الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / (رباعيات.. ورباعيات) (8) (صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور) الفصل الثانى: بداية الدراسة المقارنة: ثانياً: رباعيات الخيام

(رباعيات.. ورباعيات) (8) (صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور) الفصل الثانى: بداية الدراسة المقارنة: ثانياً: رباعيات الخيام

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت:1-2-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد:   4536

 (رباعيات.. ورباعيات) (1) (8)

(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)

الفصل الثانى: بداية الدراسة المقارنة: (* رباعيات جاهين  * عمر الخيام   * نجيب سرور)

ثانياً: رباعيات الخيام

لا تشـــغل الـبال بماضى الزمان

ولا بـــــآت العيش قبل الأوان

واغنم من الحــاضـر لـذاته

فلـــيس فى طبع الليالى الامان

رباعيات الخيام  (2) هى أشهر الرباعيات وأقدمها (بالنسبة لهذه الدراسة على الأقل)، وهى رباعيات مليئة بالتكرار والإصرار.

وقد وضعتُ فرضا شاملا لقراءتها، يقول على لسان الخيام:

(الفرض):

وأنا أتقلب على جمر الألم، واليقين أقرب إلى المستحيل، الحيرة مؤلمة شريفة، والموت ذو وجه قبيح، ولكنه حقيقة راسخة، والخمر غسيل الروح، وما دام الأمر كذلك، فاللذة واجبة إذا كان عندكم، يا خلق الله: نظر، فافعلوا ما لم أستطعْه، والله غفور رحيم على الرغم من أنف الكاس والطاس والكُهـّان، والوصاة جميعا“.

هذه الرباعيات أعلنت لى أن “جرعة الأمان الأولى عند الخيام كانت ناقصة منذ البداية (بداية النمو)، فأصبح ذلك دافعاً ملحاً لتعويضٍ واعدٍ باللذة والراحة، كما ظهر فى شكل هرب متواصل، تجنبا لألم مواجهة الواقع، مما يلهب السعى من جديد إلى الاستزادة من دعة الأمان، فتتجلى من خلال هذا وذاك مظاهر الجوع العاطفى فى صوره المختلفة، وكذا تتبدّى فى القبول بالهرب بالتسكين المتاح غالبا، مما يستدعى غلبة الميل إلى “إلغاء الموضوع”، بالانسحاب المُلحّ بعيدا عن عمل علاقة معه أصلا، وذلك  بـالتـثبيت على الموقف الذاتوى المنسحب من مسئولية الجدل مع الآخر، وهو ما يسمى بموقف “اللاموضوع”، أو الموقف الشيزيدى الذى جسده الخيام بحضوره بجانبه النرجسى أساساً، مع مواصلة السعى المتصل إلى موضوع خيالى بديل، ليكون موضوعا أسهل، باعتباره تحت أمر وإذن خيال واعد باللذة، مغلف بأحلام النكوص.

نار الألم وأمل الغيبوبة

هكذا يبدو: أن الخيام  (كما ظهر فى رباعياته لا أكثر) لم يجرع من كأس الأمان الأّولى، ما طمأنه إلى قدرته على الاستمرار، وفى الوقت ذاته، لم يلجأ إلى سيف التوجس العدوانى كبديل يعلن به حرمانه؛ فظل يعاود لأخذ حقه مما أسماه  وصوّره على أنه اللذة، فلم يستطع دائما (أو: لم يستطع أصلا)، فراح يدعونا إلى ذلك بالنيابة، ثم تحمس حتى كاد يرى أن  اللذة هى الترياق والحل.

يقف الخيام وهو يمسك بكأس الخمر كأنه مصنوع من جمجمة الشاة، وساق الفقير، وهو يطلب أن يرتوى من اللذة (الخمر) قبل أن يحل أجله.

1 ـ رأيت خزافا رحاه تدور

يجد ّفى صوغ دنان الخمور

كأنه يخلط فى طينها

جمجمة الشاة بساق الفقير.

(54/58)

2 ـ أفق وهات الكأس أنعم بها
واكشف خفايا النفس من حجبها
وروّ أوصالى بها قبلما
يصاغ دنّ الخمر من تربها 

 (3/35)

وهكذا يقف الخيام على منبره “البار” المصنوع من شوك الألم، وخلاصة الأحزان ليخطب فى الناس ألا يضيعوا وقتهم فى الحصول على ما هو زائل، بل  هو يكاد ينصحهم ألا يتألموا أصلا (إن أمكن). فإن فعلوا أو هـُدِّدُوا، فليشربوا لينسوا، وليشربوا ليفيقوا، وليشربوا لينطلقوا، وهنا يجدر بنا أن نلاحظ ابتداءً:

أولا: إن الدعوة إلى اللذة لا تعلن أن صاحبها يعرفها أو يعايشها بالضرورة، ولكنها قد تعلن أنه يتمناها ويرجوها، وتكرار مثل هذه الدعوة كما هى الحال فى رباعيات الخيام؛ قد يؤكد أن هذه الأمنية لم تتحقق، وربما لن تتحقق له (على الرغم من فرط اشتياقه لها)

 ثانيا: إن الخيام لم يدعُ نفسه إلى اللذة بقدر ما دعا الناس إليها فى شكل الواعظ النديم، وكأنه يئس – شخصيا- من الحصول عليها، فأمـِل أن يتعظ غيره من عجزه عن التمتع بها؛ ربما نتيجة لفرط حزنه وتراكم آلامه، بل إن دعوته لنفسه بدت لى وكأنها – أساسا- دعوة لنا دون نفسه.

ثالثا: وهو لم يعلن أبعاد وعمق داخله (مثل جاهين)، وإنما راح يعلن استقباله للواقع كما يبدو له فى الخارج أساساً، كذلك هو لم يحم ذاته وصورتها بالاستغراق فى الفخر بها (مثل سرور)، فجاء حديث النفس إما تبريرا للذة، وإما استغفارا لذنب، وإما إعلانا لحزن، وإما تململا من حيرة، وكأن “الألم” من هذه المواجهة كان أكبر من السماح بمواجهتها أو اختراقها. كما أن “الخوف من الألم” بَدَا أضخم من مغامرة التجريب.

رابعا: إن الخيام كان يسابق الزمن، وبالذات يسابق الموت، فهو يريد أن يعبَّ قدر ما يستطيع، مما يتصور أنه يستطيعه، قبل فوات الأوان:

1 ـ إشرب فهذا اليوم إن أدبرتْ

به الليالى لم يُعِدْه القدر.

(30/48)

2 ـ الموت حق لست أخشى الردى

وإنما أخشى فوات الأوان.

(102/72)

خامسا: إن الدافع الآخر لدعوته إلى النهل من نهر اللذة هو الجهل بالمصير، فما دمنا لا نعرف، فلننهل مما نعرفه تحديدا من هنا تضخمت عنده قيمة ” الهنا والآن” النرجسية، بما يفيد اللذة الأضمن.

فرط الألم، والخوف من زيادته

المتجول فى بستان الخيام، بعنبه وحصرمه، إن صدقت المحاولة، وأحسن صحبته ولم يكتف بظاهر قوله، سوف يضرس من حصرمه المرّ، قبل أن ينتشى من عصير عنبه المُخمـّر، فألم الخيام وحزنه هما الأساس، بل إننا نكاد ندرك أنهما الأساس والفروع جميعا على الرغم من دعوته المتكررة إلى عكس ذلك.

    1- ـ … ولم أصِب فى العيش إلا الشقاء

(2/35)

2- …ولم أذق فى العيش طعم الهناء

(48/54)

ويعمم أساه على كل الناس مخاطبا الدهر

3-… وسـُمـْتُ كل الناس سوء العذاب

(18/42)

4- ـ… يا نفس قد آذاكِ حمل الحزن

(33/49)

إلى آخر هذه المحزنة المؤلمة التى لا فكاك منها، إلا إذا: حقق اللذة التى يحلم بها، ولكن مهلا، فهذه “اللذة”، لم تثبت أنها “ذات فاعلية” بحق، إلا فى أقل القليل، فالأمل بابه مسدود، بل إن “السعى” نفسه هو فى سبيل اليأس.

الدهر لا يعطى الذى نأملُ

وفى سبيل اليأس ما نعملُ

(14/14)

وكأن اللذة التى ينادى بها الخيام، هى راحة أو رفاهية اليأس، أكثر منها نشوة الأمن.

قارن جاهين وهو يقول:

تيأس ما تيأس الحياه راح تمر

 لقَيَتَ الصبر مرّ و برضك اليأس مرّ

 ويبلغ تصوير الخيام قمة أساه حين يتصور أن الهم – شخصيا- قد يشفق عليه منه:

ولو درى الهم الذى لم يجىء

دنيا الأسى لاختار دار الغيوب

(135/87)

الألم.. والسر الغامض

هذه هى الأرضية الحزينة التى تنطلق منها آهاته، وتـُملأ بسببها كاساته، أما السيف المسلط فى وجهه، والعدو الواجب تجنبه، فهو الألم الذى هو عنده أقسى وأرعب من الموت نفسه (العدم):

ولست مهما عشت أخشى العدم

وإنما أخشى حياة الألم

(154/103)

وعلى الرغم من هذا الوضوح والإعلان المحدد؛ حيث الأرضية هى الحزن، والألم هو العدو اللدود، فإنه يبدو أن ما خفى كان أعظم:

حالِىَ لا أقوى على شرحها

وفى حنايا الصدر سر دفين

(96/70)

والربط بين الألم والحزن، وبين عدم الرضا والسر الذى لم يعلن من ناحية ولم يـُعرف من ناحية أخرى، هو ربط شديد الوثاق، فكأنه يريد شيئا لا يعرفه، والخمر وسيلة بديلة لهذا الشىء، بلا طائل؛ طالما هو جوعان هكذا إليه، والسر لا يصعد ولا يُدرك، فوجوده هو الألم (اللئيم) بلا حل، وليتجرّع من الهموم ما  لا يروى ولا ينطفىء.

لم يخلُ قلبى من دواعى الهموم

أو ترضَ نفسى عن وجود اللئيم

وكم تأدبت بأحداثه

ولم أزل فى ليل جهل بهيم

(124/82)

الوحدة والرضا بالشقاء والنزيف

وإذْ تتراكم الهموم، ويجأر صاحبها بطلب اللذة، ولا يجدها، يكاد يرضى بالشقاء فى صمت، بل فى وحدة كريمة مُرَّةٍ فى آن، بل كأنه المسيح يحمل الألم عنا، لينفرد بالصلب من أجل خلاصنا، هذا ما كان يخاطب به نفسه:

تحمّل الداء ولا تلتمس

له دواءً وانفردْ بالشقاء

(105/73)

وكأنه بهذا يؤكد أنه يلتمس لنا الدواء بالشراب والبهجة دون نفسه، بعد يأسه من كل مَخْرج ممكن؛ فهو إذ يقدِّم لنا كأس اللذة، يتجرع خمره من دِنّ ينزف وهو يسيل من قلبه المفعم بالشقاء.

قـلبى كدن الخمر يجرى دما

ومقلتى بالدمع كأس تسيل

(130/86)

…………….

ونكمل الأسبوع القادم مع رباعيات الخيام  و“اكتئاب المواجهة”

 

[1] –  المقتطف من كتاب  “رباعيات ورباعيات”  (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017)  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

[2]  –  نسبة رباعيات الخيام إلى هذا العالم الرياضى الفذ ” غياث الدين أبو الفتح عمر بن إبراهيم الخيام”، أمر حوله نقاش كثير. ولما كانت أول نسخة مخطوطة قد كتبت بعد وفاته بخمسين وثلاثمائة سنة، فإن نقاء الرباعيات وحتمية نسبتها إليه شخصيا أمر تحوطه الشكوك.

 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *