نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 2-2-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4537
كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (3)
بعض فكر يحيى الرخاوى (1)
”الحقيقة”هى الحركة المرنة
المتخلقة فى اتجاه “الحقيقة” (2)
من نافلة القول أن نقول إنه لايوجد شئ إسمه الحقيقة، وإنكار وجود الحقيقة – بالمفهوم الذى يلوح به بعض غلاة العلماء، أو بعض متعصبى الأديان والأيديولوجيات- ليس موقفا عدميا أو مثاليا، وهو لا يعنى ما قال به بيراندللوا (ومثله كثيرون) فى مسرحيته الجميلة “لكل حقيقـته”، ولكنه إلزام متجدد بدوام السعى إلى تخليق الحقيقة المتحركة القابلة للتعديل والتشكيل باستمرار الحياة، واستمرار المحاولة.
فالأمر الآن يمكن أن يوجز فى فرض يقول:
“الحقيقة هى موضوعية وسلامة وصحة منهج السعى إليها”
وحين نذكر كلمة المنهج، يقفز إلينا فى مجال العلم- متصدرا- المنهج التجريبى بما يعنى من حتم الإعادة والمقارنة، وهو منهج أحسن ما يقال فيه هو: أنه قد يظهر بعض سطح الحقيقة دون أغوارها، فإذا حل هذا الظاهر الجزء محل الكل فإنه يبعدنا عن الحقيقة لا يقربنا منها، أما فى مجال السياسة فإن الحقائق تختفى وراء مناهج حسنة السمعة ضعيفة المصداقية، مثل منهج الديقراطية، والتاريخية، والمفاوضاتية، وحتى منهج الحرب (وهى إحدى لغات السياسة) كلها مناهج تجعل من الأقوى، ومن الغالبية (بغض النظر عن نوعيتها) هى الوصى الشرعى الذى له الحق فى الإفتاء بما هو حق أو حقيقة.
وحين يحتار الإنسان بين هذه المناهج الناقصة، أو الزائفة، تقفز إليه مناهج بديلة تترجح بين أقصى الزيف، مثل ألعاب الحدس البدائى، والشطح الجماعى، والوهم المتناثر البراق، وبين أقصى الوثقانية الكلية الواعدة بالمعرفة الكلية المباشرة برغم غموضها وخصوصيتها والتى تتمثل فى الإلهام الإيمانى والسعى الصوفى الجاد المثابر.
وحتى لا نـتمادى فى تنظيرات مجردة دعونا نطرح بعض التساؤلات والأمثلة لأشباه الحقيقة.
أولا: هل حقيقة أن الصحيح نفسيا هو الشخص الذى يشبه سلوكه أغلب الناس، ويستطيع أن يتشكل كما يريدون، وأن من حاد عن السواء الإحصائى لعامة الناس، يمكن أن يوصم بوصمة المرض؟
ثانيا: هل حقيقة أن من يـُجـْـمع عليه أغلبية المشاركين (فى الانتخابات العامة، أو مجلس الشعب، أو مجالس الكليات أو مجالس تحرير الصحف أو أى مجالس من أى نوع) هوالأقـرب للحقيقة، أم أنه الأقرب إلى احتياجات هؤلاء الناس فى هذه اللحظة الزمنية، حتى لو كانت هذه الاحتياجات هى الانتحار نفسه (تصور لو أجريت عندنا آنتخابات حرة فعلا ورشح المتدينون- الخصوصيون جدا- أنفسهم نيابة عن الله (3) سبحانه وتعالى، فأى حقيقة يمكن أن يمثلوها مع كل هذه الديمقراطية).
ثالثا: هل ما تنتهى إليه النتائج العلمية جدا،هو الحقيقة، أم أنه مرحلة إلى الحقيقة ما دام العلم – بالتعريف – هو مفتوح النهاية أبدا وقابل للتفنيد (بل للتكذيب) والمراجعة دائما.
نقول، بعد أن نتوقع إجابات مناسبة لهذه الأسئلة أوالأمثلة، إننا لا نملك إلا السعى، ثم السعى، ثم السعى إلى الحقيقة، لا أكثر.
فالساكن الثابت لا يصل، من موقعه إلى أى حقيقة كافية.
فهل يصل من يتحرك – جدا- إلى الحقيقة بالضرورة؟
الإجابة مازالت تحتمل النفى، فثمة حركة تبدو شديدة النشاط، شديدة الحماس، شديدة الحرارة، ولكن بتتبع خطواتها بأمانة كافية، وبتقييم موضوعى لنتائجها المرة تلو المرة، قد نكتشف أنها حركة “فى المحل” أيضا، وأنها ليست إلا إعادة لنص فاشل، سبق أن تكرر واعدا المرة تلو الأخرى، يحدث هذا فى أبسط مظاهر السلوك، مثل تكرار تجارب الحب أو الزواج الذى يتم فيها انتقاء الحبيب الجديد (أو الشريك الجديد) بنفس مواصفات القديم (مع تغير الإسم والعنوان وظاهر الصفات) ثم يتسلسل النص العاطفى حتى يتم الفراق أو الطلاق المرة تلو المرة بنفس الطريقة، ونفس الخطوات، ونفس النهاية، ثم، من جديد، وهكذا، يتكرر مثل ذلك مع المدمن الراجع، كما يمكن أن تكتشفه فيما شئت من التجارب البشرية فى مجالات الثراء الاستهلاكى التفاخرى، أو مجالات التعصب الأيديولوجى أو الدينى أو الوطنى، أو حتى بعض مجالات البحث العلمى الكمى، ولا يخفى أن مثل هذا “النص المكرر” لا يمثل الحقيقة بل يؤكد القصور عن الاستفادة من الوعى بالخطوات إليها، والعجز عن التعلم من نتائج الفشل عن تحقيق خيالاتنا عنها.
حتى العلاقة بالآخر كموضوع حقيقى (من حيث أنه - الآخر- وليس مجرد مسقطا لاحتياجاتنا) مثل هذه العلاقة لا توجد إلا من خلال “برنامج الذهاب والعودة” منه وإليه، ذلك البرنامج الذى يسمح لنا بإعادة الرؤية، وهو البرنامج الذى - إن صح- يسمح لنا أن نـتخلق فى حضور آخر يتخلق بنا ومعنا طول الوقت .
الحركة نحو الحقيقة، التى أزعم أنها هى هى الحقيقة، لا بد أن تكون لها مواصفات موضوعية محددة ، تجعلها فعلا إبداعا متجددا يخلق حقائقه المرحلية باستمرار، ومن هذه المواصفات.
أولا: ألا تبدأ الحركة من فراغ، إذ لا بد أن تكون بدايتها محتوية تاريخها.
ثانيا: أن تقبل الحركة – رغم جدتها- أى قدر من الاختبار للتحقق والنقد والنضج مع احتمال مغامرة تغير نوعى ولو كان شديد الضآلة لا يمكن رصده ابتداء).
ثالثا: أن تقيس نجاحها وفشلها بنوعية التعلم بما فى ذلك مراجعة المنهج، بدءا بمنهجها ذاته.
رابعا: أن تقبل التبادل الإيقاعى مع السكون الإيجابى، بمعنى ألا تكون حركة طول الوقت، وأعنى بالسكون الإيجابى ذلك النوع من التلقى المستوعب لمزيد من المعلومات التى تصبح ذخيرة الطور الأتى من حركة متجددة .
خلاصة القول: إن الإنسان الساعى إلى الحقيقة هو إنسان قادر على ممارسة الإيقاع الإبداعى بين السكون المسـتوعب، والحركة المهددة بالتحول، وهو الإنسان المغامر طول الوقت وهو يكابد أشرف ما تتميز به محنة الوعى والحرية من حتم التغيير إلى ما لا يعرف، باستعمال كل ما يعرف والتفتح لكل ما لا يعرف.
*****
[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019) وصورته الأولى كانت مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو 1997 إلى يوليو 2006 + 1) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة سطور: (عدد ديسمبر – 1998)
[3] – وهذا هو ما حدث لاحقا فعلا بعد أحداث 25 يناير ولمدة عام واحد.
(من 24 يونيو 2012، حتى 3 يوليو 2013).