‏الأفكار‏ ‏الفلسفية أولا، ومتى تسمى كذلك‏، ‏ويرفض‏ ‏هؤلاء وأولئك‏ ‏الخوض‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الموضوع‏، ‏ولكنهم‏ ‏لا‏ ‏يرفضون‏ ‏الحكم‏ ‏على ‏أفكار‏ ‏الناس‏ ‏بمقياس‏ ‏أسهل‏ ‏يقول‏: “‏إن‏ ‏من‏ ‏يختلف‏ ‏فكره‏ ‏عن‏ ‏فكرى ‏لدرجة‏ ‏أعجز معها عن فهمه،‏.. ‏ويكون‏ ‏أصغر‏ ‏منى ‏سلطة‏ ‏أو‏ ‏قدرة‏.. ‏أو انتشارا.. ‏فهو‏ ‏يخرف‏.. ‏إلى ‏أن‏ ‏يثبت‏ ‏العكس”.. ‏يصدر‏ ‏هذا‏ ‏الحكم‏ ‏ولا‏ ‏تترك‏ ‏الفرصة‏ ‏ليثبت‏ ‏العكس‏.. لأن‏ ‏أكوام‏ ‏الكيماويات‏ ‏والأفكار‏ ‏الجاهزة‏ ‏معدة‏ ‏لو‏أد‏ ‏الفكر‏ ‏الجديد‏ ‏أولا‏ ‏بأول، ومن لا يعجبه يفعل ما بدا له إن كان شاطرا.‏

وأتأمل‏ ‏هذه‏ ‏القاعدة‏ ‏فلا‏ ‏أجدها‏ ‏مقصورة‏ ‏على ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏الصغير‏، ‏ولكنى ‏أرى ‏فرق‏ ‏مجتمعنا‏ ‏المعاصر‏ – ‏على ‏الجانبين‏ – ‏وهى ‏تقف‏ ‏فى ‏وضع‏ ‏استعداد‏ ‏فائق‏ ‏تحمل‏ ‏كل الأسلحة المضادة لأى‏ ‏فكرة‏ ‏جديدة‏، ‏تتساوى ‏فى ‏ذلك‏ ‏مدافع‏ ‏الفكر‏ ‏السلفى الجاهزة‏، ‏أو‏ صواريخ الفكر ‏الثورى ‏المعَدَّة‏، ‏ناهيك عن‏ ‏الفكر‏ ‏الرسمى ‏الوصى وهو يحافظ على أمن الغفلة ‏وأخيرا‏ ‏الفكر‏ ‏العلمى ‏المهيب‏ ‏بباروكته‏ ‏البيضاء‏ ‏فوق‏ ‏منصة‏ ‏المجلس‏ ‏الحسبى ‏التجريبي‏.‏

وإذا‏ ‏كان‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأوصياء‏ ‏الجدد‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏جانب‏ ‏قد‏ ‏أصبحوا‏ ‏هم‏ ‏رؤساء‏ ‏قبائل‏ ‏الجاهلية‏ ‏الجديدة‏، ‏فعلينا‏ ‏أن‏ ‏نعيد‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏سلطاتهم‏ ‏غير‏ ‏المحدودة‏ ‏بما‏ ‏يملكون‏ ‏من‏ ‏وسائل‏ ‏النشر‏، ‏والقرش‏، ‏والكيمياء‏، ‏والسلطة، والمناهج‏ ‏والعقائد‏.‏

وبعد

‏ ‏أخشى ‏ما‏ ‏أخشاه‏ ‏أن‏ ‏يظن‏ ‏بحديثى ‏هذا‏ ‏أنى ‏أفتح‏ ‏الباب‏ ‏على ‏مصراعيه‏ ‏لأى ‏تخريف‏ ‏أو‏ “‏أى ‏كلام”، ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏العكس‏ ‏تماما‏ ‏هو‏ ‏الصحيح‏، ‏فان‏ ‏أدعياء‏ ‏الحرية مع وقف التنفيذ والاختبار‏ جنبا إلى جنب مع حرّاس خزائن الحروف الساكنة، قد تولوا مهنة أجهز وأربح، وهى مهنة ‏حفارى‏ ‏القبور‏ ‏لمن‏ ‏يخالفهم‏، ‏ويكفى ‏أن‏ ‏ينظر‏ ‏الواحد‏ ‏منهم‏ – ‏فى ‏لحظة‏ ‏صدق‏ ‏خاصة‏ ‏مع‏ ‏نفسه‏ – ‏إلى ‏حكمه‏ ‏الداخلى ‏على ‏من‏ ‏يخالف‏ ‏موسوعته‏ ‏وعدميته‏ ‏و‏.. ‏حريته‏! ‏تدينا‏ ‏أو‏ ‏إلتزاما‏ ‏أو‏ ‏أملا‏ ‏أو‏ ‏أسلوبا‏ ‏عاديا‏ ‏متواضعا‏ ‏فى ‏الحياة‏، ‏أقول‏ ‏تكفى ‏لحظة‏ ‏صدق‏ ‏يرى ‏من‏ ‏خلالها‏، كم‏ ‏هو‏ ‏أشد‏ ‏قسوة‏ (‏وعبودية‏) ‏من الضحايا الذين دفنهم أحياء فى قبورهم، ومن المختلفين الذين حجزهم وراء قضبان الاحتقار والاستعلاء والنبذ والإهمال، ولن يفعلها أي منهم.

هكذا‏ ‏نرى ‏أن‏ ‏الوقوف‏ ‏أمام‏ ‏أزمة‏ ‏تعريف‏ ‏الحرية‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏مشكلة‏ ‏مكتبية‏ ‏نظرية‏، ‏أو‏ ‏مشكلة‏ ‏اقتصادية شبه‏ ‏ثورية‏، ‏وإنما‏ ‏أصبحت‏ ‏مشكلة‏ ‏يومية‏ ‏معاصرة‏ ‏للفرد‏ ‏العادي‏، ‏وياليت هذا القهر وأحكام البتر يأتى من الخارج فقط، ذلك أن‏ ‏القهر‏ ‏الداخلى ‏الذى ‏يسجن‏ ‏‏العقل‏ ‏البشرى بطريقته السرية الخاصة، أصبح أخطر وأقسى، لأنه يتم فى الظلام فلا مواجهة حيث لا تعرية، فهو أشد وطأة وأخطر من القهر الخارجى،

 نحن أحوج ما نكون إلى مساحة من القبول للأفكار الجديدة والمواقف الإبداعية الخلاقة حتى لو بدت فى بدايتها شطحا، ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يثرى ‏أى ‏مجال‏ ‏من‏ ‏مجالات‏ ‏الثقافة‏ ‏والتعليم والإيمان الحق‏ ‏إلا‏ ‏بدرجة‏ ‏حقيقية‏ ‏من‏ ‏السماح‏ ‏للأفكار ‏‏الوليدة‏، ‏دون‏ ‏الإسراع‏ ‏بوأدها‏ ‏أولا‏ ‏بأول‏ ‏بالكيمياء‏ ‏والإعلام‏ ‏والحروف جميعا‏.‏

وبعد‏..‏

لعلنا‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى إعادة النظر فيما هو فلسفة التى هى “ممارسة” أكثر منها مناقشة ومناظرة، وهى فعل أكثر منها خطابة، وهى سؤال يبحث عن إجابات أرجح منها إجابة منتهية.

هذا هو السبيل الأكرم للكائن البشرى بعد كل هذا المشوار الطويل الذى قطعه على مسار التطور ودفع فيه الثمن غاليا من الفصامين ومن القتلى، والمعتوهين والمساجين، والخصيان،

و … و … والأحرار (2)

 

[1] – نشرت بالأهرام  بتاريخ 5/12/1979 بعنوان: الأفكار … وأزمة الحرية”،

      وأقر واعترف أن التحديث اليوم قد تجاوز حقه،وإن لم يجاوز حدوده! ولم أستطع أن أخفف من جرعته.

[2] – معذرة، إن كان لديك وقت، أرجوك أن تقرأ هذه الكلمة مرة أخرى،

      هذا ما وصلنى منها وأنا أرجعها

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *