نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 21-12-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4494
كتاب (رباعيات.. ورباعيات) (1) (2)
(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)
ما زلنا مع صلاح جاهين
…………
………….
تساؤلات، بلا إجابة حاسمة:
وهو إذْ يطلب الجواب المحدد لتساؤلاته، يحاول أن يجد مفهوما كاملا واضحا متصلا لكل علامات الاستفهام التى حيـَّـرَته وأقلقته، ولكنه لا يجد الجواب شافيا، وكثيرا ما لا يجد جوابا ـ أصلا ـ فيقول:
أسأل سؤال والرد يرجع سؤال..؟
واخرج وحيرتى أشد مما دخلت؟
أو:
ده ياما فيه سؤالات من غير ردود؟
وهو يتساءل عن أصل الوجود:
الأصل هوّه الموت ولا الحياة ؟
وعن عمق الإيمان:
قلبى ارتجف وسألنى أأمن بايه؟
أأمن بإيه محتار بقالى زمان؟
وعن ذاته:
دقيت سنين والرد يرجع لى: مين؟
لو كنت عارف مين أنا، كنت أقول؟
وعن حقيقة أعماقه، وما يختفى وراء ظاهره يتساءل:
يامرايتى ياللى بترسمى ضحكتي
ياهلترى دا وش ولا قناع؟
وحين تحتد أزمة المواجهة بحثا عن إجابات محددة لترجح كفة من كفتى صراع ما، ينتبه صلاح إلى أنه زودها “حبتين”؛ فيحاول أن يقنع نفسه بأن “يفوِّت”.. فالحياة لاينبغى أن تقاس بهذه المقاييس الحادة، فما بهذا الاستقطاب تحل الصراعات، وليس ثمَّ فاصل محدد – مثلا – بين الصواب والخطأ، بين الصدق والكذب، فيكتب:
وقفت بين شطين على قنطرة
الكذب فين والصدق فين ياتري؟.
محتار حاموت، الحوت طـِلعْـلِى وقال
هوّه الكلام يتقاس بالمسطرة ؟
إلا أن هذا “التفويت” لا يحضره بهذه السهولة، إن كان يحضره أصلا، فموقفه الغالب، إن لم يكن الدائم هو موقف المصارع الذى يشق طريق بقائه فى مواجهة حاسمة لحظة بلحظة، فهو يستقبل نهارا جديدا بهذا الموقف:
نهار جديد أنا، قوم نشوف تعمل إيه؟.
أنا قلت ياحتقتلنى.. ياح اقتلك
فهو ثائر فى البداية، ثائر فى النهاية، ولو بالتحطيم:
إقلع غُمـَاكْ ياتور وارفض تلف..
إكسر تروس الساقية واشتم وِتـِفْ
إلا أن ثورته ليست طفلية أو مثالية، تتمادى فى إنكار الواقع، والمغالاة فى إمكان المستحيل، فهو ينبه نفسه إلى أنه يستحيل أن يحصل على شئ إلا إذا دفع ثمنه، إلا إذا تنازل عن شيء بالمقابل:
جالك أوان ووقفت موقف وجود
ياتجود بِدَهْ ياقلبى، يابْدَه تجود
وهو يدرك تماما أن المسألة لا تنتهى بمجرد وضوح الرؤية، فحتم الاختيار لا يقتصر على التفضيل بين الغايات، بل إنه لازم- أيضا – فى انتقاء الوسيلة التى توصل إلى الهدف.. فالحيرة لا تنتهى حتى لو وضحت معالم الطرق، فالاختيار ممتد أبدا:
ولما ييجى النور..واشوف الدروب
أحتار زيادة… أيهم أسلكه..؟
صراع وتحدٍّ وثورة:
هذا القلق الوجودى المُلِـحّ، هو الثقل المتذبذب الذى يظل يحرك كفتى الميزان، لتميل إحداهما إما إلى الفرح وإما إلى الانقباض، إما إلى الانطلاق والامتداد، وإما إلى الانهباط والارتداد، وهذا هو البعد الذى سوف تركز عليه هذه الدراسة، بما لا يعنى أنه البعد الأوحد، ولكنّه الأظهر فى هذه الشخصية بوجه خاص، وفى هذا الإبداع (الرباعيات) بوجه أخص.
تجليات “الحالة الفرحِانْقباضية” على الجانبين.
حتم التناوب:
تتكرر نوبات الوجود بشكل منتظم، لكن النوبات فى مثل هذه الحالة ليس لها نمط محدد يلزم بالانتظام أو التناوب، فمرة ترجح هذه الكفة وأخرى ترجح تلك، والحزن ينتهى ويحل محله الفرح، والعكس صحيح، أو هو ينتهى من حزن إلى حزن إلى حزن أكبر، ثم إلى فرح يقصر أو يطول، يتكرر، لكن ما يميز هذه الحالات، هى أنها موقوتة، لها عمر افتراضى محدود عادة، (اللهم إلا إذا أزمنت حتى يتكلسُ الوجود برمـّته)، وصلاح جاهين يعرف ذلك بحدسه الفائق، وهو يلتقط إنذارات الاكتئاب، فيحذر من الاستغراق فيه، ثم يذكـِّر نفسه أنه حتى لو لم يستطع أن يتجنب حتميته، فنوبته قصيرة العمر بالضرورة:
حاسب من الأحزان وحاسب لها
حاسب على رقابيك من حبلها
راح تنتهى، ولابد راح تنتهي
مش انتهت أحزان من قبلها؟
وعلاقة هذا التناوب بفصول السنة وثيقة (2)، ولكنها غير منتظمة، فليس هناك فصل بذاته عند صلاح جاهين يغلب فيه نوع على الآخر، ولكنّا نلاحظ أن ثَمَّ تغييرا يحدث مع قدوم الربيع أو الشتاء، ولكنه لايحدث فى اتجاه واحد، أى أنه ليس هناك تلازم واضح بين فصل بذاته ودور بذاته، فالمسألة ليست فى أن يدب النشاط – مثلا – فى فصل الشتاء، ويسود الهمود فى فصل الصيف، أو تتفتح النفس فى الربيع، وتظلم فى الشتاء أو الخريف، بل إن صلاح يحدد أن التناسق الأعلى فى لحن الوجود، هو التناسب المتناغم الممتلئ بما هو أهل للامتلاء به، نسمع هذا الحوار:
الدنيا من غير الربيع ميــّتة
ورقة شجر ضعفانة ومفتفتة
لا ياجدع غلطان تأمل وشوف
زهر الشتا طالع فى عِزّ الشتا
وهو يحس أن الشتاء فصل مفترى عليه، فعلى الرغم مما يتساقط فيه من مظاهر الحياة، فإن هذا لا يعنى أنه فصل الموت، ففى عمق تناسقه مع دورات الطبيعة، لا يمثل الشتاء إلا إحدى دورات الإيقاع الذى لا يكتمل إلا باستمرارية دوراته، فالذى لا يموت فى الشتاء هو هذا الوجود الأعمق للمسيرة الدورية، بغض النظر عمّا يهمد من سلوك ظاهر:
دا حاجات كتير بتموت فى ليل الشتا
لكن حاجات أكثر بترفض تموت
والتناقض بين نبض الطبيعة الحيوى، ونبض الإنسان المواكب هو الذى يزيد حدة المواجهة، حتى تبدو صارخة دالة منذرة.
وجاهين يحاور الربيع تلو الربيع حوارا حيا، متنوعا، دالا:
دخل الربيع يضحك لقانى حزين
نده الربيع على إسمى لم قلت مين؟
حط الربيع أزهاره جنبى وراح
وايش تعمل الأزهار للميتين؟
وهو يحدد مضاعفات التناقض بين طبيعة كونية تواصل دوراتها المنتظمة، وبين طبيعة بشرية لا تواكب هذا التفتّح المتولّد، فتبدو هامدة ميتة، أو هى كالمتجمّدة، فى مواجهة نبض الكون الحيوي. يجسد صلاح هذه المواجهة فى قوله:
وانا ليه بيمضى ربيع وييجى ربيع
ولسه برضه قلبى حتة خشب
ويستقبل صلاح ربيعاً آخر، فإذا بنسمته “تكوي” بدلا من أن “تـُنـْعِش”، وبهذا الإلحاح على إظهار عدم الالتزام بما شاع – مثلا – أن الربيع فصل الحب، وأن الصيف فصل الخمول، وأن الشتاء فصل الكمون.. إلخ تتنقّل الرباعيات بإبداع خاص، لتصف تجليات المزاج المختلفة حتى التناقض مع كل ربيع بشكلٍ مغاير، نسمع معا:
نسمة ربيع لكن بتكوى الوشوش
…………………………..
هيه الحياة كده كلها فى الفاشوش؟
الربيع يكوى، والحياة فى الفاشوش إذا دارت دورته ولم تواكب دورة الكون، أما إذا اتسقت دورته مع دورة الكون، فإن اللحن يصدح فى كل منهما فى رقصة لا مثيل لها، هذا ما يعلنه صلاح وهو يستقبل الربيع بالهتاف والصياح والفرح والأمل، يستقبله طفلا يولد منتعشا مثيرا لكل ما هو فرحة، وكل ما هو أمل، فيتوحّد به (يا طفل ياللى ف دمّى) ليصبحا طفلا واحدا يناغى بعضه بعضا، حتى ترقص بهما السعادة، فتفيض منه وبه إلى درجة أن يحب دود الأرض والغربان:
مرحب ربيع مرحب ربيع مـَرْحـَبـَا
يا طفل ياللى فى قلبى ناغى وْحـَبـَا
عشان عيونك ياصغنن هويتْ
حتى ديدان الأرض واللــّـغْرِبَا
وهكذا نخلُصُ إلى أن نرى كيف أن صلاح، فى رباعياته خاصة، قد عرّى بحدسه المبدع، الطبيعة الدورية (الإيقاعحيوية) لكل من الإنسان والكون، كما أنه قد غاص فى أطوارها إذ تتناسق وتتناغم، وإذ تتحاور وتتجادل، وإذ تتناقض ويواجه بعضها بعضاً، كل ذلك بإيجاز رائع.
ثم ننتقل لنقرأ معا كيف صوّر كلاً من طورى النبض الحيوى الدورى فى رباعياته. نبدأ بالاكتئاب:
…………….
(ونواصل مع صلاح أيضا الأسبوع القادم)
[1] – المقتطف من كتاب “رباعيات ورباعيات” (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – وقد وضعتُ لذلك فرضا يفترض أن هذه الاضطرابات تنشأ، حين لا تتوافق دورات الإنسان الفـَصـْلية، مع دورات الكون الطقسية، وبتعبير أدبى: “حين تتفتّح الزهور فى الربيع، ولا يتفتّح الإنسان معها، أو لا يتفتح بسرعتها، أو لعله يزداد انغلاقا فى مواجهتها”، يحدث الاضطراب وخاصّة النوع الوجدانى منه.