الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” (1 من 3)

مقتطف من كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” (1 من 3)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 3-2-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد:  4538

مقتطف من كتاب:

الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)

الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” (1 من 3)

 …………….

دربى بِكرٌ فوق حصاهُ تسيل دماءُ القدم ِالعارِى

يتبعنى الناسُ الـمِثلي،

ليسوا مثلي.

من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــهْ.

يحفرهُ بأنين الوحدهْ

يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ

دوماً أولىَ

يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ

(16 ديسمبر 1985) (وقت الكتابة)

كلما جلست لأكتب هذه الرحلة، سافرتُ إليها من جديد، فعشتها بكل التفاصيل، والهمس، والاستطراد، والرسائل، والوعود، والتنشيط، والإحباط، والمراجعة،

حين أكتب: أسافر إلى ما اقتنَصَه وعيِى فبقى معى، لا أسرد ما كان حين كنت مسافرا،  وكلما مضيت أبعَد فى السرد والكتابة، زدت اقتناعا بأن قدرة الإنسان على تمثل الخبرة الحقيقية دون وعى مباشر، هى أكثر بكثير جدا من فرص استيعابها الظاهر، ناهيك عن فرص التعبير عنها، التى هى أقل فأقل.

ثم أعود أتساءل: هل يصح أن ُيكتب ما يسمى أدب الرحلات بهذه الطريقة: بعد عام؟ ومن الذاكرة؟ ولكن ما لى أنا وأدب الرحلات، ليكن ما يكون.

الثلاثاء 4 سبتمبر (1984)

كان الاتفاق أن يحضروا “هم” “إلينا” فى الموتيل قبل السابعة صباحا، فيجدونا قد جَهِزنْا، ذلك أننا كنا قد نوينا أن نقطع المسافة إلى باريس (أكثر من 900 كيلومتر) مرة واحدة فى  اليوم ذاته، لهذا فقد عادوا إلى المخيم ليلة أمس فى الأتوبيس الصغير، وتعهدوا بلم الخيمة فجراً دون معونتنا؛ ليكونوا عندنا فى السادسة دون تدخل من جانبنا، وقد سارعت بالموافقة على نشاطهم وحماسهم واستقلالهم الواعد، تأكيدا واختبارا لما أردته من هذه الرحلة، وكراهية ًمنى للقيام بوظيفة “المسحراتى” التى تورطت فى ممارستها بثقل شديد منذ صغرى، وكأنى الموكل بإيقاظ سائر البشر بدءا بالأقربين من عائلتى، صغارا وكبارا. ماعدا أبى، نومى خفيف، وثقتهم فىّ كبيرة، وحبهم للراحة والدفء والاعتماد أكبر من قدرتى على دق طبلة السحور ـ بلا طبلة ـ على دماغ كل واحد حتى يتفضل بالاستيقاظ.

كانت أمى تثق فى قدرتى على إيقاظ سائر أفراد الأسرة للسحور فى رمضان، مع أنى أصغر “الصبيان” لماذا؟ لست أدرى، وكنت أسمع ما لا يسر من النائمين الذين أوقظهم، وهم نائمون، وهم يستيقظون، ثم بُعَيْد الاستيقاظ المؤقت، ثم قبيل معاودة خطف نومةٍ محتجَّة بعد تقلّب غاضب، ما ذنبى أنا؟ ثم لابد من المحاولة من جديد بناء على تعليمات أمى، أو على ثقتها فىّ، يا ذى الثقة. أحياناً كنت أكره رمضان خوفا من تورطى فى نفس الدور، وكثيرا ما أعلنت أمى أنى سوف أصوم دون سحور، فكانت لفرط ثقتها (لست أدرى لماذا) ترد أنه و”ماله يا حبيبى صحّيهم ونام”.

 ثم إنى ظللت أقوم بهذا الدور لما كبرت، حتى مع أولادى. ومن فرط رفض دور المسحراتى هذا توقفتُ عن السحور نهائيا.

أظن أننى احتفظت ـ أيضا رغما عنى ـ بالجزء الأهم من وظيفة المسحراتى وهو الإيقاظ، فأتصور (الآن) أن كل ما أكتبه وأمارسه وأحاوله بكل أداة وشكل هو محاولة إيقاظ لنائم قد تطول نومته إلى غير عودة، أو هذا ما أوهم نفسى به على الأقل.

كما كرهت وظيفة المسحراتى طفلا، تحفَّظت ضد وظيقة المسحراتى إبداعا ورؤية، لا أظن أن الإبداع يمكن أن يؤدى وظيفة الإفاقة والتحريك إذا كان بهذه المباشرة “المسحراتية”. النبوة وحدها هى التى نجحت فى هذه المهمة مباشرة، مع أن الذين ورثوها، مثل الثورات، قلبوها تنويما منظما، وليست تحريكا متجددا.

قفز إلى ذاكرتى نص تسرّب إلى إحدى تشكيلاتى التى ضمنتها ديوانى “أغوار النفس” “قراءة” فى عيون الناس والمرضى والأصدقاء”، يقول المقطع الذى حضرنى الآن “واللى يصحّى الناس يا ناس أكبر غلط”. (أنظر الترحال الثالث إذا شئت)

 يعرف الأولاد عنى كرهى لهذا الدور، دورالمسحّراتى، فتبرعوا أن يكونوا هم البادئين بالصحو، فالحضور إلينا حيث نقيم فى الموتيل الجديد، بعد أن يلموا الخيمة ويضعون الأغراض فى الحافلة، ولهذا أوصلونا هم إلى الموتيل، وأخذوا الحافلة وانصرفوا إلى المخيم. قلت لنفسى: “هكذا الكلام”، و”لسوف أرى”.

ولكنى لم أر إلا ما لا أحب.

 ذلك أنهم تأخروا صباحاً بعد استيقاظنا بأكثر من ساعة، حتى حسبنا أن شيئا خطيرا قد حدث فأعاقهم  عن الوصول سالمين إلى المخيم ليلة أمس. حول الثامنة صباحا بعد الميعاد بساعتين، قلت أذهب إليهم، قبل أن أسمح لنفسى بالانفجار غيظا، حتى الغيظ يحتاج إذناً!!. خفتُ من الانفجار فـىّ أو فيهم، فأخذت أعدو لأروّض أو أكسر حدة العدوان المتحفز قبل أن أصل اليهم، “شكمتُه قائلا: عند المخيم الخبر اليقين”. فإذا باليقين نائمٌ يغط غطيطا يصّاعد من داخل الخيمة إلى خارجها، والشمس تدفئه بالهناءة والشفاء، وحتى الأتوبيس خارج الخيمة كان فى سبات عميق، وقد مالت رأسه ناحية الخيمة، وكأنه يحرسها رغم غطيطه الهادئ المنتظم هو الآخر، ويرتفع الغيظ فى داخلى أكثر. أنا أعرف عن نفسى أننى حين أمتلئ غضباً إلى هذا الحد أسكن تماما حتى أبدو أهدأ الناس ظاهرا. رُحْت بهدوء – لا أعرف من أين أتانى- أوقظُ واحدا منهم، فواحدة، وكلما أيقظت واحدا قام فزعا وهو ينظر حوله للآخرين ويروح ينقل عينيه بين نور الشمس وظلام وجه العبد لله، ثم يلتفت إلى رفيق خيمته وهو بعد فى سباته، ثم يقفز واقفا ناظرا إلى ساعته لاعنا المنبـّه المسطول،أو زميلته التى لا يُعتمد عليها، وغيرذلك.

أكاد أجزم أنه لولا أن إقامتى كانت على بعد أمتار منهم لقاموا قبل الفجر.

أنا لا أبرّئ نفسى من هذه الاعتمادية التى أنميها فيهم بثقل “حضورى”،اعتمادية تتغلغل إليهم مجتمعين حتى وهم نيام، ثم ألومهم على ذلك. أنا أتصور أنى أدفعهم إلى الاستقلال دون أن أتخلى عن واجبى، فيصلهم شعورى المضاعف بالمسئولية، فيتراخون حتى فى الاستيقاظ.

كنت ـ ومازلت ـ إذا ضقتُ ذرعا بهذه الاعتمادية أهددهم، أو أذكرهم، بموتى المحتمل، أو القريب، ويبدو أنى كررت هذا التهديد- هزلا وجدا- حتى أصبح سخيفا بحيث يستأهل فى هذا السياق أن يتصف بصفة “موتى المزعوم”،

علـّمنى ذلك ابنى/غريمى (زميل الرحلة: مصطفى)، وكان ذلك منذ عدة سنوات. فما إنْ هممت  أثناء حوارى معهم بقولى: “لما أموت…” أو “.. اعتبرونى كأنى ميت” حتى قاطعنى بمزاح هو عين الجد، قائلا: “طب.. بس ياللّه”!!، فأفهمُ أنى كررت هذا القول حتى أمللتُ، وأنى ـ هكذا ـ قد أفرغت التهديد أو التذكرة من جدواها. أدركت ساعتها بيقين واضح – وحتى الآن – من أنى حين أموت، سيسير كل شئ على مايرام، وربما أفضل من كل تصور يبرر لى حياتى “هكذا” ومن هنا يصبح استمرارى، هو”أمر تطوعى”!!!

ما إن شعروا بى واحدا إثر الآخر، ثم جميعا، حتى نشطت موجة الاستيقاظ فى تصاعد هندسى، فراحوا يتقافزون وهم يستيقظون فزعين وكأنهم يقومون بنشاط تعويضى سريع وهم يتعثرون فى أمواج ما يشبه الخجل، ويتبادلون ما يشبه همهمة اللوم، أو مايشبه الاعتذار والشعور بالذنب، وأنا أزداد سكونا حتى ننتهى من التحميل،… وننطلق، نصطحب أمهم من الموتيل لنتوجه شرقا.

لم يجدّ جديد علينا، اللهم إلا زيادة تأكدنا من سماجة الطرق السريعة بالمقارنة بالطرق الوطنية الجميلة. وحين وصلنا إلى مفترق طرق، طالعتنا الأسهم المشيرة إلى مارسيليا، ومنها إلى أسبانيا، فنتذكر أصل الخطة، وتأشيرة أسبانيا جاهزة، وتتململ العربة من تحتنا منذرة أنها قد تبرمجت فى اتجاه باريس، وأنها غير مستعدة للعب الأطفال هذا، ويمزح أحدنا، أو يقلب مواجعنا، حين يقول: “… طيب لا لزوم لأسبانيا، ولكن ماذا عن مارسيليا؟ عندى عنوان اللصوص أصحاب العربة الفولكس”. فيرد آخر يرجّح أننا لن نجدهم، فلابد أنهم أجّلوا عودتهم حيث أن نقودنا فـَرّجت عنهم فأطالوا رحلتهم بالقدر الذى سمحت لهم به هذه الإعانة التى لا تـُرَدّ، والتى هى من تجليات الكرم العربى.

تنحرف العربة شمالا إلى ليون، فباريس، مشيرة إشارة الوداع والتحية لطريق مارسيليا فأسبانيا.

الجو صحو، والنهار، ممتد، ونصل إلى ليون حول العصر، ونجد ليون ـ وهى من المدن القلائل التى لم أزرها أصلا أثناء إقامتى فى فرنسا ـ مدينة كبيرة عتيقة، ثانى مدن فرنسا، ومع ذلك لم يشوهها بعدالتحديث الأمريكى كثيرا (مازلنا سنة 1984) . وتبدأ جولتنا العشوائية، ونعطى لها فى برنامجنا ساعة أو أكثر قليلا، فندخل فى شارع جانبى جدا؛ لنملأ السيارة بالوقود، فيخدمنا عامل مغربى طيب، لا يمكن أن نتفاهم معه إلا بالفرنسية؛ لاختلاف لهجته العربية حتى أصبحت بالنسبة إلينا لغة جديدة أصعب من الفرنسية. وأنسحب إلى مقهى ضيق كالممر، مظلم كالكهف، أستعمل حقى فى نظامهم ونظافتهم حيث القاعدة ـ كما ذكرت ـ أن كل مقهى لابد أن يحوى ما “يريح” رواده، فلا أجد مثل ذلك ظاهرا، على الرغم من أنى تورطت فى طلب شراب ما لا أريده، فاسأل عن مطلبى، فيعطينى الرجل مفتاحا كبيرا قديما، مشيرا بيده ـ يرشدنى ـ إلى مكان دورة المياه خلف المقهى، فى “حوش” أحد المنازل القريبة، فأتأمل المفتاح الكبير القديم، وأحسب أنى فى مكان أقرب إلى القاهرة القديمة، أو إلى “ميضة” السلطان حسن. وأبتسم، وأذهب وأعود أداعب رفاقى بالمفتاح الأشبه بالمفتاح الخشب لأبواب دور قريتنا، وألوح به، وكأنى أصبحت مالكا مؤقتا “لبيت راحة” فى بلاد الخواجات، يبدو أن القانون يحتم على كل مقهى توفير “راحة” زبائنه بأى وسيلة، حتى لو كان ذلك فى مبنى صغير فى حوش قريب!!!.

نتجول فى ليون حسب مزاج السيارة، وتوجيهات أى نور أخضر لمدة نصف ساعة، هكذا قررنا، وكلما ابتعدنا عن مركز المدينة أطل علينا وجه الهدوء، فالمرتفعات، فالخضرة، فالجمال يالحقدى الذى لا ينتهى على هذه الأوروبا الخضراء بالطول والعرض.

نتوه ـ كالعادة ـ توها طيبا، كأنه مقصود، فتكشف لنا البلدة الكبيرة عن بعض وجهها أكثر فأكثر، ويكشف لنا ناسها عن بعض طيبتهم، ثم نقرر العودة فتبدأ الأسئلة. وكانت مرشدتى ـ هذه المرة ـ هى كبرى بناتى “مايسه السعيد” وأعقلهن جدا(جدا)، وكأنها قد ورثت حكمة والدها المبكرة، حكمة يكمن وراءها خوف دفين ـ ألمحُه ولا تدركُه ـ خوفٌ من أن تخطئ حتى بالصدفة. فكانت إذا سألتْ أحد المارة عن الاتجاه إلى باريس، راحت تكوّن جملة مفيدة مسبوقة بنداء مناسب، ومنتهية بشكر مهذب. مثلا: “سيدى من فضلك، هلاّ أرشدتنا عن الطريق إلى باريس، مع جزيل الشكر”؟ ” تقولها وكأنها تجيب عن سؤال مُدرسة اللغة الفرنسية فى حصة مطالعة. وبدهى أنها حتى تتم جملتها التى بالغت فى إطالتها ودقتها من فرط الحكمة والأدب، تكون السيارة قد مرقت بجوار “سيدى” هذا، قبل أن يدلنا على شىء، إن كان قد سمع أصلا، أو تكون الإشارة الحمراء قد اخضرت مما اضطرنا إلى الحركة قبل أن يجيب، فجعلتُ أقول لها إن الجهل نعمة. ولأنى لا أعرف الفرنسية إلا أقل القليل، فقد رُحـْتُ أصيح فى بعض المارة بلهجة استفهامية جدا، بكلمة واحدة “..باريس؟؟. ” وأحيانا بدءا بنداء بالعربية “ياعم والنبى… باريس؟. ” فيلتقط هو باريس والاستفهام فورا، ويبتسم ويشير، لكننا عجزنا ـ من كثرة الاستفهامات أن نخرج من “سحر” ليون. كان لزاما أن نتوقف لنرسل مندوبتين راجلتين كلا فى اتجاه، تدخل إحداهما إلى أحد الحوانيت. وتسأل الأخرى بائع فاكهة قريب، فتعودان بخريطتين ذهنيتين مختلفتين، ونضحك؛ إذ يبدو وأننا كنا نسأل على ما لا يُسأل عنه أصلا، فكل الطرق – فى الأغلب – تؤدى إلى باريس، وما علينا إلا أن نمضى حتى نعثر على الإشارات الواضحة، وما أكثرها، وسرعان ما وجدنا أنفسنا فى الطريق السريع إلى باريس دون سؤال.

كنا فرحين بالخطأ والخيبة والحوار والمحاولة جميعا، فقد أتاحت لنا وقتا أطول فى بلد قد لا نراه ثانية، ثم إننا لم نكن فى عجلة من أمرنا، حيث تيقنا أن أغلب بقية الرحلة سوف تكون فى الليل، فقد اقتربنا من المغرب، أو اقترب منا المغرب، إذ لم أكن على يقين أينا أكثر ثباتا، وأينا أنشط حركة (نحن، أم المغرب؟). ورحم الله كوبرنيكس، و”أينشتاين” معا، ذلك أنه فى السفر خاصة، لابد أن تصاحب “الحركة” بدرجة يستحيل معها أن ترى شيئا ثابتا. فأنت فى السفر، لا تقطع الزمن بل تواكبه، وتدور مع دورات الشمس، وتبادل الليل والنهار، فالزمن على “الطريق” يصبح كائنا حيا، يقترب منك، كما تقترب منه، ويوازيك، ويستأذنك، وتستأذنه، ثم تلتقيان، أو يتوارى أحدكما عن الآخر قليلا أو كثيرا ليعود متراخيا أو مقتحما، وهكذا، و لعل تحريك الأفكار، وإعادة النظر وتجدد البهر يرجع بعضه إلى هذا التنشيط المتحرك من كل اتجاه، وفى كل إتجاه.

تحضرنى علاقتى بهذه الحركة المتبادلة، أو المتداخلة مُنذ كنت أركب القطار طفلا فأشعر أنه يسير إلى الوراء ثم أكتشف أن القطار المجاور هو الذى غادر المحطة، (كان ذلك قطار طنطا لأن قطار الدلتا (زفتى بركة السبع) كان خط جديد واحد= غير مزدوج). كما كنت أحاول الإمساك بالأشجار على جانبى القطار وهى تتراجع منى الواحدة تلو الأخرى، من أيامها: وأنا أعيد النظر فى مسألة الساكن والمتحرك؛ لأكتشف أنه “لا سكون”، وإنما هو اختلاف سرعات الحركة واتجاهها لكل المتقابلات فى آن. وقد صالحنى هذا اليقين المتأخر على علاقة الزمان بالمكان، وبالعكس. ومع تحريك الزمن عرفت كيف يولج الله الزمان فى الزمن، وبالعكس. كيف يولج ربنا الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل، وعدت أصالح القَسَم “بمواقع النجوم”، و أعايش وأدور مع “الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها” ـ بل إنى عدت أقرأ العين الحمئة التى تغرب فيها الشمس باعتبارها زمانا لا مكانا، وحتى الطرق جعلتها زمانا يتحرك. الطرق لا تعلن لك مرتفعاتها أو العكس فى وضح النهار، بل هى تسحبك سحبا إلى أعلى أو إلى أسفل على المدى الطويل، فما بالك بالليل… هذا الليل الرائع المروّع الحاضر المحيط.

رحت أستنتج أننا فى مطلع حين “تزوم” سيارتنا الطيبة أو تئن فتتباطأ سرعتها، على الرغم من حسن نيتها ومحاولتها الاستجابة لقدمى على بدال الوقود، فأنتبه أو ينبهنى أحد الرفاق، فأستجيب بدورى، لكن المسألة انقلبت جدا لا يحتَمِل هذا الحوار الرقيق؛ إذ سرعان ما أدركنا أننا داخلون على فصل الشتاء شخصيا، وبسرعة فائقة، فانخفضت درجة الحرارة، وغامت السماء مع زحف الليل اللاهث.. “ثم”.. (ويا ليتنى أجد لفظا أقصر من “ثم”) انفتح الطوفان شلالا من جوف السماء. لم تكن المسألة هذه المرة مجرد تغيير فى الطقس، أو إعلان للانتقال من مكان إلى مكان، لا… ولم تكن ـ طبعا ـ أفواها للقرب كما اعتدنا أن نصف المطر الغزير، لكنها كانت نقلة من فصل إلى فصل، من صيف إلى شتاء خلال نصف ساعة ،دون المرور بخريف أو غيره، وكأن السماء قد قررت ـ فجأة ومن فورها ـ أن تحفر نهرا جديدا يكون موقعنا هذا هو منبعه شخصيا، وابتسمت، فسنشهد نهرا ينبع!!، إن لم يكن فى الخارج، ففى داخلنا..، ولم أكمل ابتسامتى، فقد تسارعت لطمات الماء من أمام ـ والسيارات تمرق بالسرعة ذاتها، وكأن شيئا لم يكن، وقد سبق أن أشرتُ فى هذه الرحلة إلى مثل ذلك فى الطريق إلى زغرب، لكن التجربة هنا كانت أقسى وأشد مما يبرر التكرار. فقد اجتمع الظلام مع المطر، مع الطريق السريعة، مع ما تثيره العربات المارقة من لطم واجهة سيارتنا، مع عدم خبرتى. اجتمع علىّ كل هذا أنا شخصيا، وكانت العلامات الفوسفورية المنظمة على جانبى الطريق هى وسيلة الاتصال الوحيدة بين ناظرَىّ والعالم الخارجى؛ حيث لا أستطيع أن أتبين أن السيارات التى عبرتنى قد عبرتنى إلا بما تثيره من عواصف مائية، أما معالمها فلابد أن تُقَدّر بالتقريب. وكان أكثر ما يرعبنى أن يمر بجوارى هذا الكاميون الطويل الذى لا أعرف متى سينتهى، وأتعجب من سرعته، مع العلم أنى أسير بسرعة تقترب من المائة، فكيف يمر بى هذا الحوت (موبى ديك) بهذه الصورة وهذه السرعة؟ ومرة أخرى أعلن دهشتى من طمأنينة صحبتى التى تبدو وكأنها الشجاعة، والبرد لا يزيدهم نشاطا، بل يهيئهم لنوم أعمق، وتيقنت تماما أن السلامة فى يده وحده فعلا، ومادام كل أفراد هذه الصحبة من الطيبين الأبرياء على ثقة ـ هكذا ـ بالحياة ومانحها، فلابد أننا نسير “فى السليم”!!. وما إن تعودنا على الطريق الجديدة، والدلالات الجديدة حتى نام من نام، وتمدد من تمدد..، ولم يبق معى إلا مرشدتى، والحافلة، وأفكارى، وعلامات الفسفور.

يواصل المطر حفر منبع النهر الجديد، بلا انقطاع، لمئات الكيلومترات حتى ينتصف الليل، ومازلنا نسير، ونلمح إشارات دالة على مكان الانتظار القادم.. فننحرف يمينا ثم يمينا (ونحن فى أقصى اليمين من أصله)، ثم ندخل إليه لنسوى أمورنا، ونفرد ظهورنا، ونطلق عنان سائر الوظائف الفسيولوجية. وبكل غيظ، يتباطأ المطر حتى يكاد ينقطع.؟ ما هذا؟ هل يقصد أن يغيظنا؛ فيخف حين نتوقف ثم خذ عندك حين نسير؟ وقد كنت أحوج ما أكون إلى أن يهدأ المطر قليلا؛ لألتقط أنفاسى ولو دقائق أثناء السير المارق من حولى، لـَكَ فى ذلك ـ وغيره ـ حـِكـَمٌ يارب.

نتشاور فى بقية الرحلة، ونحسبها، فلم يبق على باريس سوى مائتى كيلومتر وبضعة عشر، فمتى نصل؟ قرب الفجر؟. وكيف سنتعرف على طريقنا فى باريس فى هذه الساعة المبكرة، بهذه السيارة الطيبة المتهادية؛ إذ يبدو لى أنها تجنست بالمصرية الحقيقية رغم أصلها اليابانى، وأنا لا أعرف باريس إلا راجلا، أو تحت الأرض، وهى ـ السيارة ـ تبدو لى منهكة صبور، تؤجل الاحتجاج حتى نصل، تتحمل لطمات المارقات العملاقة دون شكوى (!!!)، فلها العتبى حتى ترضى. لا.. لن يكون الأمر سهلا؛ إذا وصلنا باريس بعد الفجر هكذا. إذ من نسأل..؟. وكيف نهتدى إلى الفندق الذى ألفنا النزول فيه؟.. فيقترح البعض أنه مادام مبيتاً بمبيت؛ فلنعرج على أول “موتيل”، وقد تعلمنا أن الموتيلات دائما أرخص، وأظرف، وأوافق من حيث المبدأ، على الرغم من أنى لاحظت أنه فى مثل هذه الطرق السريعة لا توجد موتيلات واضحة أو كثيرة أو قريبة. المهم وافقت وتعهدت، وبدأنا مواصلة المسيرة بعد تغيير المرشدة المهذبة الهادئة، بمرشدة متحفزة يقظة، تعرف جيدا أنى أحتاج بين الحين والحين إلى نصف كوب من أىة مياه غازية بها سكر. وقد لاحظتْ أن طلبى هذا قد تكرر بانتظام حتى نبهتنى مرشدتى الصغيرة “منى السعيد” أننى أصبحت مثل السيارة أستهلك كذا لتر “ميراندا” أو “ببسى” كل كذا كيلو، وأنى لابد سأتوقف اذا نفد وقودى، أو وقود السيارة، أينا أسبق، لذلك كنت احتفظ بزجاجة خاصة لى لزوم احتراق الطاقة المنتظم هذا، الأمر الذى جعلنى أتوحد بالسيارة أكثر فأكثر.

……………………….

ونكمل الأسبوع القادم

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *