الرئيسية / الأعمال العلمية / كتب علمية / الطب النفسى بين الأيديولوجيا والتطور 2019 أ.د. يحيى الرخاوى

الطب النفسى بين الأيديولوجيا والتطور 2019 أ.د. يحيى الرخاوى

الطب النفسى

بين الأيديولوجيا والتطور

أ.د. يحيى الرخاوى

2019 

الإهــداء

إلى مصطفى يحيى الرخاوى

شكراً وأملاً

 

مقدمة:

أهم ما آمله من هذا العمل هو أن أوصّل للمختص، وربما أكثر إلى غير المختص الذى يهمه الأمر وهو صاحب المصلحة (المريض وذويه وحامل مشروع المرض من الأصحاء) أن أوصل لهم هذا التنوع فى الآراء والمداخل والقيم لماهية الصحة النفسية، وكذا تنويعات وتجليات كل ما يطلق عليه “الطب النفسى”.

كما آمل أن يكشف هذا العمل عن طبيعة هذه المهنة وأين تقع بين منظومات: العلم، والهواية والفن والأيديولوجيا والنقد والفلسفة

ثم ماذا عن أثر معتقد وأيديولوجية وشخصية وانتماء من يمارس الطب النفسى والعلاج النفسى على أدائه ومهمته.

وإنى لآمل من خلال هذا الإيجاز الذى أرجو ألا يكون مخلاًّ أن أواصل الحركة والمحاولة فى انتقاء وتمييز ما هو أصلح وأنفع وأكثر تلاؤما مع ثقافتنا الخاصة، دون انفصال قسرى مع الجارى فى العالم شرقه وغربه:

ما أمكن ذلك.

الفصل الأول: الصحة النفسية للإنسان المعاصر (عرض ونقد)

الفصل الأول: الصحة النفسية للإنسان المعاصر (عرض ونقد)

الفصل الأول:

الصحة النفسية للإنسان المعاصر

(عرض ونقد)

مقدمة:

بالرغم من تناولى لمفهوم الصحة النفسية فى مواقع أخرى ومن زوايا متعددة مثل “الصحة النفسية على مسار التطور الفردى” وتشمل “مستويات الصحة النفسية”([1]) وغير ذلك إلا أننى وجدت أن هذه الزواية تحديدا بالنسبة لتحديث مفهوم الصحة لم تُطرق ضمن ما سبق، ففضلت أن أبين وجهة نظرى فى العلاقة بين ما استحدث فى حياتنا مؤخرا تحت مسميات مختلفة أغلبها مستورد وأهمها سيطرة التكنولوجيا الأحدث فالأحدث.

ثم إنى أقر ابتداءً أن هذا المدخل لا يرتبط مباشرة بما أحاول تقديمه تحت عنوان “أنواع الطب النفسى” أو “بين الأيديولوجيا واليوتوبيا” إلا أننى وجدت أنه يمثل خلفية لازمة يمكن أن تسهم فى تحديد شكل ما نقدمه من عرض ونقد لأنواع هذا الطب كما وصفها هذا العمل.

مراجعة لما هو: “الصحة النفسية وعصر المعلومات” فى العصر الحالى:

 الحديث عن الصحة النفسية على مستوى التنظير فحسب يبدو نوعا من الاغتراب بشكل أو بآخر لدرجة أننى فكرت أنه ربما يكون من الأفضل ألا نتداول هذا المصطلح (الصحة النفسية) أصلا، إذ يبدو أن الصحة النفسية تقاس بناتجها وليس بما هى، وأن اجتهادنا للتعرف عليها لذاتها هو ضرب من الاجتهادات الفرضية، أكثر منه توصيف لبرنامجها الحيوى الغائر فى طبيعة حياة كل منا، حتى خطر لى أن تسمى “صحة” فقط وليست بالضرورة “نفسية”، أو لعلها “الحياة” بكل زخمها وغموضها معا.

حين راجعت ما جاء سابقا فى مقال لى نشر بعنوان “الصحة العقلية وعصر المعلومات”([2])، منذ عشرين عاما، سألت نفسى أين أصدقائى وأساتذتى المرضى من هذا المكتوب عن ماهية الصحة النفسية هكذا، بما يغمرنا به من اضطراد استعمال مصطلحات وأدوات وإمكانيات ومعارف وغير ذلك؟ وقد انتبهت إلى أن هؤلاء المرضى وهم ينتقلون من أزمة المرض إلى كفاءة الصحة، يمرون بأعمق مآزق الوعى، ويمارسون أوثق جدل بين العلاقات البشرية، دون حاجة إلى أى تنظير، ودون أن يضعوا فى الاعتبار أية محكات من التى وردت فى هذا المقال ومثله، ودون أن يعرفوا حرفا من أبجدية المعلوماتية!

ما الحكاية بالضبط؟

رجعت إلى قضيتى الأساسية وتساءلت: هل يمكن أن توصف نملة أو مجموعة من النمل أو النحل أو حتى الصراصير، أو الكلاب الجبلية أو الذباب الذى يطن حول صفيحة قمامة! بأنها تعيش مستوى ما من الصحة النفسية أم لا؟ إن مجرد بسط  وتنشيط البرامج البيولوجية البقائية التى حافظت على الأنواع المتبقية من جميع الأحياء (واحد فى الألف، من بينها الإنسان)([3]) هى دليل على أن أى نوع نجح أن يستمر ليبقى هو يتميز أفرادا وجماعات بصحة نفسية مناسبة حافظت على بقاء نوعه أفرادا وجماعات.

الأمر لا يختلف عند الإنسان، أو ينبغى ألا يختلف فى نهاية النهاية.

وهكذا خرجتُ بالانطباعات والاحتمالات البادئة التالية:

1-  يبدو أن الحديث عن الصحة النفسية لا لزوم له اصلا

2-  إن استمرار الحياة لأفراد نوع بذاته، ومن ثمَّ النوع كله، هو دليل ضمنى على سلامة المسيرة، ومن ثم على توفر ما هو صحة نفسية (وغير نفسية) لهذا النوع.

3- إن كل ما على الإنسان أن يفعله “ليبقى” (صحيحا) هو أن يحول دون أن تتشوه مسيرة تطوره أو تنحرف أو تـُجهض، وهذا فى ذاته هو أنجح الدعائم لما يصلح أن نسميه صحة، نفسية أو غير نفسية.

4-  إن الوعى بأبعاد ما يجرى فى عالمنا الآن، ومحاولة استيعاب التأثير السلبى أو الإيجابى للمعرفة الجديدة، والأدوات الأحدث، والتقنية المتطورة، يزيد من مسئوليتنا للعمل على الحيلولة دون انحراف مسيرة الجنس البشرى أو تشويهها أو إجهاضها.

5-  إن أى إنجاز، أو تنظير، إنما تقاس إيجابيته على المدى الطويل بمدى إسهامه فى إنجاح بقاء النوع وتطوره .

وبعـد

فإنه يمكن قراءة هذا المقال من جديد فى ضوء كل ذلك، جنبا إلى جنب مع التذكرة بحقى فى تطوير فكرى من واقع الممارسة، ومن ثمَّ: النقد المناسب، وهو الذى أضفته بعد كل فقرة تحت عنوان: “المناقشة“.

وفيما يلى بعض ذلك، مع مراعاة أن ما سُوِّد  بالبنط الأسود الثقيل فى المتن هو ما سوف يأخذ نصيبا أكبر فى المناقشة:

نص المتن (1): المقدمة: مجلة شموع عدد يونيو 1997:

“… ماذا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يقال‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏العقلية‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏العصر‏ ‏الجديدة‏، ‏لقد‏ ‏شبعنا‏ ‏حديثا‏ ‏عن‏ ‏مسائل‏ ‏التوتر‏، ‏والقلق‏، ‏والسرعة‏، ‏والضغوط‏، ‏كلام‏ ‏كثير‏ ‏معاد‏، ‏وصحيحٌ بعضه‏ (‏للأسف‏)، ‏لكنه‏ ‏أبدا‏ ‏لا‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏مستوى‏ ‏المواجهة‏ ‏التى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتحمل‏ ‏مسئوليتها‏ ‏أمام‏ ‏ضمائرنا‏ ‏باعتبارنا‏ ‏بشرا‏ ‏نعيش‏ ‏معا‏ ‏سنة‏ 1997، ‏ومطلوب‏ ‏منا‏ ‏الآن‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أى‏ ‏وقت‏ ‏مضى‏ ‏أن‏ ‏نساهم‏ ‏فى‏ ‏صناعة‏ ‏التاريخ‏ ‏بوعى ‏قادر‏ ‏وإلا‏ ….‏”

السؤال‏ ‏الصدمة‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يغيب‏ ‏عنا‏ ‏أبدا‏ ‏يقول‏:‏

هل‏ ‏الإنسان الحالى‏ ‏معرض‏ ‏للانقراض؟

والاجابة‏ ‏المسئولة‏ ‏هى: ‏نعم‏ !!‏

هذه‏ ‏هى ‏الصيحة‏ ‏الحقيقية‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏موضوع‏ ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏العقلية‏، ‏وهى ‏الصيحة‏ ‏المختصرة‏ ‏والخطيرة‏ ‏فى ‏آن‏، ‏وهى ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تساهم‏ ‏فى ‏المسيرة‏ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا‏ – ‏وقد‏ ‏تعمدت‏ ‏أن‏ ‏أستعمل فى هذا التقديم‏ ‏لفظ‏ ‏الصحة‏ ‏العقلية‏ ‏وليس‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏، ‏لأن‏ ‏مسألة‏ ‏صحة‏ ‏العقل‏ ‏هى ‏محور‏ ‏الوجود‏ ‏البشري‏، ‏والعقل‏ ‏ليس‏ ‏عضوا‏ ‏جسديا تشريحيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏وعى ‏كلى‏، ‏صحيح‏ ‏أن‏ ‏محور‏ ‏نشاطه‏ ‏هو‏ ‏الدماغ‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏كلية‏ ‏حضوره‏ ‏تشمل‏ ‏كل‏ ‏الجسد‏، ‏وتمتد‏ ‏إلى ‏دوائر‏ ‏التواصل‏ ‏حوله‏([4])، ‏أقول‏ ‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏وقد‏ ‏غمره‏ ‏فيضان‏ ‏المعلومات‏ ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏صياغة‏ ‏وجوده‏ ‏من‏ ‏الأساس‏.‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏المسألة‏ ‏مسألة‏ ‏توازن‏ ‏داخلي‏، ‏وتكيف‏ ‏خارجى، ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏المسألة‏ ‏إنجاز‏ ‏عمل‏ ‏أو‏ ‏تحقيق‏ ‏منفعه‏،‏ لم‏ ‏تعد‏ ‏المسألة‏ ‏شكوى ‏من‏ ‏ألم‏ ‏نفسى‏ ‏أو‏ ‏قلة‏ ‏فى ‏راحة‏ ‏البال‏، تلك التى قد ‏تصل‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏الرخاوة‏ ‏المسماة‏ ‏الرفاهية‏.

المناقشة:

الإشارة هنا إلى أن العقل (فالمخ) ليس فقط عضوا جسديا تشريحيا، بقدر ما هو وعى كلى تذكرنا بأطروحة دانيال دينيت العظيمة عن أنواع العقول([5])، والتى سبق أن أشرتُ فى تقديمى لها كيف أنه يعنى بكلمة “العقل”، مستوى من مستويات “البرنامج البقائى الذى أبقى الأنواع الواحد تلو اللآخر”، وكلها مستويات قائمة فينا حتى الآن، وهى التى أطلقُ أنا عليها عادة “منظومة مستوى الوعى”.

هذه الإشارة إلى أن  وظيفة هذا العقل – بهذا المعنى- برغم أن محور نشاطه الدماغ “.. إلا‏ ‏أن‏ ‏كلية‏ ‏حضوره‏ ‏تشمل‏ ‏كل‏ ‏الجسد‏ ‏وتمتد‏ ‏إلى ‏دوائر‏ ‏التواصل‏ ‏حوله‏”، هذا الوصف يجعل مفهوم كلمة العقل، وبالتالى “الصحة العقلية” صالح هو هو للأمّى الذى لا يفك الخط، فى عصر المعلومات، بل وللنمل والنحل والصراصير (من منطلق أنواع العقول) للبقاء، وهو تعبير لا يُدخل الجسد فقط فى تكوين هذا العقل/الوعى، بل يضيف إليه “امتداد دوائر التواصل حوله”([6])

إن هذا الاتساع فى مفهوم “العقل” هو بعض ما تعلمته من العلاج الجمعى فى قصر العينى بالذات، وهو ما دفعنى إلى أن أعتبر أن ثمَّ وعيا جمعيا Group Consciousness  يتشكل بنا معاً وهو الذى يجمعنا، ويصّاعد بنا إلى الوعى الجماعى Collective consciousness فأعلى فأعلى، وأعتقد أن نفس هذه العملية الجمعية التى يتخلـّـق منها هذا الوعى الجمعى (فى المجموعة العلاجية) تميزا له عن الوعى الجماعى الأوسع، قد جرت على مستويات مختلفة، وبآليات مختلفة، لدى كل الأنواع، حتى وصلت إلى مرحلة الإنسان فتميزت نفس العملية بدرجة من “الدراية” Awareness وهى ما أسميتـُه أحيانا “الوعى بالوعى” لكن للأسف: إن أيا من الإرادة أو الدراية (الوعى بالوعى) لم تُستعمل كما ينبغى فى صالح بقاء هذا النوع البشرى، بمعنى أنه لم يثبت  أن الإنسان المعاصر قد أحسن – أو هو يحسن–  استعمال ما وصل إليه بكفاءة بقائية أكثر من أسلافه.

 نص المتن (2): المقدمة 1997

“……الإشكالة‏ ‏الحديثة‏ ‏التى ‏تواجه‏ ‏إنسان‏ ‏العصر‏ ‏لتحقيق‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏إشكالة‏ ‏جوهرية‏ ‏تبدأ‏ ‏بحاجته‏ ‏لتعريف‏ ‏معنى ‏لوجود‏ ‏الفرد‏ ‏البشرى ‏فى ‏الظروف‏ ‏الجديدة‏، ‏وكذلك‏ ‏للتعرف على هدفٍ‏ ‏لاستمراره‏، ‏وسبل‏ ‏بقائه‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏أصبح‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏شكل‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏الوعى‏، ‏وشكل‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏العلاقات‏، ‏وشكل‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏الانتاج‏.

 ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏بمقياس‏ ‏الذى ‏يجرى ‏الآن:‏ لا ‏تتحقق‏:‏ ‏بدرجة‏ ‏التوازن‏‏ لتحقيق الاستقرار، ‏وإنما‏ ‏بدرجة‏ ‏التناسق‏ ‏الحركى ‏النابض‏ الممتـَـدّ.

وهى ‏لا‏ ‏تتحقق‏ ‏بالخلو‏ ‏من‏ ‏الأعراض‏، ‏وإنما‏ ‏بالقدرة‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏معنى ‏الأعراض‏ (إذا ظهرت فى صورة ما يسمى المرض) ‏لإعادة‏ ‏تشكيلها‏ ‏فى ‏قوة‏ ‏دفع‏ ‏جديدة‏.‏ 

وهى‏ ‏ لا ‏تتحقق ‏ ‏بالسكون‏ ‏الآمن (الطمأنينة)‏، ‏وإنما‏ ‏بالحركية‏ ‏المتعددة‏ ‏التوجه‏. ‏

المناقشة:     

المقصود هنا هو “التعرّف على وجود”، الفرد البشرى وليس “تعريف” وجوده، ومن ثم احتمال تحديد هدف لوجوده يتجاوز هدف البقاء التلقائى، الذى تم العبث به بالطمع والاغتراب أو بالصدفة، وهكذا تصبح مهمة العقل البشرى بكل مستوياته هى:

* تجنب الاختزال والتشويه (من خلال رفض وصاية  العقل الظاهر منفردا)

* القدرة على حسابات أعمق من المنطق الظاهر وأصدق من الصدفة  العشوائية.

* الإلمام بدراية أدق بمسار النوع البشرى، وليس فقط، بمتطلبات “الفرد الآنية” حتى لو كان ذلك تحت عنوان ما يسمى “الصحة النفسية”.

المناقشة:

 التفرقة بين التوازن، وبين التناسق الحركى النابض الممتد، بدت لى أثناء هذه القراءة والمراجعة الآن تفرقة ضرورية وجوهرية، ذلك أن التوازن قد يحمل معنى الثبات والتعادل، وهو ما يقابل أحيانا كلمة Homeostasis  بالإنجليزية، وقد اعتدنا فيما مضى – خاصة فى علم وظائف الأعضاء – أن نعلى من شأن هذه الظاهرة كأنها هى المطلوبة دائما لحفظ حيوية الوجود البيولوجى واستمراره، لكن بعد انتمائى إلى التطور فالإيقاع الحيوى، تبينت، مدعما بحقائق كثيرة، أن هذا “الهـُـمْـيـُوسْتازسْ” لا ينبغى أن يكون غاية المراد، وأن دوره يكون أوضح فى تحقيق التوازن فى “طور الملء” Filling  من مراحل نبضة الإيقاع الحيوى، فعلينا ألا نفرح كثيرا بهذا الثبات التوازنى (الهميوستازس)  إلا تحضيرا لما يَعِد به ويُعدّ له من “بسط” Unfolding تشكيلى مناسب وهو ما أسميناه مؤقتا: “التناسق الحركى النابض”، إن إضافة لفظ الحركى، ينبهنا إلى حركية النقلة المحتملة، “لإعادة التشكيل” وهو ما لا يتنافى مع التناسب الحركى، بل يتداخل معه، وقد لاحظت فى كثير من المحكات التى وردت فى هذه الأطروحة تركيزا بدرجات مختلفة على حتم الحركية أساسا لهذا التوازن النشط النابض (كما سيرد حالا).

نص المتن (3):

هذه‏ ‏مقدمة‏ ‏لابد‏ ‏بعدها‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏التفصيل‏ ‏أو‏ ‏التحديد‏، ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏أشعر‏ ‏أن‏ ‏كل ما جاء فى هذا الحديث‏‏ ‏لا‏ ‏يعدو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مقدمة‏، وفيما‏ ‏يلى ‏رؤوس‏ ‏مواضيع‏ ‏تمثل‏ ‏المواقف‏، ‏والقيم‏ ‏والقياسات‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعيد‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏الصحة‏ ‏العقلية‏ ‏لإنسان‏ ‏عصر‏ ‏المعلومات‏ :

يكون‏ ‏الانسان‏  ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يوفق‏ ‏بين‏ ‏تلقى ‏المعلومات‏ ‏على ‏وفرتها‏ ‏الآن‏ ‏وبين‏ ‏تأجيل‏ ‏القفز‏ ‏إلى ‏تسطيح‏ ‏العلاقات‏ ‏بينها‏، ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏مناسبا‏ ‏أن‏ ‏نفكر‏ ‏بالطريقة‏ ‏الخطية‏ ‏السببية‏: هذا ‏السبب‏ (‏تحديدا‏) ‏يؤدى ‏إلى تلك ‏النتيجة‏ ‏(تماما) – ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يحقق‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏لأى وجود بشرى مناسب‏، ‏وإنما‏ ‏تتحقق‏ ‏الصحة‏ ‏الآن‏ ‏بالقدرة‏ ‏على ‏تلقى ‏عشرات‏ ‏المتغيرات‏ ‏المرتبطة‏ ‏بعشرات‏ ‏النتائج‏، ‏ثم‏ ‏يتحمل‏ ‏الإنسان‏ ‏العادى – ‏بقدراته‏ ‏الجديدة‏/القديمة!!- ضرورة ‏استيعاب‏ ‏حركية‏ ‏هذه‏ ‏العلاقات‏ ‏معا‏،  وهى العلاقات ‏اللازمة‏ لاستمرار‏ ‏الفعل‏ ‏ ‏ ‏اليومى ‏البسيط‏!‏

المناقشة:

 ليس المقصود هنا بتعبير “استيعاب حركية هذه العلاقات أية درجة من الوعى الظاهر، أو العمل العقلى بالمعنى الشائع، وإنما المقصود هو التمثـُّل والتفعيل الذى يظهر ناتجه إمبريقيا فى “الفعل اليومى البسيط”، وهو قريب مما أشرنا إليه فى بداية هذا الفصل: أن “نعمل”، و”نحب” و”نرضى”، ثم إن التنبيه هنا على رفض الربط السببى الخطى المباشر، يذكرنا أيضا بالنقلة الجارية من خلال استيعاب القوانين الأحدث للتربيطات والتفاعل فى العلوم الكمويةQuantum  الحديثة (الرياضة والطبيعة)، وأيضا فى العلوم التركيبية الأحدث (علم الشواش وعلم التركيبية)   Chaos & Complexity))

نص المتن (4):

‏يكون‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتعلم‏ ‏أن‏ ‏يحب‏ ‏نفسه‏ ‏بالمعنى ‏الموضوعى‏ ‏للحب‏، ‏الذى ‏يشمل‏ ‏الوعى ‏والمسئولية‏، ‏وأن‏ ‏يصب‏ ‏هذا‏ ‏الحب‏ ‏لنفسه‏ ‏فى ‏خير‏ ‏الناس‏ ‏دون‏ ‏إدعاء‏ ‏فروسية‏ ‏العطاء‏ ‏أو‏ ‏زعم‏ ‏التضحية‏، ‏إنه‏ ‏الذكاء‏ ‏الجديد‏ ‏الذى ‏يجعل‏ ‏المصلحة الذاتية‏ ‏البادئة‏ ‏بالذات‏ ‏هى ‏هى ‏المصلحة‏ ‏التى ‏تعود‏ ‏على ‏المجموع‏.‏

 المناقشة:

 بل هى هى المصلحة التى تعود على بقاء النوع فتطوره.

التفرقة بين حب النفسSelf  Love  وبين ما يسمى الأنانية Selfishness هى تفرقة هامة، تحديد المعنى الأنضج لما هو “حب” يجعل لهذا المدخل قيمة عملية وموضوعية أكبر، الحب بمعنى الرعاية والمسئولية: هو الذى يتجاوز الاحتياج حتى لو كان متبادلا، ووصف هذا التعرّف على هذا المعنى للحب بصفة الأنضج، قد يعطى إيضاحا مناسبا لوصف الذكاء بأنه أيضا “الذكاء الجديد“، مرة أخرى أنبه إلى أن هذا ليس تحديثا أخلاقيا بقدر ما هو أقرب إلى الدعوة إلى تخليق برامج بقائية جماعية أكثر كفاءة وتناسبا مع مرحلة الإنسان المعاصر إن كان لها أن تواصل إيجابياتها أكثر كفاءة وأنجح تطورا.

لعلنا نلاحظ أيضا أن ماورد فى هذا المتن لم يتوقف طويلا على، كما لم يتناول عميقا صعوبة وطبيعة العلاقات البشرية ، التى ربما كان الحب الذى نعنيه من أهمها، لكنه ليس كلها، إن صعوبة هذه العلاقات، جنبا إلى جنب مع الوعى بالوعى، ربما هى ما تميز الكائن البشرى أكثر من أى شىء آخر.

لا توجد صحة نفسية لكائن فرد فى حجرة مغلقة، أو نفس مصمتة، ولا توجد علاقات بشرية تعلى من شأن وجدان على حساب آخر، وإنما الصحة النفسية هى القدرة على قبول كل ما خـُلـِقـْنـَا به، ثم استيعابه ليتوجه إلى ما خلق له، وهو كل ما سبق وما سيأتى بعد.       

نص المتن (5):

يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏مرونة‏ ‏الحركة‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏الناس‏، ‏وبينه‏ ‏وبين‏ ‏الموضوع‏، ‏وليس‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يقترب‏ ‏من‏ ‏الآخرين‏ ‏بزعم‏ ‏التفانى ‏فيهم‏ ‏أو‏ ‏حبهم‏ ‏أو‏ ‏الحاجة‏ ‏إليهم‏ أو التضحية من أجلهم، ‏ومرونة‏ ‏الحركة‏ ‏تفرضها‏ أكثر فأكثر ‏وفرة‏ ‏المعلومات‏ ‏الحديثة‏، ‏إذ‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏الإنسان‏ ‏أن‏ ‏يحيط‏ ‏بهذه‏ ‏المعلومات‏ – ‏باعتبارها‏ ‏مثيرات‏ ‏موضوعية‏ – ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‘‏المرونة‏’ “التشكيلية” ‏وليس “مجرد”‏ ‏الاقتراب‏ ‏هى ‏القيمة‏ ‏التى ‏تحدد‏ ‏نوع‏ ‏الإدراك‏ ‏وحيوية‏ ‏المسافة‏.‏

المناقشة:

أعتقد أن من المناسب هنا أن نضيف أن المسألة ليست مسألة مرونة بسيطة فى مقابل تصلب أو جمود بقدر ما هى إشارة إلى حركية تشكيلية فى مقابل سكون أو حركة زائفة تكافئ السكون، هذا مع التذكرة بأن الفطرة التى هى جُماع برامج البقاء هى حركة أكثر منها “شيئا محددا”: و”مفهوما ساكنا”، وهى “حركة فى اتجاه…”، وتشمل: 

 * حركة الذهاب والعودة: – الدخول الخروج“،

(To-and-Fro   = In-and- out Movement)  

* الحركة “الاستقطابية التكاملية  المحيطة

(Containment Polarization Integrative  Movement )

* الحركة  “الإيقاعية الحيوىة

 (Biorhythmic  Movement)

* الحركة “الجدلية التكاملية

Integrative Synthetic Movement      

(وهو ما قد نعود إليه تفصيلا فى ثنايا هذا الكتاب أو غيره)

إن الحديث عن “تناغم المسافة” أيضا ربما هو تأكيد لتداخل أنواع الحركة المختلفة، وكل هذه الحركات تجرى أيضا ببرامج تلقائية عند سائر الأحياء، وأعتقد أنها هى التى حفظت البقاء لمن بقى منها، والوعى بها من جانب الإنسان ليس له فضل إنشائها بل إنه أضاف: أن عليه أن يتحمل مسئولية الحفاظ عليها إن أمكنه فك شفرتها، فإن لم يتمكن من ذلك فلا أقل من ألا يحول دون تفعيلها إلى ما تعد به.

نص المتن (6):

…… ‏يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏المساحة‏ ‏التى ‏يتحرك‏ ‏فيها‏، ‏أكثر مما هو‏ ‏بقدر‏ ‏الإنجاز‏ ‏الذى ‏يحققه‏ ‏منفصلا‏ ‏عنه‏، ‏وهذه‏ ‏المساحة‏ ‏متصلة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏بمرونة‏ ‏الحركة‏، ‏ومتصلة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏بتحمل‏ ‏وفرة‏ ‏المعلومات‏ ‏لدرجة‏ ‏تسمح‏ ‏بالحركة‏ ‏منها‏ ‏وبها‏، ‏لا‏ ‏بالغرق‏ ‏تحتها‏ ‏أو‏ ‏بإنكارها‏.‏ وهذا‏ ‏كله‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تغيير‏ ‏جذرى ‏فى ‏طرق‏ ‏التعليم‏، ‏وتنمية‏ ‏الخيال‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏اليومي‏، ‏وتنظيم‏ ‏العلاقات‏ ‏بشكل‏ ‏حيوى ‏متجدد‏.

المناقشة:

مرونة الحركة، وحركية المسافة، يحتاجان إلى مساحة، والمساحة ليست فقط مكانا بل هى زمن مكانىّ متسع، ومتنفس قادر على النتح والتلقى، وأعتقد أن التأكيد المتكرر على هذه الأبعاد يؤكد ضرورة أن تظل الحركة، والمسافة، والمساحة وما إليها تربطنا باستمرار بالإيقاع الحيوى كأساس لأى صحة نفسية (لا تحتاج أن تسمى كذلك).

نص المتن (7):

…… يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ما ظلَّ قادرا‏ ‏على ‏مواجهة‏ ‏قضايا‏ ‏التلوث‏، ‏والحديث‏ ‏الجارى ‏الآن‏ عن التلوث ‏يغلب‏ ‏عليه‏ ‏مفهوم‏ ‏تلوث‏ ‏البيئة‏، ‏بالمخلفات‏، ‏والعادم‏ ‏وما‏ ‏شابه‏، ‏ولا‏ ‏يجرى ‏الحديث‏ ‏بقدر‏ ‏مناسب‏ ‏أو‏ ‏كاف‏ ‏عن‏ ‏تلوث‏ ‏الوعي‏، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏ملوثات‏ ‏الوعى ‏الحديثة‏ ‏كثيرة‏، ‏ومرعبة‏، ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏أية ‏معلومة‏ ‏تقتصر‏ ‏على ‏مخاطبة‏ ‏مستوى ‏من‏ ‏الوعى ‏دون‏ ‏الآخر‏، ‏هى ‏معلومة‏ ‏كالجسم‏ ‏الغريب‏، ‏فهى ‏ملـِّوثة‏ ‏لأنها‏ ‏معـِّـِوقة‏ ‏للتناغم‏، ‏وهى أيضا‏ قد تكون ‏مخدِّرة‏ ‏وليست‏ ‏مفجِّرة، نحو إعادة التشكيل‏.‏

المناقشة:

هذا الاستعمال الخاص لمعنى “التلوث” يقربنا من الانتباه إلى أن إطلاق حركية التناغم فى نبضات الإيقاع الحيوى، يتعارض جذريا مع حشر هذه النغمات النشاز منفصلة عن كلية اللحن الحيوى، والتركيز هنا على عمل مستويات الوعى معا، دون التسليم لغلبة مستوى على الآخر طول الوقت، مهما كان هذا المستوى هو الأحدث، أو مهما سمى باسم محترم له سمعة طيبة مثل احتكار لفظ “العقل” له، أقول إن هذا المعنى للتلوث يؤكد أن غلبة مستوى ما، طول الوقت، حتى لو سمى “عقلا” إنما يحمل مخاطر الاغتراب فى آليات الدفاع المعقلنة، أما غلبة العقول الأقدم فهو يعرضنا لبدائية  النكوص، أو حتى لعشوائية الجنون ونشاز البدائية، ولا سبيل لفض التلوّث إلا بالتعتعة والتناغم والتبادل والتكامل فالجدل دائما أبدا.

نص المتن(8):

يكون‏ ‏الإنسان‏  ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏حركته‏ ‏فى ‘‏الزمن‏’ ‏بالمعنى ‏الآنىوالموضوعى والممتد‏ ‘‏معا‏’، ‏والامتداد‏ ‏هنا‏ ‏ليس‏ ‏بمعنى ‏التأجيل‏ ‏الآمـِل‏، ‏أو‏ ‏الخيال‏ ‏المحتمل‏، ‏وإنما‏ ‏بمعنى ‏حرية‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏الزمن‏ ‏ذهابا‏ ‏وجيئة‏، ‏وعلى ‏مستويات‏ ‏مختلفة‏، ‏وهذه‏ ‏قيمة‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏خاصة‏ ‏بموجة‏ ‏حديثة‏ ‏فى ‏الأدب‏ ‏أو‏ ‏الإبداع‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏قيمة‏ ‏تصف‏ – ‏أو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تصف‏ – ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏الذى ‏أصبح‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏أن‏ ‏يرصد‏ ‏ويتحرك‏ ‏فى ‏الكون‏ ‏الأبعد‏، ‏فيرحل‏ ‏إلى ‏القمر‏ ‏ويغازل‏ ‏المريخ‏ ‏ويرصد‏ ‏المشترى، ‏وبالتالى ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏يتناسب‏ ‏ذلك‏ – ‏ ‏مع‏ ‏قدرة‏ ‏مماثلة‏ ‏للتحرك‏ ‏فى ‏طبقات‏ ‏الوعى (‏دون‏ ‏حاجة إلى تحليل‏ ‏تفسيرى ‏أو‏ ‏فك‏ ‏عقلانى ‏للرموز‏) ‏وهذه‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏طبقات‏ ‏الوعى ‏هى ‏البعد‏ ‏العرضى ‏لطبقات‏ ‏الزمن‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نتصور‏ ‏أنها‏ ‏ماض‏ ‏وحاضر‏ ‏ومستقبل‏، ‏ثم‏ ‏ها‏ ‏نحن‏ ‏نستقبلها‏ ‏جميعا‏ ‏فى “‏واقع‏ ‏الحال: الآن”‏ ‏مع‏ ‏اختلاف‏ ‏بعد‏ ‏المسافة‏ ‏والمساحة‏.‏

المناقشة:

تحتاج هذه الفقرة إلى هامش يمكن أن يصل إلى كتاب بأكمله، علما بأن ما جاء بها من خطوط عريضه، قد وصلنى أساسا من العلاج الجمعى (فى قصر العينى خاصة) من خلال نقلات الوعى “معا”، مع مجموعات من المرضى متوسطى التعليم أو “بدون”!، كما ذكرتُ، مرارا.

مسألة بعد الزمن كبعد جوهرى للوجود، وعلاقتنا به، وامتلاكنا إياه، وتحركنا فيه، ليست مسألة رياضية بحته، ولا هى فلسفية نظرية، ولكنها واقع ماثل، ومسئولية متجددة، دون أن تسمى كذلك، وقد تناولت هذا البعد من قديم فى مناقشتى ندوة جمعية الطب النفسى التطورى لكتاب “حدْس اللحظة” لجاستون بشلار ([7])، ثم عدت وتناولته فى نقدٍ حديث بعنوان “تشكيل الزمن وإحياء التاريخ، إطلالة من وحى إبداع محفوظ”([8])، وقد أشرت فى عملى الباكر عن “إشكالة الزمن“، إلى دور العلاج الجمعى فى تعرفى على اللحظة تلو اللحظة، وحركتنا فيها من خلال “الهنا والآن”، طول الوقت، أكتفى هنا بتعقيبات محدودة عن هذا البعد، وهو برغم صعوبة التنظير فيه، إلا أنه بـُعـْدٌ حياتـِىّ عادى: يتشكل فيه وبه الإنسان العادى، ومن ثم فحين يتحدث المتن عن”‏ ‏حرية‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏الزمن‏ ‏ذهابا‏ ‏وجيئة‏، ‏وعلى ‏مستويات‏ ‏مختلفة‏”، لا يقصد به إلا ما يجرى فعلا فى النوم والحلم وكذلك اليقظة: والمقصود هنا بالحرية، يتعلق ببعدين سبق الحديث عنهما حالا وهما بعد “الحركة”، و”المساحة”، أساسا.

كل ذلك يجعلنا نراجع النص الذى جاء فى المتن، فنتحفظ على قياس حركية الزمن فى الإيقاع اليومى العادى، بقدرة الإنسان المعاصر “أن‏ ‏يرصد‏ ‏ويتحرك‏ ‏فى ‏الكون‏ ‏الأبعد ‏فيرحل‏ ‏إلى ‏القمر‏ ‏ويخاطب‏ ‏المريخ‏ ‏ويغازل‏ ‏المشترى‏..إلخ”، أقول إنه قد آن الأوان أن أتراجع عن هذا القياس، لأن حرية التحرك فى الزمن وبالزمن، ليس لها علاقة مباشرة أو قياسية بهذه الإنجازات التقنية الأحدث فالأحدث، فى نفس الوقت أؤكد على فرحتى بما جاء فى المتن تأكيدا لارتباط الصحة النفسية بالقدرة على التحرك ‏”…. فى ‏طبقات‏ ‏الوعى” (‏دون‏ ‏حاجة إلى تحليل‏ ‏تفسيرى ‏أو‏ ‏فك‏ ‏عقلانى ‏للرموز‏)، ‏إن هذه‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏طبقات‏ ‏الوعى ‏هى ‏البعد‏ ‏العرضى ‏لطبقات‏ ‏الزمن‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نتصور‏ ‏أنها‏ ‏ماض‏ ‏وحاضر‏ ‏ومستقبل‏، ‏ثم‏ ‏ها‏ ‏نحن‏ ‏نستقبلها‏ ‏جميعا‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الحال‏ ‏مع‏ ‏اختلاف‏ ‏بعد‏ ‏المسافة‏ ‏والمساحة‏” هذه الجملة التى وردت حدْسا قد تكون مفتاحا لإدراك معنى الزمن/المكان، ومعنى الزمن/ الحركة، فى علاقة هذا وذاك بمستويات الوعى (التاريخ الحاضر بيولوجيا)، وأعتقد أن تعبير “..‏ها‏ ‏نحن‏ ‏نستقبلها‏ ‏جميعا‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الحال”  إنما يشير إلى فضل الممارسة “هنا والأن” فى العلاج الجمعى فى الكشف عن هذا الحضور للزمن، وعلاقة الصحة النفسية به.

نص المتن(9):‏  

‏يكون‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يصبح‏ ‏الجنون‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏وجوده‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لا‏ ‏ينفصل‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏الوجود‏ ‏ليقوده‏ ‏إلى ‏التناثر‏ ‏أو‏ ‏التدهور‏، ‏حين‏ ‏يحدث‏ ‏ذلك‏ ‏نكتمل‏ ‏به‏ – ‏بجنوننا‏ – ‏فى ‏نفس‏ ‏اللحظة‏  ‏التى ‏ننتصر‏ ‏فيها‏ ‏عليه‏، ‏وهكذا‏ ‏فإن‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏الصحيح‏ ‏إنما‏ ‏يكون‏ ‏صحيحا‏ ‏ليس‏ ‏بفرط‏ ‏التعقل‏ ‏وإحكام‏ ‏ضبط‏ ‏الداخل‏، ‏وإنما‏ ‏بحجم‏ ‏التكامل‏ ‏والسماح‏ ‏والتناوب‏ ‏المرن‏ ‏والامتداد‏ ‏المتعدد

المناقشة:

بدأت هذه الفكرة تلوح لى باكرا بغموض عام، ثم تبلورت فى عمل سابق فى أطروحتى عن: “جدلية الجنون والإبداع“، والتى نشرت باكرا([9])، فقط أنبه الآن إلى أن استعمال لفظ الجنون هنا باعتباره “جزءا من وجود (الإنسان)، وفى نفس الوقت لا ينفصل عن كل الوجود” هو مفتاح التعامل مع هذا اللفظ (الجنون) بحضوره الحيوى الحركى، أكثر من حضوره المرضى التفسخى أو الشاطح، كذلك سوف نعود غالبا إلى شرح هذه الجملة التى تبدو معقدة، وهى غير ذلك، وهى الجملة التى تقول “ليس‏ ‏بفرط‏ ‏التعقل‏ ‏وإحكام‏ ‏ضبط‏ ‏الداخل‏، ‏وإنما‏ ‏بحجم‏ ‏التكامل‏ ‏والسماح‏ ‏والتناوب‏ ‏المرن‏ ‏والامتداد‏ ‏المتعدد“، لأن كل لفظ فيها قد يحتاج إلى شرح تفصيلى قد تتاح له الفرصة لاحقا.

هذا وقد تطور هذا المنطلق إلى فرضِى عن “حالات الوجود المتبادلة” وهو الفرض الذى اعَتَبَرَ أن الايقاع الحيوى يجرى فى اتساق تتابعى وجدلى فى نفس الوقت بين حالات ثلاث فى الأحوال الطبيعية وهى الحالات المتناوبة بين “الجنون” و”الإبداع” و”العادية”، علما بأن حركية الإبداع قد تخمد وتتجمد ناحية السكون والنمطية فيما يسمى “فرط العادية” كما أن حالة الجنون قد تتمادى فى التفكك حتى يحل التفسخ محل الإبداع فيستتب الجنون الصريح (أنظر حالات الوجود المتبادلة)([10]).

نص المتن (10):

يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يصاحب‏ ‏الموت‏ ‏الواقع‏ ‏حالا‏ ‏فى ‏داخله‏، ‏فالموت‏  – ‏بالمفهوم‏ ‏التطورى‏ – ‏ليس‏ ‏سلبا‏ ‏كله‏، ‏وليس‏ ‏نهاية‏ ‏مغلقة‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏حقيقة‏ ‏موضوعية‏ ‏آنية‏، ‏وحتمية‏، ‏وحين‏ ‏تتضح‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏ ‏فى ‏وعى ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏بنفس‏ ‏درجة‏  ‏وضوح‏ ‏الحياة‏، ‏ووضوح‏ ‏الإنجاز‏ ‏المادى ‏المحدد‏، ‏ووضوح‏ ‏القوة‏ ‏السلطة‏، ‏حين‏ ‏يحدث‏ ‏ذلك‏، ‏تحضر‏ ‏ظاهرة‏ ‏الموت‏ ‏فى ‏حجمها‏ ‏الموضوعى ‏فى ‏بؤرة‏ ‏الوعى ‏مما‏ ‏يعطى ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏القيم‏ ‏معنى ‏آخر‏ ‏أقوى ‏وأبقى‏، ‏مما‏ ‏يجعل‏ ‏قوة‏ ‏الحياة‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏الانتصار‏ ‏المتكامل‏ ‏ما‏ ‏استمرت‏ ‏الحركة‏ ‏المبدعة‏.‏

فالإنسان‏ – ‏المعاصر‏ – ‏ومع‏ ‏تحقيق‏ ‏وجوده‏ ‏بقدرته‏ ‏على ‏الإحاطة‏ ‏بالمعلومات‏ ‏الموضوعية‏ ‏المعاصرة‏ – ‏لا‏ ‏يكتمل‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏أدرك‏ ‏وعايش‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏الموت‏ ‏الشخصي‏، ‏والموت‏ ‏الحتمى ‏لأفراد‏ ‏النوع‏، ‏بحجمه‏ ‏الموضوعى ‏فى ‏مكانه‏ ‏المناسب‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏الآنى.‏

المناقشة:

هنا مبالغة قد تثير رفضا حذرا، حين نطلب من الصحيح نفسيا أن يضع الموت كـ “حقيقة موضوعية أنية، وحتمية” …” فى بؤرة الوعى” فهى قد تبدو بعيدة عن الواقع تماما، بل إن هذه الفقرة وهى تحاول أن تعلى من قيمة هذا التأكيد قارنت ذلك بوضع الإنسان السليم وكأنه يعامل “الحياة” كحقيقة موضوعية فى بؤرة الوعى، وهو أمر لا يمكن الجزم به طول الوقت، فالأرجح أنه لا الموت، ولا الحياة يقعان فى بؤرة الوعى الظاهر كما تزعم (أو ترجو) هذه الفقرة.

 قد يكون الإنسان صحيحا نفسيا وهو يعيش الحياة بالقصور الذاتى، وأيضا وهو يعيش الموت باعتباره صدفة حتمية واردة، ليست “الآن” بالضرورة، أما أن نتصور، أو نصوِّر، أن السلامة تقتضى أكثر من ذلك فهذه مبالغة قد تبعدنا عن واقعنا البسيط القادر على تحقيق الصحة بغير كل ذلك، ثم إن الزعم بأن معايشة الموت (للفرد والنوع) بحجمه الموضوعى هو الذى “….‏يجعل‏ ‏قوة‏ ‏الحياة‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏الانتصار‏ ‏المتكامل‏ ‏ما‏ ‏استمرت‏ ‏الحركة‏ ‏المبدعة‏” هو أيضا زعم قد  يبعدنا عن الواقع الضرورى للاستمرار دون الحاجة إلى أن تتصف الحياة بالقدرة “على الانتصار الكامل ما استمرت الحركة المبدعة” (ما هذا؟ كدت أقول: يا صلاة النبى!!!)([11])

نص المتن (11):

‏يكون‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتمكن‏ ‏من‏ ‏الحفاظ‏ ‏على ‏نشاطه‏ ‏الذهنى ‏ليتحمل‏ ‏مسئولية‏ ترامى أبعاد و‏موسوعية‏ ‏المعرفة‏، ‏التى ‏لم‏ ‏نعد‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى أن‏ ‏نزحم‏ ‏بها‏ ‏أدمغتنا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏وجدت‏ ‏لها‏ ‏مكانا‏ ‏فى ‏الأشرطة‏ ‏والاسطوانات‏ ‏المضغوطة‏ ‏والممغنطة والموسوعات الإلكترونية المتاحة،‏  ‏بما‏ ‏يتيح‏ ‏فرصة‏ ‏حقيقية‏ ‏للعقل‏ ‏البشرى ‏أن‏ ‏يتفرغ‏ ‏لإعادة‏ ‏ترتيب‏ ‏المعلومات‏ ‏دفعا‏ ‏إلى ‏التوازن‏ ‏الخلاق‏.‏

المناقشة:

بالله عليكم هل أجرؤ أن أعيد كتابة هذه الفقرة الآن بعد ما حكيته عن الصحة النفسية التى أمارس محاولة العودة إليها، أو التصعيد بها فى جلسات العلاج الجمعى فى قصر العينى؟؟ موسوعية ماذا وترامى أبعاد كيف وتوازن خلاق ماذا؟

مرة أخرى أذكركم أن النمل والصراصير وأسماك القرش والنوارس والكلاب الجبلية لا تحتاج إلى الموسوعية ولا إلى التخلص من وصايتها حتى تبقى وتستمر، وهى قد تتمتع بصحة نفسية بنسب قد يثبت أنها أعلى مما يتمتع به النوع البشرى برمته حاليا، دون أن تسميها كذلك، ثم إنه يحق لى أن أنبه الآن إلى أن التوازن فى حد ذاته احتاج فى المتن هنا إلى إضافة صفة “الخلاّق” ربما ليبتعد عن التوازن الاستاتيكى الهادئ (الهوميوستازس)، الذى سبق أن أشرنا إلى احتمال سكونه  حالا فى الهامش رقم (4)، التوازن الخلاق ليس له علاقة بالموسوعية من عدمها، بقدر ما له علاقة بكفاءة برامج التطور، وتحديات البقاء، بل إن الموسوعية المعطـِّلة، ولا حتى بالتوازن الذى نسميه الخلاق من باب الحذر، إذا ما انتقل من برنامج الفعل التلقائى إلى التنظير المعقلن، فقد يثبت أنه ليس هو البرنامج البقائى الذى يحافظ على الحياة ويدفع بها، بل إنه قد يعطلها برغم صحة معطياته فى ذاتها.

إذن: ليس مطلوبا جدا من “العقل ‏البشرى“… ‏أن‏ ‏يتفرغ‏ ‏لإعادة‏ ‏ترتيب‏ ‏المعلومات‏ ‏دفعا‏ ‏إلى ‏التوازن‏‏ بالمعنى الإرادى الذى توحى به هذه الجملة، فالنشاط الحالم الصحىّ العادى – مثلا-  يقوم بالواجب تلقائيا من وراء ظهورنا، المأمول لكى نصحّ فنبقى ألا تحولُ الموسوعية دون تلقائية هذا التوازن الخلاق، مثلا: ألا تقف موسوعية سيجموند فرويد عن الأساطير وعلم المصريات والتاريخ والترميز وغير ذلك، حائلا دون أن يستوعب، (ونستوعب) إبداع حركية الحلم بغض النظر عن محتواه وتفسيره، وهكذا.

نص المتن(12)‏:

 ‏يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يرعى ‏ما‏ ‏وصله‏ ‏من‏ ‏معارف‏  ‏كقاعدة‏ ‏إنطلاق‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ (‏إيمانا‏ ‏بالغيب‏ المفتوح النهاية).‏

المناقشة:

إذا كنا قد انتبهنا بقدر كاف لما جاء فى الفقرة السابقة السابقة، فغنى عن البيان أن نفهم مساحة ابتعاد هذا الشرط أيضا عن واقع ما نريد توصيله، بمعنى أن رعاية المعارف التى تصلنا تتم تلقائيا بقوانين البقاء، وليس معنى ذلك الا نتعهد المعارف التى تصلنا كما يقول النص، لأننا لو لم نفعل لاصبحت عبئا على وجودنا، وإعاقة ليس فقط للصحة النفسية، وإنما للبقاء والتطور.

أما مسألة أن “تصبح المعارف نقطة انطلاق“، فهذا يتطلب فتح ملف مستويات التفكير، ومدى فاعلية وإسهام “العقول الأخرى” فى حركية المعرفة، ومنها: فائدة اللافهم تكاملا مع الفهم([12])، وكل ذلك عادة ما أتناوله فى شرح قضية “الإيمان بالغيب” الذى هو الباب الإبداعى المفتوح، بل الداعى، لكل الناس، للاغتراف مما  هو “ليس كذلك”، واستيعابه مع ما هو “كذلك”. إن اعتبار ما يصلنا من معارف مجرد نقطة انطلاق إلى ما يمكن أن نصل إليه، هو كلمة السر لما هو “إيمان بالغيب”.

نص المتن(13):

‏يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتمتع‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏حرية‏ ‏واعية‏، ‏وذلك‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أتاحت‏ ‏وسائل‏ ‏الاتصال‏ ‏فرصا‏ ‏أكبر‏ ‏لحرية‏ ‏أصدق‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏أصبح‏ ‏تحديا‏ ‏حقيقيا‏ ‏إذ‏ ‏أنه‏ ‏يتيح‏ ‏الفرصة‏ ‏للإنسان‏ ‏العادى ‏أن‏ ‏ينتقل‏ ‏عبر‏ ‏عشرات‏ ‏الآلاف‏ ‏من‏ ‏الأميال‏ ‏باللعب‏ ‏فى ‏زر‏ ‏عن‏ ‏بعد‏، ‏فالحرية‏ ‏هنا‏ ‏أصبحت‏ ‏فرصة‏ ‏رائعة‏ ‏للتوازن‏، ‏وهى ‏أيضا‏ ‏امتحان‏ ‏خطير‏ ‏للاختيار‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏تحٍّد‏ ‏مرعب‏ ‏لما‏ ‏يصاحبها‏ ‏من‏  ‏مسئولية‏.‏

المناقشة:

يشمل هذا النص  ثلاثة علامات لما يسمى حرية لها علاقة إيجابية بالصحة النفسية، وهى أن تكون:

‏* فرصة‏ ‏رائعة‏ ‏للتوازن

‏* امتحانا‏ ‏خطير‏ا ‏للاختيار

‏* تحديا‏ ‏مرعبا‏ ‏لما‏ ‏يصاحبها‏ ‏من‏ ‏مسئولية‏.‏

لكن المسألة تتجاوز ذلك أيضا، وقد يكفى الآن، حتى نعود إليه لاحقا، أن نشير إلى الأطروحة السابق نشرها بواسطة المؤلف عن “الحرية والجنون والإبداع”([13]) الحرية التى يمكن أن نتكلم عنها هنا فيما يتعلق بالصحة النفسية ترتبط ارتباطا وثيقا بأبعاد المساحة، والحركة، والزمن، كما ترتبط تماما بما يسمى العلاقة بالأخر (الآخرين)، وهى ليست اختزالا فى القول السائر: إن حريتك تنتهى عند بداية حرية الآخر، بل لعل العكس هو الصحيح، بمعنى أن الحرية تستحق هذا الاسم حين يتحقق الجدل ويحتد الصراع مع حرية الآخر، ناهيك عن حرية العقول كل على حدة، ثم معا، ثم كل على حدة، وهكذا على مدى مستويات الوعى المتعددة، عبر استمرارية النبض الخلاق الذى هو وظيفة الإيقاعحيوى المستمر طول الوقت فى “اليقظة والنوم” ثم أتمادى لأقول فى “الحياة والموت” (دون تفصيل الآن).

وبعد:

ماذا يهم الطبيب النفسى والمريض النفسى، وكل البشر من كل هذا التنظير، وما علاقته بأنواع الطب النفسى؟ بين اليوتوبيا والجدل والأيديولوجيا؟

إن ما وصلنى عن علاقة ما هو “أسطورة ذاتية” غائرة فى اللاشعور – عند كل الناس–  بالأيديولوجيا ظاهرة فى السلوك هو الذى يمكن أن يرد على هذا التساؤل.

[1] – يحيى الرخاوى: “مستويات الصحة النفسية من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة” )الفصل الثالث: مستويات الصحة النفسية على مسار التطور الفردى(، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى  2017

[2] –  يحيى الرخاوى: مجلة شموع “الصحة العقلية وعصر المعلومات” عدد  يونيو 1997.

[3]– “الانقراض جينات سيئة أم حظ سيئ” تأليف: دافيد م. روب، ترجمة: د. مصطفى إبراهيم فهمى، الناشر: المجلس الأعلى للثقافة  سنة 1998.

[4] –  أنظر “الحركة، والوعى، والعقل، والمعلومات نشرة الإنسان والتطور بتاريخ: 9-11-2010

www.rakhawy.net

[5] – دانييل دينيت كتاب “أنواع العقول” الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” القاهرة  2003

Daniel C. Dennet 1996  Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness   

[6] – تدعم هذا الرأى فيما بعد بأعمال روبرت شيلدراك مؤلف “ضلال العلم”

– Rupert Sheldrake “The Extended Mind” Published in the July-August 2003 issue of The Quest

[7] – مجلة الإنسان والتطور عدد ابريل – سبتمبر سنة 1988 “إشكالية الزمن”، (الإنسان والتطور “إشكالة الزمن” عدد ابريل – سبتمبر 1988سنة

[8] – يحيى الرخاوى “دورية نجيب محفوظ” المجلس الأعلى للثفافة، العدد الثالث: ديسمبر 2010،  (التاريخ والزمن “قراءات فى الزمن”)، مقدمة عن: حركية الزمن، “وإحياء اللحظة” فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ.

[9] – يحيى الرخاوى “جدلية الجنون والإبداع” مجلة فصول “المجلد الثالث، العدد الرابع 1986 ثم أعيد نشرها وتحديثها فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع: المجلس الاعلى للثقافة سنة 2007

[10]– أنظر نشرات “حالات الوجود المتبادلة”  بموقع المؤلف www.rakhawy.net

[11] – أكتفى الآن بالإشارة لمن يريد، إلى بعض ما كتبته من فروض عن الموت أساسا فى نشرات “الإنسان والتطور اليومية ” على سبيل المثال : نشرة 7/11/2007 “مقتطفات بلا موقف …. عن الموت والوجود”، ونشرة 21/11/2007 “الموت والشعر”، ونشرة 5/1/2008 ” الموت: ذلك الوعى الآخر”، ونشرة 4/9/2010 (“الموت لا يجهز على الحياة”: نجيب محفوظ)  بموقعى   www.rakhawy.net

– وأيضا فى نقد ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ: “دورات الحياة، وضلال الخلود ملحمة الموت، والتخلق فى الحرافيش” (مجلة فصول المجلد التاسع، العدد الأول والثانى سنة 1990)، وكتابى “قــــــراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992

–  وأيضا عن الموت للأطفال عند هانز كريستيان أندرسون: “كيف ومتى يعرف الطفل ما هو “الموت”؟ ونحن أيضا!!؟” مجلة روز اليوسف، بتاريخ 25/11/2005، ومجلة وجهات، عدد أكتوبر 2006، “همسةٌ عند الفجر تشكيلات الموت/الحياة” بموقعى www.rakhawy.net  

[12] – نشرة الإنسان والتطور: 10-4-2012 “السماح بعدم الفهم ينشط الإدراك” (لعبة: ياخبر!! ده أنا لما ما بافهمشى يمكن……)  بموقعى   www.rakhawy.net 

[13] –  يحيى الرخاوى “حركية الوجود وتجليات الإبداع”، الفصل الثالث: “عن الحرية والجنون والإبداع” الناشر: المجلس الأعلى للثقافة، سنة  2007

الفصل الثانى: الطبيب (المعالج النفسى) بين الأيديولوجيا والأسطورة الذاتية

الفصل الثانى: الطبيب (المعالج النفسى) بين الأيديولوجيا والأسطورة الذاتية

الفصل الثانى:

الطبيب (المعالج النفسى)

بين الأيديولوجيا والأسطورة الذاتية

“‏سقراط‏: ‏لقد‏ ‏كنت‏ ‏أدرك‏ ‏أيها‏ ‏الصديق‏ ‏أنك‏ ‏لن‏ ‏تقنع‏ ‏برأى ‏الآخرين‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المسألة‏.‏

جلوكون‏: ‏ذلك‏ ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يليق‏ ‏بمن‏ ‏قضى ‏حياته‏ ‏مثلك‏ ‏وهو‏ ‏يفكر‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المسائل‏، ‏أن‏ ‏يكتفى ‏بعرض‏ ‏آراء‏ ‏الآخرين‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يعرض‏ ‏آراءه‏ ‏هو‏.‏

سقراط‏: ‏ولكن‏ ‏أتظن‏ ‏أنه‏ ‏يليق‏ ‏بالمرء‏ ‏أن‏ ‏يتحدث‏ ‏عما‏ ‏لا‏ ‏يعلمه‏ ‏وكأنه‏ ‏يعلمه؟

جلوكون‏: ‏كلا‏، ‏لا يصح‏ ‏أن‏ ‏يتحدث‏ ‏وكأنه‏ ‏يعلمه‏، ‏ولكنه‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يقول‏ ‏ما يعرفه‏ ‏على ‏سبيل‏ ‏عرض‏ ‏رأيه‏ ‏الخاص‏”‏

‏أفلاطون‏- ‏محاورة‏ ‏الجمهورية

الكتاب‏ ‏السادس

 الطبيب أداة العلاج الأولى، فكيف هو؟

الفكرة الأساسية التى اكتشفتها باكرا جدا هو أن الطبيب النفسى الحقيقى إنما يعالج المريض (وخاصة الذهانى: المجنون) بما “هو” كله، وليس فقط بما يعرف، أو بما يحفظ، أو بما يبحث فيه بأدوات العلم المتاحة، فما بالك إن كان تصوره إنه إنما يعالجه بما يقرأ ويسمّع ويُفرض عليه من قوانين وتنظيمات غير نابعة من ثقافته، ولا من ممارسة إمبريقية موضوعية مستمرة، المفروض أنه لا يوجد تناقض  بين هذا وذاك، لكن الأمر عند التطبيق شديد الصعوبة.

 الحوار الدائر بين مستويات وعى المعالج ومستويات وعى المريض أعمق وأوثق من تصور كل النظريات المتاحة.

من خلال الممارسة النشطة عبر عشرات السنين تأكدت من حجم مشاركتى الشخصية فى العملية العلاجية، ومسئوليتى المتجددة تجاه الأداة الأساسية التى أستعملها – شخـْـصى –  بالإضافة إلى علمى ومعلوماتى وأبحاثى وما إلى ذلك، نقلت يقينى هذا إلى زملائى الاصغر وتلاميذى، وأنا أشعر أننى مسئول عن شحذهم وتدريبهم، لعلهم ينصقلون كأدوات سوف أسأل عنها، كما أسأل عن نفسى، ولو ألقيت معاذيرى، وهذه المعاذير فى هذا الصدد هى أبحاث موثقة منشورة، وكتب مطبوعة مغلفة مشهورة، لكنها تظل معاذير غالبا.

“فن” التطبيب النفسى (وهو اسم ينبغى أن يكون أكثر شيوعا من مصطلح “العلاج النفسى”، حتى لو لم يقم به طبيب) هو فن وحرفة يقوم بها فنان مبدع، يستعمل كل ما عنده من أدوات ومعارف، مما يعرف ومما لا يعرف، ليتقن بها عمله، ويساعد من يطلب حذقه ومهارته وعلمه، وعلى رأس كل هذا يستعمل نفسه كأداة لخدمة مرضاه، فى طريقهم نحو الشفاء.

قبل أن يوجد شىء اسمه الصحة النفسية، كان الناس – أغلب الناس–  يعيشون حياة طيبة، منتجة، قاسية، كريمة، صعبة، وكانوا فى امتحان دائم مع ظروف لا تسمح لهم بذلك، وظلم يحول بينهم وبين ذلك، وحرمان يقلل فرصهم فى ذلك، وبرغم هذا يعيشون بكفاءة مناسبة، صحيح أن منهم من يتعثر، ومنهم من يتوقف، ومنهم من ينحرف، ومنهم من يتراجع، ومنهم من يمرض، ولكن أغلبهم يكمل حياته وهو يمارس دوره جيدا، دون حاجة لأن يعلق على جبهته لافتة تثبت أنه يتمتع  بما يسمى “صحة نفسية”، للأسف تطور الامر حتى أصبحت أغلب مناحى الحياة، والناس، يمكن أن توصف بما هو صحيح نفسيا، وما هو غير ذلك، وأصبح مصطلح الصحة النفسية يترادف مع مصطلحات أخرى ليست أفضل كثيرا منه مثل “السعادة”، و”الرفاهية”، و”الطمأنينة”، و”اللاقلق!”، و”العيش فى التبات والنبات”، و”إنجاب صبيان وبنات”!!!

فرويد كان حكيما تماما حين صرح قبيل وفاته أن الصحة النفسية هى “أن تعمل، وأن تحب”، وخلاص!! وأعتقد أن هذا هو خلاصة الأمر، على شرط أن ننتبه أن يكون العمل عملا بحق، أى أن يكون غير مغترب كثيرا (يمكن أن يكون مغتربا قليلا)، وان يكون الحب ناضجا نسبيا (أى أنه يمكن أن يكون غير ناضج نسبيا).

فرويد بكل موسوعيته، وتاريخيته، وخبرته، ونظرياته، وإبداعه، استطاع، قرب نهاية حياته، أن يلخص ما هو صحة نفسية بهذه البساطة، والعمق، والمسئولية، والموضوعية، وقد انتهيتُ تقريبا إلى نفس الموقف، وهو ما وصلت إليه من مسالك أخرى، فى ثقافة أخرى، بعد رحلة أخرى.

قبل ان ننتقل إلى التفصيل اللازم لمن يلزمه، يمكن أن أصيغ الخطوط البسيطة العامة لما هو صحة نفسية كما انتهيت إليها على الوجه التالى:

(1) إن من يذهب إلى عمله، ويعمل، (هذا إذا وجد عملا، وإلا فيكفى أن يبحث طول الوقت جادا عن عمل أى عمل، دون تأجيل متمادٍ، انظر بعد).

(2) ويتواصل مع من حوله ويستمر، فى علاقة نشطة،  وهو يحتمل أن يختلف ويتفق مع من هو فى علاقة معهم، لكنه يستمر.

(3) ثم هو ينام ليلا، فيتوازن نهارا،.

إن مثل هذا الشخص هو يتمتع بصحة نفسية مناسبة.

 وذلك:  بغض النظر عن وجود ما يسمى أعراض نفسية أو أمراض نفسية!!.

هذه هى نقطة انطلاقى فى هذا الفصل، قبل وبعد كل التفاصيل برغم أهميتها.

إذن: فمهمة الطبيب النفسى، (والمعالج النفسى، ولن أكرر بعد ذلك أن المعالج هو طبيب بغض النظر عن ما يحمل من شهادات) هو أن يساعد مريضه على كلِّ ما يلى:

(1) أن يعاود العمل، أو يبادر به ، أيا كان العمل (المذاكرة للطالب هى العمل طالما هو ما زال طالبا، أليس كذلك؟).

(2) وأن “يأخذ ويعطى” وهو يعيش بيننا، بينهم : بما حوله ومن معه.

(3) وأن ينام طبيعيا بما يكفى “لإعادة تنظيم إيقاعه” مع نفسه ، ومع “ما” و”من حوله”،

وكل ما عدا ذلك، يأتى بعد ذلك، أو لا يأتى إطلاقا.

فماذا يحدث فى الطب النفسى – الآن– غير ذلك؟

كثير مما يحدث الآن هو غير ذلك:

(1) فالطبيب النفسى الآن يتعلم التركيز على أعراض المريض واسم مرضه، أكثر من التركيز على المريض نفسه وكيف يملأ وقت يومه، وماذا يميزه عن غيره متفرداً

(2) وهو يتصور أن مهمته الأساسية هى أن يصل إلى توصيف وتصنيف يسمحان له أن يعدل مواد كيميائية معينة يعتقد أنها  اختلت عند مريضه، وأنها سبب مرضه، فيضيف ما نقص من مواد، أو ينقص ما زاد، أو يعادله، أكثر من أنه يستعمل ذلك ليتواصل مع مريضه، ويتواصل مريضه مع من حوله (ومع نفسه)، وهو يقوم بعمله وسط ناسه.

ما الذى أوصل الطبيب إلى مثل ذلك، ولماذا؟

الطبيب هو فرد فى مجتمع، وهو ممثل لثقافته بشكل أو بآخر، سواء كانت ثقافته المحلية، أو ثقافة عصره، وللأسف فهو معرَّض – مثل غيره وأكثر– أن ينتمى إلى سلبيات ثقافة عصره (العولمة، ومجتمع الرفاهية كمثالين) على حساب ثقافة ناسه الأقربين، وإذا كان الإنسان المعاصر قد انحرف به المسار – بفعل فاعل غالبا– بعيدا عن أبسط قواعد المنطق السليم، والناتج العملى البسيط اللازم لاستمرار الحياة والحفاظ على البقاء ودفع التطور، فالواجب أن نعيد النظر بدءا بما هو نحن، وانطلاقا من جذور المسألة.

عن الأيديولوجيا والفطرة والأسطورة الذاتية:

لفظان شاع استعمالهما فى مجال الطب النفسى وغير الطب النفسى، مع أنهما لم يحظيا بقدر كاف من الوضوح والتحديد، سواء عند الشخص العادى، أو عند المتخصص، ألا وهما “الأيديولوجيا” و”الفطرة”. سندع مؤقتا لفظ الفطرة جانبا، وغالبا سوف نعود إليه تفصيلا حين يلزم ذلك، برغم أن علاقته وثيقة تماما بالقضية التى نحن رهن بحثها، وسوف نبدأ بأن نتناول “الأيديولوجيا” هنا.

 ما دمنا قد أقررنا أن الطبيب هو أداة العلاج الأولى، فعلينا أن نفحص هذه الأداة جيدا، وأن نفك شفرتها ما أمكن ذلك ظاهرا وباطنا، ويعتبر التشكيل الذاتى جدا الذى تكون به الطبيب فكان هو الموجّه الأخفى والأقوى لكل ما هو نفسه ، هو ما يجدر بنا أن نسميه باسم غير مألوف فى هذا المجال ، ألا وهو “الأسطورة الذاتية” فهى العامل الفاعل الفاعل فعلا طول الوقت فى انتقاء الطبيب للأسلوب العلاجى الذى يمارسه، بما يشمل معايير الصحة والمرض، والتخطيط نحو الشفاء، وهدف الممارسة، ونوعية الحياة وغير ذلك، وعلاقتها بالأيديولوجيا الخاصة به وثيقة، وإن كانت الأيديولجيا اظهر نسبيا.

ما هى الأيديولوجيا (عموما)؟

يتصور معظم الأطباء أن التنظير حول هذا الموضوع هو تزيُّد لا لزوم له، حيث يعتقد بعضهم أنه يعرف عن ماهية الأيديولوجيا ما يكفى، فى حين يعتقد الباقون (أو أغلبهم) أنهم ليسوا فى حاجة لمعرفة ماهية الأيديولوجيا أصلاً، وهم يتصورون أنها لفظ أقرب إلى السياسة أو الفلسفة، لهذا  سوف أبدأ بتقديم بعض “ما اخترت” للتعرف على هذا اللفظ البراق، الغامض معا (دون إضافة أو تعديل تقريبا):

  • الأيديولوجيا: هى رؤية تصبغ فكر شخص ما أو مجموعة من الناس.
  • الأيديولوجيا: هى تصور تنظيرى معين.
  • الأيديولوجيا: هى مجموعة من المعتقدات والغايات، (خاصة حين تستعمل فى مجال السياسة).
  • الأيديولوجيا: هى رؤية مشتملة لطريقة التعرف على الأشياء والعالم.
  • الأيديولوجيا: هى مجموعة أفكار تعكس آمال واحتياجات وتطلعات فرد أو مجموعة أو طبقة أو ثقافة معينة.
  • الأيديولوجيا: تشير إلى كيفية فهم العالم الذى نعيش فيه، وهذا الفهم يشمل التفاعل بين منظومتنا النفسية الفردية، والتركيبة الاجتماعية من حولنا.
  • الأيديولوجيا: تتضمن أن ترجـَحَ وجهة نظر بذاتها على كل ما عداها، وأن تتمسك بوجهة النظر هذه (عادة حتى التعصب).
  • الأيديولوجيا: هى جـُمّاع منظومة من المفاهيم حول الحياة والثقافة.
  • الأيديولوجيا: هى كيفية ترتيب محتوى الفكر ظاهرا أو باطنا أو كليهما.
  • الأيديولوجيا: هى تأكيد متماسك لثوابت ونظريات وأهداف تمثل برنامجا ثقافيا اجتماعيا بذاته.

 الأسئلة البديهية تأتى بعد ذلك لتقول:

  • هل يوجد شخص على وجه الأرض يعيش دون “أيديولوجيا” (بأى من المعانى السالفة الذكر)؟
  • هل يمكن لطبيب أن يمارس مهنته، فضلا عن أن يعيش حياته، دون أيديولوجيا؟
  • هل يوجد مريض يحضر للعلاج دون أن تمثل أيديولوجيته – الظاهرة والخفية – محورا هاما لا بد أن يوضع فى الاعتبار؟
  • كيف يمكن أن يتحكم الطبيب، وكذلك المريض، فى حوارهما على أكثر من مستوى من مستويات الوعى، فى ضبط جرعة تأثير أيديولوجية كل منهما على الآخر؟
  • ماذا عن من يدعى – تحت زعم الموضوعية أو التعادلية – أنه ليس عنده أيديولوجيا معينة؟
  • أليس من المحتمل أن يكون الموقف “اللاإيديولوجى” هو أيديولوجيا خفية، أو أيديولوجيا عدمية، تؤثر بطرق خفية أصعب، لأنها أبعد عن التحكم والانضباط؟
  • وماذا عن تصارع الأيديولوجيات وعلاقة ذلك بالحوار العلاجى على مختلف المستويات، وخاصة بين من يملك القوة والسيطرة فى مقابل من يعانى ويضعف ويضطر للتبعية؟

 الدين والأيديولوجيا والطب النفسى

الأبعاد الثلاثة لأى دين، وهى التى لابد أن تتكامل لتصف دينا بذاته هى: المعتقد والسلوك (بما فى ذلك العبادات) وحركية الإيمان، وينقلب الدين إلى أيديولوجيا محكمة حين يقتصر على المعتقد ثم السلوك دون حركية الإيمان، أى دون أن يشمل حركية الإبداع المتجدد “إليه”، ويترتب على ذلك نتيجة لعمق الجذور الدينية عبر التاريخ، وأيضا نتيجة لمساحة انتشار ما هو دين عبر العالم، أن يمثل الدين كما شاع وامتد: أيديولوجيا متينة على مستوى الشعور واللاشعور!!

حتى الإلحاد الذى يبدو أنه تخلص من وصاية الدين، هو أيديولوجيا مضادة بشكل حاسم عادة، كثير من الثقافات الأحدث حاولت أن تتجنب مواجهة الاختناق داخل أيديولوجيا الدين سابقة التجهيز، فشطبت – بقدر ما تصوَّرتْ – كل ما يتعلق بالدين من المشاهدة الكلينيكية ومن الأوراق الرسمية من قبيل أن الاحتياط الواجب!! أو “الطيب أحسن”.

على الجانب الآخر، شاعت ممارسة الطب النفسى، والعلاج النفسى، تحت عنوان دين بذاته (الطب النفسى الإسلامى، الطب النفسى المسيحى، العلاج النفسى الإسلامى..إلخ) فبدت وكأتها ترضى بالحركة داخل سياج الأيديولوجيا (الدين) التى أعلنتها وأنها بذلك أكثر صراحة لأنها على الأقل أيديولوجية معلنة مسئولة بشكل ما، وقد تجاوزت بعض هذه الممارسات شكلية الدين إلى تحريك الوعى دون التصريح بأن هذا تجاوز صريح للأيديولوجيا المعلنة.

فى ثقافتنا، وفى ممارسة فى مؤسسة خاصة عنيدة، تعمدت أن أدرج – ضد كثير من توصيات الثقافة المعاصرة –  ما يسمى “التاريخ الدينى” فى بنود المشاهدة، أسوة بالتاريخ الجنسى، باعتبار أن التوجه الدينى (فالإيمانى) هو برنامج بقائى (غريزى) مثله مثل الجنس والعدوان، بدءًا بالسؤال عن التجليات السلوكية فيما هو أوامر ونواهِ دين بذاته، بل يمتد السؤال أو التساؤل عن علاقة المريض بما هو “الله” كما يصله من ثقافته ومن نفسه، وعلاقة ذلك بموقفه الشخصى الآنى (المـَـرَضـِـى أو عامة!) دون أية تفاصيل، وقد أفادت هذه المصارحة فى التخطيط العلاجى والتأهيل بطريق غير مباشر عادة.

الأيديولوجيا والسياسة:

فى معظم الدول الغربية تكاد الممارسة الطبية أن تهمل ذكر المذهب السياسى للمريض أو سؤال المريض عنه، بدرجة ليست أقل من التحفظ حول سؤاله عن دينه، والمبررات – على ما أعتقد –  واحدة، وهى تصور أننا بذلك نتجنب الاقتراب من منظومات ثابتة قد تصل إلى حد التقديس، وأن نقصر جهدنا على “بقية” المريض بعيدا عن تلك المنظومات ما أمكن ذلك.

فهل هذا ممكن؟

نعم، أحيانا!.. (أو نادرا)

العلم والأيديولوجيا:

أغلب ما يسمى النشاط السائد حاليا تحت اسم “العلم” يمكن أن يندرج تحت ما يسمى: أيديولوجيا منهجية، باسم “الموضوعية”، وذلك يتجلى فى حماس وشروط  المؤسسة العلمية الرسمية العاملة على إحكام  إغلاق المنهج، واحتكار طرق البحث، وهو نشاط يمكن أن يندرج بسهولة تحت مفهوم الأيديولوجيا كما قدمناه الآن، وبالتالى يصبح أبعد ما يكون عن الموضوعية التى يزعمون أنها من دعائمه الأساسية، الأرجح عندى أن الأيديولوجيا المالية (وهى ليست بالضرورة مرادفة للرأسمالية) تمارِسُ برْمَجَة العلماء، ثم الأطباء لصالح المال فى المقام الأول، وهى تسهم فى إحكام السيطرة ووأد الإبداع الذى يهددها أولا بأول، فيصبح بعض العلم بذلك ليس مرادفا للمعرفة ولا هو أحد تجلياتها، يصبح أيديولوجيا تبلغ أحيانا قوة أكبر من قوة الدين كأيديولوجيا، فى حين أنها قد تخدم أغراضا أكثر اغترابا، وأخطر تعجيلا بالإنقراض.

 لا ينبغى أن تـَـشجـُبَ هذه الحقائق فضل العلم والأبحاث العلمية، لكن لعلها تساعد على أن توضع نتائج العلم، وباستمرار، من جانب اصغر ممارس إلى أكبر عالم موضع الاختبار العملى، الذى يتجاوز الجداول المعاملة إحصائيا، والمعلومات المنشورة، وأرقام المعامل!!!

 إن الممارسة الكلينيكية الإبداعية، تحتاج أن نتخلص من الاختناق وراء أسوار الأيديولوجية العلمية([1])، وأن تسمح بتقديم نتائجها لكل الممارسين، حتى يمكن انتقاء الأصلح من الحقائق النافعة والباقية من كوم الإضافات المحكومة بهذه الأيديولوجيا العـِلـْماَليـّة المغلقة، حتى أن هذه الأيديولوجيا اعتبرت “ضلالا”([2]) حديثا عند البعض.

 هذه المهمة أولى بالقيام بها الفقراء أمثالنا الذين لا يمتلكون أدوات ولا إمكانات الأبحاث الباهظة التكلفة، فى حين أنهم قد يتمتعون بفرص أكثر رحابة فى التفكير والإبداع، ويمارسون علاقات أكثر حميمية ومرونة وإبداعاً مع مرضاهم ويصلون إلى نتائج عملية (إمبريقية) ليست أقل نفعا من نتائج المعامل المقدسة.

اللغة والأيديولوجيا:

كل لغة تحدد نوع التواصل بين من يستعملها، كما تؤثر بدرجة ما  على الوجدان والمعتقدات التى تمثلها أية أيديولوجيا، حين استعملتُ لفظ الوجدان لأصف به بعدا من الأبعاد التشخيصية لم أجد لفظا بالإنجليزية يقابل استعمالى الخاص للفظ الوجدان (أنظر بعد) لذلك استعملته بحروف لاتينية مع شرح المعنى الذى أريده، WIJDAN،([3])

كذلك أنا أمارس تحريك ما هو “حزن” فى الممارسة الكلينيكية، حتى فى المقابلة الأولى مع المريض، وأحاول أن أقارنه بما هو “الزهق”، أو “الهم”، أو “الغم”، أو “النكد”،([4])، كما أننى من البداية أنبه مريضى أننى لا أسأل عن الحزن “على” أو الحزن “لأن..” (عشان) ويستجيب أغلب مرضاىَ لما أريد توصيله لهم عن “حقهم فى الحزن” كما خلقه الله، كما خلقنا الله ، لكننى حين حاولت أن أترجم هذا اللفظ  (الحزن)، إلى الانجليزية بمضمونه الخاص جدا فى لغتنا العامـّية ، والعربية، لم أعثر حتى الآن على كلمة بالانجليزية تنبض بما ينبض به لفظ “حزن” بالعربية، وطبعا رفضت أن أترجمه إلى “اكتئاب” لأنه أصبح لفظا يصف عرضا مرضيا ليس له نبض ألفاظ الأسى والمرارة عندنا (لا فى الفصحى ولا العامية).

إن اللغة([5]) بقدر ما هى أداة للتواصل هى أيضا سور أيديولوجى محكم، يمكن أن تتشكل المشاعر داخله باختناق معطـِّــل لحركية النمو، كما أنها هى هى التى قد تتيح تحريكا مرنا لبسط مستويات الوعى لاحتواء الوجدان فعلا .

المال والأيديولوجيا:

 لم يعد المال هو الأداة التى ترمز إلى، أو تستعمل فى، تنظيم التعاملات، فحسب، ولا هو الوسيلة الأولى أو الأساسية لتحديد الطبقات بين البشر، ولكنه أصبح معتقدا راسخا يصبغ الحياة الإنسانية كلها بمنظومة فكرية سياسية سلوكية تخدم قيماً اغترابية مالية مطلقة معلنة أوخفية، بغض النظر، عن جدوى ذلك ونفعه فى معركة التطور والبقاء، وتعلن محاولات العولمة الأخيرة لتوحيد العملة، وعولمة الاقتصاد، واحتكار الإدارة المالية عالميا، تعلن كل ذلك، وقد تحول المال إلى إله، تماما مثل تحول العلم المؤسسى إلى دين سلطوى حديث، ثم منظومة ضلالية محكمة.

إن ما ذكرناه فى فقرة العلم والأيديولوجيا ، ينطبق بشكل مباشر على هذه الفقرة فى حدود ما يخص الطب النفسى بالذات، أما فى مجال الاقتصاد والسياسة والجارى فى العالم طولا وعرضا، وهو ما يقبع وراء الحروب المبيدة والاستباقية، والتطهير العرقى، والاستعمار الظاهر والخفى مرورا بالاستعمار الاستيطانى الماحى ، كل ذلك له علاقة بهذه الأيديولوجيا التى تهدد الجنس البشرى بالانقراض، إن ما يسمى “سياسة السوق”، بقدر ما يدور حولها من نقد ومراجعة هو بصورته الحالية المتمادية، يمثل كارثة بكل معنى الكلمة، وهى كارثة لها تأثيرها فى مجالات كثيرة، أخفاها مجالات العلم والعلماء والبحث العلمى والنشر العلمى، ومن ثم على ممارسة الطب، وعلى الهدف منها، ومحكات قياسها، ومآل المرضى، بل هى مسئولة عن ما آل إليه الطب عامة والطب النفسى خاصة من سلبيات معاصرة، لقد أثـَّـرَت هذه الايديولوجيا حتى على توجه تجديد تشخيصات لأمراض معينة، ووضع مواثيق بذاتها للممارسة الطبية، مما ترتب عليه، وسوف يترتب عليه أخطر الآثار على الإبداع فى مجال الطب النفسى كمثال، وفى الأغلب على الحياة المعاصرة عامة.

إن هذه الأيديولوجيا المرتبطة بالمال الأعمى، والعلم المغلق، والمنهج الكمّى المقارن معا: هى ما يصبغ معظم ممارساتنا الطبية النفسية بشكل أو بآخر، وبالتالى هى التى تتحكم فى مدى انتشار كثير من النظريات شبه العلمية دون غيرها.

الأيديولوجيا والوعى:

 من معظم  التعريفات السابقة وما تلاها من إشارات يمكن أن نتبين أن الأيديولوجيا ليست بالضرورة ماثلة ظاهرة فى الوعى المتاح، بل إنها فى واقع الأمر غائرة فى الداخل تتحكم فينا مرضى وأصحاء، علماء وممولين، أطباء ومتعالجين، غائرة داخل داخلنا دون أن ندرى عادة، بل إن الأيديلوجيا المعلنة قد تكون أقل تأثيرا من تلك الأيديولوجيا الغائرة الخفية لأنها على الأقل، قابلة للحوار، وربما التغيير، حتى تلك الأيديولوجيات الظاهرة التى يمكن أن تعلن على الملأ مثل الموقف الدينى أو الموقف السياسى أو الاقتصادى، بل حتى الموقف العرقى والثقافى، حتى هذه الأيديولوجيات، يمكن أن تخفى وراءها عكس ما هى، أو غير ما هى.

إن التأثير الأقوى فى الممارسة الكلينيكية خاصة، هو للأيديولوجيا الخفية لأنها تؤثر على صاحبها، بشكل أقوى من الأيديولوجيا المعلنة ونعيد من جديد: إنه حتى الذين ينكرون أنهم ينتمون إلى أيديولوجيا معينة هم ينتمون إلى أيديولوجيا قد تكون أقوى وارسخ من كل الأيديولوجيات الشعورية المعلنة، إن هذه الأيديولوجيات الخفية يمكن أن تقرر للطبيب النفسى من بداية ممارسته، أو أثناء تطور ممارسته تحت كل التأثيرات المعلنة والخفية السابق الإشارة إليها تقرر له أيا (أو كلاً) مما يلى:

  1. المدرسة (النفسية) التى يفضلها وتقنعه
  2. الأسلوب العلاجى الذى يمارسه
  3. نوع التدريب الذى يكمله والذى لا يكمله
  4. مفهوم “الصحة النفسية” الذى يقتنع به دون غيره
  5. التقسيم (التصنيف) الفئوى للأمراض الذى يفضل أن يتبعه
  6. الهدف من منظومة العلاج ككل
  7. المحكات التى يقيس بها تقدم مرضاه على مسار العلاج

ولا يخفى بعد ذلك أنها هى هى -غالبا- نفس الأيديولوجيا التى تصبغ حياته الخاصة، وتوجه خطواته إلى مساره الذى اختاره، عادة على مستوى من الوعى غير محدد له تماما.

وبعد

من كل ذلك يتبين لنا مخاطر الممارسة العمياء تحت اسم الموضوعية، أو حتى الإنجاز العلمى الأحدث، إن أى أسلوب  طبى أو طبنفسى أو تحليل نفسى، وراءه نوع من الأيديولوجيا، وبالتالى ينبغى أن يعامل على أنه كذلك، وكل هذا يؤثر فى الممارسة الكلينيكية بشكل مباشر أو غير مباشر، مرة أخرى: نحن لا نعالج مرضانا إلا بما هو نحن.

الأيديولوجيا والمدارس النفسية

تمثل كل مدرسة من مدارس علم النفس أو طريقة  لممارسة التطبيب والعلاج النفسى، تمثل كل واحده من هذه وتلك منظومة متكاملة تحدد أبعاد ما هو “إنسان” ثم ما هو  “صحة نفسية“، وما هو “مرض“، ثم عند التطبيق العلاجى: أى كل ما هو “علاج“، فإن كل مدرسة تفعل ذلك بوثقانية ويقين يؤثر فى فهم المرض والإمراضية، ومن ثم يَرسم طريق العلاج، كما يتم تحديد محكات الشفاء بشكل أو بآخر([6]).

الخلاصة:

أعتقد أن كل ذلك يمكن أن يفيد فى أن نحذر من تلك الأيديولوجيات التى تـُفرض علينا، تحت عناوين تبدو أحيانا تنويرية إنسانية مثل ما شاع عن “حقوق الإنسان” (المكتوبة) وليست حقوقه الحقيقية أو الكاملة، ومثل منظومات “نوعية الحياة”.. و”مجتمع الرفاهية”..إلخ، وأيضا مثل ما تشيعه مؤسسات العلم السلطوى من أحكام، وثوابت وإحصاءات، وتقارير حيث أن  أغلبها قد تكون أيديولوجيات منحازة إلى القرش والسلطة،  لا إلى الحياة ولا إلى الإنسان.

الإيمان بالغيب والأيديولوجيا المفتوحة:

رؤية أخرى خطرت لى من خلال هذه الحيرة تنظيراً ومراجعة، وقد سبقت الإشارة إليها، لكننى سوف أعيدها لأهميتها وهى كالتالى:

 كنت دائما أفهم  الإيمان بالغيب، وأوصّل فهمى هذا لمن يريد، باعتبار أنه الباب الواسع لتجدد الإبداع، وليس كما شاع: للتسليم بالخرافة.

خطر ببالى الآن أن الإيمان بالغيب يشمل كذلك ما يمكن أن يسمى “الأيديولوجيا المفتوحة“، حتى لو بدا فى التعبير مغالطة أو تناقضا، فأنا أعنى به ما يلى:

*   ما دام أى إنسان لا يمكن أن يعيش إلا وفى خارجه أو على الأقل: فى داخله، (يتجلى او لا يتجلى)، برنامجٌ ما، يحدد خطواته وأهدافه وطريقه فى مرحلة ما،  فعليه أن يقبل ذلك ويجتهد فى التعرّف عليه دون تعسف أو تعصب أو جمود، وهذا ما يخص الكلمة الأولى “الأيديولوجيا“.

*   وما دام الإنسان – فى نفس الوقت –  كائن ينمو باستمرار، ومن ثم يتغير باستمرار، فعليه أن يسمح لموقفه السالف الذكر (تحت اسم الأيديولوجيا أو تحت أى اسم مرادف) أن يتحرك بمسئولية فاتحا وعيه لكل الاحتمالات وهذا ما يخص الصفة التى أضفتها للأيديولوجيا – هنا- أعنى: “المفتوحة“.

وإنى أعتقد أن هذا المبدأ لو أحسن تطبيقه فإنه يمكن أن يتيح مساحة أرحب لممارسة التطبيب النفسى أكثر إبداعا وأجمل فنا وأنجح عاقبةً.

الأيديولوجيا والأسطورة الذاتية:

نلاحظ فى التعاريف السابقة للأيديولوجيا غلبة ما هو “فكرة”، و”أفكار”، و”فهم”، و”مفاهيم”، و”نظريات”، وما شابه، وكل ذلك ينبع من نشاط النصف الطاغى من المخ الأحدث، ولا شك أن ذلك يؤثر تأثيرا مباشراً على منظومة المعالج المعرفية إلا أنه ليس كل ما يمثل “العامل العلاجى” فى العلاقة بين المعالج والمريض حيث أن العلاقة تشمل أبعاداً وأعماقا من الوعى تتجاوز مجرد المنظومة الفكرية الظاهرة حيث تتواصل العلاقة ويتم الحوار على مستوى الوعى البينشخصى والوعى الجمعى فى العلاج الجمعى وعلاج الوسط، طول الوقت، وبالرغم من أن المنظومة الفكرية تسهم فى حركية مستويات الوعى المختلفة إلا أن ما يجمع كل المستويات هو أقرب إلى ما يسمى “الأسطورة الذاتية” التى تميز أعماق وأبعاد كل فرد متميز عن كل فرد آخر.

وللأسف، فإن هذا المنطلق، وهذا المصطلح هو بعيد كل البعد عن تدريب وشحذ مهارة المعالج، وأنا لم أتبينه بوضوح إلا من خلال العلاج الجمعى بوجه خاص، ثم النقد الأدبى.

****

الملحق

من النقد المقارن: حركية “الأسطورة الذاتية” نحو المطلق

فضلت أن أقدم ما وصلنى عن الأسطورة الذاتية من مقدمة عن عمل نقدى مقارن قمتُ به وأنا أقارن بين رواية “السيميائى: ساحر الصحراء” لكويلهو، وابن فطومة لنجيب محفوظ ([7]).

ما هى حكاية “الأسطورة الذاتية” التى تكررت عشرات المرات فى رواية باولو كويلهو “السيميائى” أو “الكيميائى” أو ساحر الصحراْء؟ هل لها علاقة بالأسطورة عامة، وبالدين، وبالتطور، وبالسحر، وبالخرافة، وبالجنون، وبالإيمان، وبالله سبحانه و… وبالأيديولوجيا؟ لماذا انتشرت رواية السيميائى التى تتناول ما أسمته “الأسطورة الذاتية” كل هذا الانتشار بكل تلك اللغات؟ لا أظن أن السبب هو تميزها الأدبى الخاص، ولا بساطة الحكى مع ثراء الخيال. أين هى – بمقاييس النقد التقليدية – من مائة عام من العزلة (جارثيا ماركيز) أو العطر (باتريك زوسكيند) أو الحرافيش أو ابن فطومة أو كثير من أحلام النقاهة (محفوظ)؟ رجحتُ أن سبب انتشارها قد يرجع إلى أنها ظهرت فى وقت مناسب (من تطور الإنسان المعاصر، فى الغرب خاصة) لتعلن الاعتراف بمساحة أساسية من الوجود البشرى، كاد العلم السلطوى ينكرها وهو يصنفها “خرافة” لا معنى لها، كما راحت المنظومات المنطقية من أعلى تعتبرها رِدّة دينية بدائية (خصوصية) لا لزوم لها.

الأسطورة تاريخا هى جزء جوهرى من تاريخ تطور الوعى البشرى، وقد قامت بدور رائع فى تشكيل هذا الوعى حتى وصل إلى ما هو عليه، ثم كادت تنال جزاء سنمار بإلغائها أو إنكارها أو تشويهها. لن أعرج إلى تجلياتها طوليا. فلن أناقش – بشكل مباشر– علاقتها التاريخية بما نحن فيه الآن عامة، وما آل إليه الدين خاصة. سوف أكتفى بوضع فرض يمكن من خلاله أن نقرأ كويلهو من موقعه الشخصى، ومن خلال روايته: “السيميائى” معا، مع الإشارة إلى “رحلة ابن فطومة” رواية نجيب محفوظ.

يحمل الإنسان تاريخـه البيولوجى والمعرفى أو إن شئت الدقة: “البيولوجى/المعرفى” بشكل يستحيل إنكـاره، ناهيك عن التنكر له، وهو لا يكون جديرا بهذا التاريخ إلا إذا تحمل مسؤوليته ليواصل انطلاقه، وصل الإنسان بعد رحلة طويلة من المعاناة، والقهر، والانتصار، والهزيمة، والفخر، والتحايل، والاستغلال، إلى موقع يسمح لوعيه أن يحيط بعدد من المتناقضات دون تناقض، وذلك فى عملية جدل متصل، لا يعى منها إلا بعض جوانبها بعض الوقت، من ذلك مثلا: إن إنسان اليوم هو شديد التفرد وهو يؤكد نفسه فى ذات مستقلة جدا، مستقلة عن العالم وعن الآخر وعن الكون من حيث المبدأ، وكأن كل فرد – فى عمق وجوده – قد قرر أنه لكى يكون “ذاته” فلابد أن يكون كونا مستقلا كاملا بلا نقصان، ثم إن كل فرد وهو كذلك يجد نفسه – فى نفس الوقت – أنه لا يكون إنسانا إلا بانتمائه إلى نوعه فردا، فأفرادا، فجماعات، فثقافات، فى شبكة من العلاقات لا تنقصها درجة من الوعى. إن ما يجمع هذه الوحدات المستقلة فى شبكة متصلة هو التوجه معا توجها ضاما لا يخل بالذاتية ولا يحرمهم من التواصل ليكونوا بشرا لا آلهة، هذه المواجهة بين تأكيد التفرد إلى أقصاه، وبين حتمية التواصل فالامتداد إلى ما بعد مداه، هى – فى تقديرى- منبع (ومصب) ما يمكن أن يسمى “الأسطورة الذاتية”، على الأقل كما صورها كويلهو فى رحلة “الشاب” فى روايته “السيميائى”.

حين زاد الاهتمام لحقبة من الزمن بما شاع تحت اسم “تحقيق الذات” وكذلك “تأكيد الذات”، تنامت الفردية الذاتية على حساب الانتماء إلى “آخر” من نوعه على ناحية، وإلى الكون على إطلاقه من ناحية أخرى، فراح الفرد ينظم حياته بظاهر القوانين والمواثيق ليؤكد حقه فيما أسماه حرية (وتوابعها وبدائلها وتزييفاتها) بأن يعيش كائنا اجتماعيا سياسيا فى حدود ما اتـُّـفق عليه من نظم معلنة مكتوبة، على أن يمارس بقيته بطريقة سرية: خاصة فى الحلم أو الخرافة، ثم تمادى العالم الغربى والشمالى بوجه خاص فى تبرير هذه “التسوية” بتعظيم بعض المناهج والأبجديات حتى التقديس: من أول “منطق أرسطو” حتى “أصنام حقوق الإنسان” و”ديانات الديمقراطية المكتوبة” و”العلم المؤسساتى” و”الفن المهاراتى” و”التنمية الكمية”، ليكن فهذا مقبول بشكل ما، لكن أى تسوية تصبح خدعة خطيرة إذا طال عمرها عن فاعلية دورها، فترسخت وكأنها الحل النهائى([8]).

استشعارا بهذا الخطر: تسارع سعى المبدعين من البشر، كل فى مجاله، فى محاولة مراجعة المنهج وتطوير الإبداع أملا فى تجاوز خلاق إلى ما يمكن أن يحافظ على تنامى المسيرة البشرية، بدءا من اختراقات المنهج فى مجال العلم فى توجه نحو علم حقيقى أعمق وأشمل وأكثر انفتاحا، إلى تنشيط دور الشعر فى إحياء حركية اللغة وتخليق الوعى إلى غير ذلك، وكان من البديهى وجود ضحايا ومضاعفات، تظهر بعض هذه المضاعفات على المستوى الفردى فيما يسمى الجنون، وعلى المستوى الجماعاتى والجماعى فى تنويعات حروب الإبادة ومفرقعات الإرهاب.

قرأت كويلهو وروايتيه: “السيميائى”، و”فيرونيكا تقرر أن تموت”، من هذا المنطلق. كويلهو شخصيا عاش الرعب من هذا التنميط والميكنة والإملاء، فرفضها جميعا حتى جُـنَ مكررا ودخل (أو أدخل) مستشفى الأمراض العقلية ثلاث مرات، ثم إنه انضم إلى الهيبيز، فالسحرة، وخرج من كل هذا مبدعا بسيطا جميلا متواضعا، وحين أراد أن يسجل بعض ذلك فى سيرته الذاتية لم يكملها ولم ينشرها (وحسنا فعل)، لكنه أثبتها أروع وأعمق وأبسط فى السيميائى، وبدرجة أقل فى: “فيرونيكا”، التى بدت لى أكثر سطحية لا أكثر بساطة، غنى عن البيان أن الكاتب المبدع بحق ليس هو ما يكتب، لكنه ليس إلا ما يكتب، كما أن ما يكتبه ليس إلا هو (نؤجل هذه القضية مؤقتا).

“قال الشيخ: أنا ملك سالم.

فسأله الشاب (سانتياجو) ولماذا يتحدث ملك إلى راع

كان منزعجا وفى أقصى درجات الحيرة

هناك عدة أسباب لذلك، لكن فلنقل أهمها، وهو أنك تمكنت من أن تحقق “أسطورتك الذاتية”

ولم يكن الشاب يعرف ما هى “الأسطورة الذاتية“، واصل الشيخ:

“هى ما تمنيتَ دائما أن تفعله، كل منا يعرف فى مستهل شبابه ما هى أسطورته الشخصية ففى تلك المرحلة من العمر يكون كل شىء واضحا وكل شئ ممكنا….ولكن مع مرور الوقت تبدأ قوة غامضة فى محاولة إثبات أسطورته الذاتية ” ثم “..هى قوى تبدو سيئة، ولكنها فى الواقع تعلمك كيف تحقق أسطورتك الذاتية، فهى التى تشحذ روحك وإرادتك، لأن هناك حقيقة فى هذا العالم، فأيا كنت ومهما كان ما تفعله، فإنك عندما تريد شيئا بإخلاص، تولد هذه الرغبة فى روح العالم، تلك هى رسالتك على الأرض” ثم “… كل الأشياء هى شئ واحد، وعندما ترغب فى شئ، يتآمر العالم كله ليسمح لك بتحقيق رغبتك”.

هذه البديهية التى أعلنها فى السيميائى الشيخ “ملك سالم” منذ البداية ظلت تلح على الشاب، لم يعد الكاتب يذكر بطله باسم سنتياجوا بعد ذلك، بل ظل يكنيه بأنه “الشاب”، اللهم إلا فى الخاتمة التى نقتطفها كما يلى:

“كان اسمه سنتياجوا ووصل إلى الكنيسة المهجورة بينما كان الليل على وشك أن يحل..” وبعد إغفاءة راح يسترجع رحلته، ثم راح يحفر تحت شجرة الجميز التى تترعرع فى موضع الهيكل، ثم يستأنف الحفر فيجد الكنز (فى نفس الموقع الأول الذى شهد حكيه لحلمه أصل كل هذا الترحال).

فلماذا كان كل ما كان و كنزه تحت قدميه من البداية؟

وماذا لو أن الساحر العجوز كان قد دله على ذلك؟

سمع الريح تجيبه: ” لا، فلو أنى أخبرتك لما رأيت الأهرام، وهى آية فى الروعة، ألا ترى ذلك؟”.

لكن كويلهو ينهى الخاتمة، فالرواية، بأن تأتى الشاب الريح الشرقية من أفريقيا (لم تكن تحمل ريح الصحراء، ولا التهديد بغزو مغربى)، كانت تحمل عطرا يعرفه جيدا، وهى قـُبـْلة “من فاطمة” تهادت برقة، بمنتهى الرقة، حتى لمست شفتيه، وابتسم، كانت هى المرة الأولى التى تفعلها”.

 بدت لى هذه النهاية تراجعا بشكل ما، خيل لى أن كويلهو – هكذا- قد وضع الصحراء، والغزو على الطرف الآخر من الرقة والحب، مع أن الصحراء والحرب والتهديد والموت والمخاطرة كانت من أهم معالم الطريق إلى “روح العالم”.

هل هذه النهاية الرقيقة الوديعة هى ما يفسر نهاية رحلة كويلهو شخصيا، حيث: “رجع إلى المعتقدات الكاثوليكية التى آمن بها والداه” (بعد تجربة روحانية عميقة وحادة)؟ مما قد يفسر أيضا نشاطه مؤخرا فى تمويل رعايته للأطفال اللقطاء وكبار السن ..إلخ؟

محفوظ أنهى رحلة قنديل محمد العنابى (ابن فطومة) بعنوان يقول “البداية” (وليس النهاية) مقارنة بعنوان كويلهو “خاتمة” محفوظ، نبه فى هذه “البداية”: كيف أن قنديل يزمع أن يواصل رحلته إلى الجبل الآخر.

 “… ووقفنا أسفله ننظر إلى أعلاه فوجدناه يعلو على السحب ويتحدى الأشواق”.

 تنتهى الرحلة ليتركنا محفوظ وكل واحد فينا يشعر أن عليه أن يواصل رحلته فردا فى الممر الضيق الذى لا يتسع لناقة أو جمل “…وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً”، ثم يخطر خاطر على قنديل: أن يسلم دفتر رحلته “…. إلى صاحب القافلة ليسلمه إلى أمه أو إلى أمين  دار الحكمة ففيه من المشاهد ما يستحق أن يعرف، بل فيه لمحات عن دار الجبل نفسها تبدد بعض مايخيم علينا من ظلمات، وتحرك الخيال لتصور ما لم يعرف منها بعد” (ربما مما ليس كمثله شىء).

 وهل فعل محفوظ طوال حياته مبدعا غير ذلك؟

…. محفوظ بدأ رحلته من الوطن، من دار المشرق “الإسلام”، لينتهى إلى ابتغاء وجه الحق تعالى دون تعيين او اغتراب، مرورا بدور الحيرة، فالحلبة، فالأمان، فالغروب. الخوف هو أن يستسهل القارئ أو الناقد ترجمة كل ذلك اختزالا إلى رموز تشير إلى دول شيوعية أو رأسمالية أو شمولية قبلية فالموت أو غير ذلك. ليس من فخر المبدع أو من مهمته، أن يقدم لنا ما نعرف، برموز لا نعرفها ليؤكد ما نعرف (كما أسىء فهم أولاد حارتنا، خيبهم الله)، محفوظ قدم لنا أسطورة قنديل العنابى الذاتية حالة كونها فى جدل مع كل الأنظمة المتاحة على أرض الواقع الآنى، لينتهى وهو يحفزنا أن يحقق كل منا أسطورته الذاتية بكل ما هو متاح، توجها إلى كل ما هو واعد.

عودة إلى كويلهو لأرفض ابتداء بعض ما وصلنى من تعليقات فرحة عن الكيميائى لمجرد أنه ذكر أهرام الجيزة، أو جعل الفيوم مسرحا، أو لما فهمت أنه ترحيب بنظرته الموضوعية الحانية لبعض سلوكيات المسلمين. هذا الموقف أو ذاك هو موقف طيب لكنه لا يمثل الواقع كما جاء على لسان ابن فطومة “ديننا عظيم وحياتنا وثنية”، لا يمكن أن تقارن طبطبة كويلهو على الإسلام والمسلمين بما غاص إليه محفوظ فى عمق إشكالة التعامل مع قضية الوجود الممتد، بدءا بما وجدنا أنفسنا فيه مسلمين. كويلهو كان مثل سائح أمين يرانا بكرم واحترام، لكن محفوظ راح يضعنا – مسلمين – فى بؤرة أسئلة الوجود، ربما لهذا انتهى كويلهو كاثوليكيا طيبا، وما زال محفوظ وهو يقترب من المائة، يكدح إلى ربنا كدحا ليلاقيه، وكلاهما يدعونا أن نسعى إلى تحقيق أسطورتنا الذاتية (وليس مجرد تحقيق ذواتنا كما يشاع) كل بطريقته.

محفوظ، فى ابن فطومة، تحمل مسئوولية الحيرة الوجودية التى انتهى إليها الإنسان المعاصر، ولم يحلّها بهذا الحل السحرى الذى يفرح به أهل الغرب أكثر منا، فى حين نتمادى نحن فيه حتى الخرافة. لو أن محفوظ كان هو كاتب السيميائى وهو فى موقعه مسلما بيننا هنا والآن، إذن لاختفت كل إيجابيات الرواية تحت عنوان الترويج للخرافة وللإيمان بالجان … إلخ.

كويهلو – وهو ابن قومه – راح يقرص أذن ناسه حتى لا يذهب أى منهم بعيدا عن أسطورته الذاتيه، مهما بدت سحرا أو لاحت غامضة، ربما لهذا انتشرت الرواية عندهم.

أما محفوظ فهو يدعو قومه أن يتحمل كل واحد منهم مسؤولية أسطورته الذاتية وهو يبحث كيف يحافظ عليها جدلا مع مختلف الجارى على أرض الواقع الداخلى والخارجى على حد سواء.

فشل تشكيل الأسطورة الذاتية:

بقيت كلمة أخيرة حول مضاعفات فشل تحقيق الأسطورة الذاتية، نوجزها كما يلى:

ماذا لو قبل الواحد منا هذا التحدى بقبول أسطورته الذاتية، ثم تخلـّت روح العالم عنه، ولم تتآمر لتحقيقها، وفى نفس الوقت لم يعرف كيف يتعامل مع تلك القوى الغامضة التى تعمل على إنكارها؟

الجواب عاشه كويلهو شخصيا (وهو ما سبقت الإشارة إليه عن مرضه) كما صوره فى روايته “فيرونيكا تقرر أن تموت” الجواب هو: إن إجهاض هذه المحاولة قد يترتب عليه ليس فقط العدول عنها، وإنما التفسخ أمام زخم حركيتها المتناثرة، أو الانسحاب بعيدا عن المواجهة: فهو الجنون.

لا أعرج إلى جنون كويلهو فأنا لا أعرف عنه شيئا، وهو لا يعيبه أصلا، أكتفى بالوقوف عند جنون فيرونيكا، حيث قدم كويلهو رؤيته للجنون باعتباره تعبيرا رائعا عن رفض النمطية والتكرار واللامعنى (مثل بداية الشاب سنتياجو أيضا)، وفى حين انهزمت فيرونيكا، ولو مرحليا‘ فإن سنتياجو الشاب فى السيميائى عملها وانتصر، كما أن فيرونيكا نفسها انتصرت فى النهاية حتى على مرضها الجسدى تماما مثلما انتصر كويلهو شخصيا فى حياته الخاصة.

المفهوم الذى قدمه كويلهو هكذا هو مفهوم جيد للجنون، لكنه ليس كل الجنون، فثم جنون أخطر وأعمق صوره زوسكيند فى العطر([9]) (مثلا) حين غاص حتى نخاع الدَّنا DNA منذ الولادة، وهو يعلن الانفصال الحاسم عن هارمونية الكون كله، وليس فقط عن البشر فرادى وجماعات، هذا الانفصال عن الكون كله هو الذى يحيل الكيان البشرى نيزكا غريبا دائرا فى فلكه الخاص بما يمثل الجنون المتأله القاتل، كما صوره زوسكيند فى رحلة باتيست جرينوى، فى العطر، ربما كان هذا المستوى من الجنون فى عمق ورعب خطورته هو ما يقابل على أقصى الجانب الإيجابى له: ذلك الوجود الرائع الواعد الذى يدعونا محفوظ لمواصلة السعى إليه.

فى حين يظل جنون فيرونيكا هو الوجه السلبى الذى يقابل رحلة الشاب سنتياجو الناجحة!

وبعد

إن ما وصلنى من كل ذلك هو ما أردت الإشارة إليه لتعميق فكرة أننا إنما نعالج مَرْضَانا بمَا “هو نحن” سواء كان نظرية درسناها  أو حفظناها، أم نتائج علمية صدقناها وطبقناها كما هى، أم جماع ما هو نحن من أيديولوجيات، وطبقات الوعى التى تحمل تاريخنا وتاريخ الحياة المتجسد فيما هو الأسطورة الذاتية لكل منا: مختلفا، متفاعلا، متجادلا، ومبدعا على مسار نموّنا: مرضى ومعالجين.

[1] – اعتبرت الأيديولوجيا العلمية “ضلالا” عند البعض مثل روبرت شيلدراك

The Science Delusion Freeing the Spirit of Enquiry, Rupert Sheldrake, First published in Great Britain in 2012 by Coronet, An imprint of Hodder & Stoughton, An Hachette UK company.

وقد نشر الكتاب بعنوان آخر فى أمريكا هو  العلم يتحرر

 “Science Set Free” ( 4 September 2012) 

[2]– لا يوجد خطأ مطبعى.

[3] – يحيى الرخاوى. (1990) آفاق وخداعات حول تصنيف وتسمية الأمراض النفسية. الجزء الأول: اختراق النظام التشخيصى السائد. المجلة العربية للطب النفسى 1: 81-92 (إفتتاحية).

– يحيى الرخاوى. (1990) “فى تصنيف الأمراض النفسية: “تعدد الأبعاد وجها لوجه أمام تعدد المحاور”. إفتتاحية  المجلة العربية للطب النفسى.

[4] – وبديهى أنه ليس “الدبرشـَنْ” ولا هبوط “المودْ”.

[5]– يمكنك الرجوع إلى مقال: “مخاطر الترجمة‏ ‏بين‏ ‏تسطيح‏ ‏الوعى ‏واختزال‏ ‏المعرفة” قضايا فكرية  الكتاب السابع  والثامن عشر – مايو  1997 فى موقعى  www.rakhawy.net، بل إلى أرجوزة كتبتها للأطفال أدافع عن “الحق فى الحزن” قلت فيها:

حزنى مش زن وشحاته وصُـعْـبَانِـيَّـهْ,.. حزنى حقى لمّا تغمرنى الأسيــّـة

حزنى بيفجــّر مشاعري: إللى هيـَّـا

هما شايفين أنى لازم أبقى دائم الابتسام!….، يبقى كده أنا فى السليم كله تمام

كل ما أضحك أبقى أشطر؟!!

طب وأنا بالشكل ده ازاى راح أكبر..؟؟

[6] – وسوف نتناول بعض ذلك فى ملحق مستقل عن بعض المدارس فى نهاية هذا العمل

[7] –  قارن الكاتب ضمن نشاطه فى النقد الأدبى الأسطورة الذاتية وما هو أيديولوجيا شخصية : بين سعى كويلهو، فى روايته “السيميائى” وكدْح محفوظ” فى روايته “ابن فطومة” وظهر هذا النقد فى دورية محفوظ النقدية “الأسطورة الذاتية بعنوان : بين سعى كويلهو، وكدْح محفوظ” العدد الثانى: من ديسمبر 2009، المجلس الأعلى للثقافة.  www.rakhawy.net

[8] –  تماما مثلما يحدث على أرض فلسطين أو فى فكر فوكوياما وهو يعلن نهاية التاريخ.

[9] –  رواية: “العطر.. قصة قاتل” تأليف: باتريك زوسكيند، ترجمة: د. نبيل الحفار – الناشر دار المدى للنشر  سنة 1997- دمشق.

الفصل الثالث: حالة إعاقة أيديولوجية (من العلاج الجمعى)

الفصل الثالث: حالة إعاقة أيديولوجية (من العلاج الجمعى)

الفصل الثالث:

حالة إعاقة “أيديولوجية”!!!

(من العلاج الجمعى)

من‏ ‏أصعب‏ ‏ما‏ ‏يواجه‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏أن‏ ‏يعالج‏ “‏أصحاب‏ ‏المبادىء‏ ‏الثابتة‏”، ليس مهما أن تكون المبادئ سليمة، أو صحيحة، أو أصح، ولكن الصعوبة تأتى من أنها ثابتة، والمتابع لقراءاتى فى مواقف ومخاطبات مولانا النفرى وحوارى معه – فى موقعى كل ثلاثاء([1]) – وهو يعلمنا خطورة العلم المستقر، وأيضا خطورة الجهل المستقر، لابد أن يكون قد بلغته خطورة هذا الاستقرار الجاثم على حركية نمونا، “إليه”، الجاثم بالعلم أو بالجهل فما بالك بالفكر المستقر، والنظرية المستقرة التى هى مرادفة للأيديولوجيا.

إن ما يهمنا هنا هو ذلك الإنسان المريض الذى جاء يعانى لأنه قد سبق له أن تورط – بوعى أو بغير وعى – فى تقديس مبادئ ثابتة بقوة التاريخ، أو النقل، أو الترهيب أو الترغيب أو “أى تقديس” لأية منظومة مستقرة، ثم نكتشف أن هذه المبادئ قد استعملها صاحبنا كدفاعات يتماسك بها حتى راحت تحمى تماسكه الشخصى بنجاح ذاتىّ محدود، كآلية دفاعية ثابتة أو متكررة أساسا، أكثر منها كموقف أو كمذهب عام قابل للاختبار سعيا إلى إقامة العدل وتحريك التطور على أرض الواقع لكل الناس؟ هذا الشخص كان، غالبا وما زال، يستعمل الأيديولوجيا تماما كما يستعمل شخص متدين الدين المؤسسى، ليس لتسهيل رحلته إلى الإيمان كدحا إلى وجه الحق، وإنما يستعمله ليستقر فى موقعه بعيدا عن حركية نموه التى هى موازية   -غالبا- لما أسماه كارل يونج: تجربة الرب، هنا يصبح الدين آلية دفاعية Mechanism تماما مثلما تصبح الأيديولوجية الاشتراكية المغلقة آلية دفاعية، وطالما نجحت هذه الآلية هنا أو هناك من قبل أن يمرض صاحبها، أو دون أن يمرض أصلا فليس للطب النفسى ولا العلاج النفسى حق حتى فى مجرد نقدها فى ذاتها، إنما ينشأ الإشكال حين يأتى صاحب هذه الآلية (فى الدين الجامد أو الأيديولوجى المقدسة)، ويعانى نفسيا، فيجد الطبيب نفسه مضطرا إلى التلميح أن هذه الآلية التى قامت بالواجب فيما قبل المرض، معرضة للفحص والنقد وإعادة النظر أثناء العلاج، مثل أية آلية أخرى.

 هنا يقفز عامل آخر، وهو ما ألمحنا إليه فى مواقع كثيرة. هذا العامل هو: ماذا عن أيديولوجية المعالج نفسه؟ وكيف يمكن أن تكون عاملا فاعلا بعلمه أو بغير علمه فى مسيرة العلاج؟ وهل يمكن أن يزعم المعالج أنه محايد فى حين أن داخل داخله قد يحكم على أيديولوجية مريضه بالزيف أو بالفشل أو بالعبث أو بالاغتراب أو بغير ذلك؟

فى أغلب البلاد المتقدمة يـُتـَجنب هذا الحرج حين يمتنع الطبيب – بنفسه أو بالعرف أو بالقانون – أن يسأل مريضه عن دينه أو عن توجهه السياسى، وكأن مجرد تجهيل هذه المنطقة عند المريض، مع تصور الطبيب أنه أخفاها أيضا بالنسبة لنفسه (إيش أدراه؟) يمكن أن يصبح العلاج أكثر موضوعية، طبعا هذا كلام يحتاج للمناقشة([2])

إذن ما العمل؟

ليس عندى اهتمام مباشر بالعمل السياسى، وإن كنت سياسيا رغم أنفى – مثل أى شخص يعيش فى مجتمع تـُنـَظـِّمه سلطة ما: تدير أمور ناس مختلفين، ليحققوا تعاونا جماعيا فى اتجاهٍ ما –  تقفز لى هذه القضية بشكل شخصى حين اضطر، ولو بينى وبين نفسى: أن أتساءل عن موقعى الشخصى من هذا المذهب السياسى أو ذاك، وأيضا عن موقفى من هذا النوع من التدين أو ذاك، وهى قضية تحتد حين أواجـَه بمريض صاحب مذهب واضح محدد، أو صاحب أسلوب فى التدين راسخ جامد ثم يأتى يسألنى النصح، فيقفز لى خاطر – وأنا متردد- أنه لو كان على صواب فى مذهبه هذا أو فى طريقة تدينه، لـَمـَا مَـرِض، ولما جاء يستشيرنى – وهكذا أسأل نفسى بشكل مباشر أو غير مباشر أين مذهبه مما حدث له، وأين أنا من هذا المذهب؟

 لا يجوز أن يجرى الأمر كذلك، وفى هذه الحالة (حين أضبط نفسى متلبسا بهذا الموقف)، أتصور أننى كان يمكن أن أعفى نفسى من هذا الحرج بأن أدّعى الحياد، لكننى عادة لا أستطيع فأتقدم خطوة لأعامل هذا الموقف الأيديولوجى الجامد أو طريقة التدين المستقرة بلا حراك، أعامل هذا أو ذاك باعتباره ميكانزم معرض للاهتزاز مثل أى ميكانزم، وهكذا تبعد القضية عن منافشة المحتوى (مضمون الأيديولوجى، أو مضمون طريقة التدين) إلى العمل على إنجاح أىٍّ منهما كما كان ناجحا فى الحفاظ على تماسك صاحب أيهما متوازنا غير مريض، وقد أضطر اضطرارا إلى فتح باب إعادة النظر فى محتوى تقديسه إذا ثبت أنه عامل معوق لاستعادة توازنه فصحـّته أملا فى إطلاق مسيرة نموه، وهو نفس ما نلجأ إليه فى التعامل مع أى ميكانزم.

هناك بـُـعد آخر ينبغى وضعه فى الاعتبار بشأن مثل هذا المريض، قبل وبعد تعلقه بمنظومته الدفاعية: أيديولوجية حديثه كانت أو دينا، ذلك أن بعض هؤلاء المرضى الذين يحضرون للعلاج يعلنون أن ما ألمّ بهم من مرض أو إعاقة إنما يرجع إلى تدهور قيم المجتمع عامة، والظلم السائد فيه، والاغتراب الغالب عليه، والبعد عن المبادئ السليمة، التى هى مبادئهم جدا، وكذا وكيت، وكأن الحل ليس فى أن يشفوا هم، حتى يستطيعوا أن يواصلوا تغيير ما يعترضون عليه بالثورة أو الإبداع أو الإصلاح أو أى دور يرتضونه، بل إن بعضهم يلح على الطبيب أن يفهم أنه لن ينصلح حال مرضه، ولن يشفى إلا إذا انصلح حال المجتمع، وكأنه بذلك يبلغ الطبيب ضمنا أن مهمته – حتى يشفيه – هى أن يُصلح حال المجتمع، ويقيم العدل، وربما يعيد توزيع الأرزاق، طبعا المريض لا يقول هذا بالألفاظ، ولكنه يحيل أية معاناة إلى مثل هذه الأسباب ويلقيها فى وجه الطبيب وينتظر.

 فى كثير من هذه الحالات لاحظتُ كيف ‏‏تحل‏ ‏المناداة‏ ‏بالمبادىء‏ ‏المثالية،‏ ‏سماوية‏ ‏كانت‏ ‏أم‏ ‏أرضية‏، ‏محل‏ ‏الحياة‏ ‏الواقعية‏ ‏اليومية‏، ‏وفى خبرتى تبدو‏ ‏المبادىء‏ ‏التقدمية‏ ‏أو الاشتراكية أو اليسارية‏ ‏أكثر‏ ‏إغراء‏‏ ‏من‏ ‏غيرها‏، فكنت كثيرا ما أتبين أن‏ ‏المناداة‏ ‏بهذه‏ ‏المبادىء بكل هذا الحماس، وبكل هذا الكلام، فى الموقف العلاجى، يكاد يكون نوعا من إعلان ضمنى بعدم الالتزام بالمشاركة فى تحقيقها، وبرغم ذلك، فقد لاحظت من بعض أصحاب هذه المبادئ أنهم أحيانا يحضرون وعندهم تصور عن أيديولجية أو دين المعالج (من مقال قرأوه للمعالج، أو حديث سمعوه منه، أو شاهدوه فى التلفاز أو خبر تناقلوه …إلخ)، وحين يكتشف الواحد منهم أن المعالج ليس كما تصور (ليس اشتراكيا، ليس مستشيخا، ليس مثاليا …إلخ) تهتز ثقته به إن وجده لا يتفق مع توجهه، وقد يتراجع، أو قد يواصل متحديا تنويريا مرشدا أحيانا، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر أحيانا أخرى، وما لم يأخذ المعالج حذره بأن المسألة العلاجية قد تنقلب إلى مناقشات سياسية أو اقتصادية أو فقهية، تضيع معالم المهمة العلاجية، وتبهت محكات قياس التقدم فى العلاج.

لاحظت فى ‏العلاج‏ ‏الجمعى ‏بوجه خاص ‏أن‏ ‏أكثر‏ ‏أفراد‏ ‏العلاج‏ ‏اغترابا عن التفاعل النشط فى ‏”‏’‏هنا‏’ ‏و‏’‏الآن‏'” ‏هم‏ ‏الجاهزون‏ ‏بهذه‏ ‏الأفيشات‏ ‏البراقة‏، ‏وحين‏ ‏كنت‏ ‏أصر‏ ‏أن‏ ‏أجذب‏ ‏بعضهم‏ ‏إلى “‏اللحظة‏ ‏الراهنة‏”، ‏كان‏ ‏الواحد‏ ‏منهم‏ ‏يكاد‏ ‏يطلق‏ ‏عدوانه‏ ‏بلا‏ ‏هوادة‏ ‏احتجاجا‏ ‏على “‏رجعيتى”، ‏وقد يشك فى ‏محاولة‏ ‏غسيلى ‏لمخه لأخلع عنه أيديولوجيته.. ‏الخ” ‏وبالتالى ‏قد يتردد فى وضع الثقة، أو حتى فى استمرار العلاج احتجاجا‏ ‏على ‏بعدى ‏عن‏ ‏التعاليم‏ ‏المقدسة‏ (أيديولوجيا أو دينيا) ‏التى ‏يؤمن‏ ‏هو‏ ‏بها‏”..، وقد يشترك مريض أو أكثر- خاصة فى العلاج الجمعى- فى نفس الأيديولوجيا (من قبل أن يحضروا العلاج أو أثناء فترة العلاج)، وهنا يدعم  دفاع أحدهما الآخر فتظهر ظاهرة التزاوج Pairing  التى وصفها بيون   Bion  ‏كإحدى الافتراضات الأساسية Basic Assumption فى العلاج الجمعى.

وكما‏ ‏يستغرق‏ ‏الشخص‏ ‏الرأسمالى فى ‏جمع‏ ‏المال‏، ‏ويكتمل‏ ‏اغترابه‏ ‏حين‏ ‏ينسى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المال‏ ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏وسيلة‏ ‏لتحقيق‏ ‏فرص أوسع لحركية نموه، ‏وإطلاق‏ ‏حيويته،‏ ‏وتأمين‏ ‏وجوده‏.. ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏اكتساب‏ ‏حرية‏ ‏داخلية آملا أن‏ ‏تعقبها‏ ‏فاعلية‏ ‏الإبداع‏ ‏والعطاء‏، ‏كذلك‏ ‏فإن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏ “المبادئى كلاما” قد ‏يستغرق‏ ‏فى تكريس‏ ‏الأفكار‏ ‏والمبادىء‏ ‏وتسلسل‏ ‏المنطق‏ ‏والدفاع‏ ‏النظرى عن أيديولوجيته ‏ليحقق الانتصار‏ “النقاشى‏”، ‏فيكتمل‏ ‏اغترابه‏ ‏بالابتعاد‏ ‏المنظم‏ ‏عن‏ ‏ذاته‏ ‏وعن‏ ‏أرض‏ ‏الواقع‏ ‏الفردى ‏وعن‏ ‏مواجهة‏ ‏مشاكل‏ ‏الوجود الجماعى‏ ‏فى ‏نطاقها‏ ‏الحى، كل هذا قد يكون مقبولا ومفيدا فى مجال آخر غير مجال العلاج، لكن متى ما احتاج الأمر إلى طلب المشورة والمساعدة النفسية المهنية، بما فى ذلك من إعلان اهتزاز هذه الحيلة الأيديولوجية الدفاعية، فإن الحسابات تختلف، والمنهج يختلف، والمحكات تختلف.

‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أسائل‏ ‏نفسى ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏السكينة‏ ‏الظاهرية‏ ‏التى ‏يتحلى ‏بها‏ ‏بعض‏ ‏أصحاب‏ ‏هذه‏ ‏الآراء‏ ‏ووجدتها‏ ‏أحيانا‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏اللامبالاة‏ ‏نتيجة‏ “لتصور ‏” ‏حل‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏بمجرد‏ ‏الحديث‏ ‏عنه‏ .. أو إعلان أن “كذا هو الحل” (سواء كان هذا الـ “كذا” هو كلمة الإسلام – أو الديمقراطية – أو الاشتراكية – أو الثورة – أو التنوير ..الخ)، ليكن، ‏ولكن‏ الأمور لابد أن تختلف ‏حين‏ ‏تظهر‏ ‏أعراض‏ ‏المرض حيث قد تفرض‏ ‏المراجعة نفسها مع ظهور المرض أو أثناء العلاج‏ .. ‏وما‏ ‏يكاد‏ ‏التغيير‏ ‏يعرض‏ ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏خلال‏ إحياء حركية ‏الاختبار‏ ‏اليومى عبر ‏المواجهة‏ ‏العلاجية‏ ‏حتى ‏تبدأ‏ ‏وظيفة‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏تتعرى، ويلوح أمل فى العودة إلى إطلاق حركية النمو لمن يواصل فيغامر بمخاطرة الفحص فالنقد فالتغير أو التطوير، بمواكبة المعالج الذى يواصل دوره العلاجى مع كل فرد على حده، وفى نفس الوقت مع المجموعة ككل وأيضا مع نفسه طول الوقت.

الأيديولوجيا والحرية:

معالم توضيحية أخيرة بها بعض الإعادة:

  • إن الأيديولوجيا على كل مستوياتها هىقيد “جيد نسبياً” على الحرية،
  • إذا كانت الحرية الحقيقية هى المجال الذى يستعيد فيه المريض فرص نموه، ومن ثم فرص شفائه، فلا بد أن يكون هو هو نفس المجال الذى يمكن أن يخطو فيه المعالج خطوات نموه،إنسانا، وحرفيا، وناقدا، ومبدعا، وعالما عارفاً.
  • تتناسب صلابة الأيديولوجيا (الداخلية خاصة)تناسبا عكسيا مع الحرية المتاحة للمريض والمعالج على حد سواء.
  • إن المهرب من مواجهة جرعة الحرية الضرورية لاستمرارية حركية النمو هو مهرب جيد ومشروع، لكنه عادة غير مطروح بهذه البساطة فهو يتستر وراء صلابة الأيديولوجيا.
  • إن الحذر واجب من الاستسلام لأيديولوجيات تـُفرض علينا من خارج ثقافتنا حتى لو كانت بلغة علمية (سلطوية) أو لغة علمية مالية (شركات دوائية) أو حتى بلغة مذهبية سياسية أو دينية.
  • إن تناول “مسألة الحرية “تنظيرا أو مناقشة” لا يفيد كثيرا فى توسيع دائرة الحرية للمريض أو للطبيب معا.
  • إن ممارسة العلاج من منظور نمائى (تطورى) قد يعلـِّمنا أكثر فأكثر ضبط جرعة الحرية البناءة للمريض والمعالج على حد سواء.
  • إن الحرية كقيمة ساكنة ليست شرطا للتمتع بالصحة النفسية، بل قد تكون العكس إذا اصبح الحديث عنها هو بديل عن ممارستها، حتى تكاد تنقلب إلى أيديولوجيا خفية (تحت شعار مثل: الحرية هى الحل، قياسا على “الديمقراطية هى الحل” أو حتى “الإسلام هو الحل”).
  • إن قوانين حركية النمو، وبالذات الإيقاع الحيوى، والجدل الخالقى، وبرامج الدخول والخروج المفتوحة النهاية، هى الأوْلى بأن تكون دعائم ما هو حرية مطلوبة للممارسة الطبنفسية البناءة للمريض والمعالج على حد سواء.
  • إن تنظيم المهنة وما يسمى حقوق الإنسان أو حقوق المريض أو حتى حقوق الطبيب أوالمعالج عاجزة عن أن تحتوى كل أبعاد ومستويات الحرية الحقيقية لكل من المريض والطبيب (المعالج) مهما بلغت دقتها، ولمع بريقها، ومهما أفادت فى تصور إمكانية تطبيقها إلا على مستوى التنظيم الظاهرى للتعاملات السلوكية المختزلة.
  • إن الحرية الحقيقية التى تتم من خلال التعاقدات العرفية المتعددة المستويات، المختبرة بالنتائج الإمبريقية لنفع كل من المريض والطبيب على حد سواء ينبغى وضعها فى الاعتبار آملين أن نجد لها تنظيما عمليا يقننها فى وقت لاحق من تطور العلم والقانون والمعرفة والإبداع الإيمانى.
  • إن المسألة صعبة جدا جدا.

وبعد

أعرض فيما يلى  تصويرا ساخر ناقدا لمأزق حالة “تشنج أيديولوجى”

مقتطف من العلاج الجمعى (شعرا بالعامية المصرية) ([3])

لهذه القصيدة حكاية، فقد صدرت فى الطبعة الأولى لديوانى بالعامية المصرية “أغوار النفس” باسم “شـَبَه الإنساUntitledن” (فى 166 كلمة)، ثم جرى تحديث محدود بعد ذلك، لم ينشر (غالبا)، ثم  تحديث أخير وأنا أعدها لأضمنها فى هذا العمل الذى لا يريد أن يستقر على منهج، فإذا بها تصل إلى ما وصلت إليه.

سوف أكتفى اليوم بتقديم المقدمة، ثم القصيدة بعد تحديثها

المقدمة وباعث القصيدة:

حين كتبت هذه القصيدة فى صورتها الأولى سنة 1974، لم يكن الاتحاد السوفيتى قد تفكك بعد (حدث ذلك التفكك فى 26 ديسمبر 1991)، ولم يكن فوكوياما قد أعلن بفرحة خائبة موت التاريخ، كان ما يشغلنى آنذاك – مثلما هو الآن- هو “موت الإنسان” (زعم البنيوية الحديثة أساسا) من حيث أنه حركة ووعى وتاريخ، وكان ما بلغنى من الممارسة الخاطئة للفكر الاشتراكى (وليس من حركية هذا الفكر البسيطة والبديهية والواقعية والممكنة) أن التاريخ توقف عندما فعله من قلبوه أيديولوجية جامدة، مع أن المفروض أن الفكرة الاشتراكية فى عمق أصالتها، هى ضد فكرة الأيديولوجيا أصلا، شعرت أن حركية الفكر خمدت عند من زعم امتلاك حق احتكار تطبيق العدل، وممارسة الحرية،  فما بالك عن مـَنْ تبعهم – منّا– مقلدين ممن لم  يستوعبوها أصلا، ولم يعرفوا عنها إلا ما شاع عنها، أو ما بلغهم من ظاهر تطبيقها وسفه منفذيها.

الإشكالة فى العلاج النفسى:

هذه قضية سياسية لسنا فى موقع مناقشتها، وإن كانت القصيدة تبدو سياسية فى المقام الأول، خاصة بعد تحديثها، إلا أن ما يهمنا هنا هو ذلك الإنسان المريض الذى جاء يعانى وقد سبق أن تورط فى تقديس هذه المبادئ التى هى أصلا ضد “أى تقديس”، ثم نكتشف أن هذه المبادئ قد استعملها صاحبنا وراح يتمسك بها حين قامت بحمايته شخصيا، كآلية دفاعية أساسا، أكثر منها كموقف أو كمذهب عام قابل للاختبار سعيا إلى إقامة العدل وتحريك التطور على أرض الواقع لكل الناس؟ هذا الشخص كان – غالبا–  يستعمل هذه الأيديولوجيا تماما كما يستعمل شخص متدين الدين الرسمى، ليس لتسهيل توصيله إلى الإيمان كدحا إلى وجه الحق، وإنما يستعمله ليستقر فى موقعه بعيدا عن حركية نموه (مرة أخرى: التى هى موازية – غالبا – لما أسماه كارل يونج : تجربة الرب)، هنا يصبح الدين آلية دفاعية تماما مثلما تصبح الأيديولوجية الاشتراكية المغلقة آلية دفاعية.

 حين يأتى صاحب هذه الآلية (فى الدين الجامد أو الأيديولوجى المقدس)، ويعانى نفسيا، يجد الطبيب – خاصة الذى يمارس العلاج نقدا للنص البشرى- يجد نفسه مضطرا إلى التلميح إلى أن هذه الآلية التى قامت بالواجب فيما قبل المرض، معرضة للفحص والنقد وإعادة النظر، مثل أية آلية أخرى، وهذا هو ما حدث فخرجت هذه القصيدة :

القصيدة لا تتناول طبعا تفاصيل هذا الموقف العلاجى بشكل مباشر، أو حتى غير مباشر، بل الأرجح أن هذا الموقف قد أثار فى شخصى تحديات اضطررت معها أن أعلن رأيى الذى يبدو نقدا سياسيا بشكل أو بآخر، وخاصة حين عرجت القصيدة إلى تناول بعض تاريخ الثورة، وشعارات الاشتراكية بدون اشتراكية، والكبت السياسى، والقهر السلطوى، وغسيل المخ، والافتقار إلى الأمان وغير ذلك، أكتفى اليوم هنا بنشر المتن([4])

‏(1)‏

شـِدّوا‏ ‏الستايرْ‏،

‏كعب‏ ‏داير‏ْ،‏

وْخيوطها‏ ‏من‏ ‏ليف‏ ‏الضلامْ‏،‏

والنــصْبة‏ ‏كانت‏ ‏مش‏ ‏كما‏ ‏الواجب‏،‏

‏                             ‏ولا‏ ‏قدّ‏ ‏المقام‏،‏

‏ ‏وكإن‏ ‏مولانا‏ ‏ما‏ ‏كانشـى‏  ‏يوم‏ْْ ‏إِمام‏ْْ.‏

(2)‏

كان‏ ‏بودى ‏ما‏ ‏شوْفشى ‏إن‏ ‏الحارة‏ ‏ســدّ.

كان بودى ينجحوا، لكن بجدّ

كان‏ ‏بودّى ‏أَصَدّق‏ ‏انّ‏ ‏العْدلْ‏ ‏ُُمُمكن‏ْْ.‏

كان بودىّ، كان بودىّ!!، قلت: “يمكنْ‏”.‏

‏(3)‏

جه‏ ‏صاحِبْنا‏ ‏يشتكى من نور بصيرتهْ

‏قام‏ ‏مِرَاجِعْ‏ ‏كُــــل‏ ‏سيرتهْ‏،‏

اتوجَعْ‏، ‏لكنُّـهْ‏ ‏كمِّل‏ْ، ‏

حتى لو خُرّاجُه عمِّلْ ‏:‏

 (4)‏

‏ ‏التعلب‏، ‏فات‏ ‏فاتْ‏،‏

وفْ‏ ‏راســُهْ‏، ‏أيْـدُولُوجِـيَّـاتْ‏.‏

والثورة‏: ‏شوية‏ ‏كلمَاتْ‏،‏

ورجالها‏َ: ‏لابْسين‏ ‏باشوات‏، ‏

بيحكـُّوا ويقولوا شعارات

 (5)‏

‏”‏فى ‏الواقعْ‏ْ: ‏إن‏ ‏الواقع‏ْْ، ‏واقع‏ْْ ‏جداً‏،”‏

والبنى ‏آدم‏ ‏يادوبْ‏: ‏مـادّة‏ْْ ‏ْوْتَاِريخ‏ْْ، ‏

والتاريخ‏ ‏عـَــرْكَةْ‏ ‏اللِّى ‏فاز‏ ‏فيها‏ ‏بيْركَبْ‏.‏

‏ ‏يطلع‏ ‏المـنْـبَـرْ‏ ‏ويخطُبْ :‏

إلعيال‏ ‏الشغالين‏ ‏هُمَّا‏ ‏اللِّى ‏فيُهمْ‏،‏

‏ ‏باسُمُهم‏ْْ ‏نـِـْلَعْن‏ ‏أبو‏ ‏اللِّى ‏خلّفوهـُمْ

‏”‏باسْمُهُم‏ْْ ‏كل‏ ‏الحاجات‏ ‏تِبْقى ‏أليسْطَا

والنسا‏ ‏تِلبسْ‏ ‏باطِيسْـطَا

والرجال‏ ‏يتحجّـُبوا‏، ‏عامِلْ‏ ‏وأُسْطَىَ‏”.‏

 (6)‏

يعنى ‏كل‏ ‏الناس‏، ‏عُمُومْ‏ ‏الشعب‏ ‏يَعْنِى:‏

لمْ ‏لا‏‏بد‏ ‏إنه‏ ‏بيتغذّى ‏لِحَد‏ّ ‏ما‏ ‏بَطْنُه‏ ‏تِشْبَـْع‏. ‏

وامّا‏ ‏يِشْبَعْ‏ ‏يِبْقى ‏لازِمْ‏ ‏إنُّه‏ ‏يسْمَعْ‏.‏

‏ ‏وان‏ ‏لَقَى ‏سمَعُه‏ ‏ياعينىِ ‏مِشْ‏ ‏تمام‏ْْ،

                ‏يِبْقَى يسجد بعد ما يوطّى و‏يِرْكَعْ.‏

                بَسّ‏ ‏يلزَقْ‏ ‏ودنه‏ ‏عَالْأَرضِ‏ ‏كـِـوَيِّسْ‏،‏

‏ ‏وان‏ْ ‏سِمِعِ‏ ‏حاجَةْ‏ ‏تِزَيَّقْ‏،

‏تبقى ‏جَزْمة‏ ‏حَضْرِة‏ْ ‏الأخ‏ ‏اللِّى عـيّن‏ْ ‏نَفُسُه‏ْ “‏رَيّسْ”‏، ‏

لاجْلِ‏ ‏ما‏ ‏يْعَوَّض‏ ‏لنَاِ‏ ‏حرمَانْ‏ ‏زمَانْ‏… ‏إمّالِ‏ ‏ايِهْ‏؟

واللِّى ‏يشبْع‏ ‏مِنكُو‏ ‏أكل‏ ‏وشُـوفْ‏،‏ركوعْ‏، ‏سمَعَانْ‏ ‏كلامْ‏،‏

يِقَدْر‏ ‏يـِنَامْ‏: ‏……، مُطْمَئِن‏ْ،

 ‏أو‏ ‏ساعات‏ ‏يقدر‏ ‏يِفِـنْ‏.‏

واللى ‏ما‏ ‏يسمعشى ‏يبقى ‏مُخّهُ‏ ‏فوِّتْ‏،

                  ‏أو‏ ‏غراب‏ ‏على ‏عِشُّه‏ْ ‏زَنْ‏.‏

 (7)‏

والحاجات‏ ‏دى ‏حلوة‏ ‏خالص‏ ‏بس‏ ‏إوعـَكْ‏ ‏تِسْتَـمَنّـى ‏إنك‏ ‏تقيسها‏،‏

أَصْلَهَا‏ ‏خْصُوصِى، ‏ومحـْطوطَة‏ْ ‏فى ‏كيسْها‏.‏

وانت‏ ‏بس‏ ‏تنفـــَّـذ‏ ‏الحتّة‏ ‏اللِّى ‏بَـظّــتْ‏ (‏يعنى ‏بانِتْ‏).‏

إنت‏ ‏حُـرّ  ‏‏فْ كل‏ ‏حاجة‏، ‏إلآ‏ ‏إنك‏ ‏تبقى ‏حر‏.‏

‏(‏لأ‏ْْ، ‏دى ‏مش‏ ‏زَلِّـــةْ‏ ‏قَلـَمْ‏، ‏ولا‏ ‏هِيّةْ‏ ‏هفوةْ‏، ‏

مش‏ ‏ضرورى ‏تـِتـْفَهمْ‏، ‏لكن‏ ‏مـُفيَدةْ‏، ‏

زى ‏تفكيكةْ ‏”‏داريدا‏”).‏

يعنى ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏يا‏ ‏حبة‏ ‏عينى ‏ممكن‏ ‏تبقى ‏حرة‏ْ.‏

                           حرة‏ ‏كما‏ ‏وُلدوا‏ ‏وأكْتَرْ‏،‏

يعنى ‏بلبوص‏ ‏حر‏ ‏خالص‏، ‏بس‏ ‏ما‏ ‏ينطقشى ‏كِلْمهْ‏،‏

‏….. ‏يِتخدش‏ ‏بيها‏ ‏حياءْ ‏حامى ‏البلاد‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏غُمّـهْ‏ْ،‏

ما‏ ‏هو‏ ‏مولانا‏ ‏رأى ‏الرأى ‏اللى ‏ينفع‏، ‏

الحكومة‏ ‏تقول‏، ‏يقوم‏ ‏الكل‏ ‏يسمــعْ.‏

واللى ‏عايز‏ ‏أمر‏ ‏تانى، ‏ينتبه‏ ‏للأوّلانى.‏

مش‏ ‏حا‏ ‏تفرقْ‏. ‏قول‏ ‏يا‏ ‏باسط‏ْْ.‏

‏ ‏والوثائق‏ ‏فى ‏المعانى، ‏والمعانى ‏فى الأوانى ‏ ‏.

والأوانى فى المباني، والمبانى شكل تانى!!‏

‏(‏برضه‏ ‏تفكيكة‏ ‏داريدا‏، ‏تبقى ‏هاصِتْ).‏

 (8)‏

الدنيا‏ ‏دى ‏طول‏ ‏عمرها‏ ‏تدّى ‏اللى ‏يـِغـْلبْ‏: ‏

‏                                   سيف‏ ‏ومطوةْ

واللى ‏مغلوب‏ ‏يـنـضرب‏ ‏فوق‏ ‏القفا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏خطوةْ

أصل‏ ‏باين‏ ‏إن‏ “‏داروين‏” ‏كان‏ ‏ناويلْهَا‏:‏

إن‏ ‏أصحاب‏ ‏العروشْ‏.

‏ويَّا‏ ‏أصحاب‏ ‏الفضيلةْ‏، ‏

يعملولْنا‏ ‏جنس‏ ‏تانى‏: ‏جنس‏ ‏أحسنْ‏. ‏

إسمُه‏ُُ: “‏إنسانٌ مُحَسَّنْ‏، ‏

واللى ‏يفضل‏ ‏منّا‏ ‏إحنا؟

‏ ‏مش‏ ‏مهمْ‏. ‏

إحنا‏ ‏برضه‏ ‏لسّة‏ ‏من‏ ‏جنس‏ ‏البشرْ‏.

                                ..‏القديم‏ْْ.‏

يعنى “‏حيوانٌ‏ ‏بـِيِنْـطَـق‏ْْ”، ‏

مش‏ ‏كفاية‏؟؟

ليه‏ ‏بقى ‏عايز‏ ‏يقلِّبْ‏، ‏ولاّ‏ ‏يفهمْ‏؟

هوّا‏ ‏إيهْ ؟‏!!

هيـَّا ‏سايبةْ ؟‏‏!!

يعنى ‏إيه‏ ‏الكل‏ ‏يفهم‏ ؟!!!!‏ ‏

مش‏ْ ‏ضرورِى، ‏

‏ ‏يِكفى ‏إنه‏ ‏يقرا‏ “‏ميثاق‏” ‏السعادة‏ْ،‏

‏واللى ‏صَعْب‏ ‏عليه‏ ‏حايلقى ‏شَرْحُه‏ُُ ‏فِى ‏خُطَبِ‏ ‏القيادهْ‏.‏

واللى ‏لسّة‏ ‏برضه‏ ‏مش‏ ‏فاهم‏ ‏يُـحاكَـــْم‏.‏

وانْ‏ ‏ثَبَت‏ْْ ‏إنه‏ ‏برئْ:

 ‏يتــْـَرَزْع‏ ‏نوطِ‏ “‏العَبَطْ‏”‏

وانْ‏ ‏ثَبت‏ْْ ‏إنه‏ ‏بِيِفْهَمْ‏:

 ‏يبقى ‏من‏ ‏أَهْل‏ ‏اللَّبَط‏ْ.‏

‏”‏يعنى ‏إيـــه….‏؟؟!!‏” ‏

زى ‏واحد‏ ‏ناسى ‏ساعْتُهْ‏. ‏

يعنىِ ‏نِـفسُه‏ْ ‏فِـى ‏حاجاتٍ، ‏مِشْ‏ ‏بِتَاْعتُه

‏                     “‏زى ‏إيه‏؟‏” ‏

(9)‏

زى ‏واحد‏ ‏جه‏ ‏فى ‏مخه‏-‏ لا‏ ‏مؤاخدة‏ – ‏يعيش‏ ‏كويّس‏ْْ.‏

‏”‏برضه‏ ‏عيب‏” ‏

هو‏ ‏يعنى ‏ناقْصُه‏ْْ ‏حَاجَةْ‏؟‏ ‏!!

قال‏ ‏يا‏ ‏أُمّى، ‏والنبى ‏تـِـدْعـِـيـلـْـنـَـا إحنا‏ ‏والرئيسْ‏،‏

ربنا‏ ‏يبارك‏ ‏فى ‏مجهودنا‏ ‏يكتّــر‏ ‏فى ‏الفلوسْ‏.‏

بس‏ ‏لو‏ ‏نعرف‏ ‏معاهم‏ ‏قدّ‏ ‏إيه‏، ‏واحنا‏ ‏لينا‏ ‏كامْ‏ ‏فى ‏إيهْ‏!‏

‏(10)‏

“‏آدى ‏أَخْرِة‏ْْ ‏فَهْـمَـك‏ ‏اللِّى ‏مالُوش‏ْْ ‏مُنَاسْبَة‏ْْ.‏

‏ ‏طبْ‏ ‏خُــدوه‏ْْ، ‏وضّــبوهْ‏،‏

واحكُموا‏ ‏بالعدْل‏ ‏يعنى: ‏إعْدلوهْ

تُهمتُه‏ْ ‏ترويج‏ “‏شفافـيِّهْ‏” ‏مُعاصْرهْ

(هذا‏ ‏ملعوبُ‏ ‏الخَواجهْ‏) ‏

وان‏ ‏رمِينَا‏ ‏الكومِى ‏برضـُهْ، ‏تبقَى ‏بَصرةْ‏.‏

‏”‏الكلاْم‏ ‏دا‏ ‏مِشْ‏ ‏بتاعْنَا‏،‏

دَشّ ‏ماْ‏ ‏لهُوْش‏ ‏أى ‏معنى‏”

تُهمتُهْ‏ ‏التانية‏ “‏البجاحه‏”‏

واحنا‏ ‏فى ‏عِـز‏ّ ‏الصراحهْ،‏

واللى ‏عايز‏ ‏غير‏ ‏ما‏ ‏يُـنشـرْ‏،‏

‏ ‏هوّه‏ ‏حر‏ّّ ‏انه‏ “‏يـفكـرْ‏”،‏

‏ ‏فى ‏اللى ‏عايزُه‏ْْ.‏

أو‏ ‏يشوفُه‏ْ ‏جوّا‏ ‏حلمـه‏،‏

‏ ‏وان‏ ‏حكاه‏ْْ ‏يحكيه‏ ‏لأُمُّــه‏ْ،‏

وانْ‏ ‏أخد‏ ‏بالُـه‏ ‏وقاُلْه‏ ‏مُـوَطِّى ‏حِسُّه‏ْ،‏

‏ ‏مستحيل‏ ‏حد‏ّ ‏يِمسُّهْ‏.‏

(11)‏

قالّها‏ ‏يا‏ ‏مّهْ‏ ‏أنا‏ ‏شفت‏ ‏الليلادِى:‏

إنى ‏ماشى ‏فى ‏المعادِى‏. ‏

شفت‏ ‏نفسى ‏باخترعْ‏ ‏نظريَّةْ‏ ‏موضَـهْ‏،‏

زى ‏ساكنْ‏ ‏فى ‏المقابرْ‏ ‏يبنى ‏قصر‏ ‏ألف‏ ‏أُوضهْ:‏

‏”‏والعواطف‏ ‏أصبحت‏ ‏مـِلْك‏ ‏الحكومةْ‏، ‏

والحكومة‏ ‏حلوة‏ ‏خالص‏.‏

عبّـت‏ ‏الحب‏ ‏الأمومى، ‏والحنانْ‏،‏

جوّا‏ ‏أكياس‏ ‏المطالْبة‏َ ‏بالسَّلاَم‏ْ،‏

والطوابير‏ ‏اللى ‏كانت‏ ‏طولها‏ ‏كيلو‏، ‏

اختفت‏ ‏ما‏ ‏عادتشى ‏نافعة‏.‏

‏”‏أصلنا‏ ‏شطـبنا‏ ‏بيع‏ ‏وبلاش‏ ‏مِلاَوْعة‏ “‏

واللِّى ‏طَالُهْ‏ ‏من‏ ‏رضا‏ ‏الريّس‏ ‏نصيب‏ْْ:‏ ‏فازْ‏، ‏وقّــلــَّــعْ‏.‏

واللى ‏لسّه‏ ‏ما‏ ‏جاشِـى ‏دوره‏. ‏بات‏ ‏مولــَّــع‏.‏

قام‏ ‏سعادة‏ ‏البيه‏ ‏قايـلْ‏ ‏لُـهْ‏: “‏تعالى ‏بكُرَه‏”‏

‏[‏درس‏ ‏مش‏ ‏عايز‏ ‏مذاكرة‏”]‏

وْرُحت‏ ‏صاحِى‏.‏      ‏

(12)‏

‏ ‏قالُوا‏ ‏إن‏ْ ‏أكْرَمْتُوا‏ ‏ميِّـــتكُو‏ ‏ادْفِنُوه‏.‏

دا‏ ‏القبر‏ ‏رخامْ‏،‏

والنقش‏ ‏عليه‏ ‏آخر‏ ‏موضَةْ‏، ‏خلاّله‏ ‏مقامْ‏،‏

واللى ‏دَفَنُوه‏ْ، ‏سَوَا‏ ‏من‏ ‏مُـدَّة‏،

 ‏نِسْـيُوا‏ ‏المرحوم‏ْ ‏كان‏ ‏مين‏.‏

أَتِاريه‏ْْ ‏كان‏ ‏شَبَه‏ ‏الإنْسَانْ‏.‏

[1] – أنظر نشرات “حوار مع مولانا النفرى”  الأسبوعية بموقع المؤلف  www.rakhawy.net

[2] – تناولناها فى موقع آخر: أنظر نشرة 12/2/2008 (“صعوبة الحياد وضرورته  فى العلاج النفسى “والحياة”) بموقع المؤلف www.rakhawy.net

[3]– هذا المقتطف من كتاب “فقة العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثانى: “هل العلاج النفسى مكملة؟ اللوحة السادسة “قبر رخام”، ص111، جمعية الطب النفسى التطورى، 2018

[4] – لمن شاء : الشرح على المتن صدر فى كتابى فقه العلاقات البشرية (2)  (عبر ديوان “أغوار النفس”) هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ اللوحة السادسة: (6) قبر‏ ‏رخـام، منشورات جمعية الطب النفسى، 2018

الفصل الرابع: الطب النفسى السلبى والطب النفسى الإيجابى

الفصل الرابع: الطب النفسى السلبى والطب النفسى الإيجابى

الفصل الرابع:

الطب النفسى السلبى

 والطب النفسى الإيجابى

 مقدمة:

 تصادف وأنا أعد هذا الفصل أن كلفت من قبل رئيس قسم الطب النفسى، قصر العينى، تلميذتى  المحبة للعلم، البالغة الرقة والمهارة والحصافة أ.د. عزة البكرى، أن أسهم بمحاضرة افتتاحية فى مؤتمر القسم السنوى المزمع إقامته فى القسم وعنوانه “الطبنفسى الإيجابى“، فرحت بالاسم وتصورت أنه أخيرا بدأ الحديث عن الطبنفسى الذى أحاول أن أدعم ممارسته فى هذا القسم العريق الذى تربيت فيه، ومازلت أشعر أننى مدين له ولما يمثله بقية حياتى. شـَمـَّرت عن ساعدى، وبريْتُ قلمى، واستعنت بالله واستعددت، وقلت لنفسى: هكذا أستطيع بالأصالة عن نفسى والنيابة عن زملائى أن أعلن كيف أن هذا القسم الذى نشأت فيه وهو الذى فضله علىّ بأن أتاح لى أن أسدد بعض دينى وهو يحاول ويحاول أن يقدم الطبنفسى من منطلق ما يميز ثقافتنا المصرية العربية الإيمانية بوجه خاص، ومازالت المحاولة مستمرة.

حين غمرتنى كل هذه الأفكار فرحت بها وفرحت لها وأنا أتصور أن أ.د. عزة حين اختارت هذا العنوان تعنى كل ذلك تحديدا، لأننى أعرف مدى انتمائها لهذا القسم وما يمثله، وكانت رسالتها للدكتوره عن “دور الاكتئاب والعدوان فى العلاج الجمعى”([1]) ومتى يكون هذا أو ذاك سلبيا ومتى يكون إيجابيا، وكيف يعلن عن مأزق التغير([2]) وكيف يمكن أن ينقلب السلبى إلى إيجابى أثناء ممارسة هذا العلاج الجمعى، وقد كنت – مع أ.د. عماد حمدى غز([3]) – مشرفا على تلك الرسالة، وحين تولت أ.د. عزة رئاسة القسم  واقترحت هذا العنوان لأول مؤتمر سنوى تتولى رئاسته: اطمأننت – من العنوان- إلى ما تبقى عندها مما يميز هذا القسم، بل وهذا العلاج الجمعى خاصة، وقد كنت أناقشها منذ أسابيع بعد أن أصبحت رئيسة القسم فى عدم انتظام بعض الأطباء المقيمين الذين يتدربون معى على العلاج الجمعى، فإذا بها تنزعج وتتأسف، وتقول: يا خبر!! كيف سيصبحون أطباء نفسيين وهذا هو الطبنفسى على حقيقته!!

اطمأننت وزادنى ذلك حماسا أن تكون مشاركتى فى مؤتمر القسم هذا العام هى الرد الأشمل إكمالا للنقد الذى أوردته فى محاضرتى الافتتاحية للمؤتمر الدولى الثانى عشر الذى عقده قسم الأمراض النفسية فى جامعة الاسكندرية قبل عامين آنذاك بعنوان “الطبنفسى التـُّرْجـَمِى”([4]) كان مقالى الافتتاحى فيه هو شجب هذا المفهوم تماما، وعرض ما يناقضه بل ربما ينفيه، حيث يوصى هذا الطبنفسى التـُّرْجـَمِى أن تكون الممارسة من المعمل إلى السرير([5])، فكانت ورقتى بعنوان: “العلم المعرفى العصبى من الممارسة إلى البحث العلمى”([6] أنظر بعد.

الطب النفسى السلبى:

ثم إنه قد خطر لى قبل أن أذهب لاستشارة عمنا جوجل عن أصل وحدود هذا المصطلح المسمى “الطبنفسى الإيجابى”، خطر لى خاطر قلت أعايشه أولا قبل استشارة المراجع المتاحة ، وفحوى هذا الخاطر يقول:

إذا كان هناك ما يسمى الطبنفسى الإيجابى وأنا لا أعرف له بعد تعريفا محددا([7]) فلابد أن هناك ما يسمى الطبنفسى السلبى، وبالتالى يصبح معنى الطبنفسى الإيجابى هو أنه “عكس” ما هو الطبنفسى السلبى أو على الأقل “ما ليس” هو الطبنفسى السلبى، هكذا تدفقت علىّ أفكار وتذكرت خبرات وحضرتنى انتقادات بلا حصر لم تحتج منى إلى استشارة عمنا جوجل ابتداءً، ولا صاحبة الفضل والكرامات موسوعة: ويكيبيديا.

قلت أتداعى من خلال خبرتى أولا فأعدد ما أتصوّر أنه الطبنفسى السلبى، وإذا بصور سلبيات الممارسة الطبنفسية تنهال علىّ كما يلى:

 (1) الطبنفسى التصنيفى

 (2) الطبنفسى الكيميائى

 (3) الطبنفسى التحليلى

(4) الطبنفسى التبريرى/ التفسيرى/التأويل:

 (5) الطبنفسى السياسى: ويوجد منه نوعان:

أ- النوع الأول: الطبنفسى السياسى (الإعلانى/ الإعلامى).

ب- النوع الثانى: الطبنفسى السياسى القهرى السلطوى.

(6) الطبنفسى التحفُّـظِى

(7) الطبنفسى الاسترزاقى

(8) الطبنفسى الترجمى

(9) الطبنفسى التسكينى

(10) الطبنفسى المستورد

(11) الطب النفسى المثالى

وفيما يلى نبذة موجزة عن كلًّ:

(1) الطبنفسى التصنيفى:

وأعنى به ممارسة الطبنفسى بطريقة تقليدية بتسلسل محكم كالتالى: “مرض” => تشخيص (حسب دليل محدد) ==> ثم سبب ذلك (ما أمكن  ذلك) ثم ==> وصفة طبية دوائية لهذا المرض تحديدا حتى ==> اختفاء (أو أمل فى اختفاء) الأعراض بصفة عامة.

 هذه هى الممارسة التقليدية التى يتم الإعداد لها بالتدريب والتعليم والتسميع والتطبيق (حتى إجازة الشهادات العليا والمتوسطة) بالحث على اتقان مهمة التشخيص بجمع جزئيات ما يعانى منه المريض من أعراض، ثم تصنيفه حسب الدليل المُجَدْوَل!!، ويتوالى التدريس والتدريب لشحذ هذه المهارة بطريق مباشر وغير مباشر، ثم يجرى التقدير حتى الحصول على الدرجة (الشهادة) على مدى نجاح ما يلم به الدارس، أو يتخصص به المستشار (الطبى) وهمه الأول هو وضع اللافتة الصحيحة على صدر المريض.

وتسرى عدوى هذا الموقف إلى المريض، وبدرجة أكبر وأكثر: إلى أهله، ويصبح السؤال “هوّا عنده إيه“؟ أهم من السؤال “طب نعمل إيه” عشرات المرات.

وبالرغم من أن التنبيه الذى لا أكف عن ترديده للتحذير من أن التشخيص ليس هو كل شىء، أو ليس هو غاية المراد، وبالرغم من ان من يمارس هذا النوع لا بمانع من قبول هذا التحذير من حيث المبدأ إلا أن واقع الحال يشكك فى عمق وجدوى هذه الموافقة.

وبمجرد وصول هذا الطبيب إلى التشخيص الأرجح ينتقل التساؤل المنطقى إلى البحث عن سبب هذا المرض المصنـَّـف بتلك اللافتة التشخيصية، وتتوقف الإجابة على هذا التساؤل على مرجعية الطبيب العلمية والمعلوماتية، كما تتواتر استجابات الأهل (أكثر من المريض عادة)، وبشكل حاسم أنه مادام التشخيص كذا إذن فالعلاج كيت، ومهما نفى الطبيب أن تتصف ممارسته بهذه المباشرة الاختزالية، فبقليل من التأمل سيكتشف أن هذا هو ما يمارسه فعلا، فهو يمارس ما أنجحه فى الامتحان وحصل به على شهادته ثم تميز به فى تخصصه، وهو عادة لا يستطيع إلا أن يطبق ما تعلم بحسن نية، وهو حريص على حقوق ومشاعر المريض وأهله غالبا.

ويمكن أن ينتمى إلى هذا الطب ما يسمى “الطب النفسى الدليلى“Manualized Psychiatry إشارة إلى أن تسلسل الفحص فالتوصيف فالتشخيص يعتمد فيه على “دليل” تصنيفى متفق عليه: وطنى أو عالمىّ([8])، وهذا الدليل يقدم كل أنواع الأمراض النفسية بشكل منظم يدعم بالمحكات المحددة التى تجمع كل تشخيص فى توصيف “جامع مانع” ما أمكن ذلك.

وقد استقر الرأى فى تقييم قيمة هذه الدلالئل وما فيها من تشخيصات أنها تسهم فى تحقيق ما يسمى ثبات التشخيص أى Reliability أى الاتفاق بين الممارسين على تسمية المرض المتميز بالمحكات الفلانية بالاسم الفلانى، لكن قيمتها شديدة التواضع فى تقديم مصداقية لاستعمال هذا التشخيص بما فيه معناه وموضوعه وتوجـّـهاته وقيمته وباختصار جدواه فى الممارسة وهو ما يسمى “المصداقية” Validity  فما فائدة أن نتفق على الاسم ونحن لم نتفق على كل أبعاد وأعماق المضمون؟

على أن كل ذلك لا ينبغى أن يبرر الدعوة إلى إهمال التشخيص تماما أو التقليل من قيمة الأعراض، لأن لهذا وذاك وظائف أخرى شديدة الأهمية مثل المسح الإحصائى وحقوق المريض من شركات التأمين، والطب النفسى الشرعى، وكل متطلبات الإدارة والأرشيف بصفة عامة.

وأحيانا يسمى هذا الاتجاه التقليدى باسم النموذج الطبى Medical Model واحتراما لفكرة هذا النموذج الطبى رأيت أن أضيف إليه بعض ما يوسع دائرة القياس، وقد قدمت فى ذلك فروضا نشر موجز لها منذ سنوات([9]) ومن أمثلة ما استعرته من أجهزة الجسم الاخرى ما يلى :

  • استعرت نبضات القلب نموذجا للإيقاع الحيوى الذى يمثل اختلاله عندى أسسا نفسمراضية شديدة الأهمية، ودعوت للتعامل مع المخ وهو يعيد بناء نفسه من خلال هذا الإيقاعحيوى ليلا ونهارا([10]). فى الصحة والمرض.
  • ثم أيضا استعرت نموذج طب الجهاز الهضمىGIT  بما فى ذلك التمثيل الغذائى([11]) لأشرح من خلاله عملية تناول (إدخال) المعلومات ثم هضمها وتمثلها وتفعيلها([12])   (أو فعلنتها Processing)
  • وأخيرا قياسا على ظاهرة محدودة من طب العظام وجراحته استعرت فكرة أن الكسر لا يلتئم كما كان تماما أبدا، إنما يكون أقوى برغم عدم انتظام التركيب، وأحيانا يصبح أكثر عرضه للكسر أو الخلع إذا كان المرض مثل خلع مفصل الكتف المتكرر أى القابل للنكسة (تكرار الخلع) ([13])

وخلصت من هذا الفرض بتوصية أن على من يفضل أن يمارس الطبنفسى “النموذج الطبى” أن يأخذ فى الاعتبار أصل مفهوم الممارسة الطبيبة تاريخا وإنسانيا، وألا يقتصر على استعارته نماذج من فروع الطب التى لا تصلح نموذجا لممارسة الطبنفسى بالذات مثل([14]) طب الأمراض العصبيةNeurology  الذى يعتمد أساسا على تحديد “موقع” تشريحى بذاته للخلل الفلانى، أو نموذج طب الغدد الصماء Endocrinology الذى يتركز فى تصحيح، للنقص أو الزيادة فى افراز الهرمونات.

ثم إنه يمكن للطبيب أيضا أن يستلهم تاريخ الطب من أول أبو قراط وحتى آخر منجزات العلوم الأحدث وخاصة العلوم الحاسوبية والكوانتيــَّــة إذا ظل يفضل الانتماء إلى النموذج الطبى الأشمل.

ونؤكد أن هذا ليس رفضا للتداوى بالعقاقير ولكنه تحذير من اختزال المرض النفسى إلى نقص فى هذه المادة فى الموقع العصبى الفلانى أو زيادتها للموصِّل المشتبكى العلانى، وأنا دائما أكرر أنه لولا استعمالى الانتقائى للعقاقير بكل إقدام وثقة فيها، لما مارست العلاج النفسى خاصة للذهانيين، ولا عرفت ما عرفت عن النفسمراضية (السيكوباثولوجية) فب العلاج النفسى وغيره بالطول والعرض.

(2) الطبنفسى الكيميائى (العلمى!):

 وهو الطب الذى يختزل المرض إلى تصور عن أصله الكيميائى المشتبكى عادة ([15]) وبالتالى تصبح مهمة هذا الطبَّ هى تصحيح هذا الخلل الكيميائى، فإذا كان السبب هو زيادة فى مادة “كذا” فالعلاج هو معادلة هذه المادة بما يبطل مفعول هذه الزيادة أو ينقصها حتى تعود إلى مستواها الطبيعى  إن أمكن ذلك.

ويتخفى هذا النوع من الطبنفسى كثيرا تحت أسماء أخرى غير “الطبنفسى الترجمى” مثل “النموذج البيولوجى”Biological Medel ، وقد يخفون طبيعته تحت أسماء “حركية” تخفى حقيقته أكثر حين يطلق عليه اسم “النموذج الطبى” كما ذكرنا فى محاولة إلحاقه بقافلة الطب العام وفروعه الراسخة(!) ولأن الاسم هو اسم حركى فهو يسمح لممارس هذا الطب الاختزالى أن يقتنع أنه إنما يمارس طبا مثل كل الطبوب، وهو بهذا لا يعرف – غالبا– أنه إنما يشارك بذلك فيما آلت إليه معظم ممارسة الطب الأحدث باعتباره علما مُـحـْكمـَاً وليس باعتباره تطبيقا حِرَفيًّا فنيا لكل العلم والمعلومات والخبرة المتاحة([16])، ولا يكتشف الممارس (والمريض أحيانا)، ما وراء هذا الاسم الحركى، وأنه انتقى من الطب أبعد أنواعه عن فن اللأم ومهارة الدعم وإبداع النقد، وأنه يتمادى فى تبنى ما يمكن أن يسمى الطب السلطوى المدعم بسلطة المال وشركات التأمين وشركات الأدوية والمحامين، وللأسف يقتصر القياس فى هذه الممارسة على فروع من الطب أبعد ما تكون عن طبيعة المرض النفسى والطبنفسى مثل طب الحميات (مكروب ==> مرض ==> مضاد حيوى ==> شفاء) أو الطب الكمّى كما أشرنا([17]) مثل طب الغدد الصماء، زيادة هرمون كذا أو نقص هرمون كيت ثم كما ذكرنا أيضا، معالجة ذلك بتثبيط مصدر الزيادة أو بتعويض النقص مستحضرات دوائية.

(3) الطب النفسى التحليلى التعليلى:

 وهو ذلك النوع من التطبيب الذى يؤمن بالتحليل النفسى أساسا (الفرويدى عادة)، والذى لم يعد يمارس بتقنياته التقليدية إلا نادراً: من أول التداعى الحر([18]) حتى تحليل الأحلام وحل الطرح([19]) وإنما يمارس بواسطة الكثيرين ممن لم يتعمقوا فيه: بكثير من المبالغة بالبحث عن السبب، وهو ما يسمونه هم – أو المرضى –  باسم “عقدة” عادة، وعن ما حل بالمريض وخاصة فى تاريخه الباكر (الطفولة والشباب) وإلى درجة أقل من الاهتمام بالظروف الضاغطة المحيطة والأحداث الكائنة المستمرة، وهذا التوجه يغذيه الشائع عند العامة وفى المسلسلات وفى الإعلام غالبا من أن سبب المرض النفسى هو عُقّدُ الطفولة، والنمو الجنسى غير السوى وما إلى ذلك،

 وتكثر أسئلة الإعلاميين للأطباء عن التحليل النفسى للأحداث والزعماء حتى للأسوياء، حتى عن بعد، ومن معالم هذا التطبيب (أو التحليل) هو الترحيب بفكرة التنفيث أو التفريغ (و”أطلـّع اللىّ جـّوايا”)، بدرجة تطغى على فكرة العقد النفسية الكامنة والظاهرة ثم التركيز على ماذا يمكن فِعْلُهَ بعد كل هذا، وهذا ما عبرتُ عنه مرارا بأنه قد آن الأوان أن يحل سؤال “إذن ماذا”؟ محل السؤال عن “لماذا”، دون إغفال ما يمكن الاستفادة منه فى تقرير الممكن الآن، وأن نهتم تبعا لذلك بتركيز أكبر على ما إذا كان السبب مازال قائما، وهو ما نسميه العوامل المـُـدِيِمة Perpetuating Factors أى التى تعمل على أن يدوم المرض، وخاصة فى الحالات المسماة الذهان المشترك Shared Insanity،([20]) وتزداد أهمية البحث فى مثل هذه الأسباب حين يكون السبب الحاضر غير قابل للإزالة إلا بإجراءات تأهيلية حاسمة.

 (4) الطب النفسى التبريرى (التأويلى/التفسيرى!):

إذا تمادى التركيز على التعليل والحرص على الإسراع بتفسير الأعراض بأسباب فى الماضى ورحنا ننحو باللائمة على ظروف خارجه عن مشاركة المريض فى إحداث المرض، فإن المسألة قد تنقلب من التفسير والتأويل والتعليل إلى التبرير (من جانب المريض وربما أهله، وإلى درجة أقل من جانب الطبيب)، هنا يجرى إعطاء أسباب ظاهرة أو مروية ليست بالضرورة هى الأسباب الحقيقية لما أصاب المريض، وبالتالى يسهم مثل هذا التبرير فى دعم ما يسمى المكسب الثانوى للمرض Secondary gain، ويختلف التبرير عن التفسير فى أنه يبالغ فى تفسير المرض والإعاقة بربطها بمسببات تنتهى إلى أن تصبح أعذارا ليس فقط لتفسير ظهور المرض، ولكن ربما للتمادى فيه بدون قصد  من الطبيب غالبا، فيـُثبـّت العرض أو المرض أكثر من أنه يسهم فى إزالته.

 وهنا يقع الطبيب – غالبا بغير قصد – فى احتمال أن يستعمله مريض باضطراب الشخصية أو ما شابه، ليبرر من خلال تبريراته أو تفسيراته بعض انحرافاته التى يصفها عادة بأنها “غصبا عنه”، وبمجرد أن يطمئن إلى أن الطبيب وافق على أنه يعانى من مرض ما، فإنه يقفز فى لاشعوره (أو شعوره) أنه “ليس على المريض حرج”، وأن ما يقوم به هو تماما نتيجة للمرض، ويكون الطبيب عادة غير منتمٍ لفكرة أن المرض (حتى الذهان) هو اختيار أعمق (اختيارا لاشعوريا عادة) وهكذا يحقق صاحب اضطراب الشخصية – مثلاً- غرضه بتعليق لافتة تشخيصية على ما يأتيه من سلوكيات منحرفة، وكأن الطبيب – دون أن يدرى عادة – قد يعطى للمريض عذرا ظاهرا أو خفيا للاستمرار فى هذه السلوكيات (لأنه مريض!!) وما لم ينتبه الطبيب كيف يستعمله مثل هذا المريض، فإنه يكاد يصبح مشاركا فيما يقترفه.

 (5) الطب النفسى السياسى:

 ويوجد نوعان من الطب النفسى يطلق على أى منهما هذا المصطلح وكلاهما  يعتبران من الممارسات السلبية للمهنة بشكل أو بآخر، وفيما يلى نفصل ذلك:

(5/أ) الطب النفسى السياسى الإعلامى:

وهنا يقوم الطبيب النفسى  بالتطوع أو بالاستجابة لما يطلب منه من تفسيرات نفسية، أو تحليلات نفسية لهذه الظاهرة السياسة البحتة أو تلك، وأيضا كثيرا ما يطلب منه تحليل شخصيات سياسية، قيادية عادة، وقد يـُستدرج إلى استعمال لغة طبية تصل إلى حد التشخيص لمجاميع من الشعب (أو حتى للشعب كله) فى فتاواه السياسية، وقد كثرت هذه الظاهرة من جانب معظم الإعلاميين الذين كثيرا ما يصرون على السؤال عن “التفسير النفسى” أو “التحليل النفسى” لهذه الظاهرة فى السياسة أو لتلك الشخصية السياسية([21])، وبرغم ما فى هذا التوجه من احتمالات بعض الصواب إلا أنه لا ينبغى أن يُستعمل إلا بحذر شديد، لأن الطب النفسى فى النهاية هو طب يعالج مرضى بعد أن يحصل منهم على معلومات تفصيلية شاملة ومباشرة، ومعظم هذه الممارسات تستعمل لغة طبنفسية وتشخيصات مرضية هى اجتهادات أبسط ما توصف به أنها هواية محدودة المصداقية أو فروض تحتاج إلى تصديق.

(5/ب) الطب النفسى السياسى القهرى السلطوى:

وهذا نوع من استعمال الطبيب والطب بواسطة سلطة قاهرة طاغية حاكمة، لقهر معارضيها وبإصدار أحكام نفسية تحرمهم من التمتع بحقوقهم فى الحرية والتعبير والمشاركة، وقد شاع مثل ذلك عبر التاريخ بشكل مباشر، وأيضا حديثا بشكل أقل مباشرة، وكثير من الأطباء الذين يشاركون فى مثل ذلك لا يدركون أن مسئوليتهم لا تقتصر فقط على سوء استعمال علمهم وفتواهم فى قمع الحريات وظلم الناس، وإنما أيضا فى الإسهام فى تمادى الطغاة فى طغيانهم وقهر الناس.

 (6) الطب النفسى التحفظى الذاتى:

وهو نوع الطب النفسى الذى تقوم فيه سلطات خارجة عن المهنة الطبية الأصلية (وأحيانا عن المسئولية الحقيقية) بالتدخل بين الطبيب والمريض فى فرض إجراءات تفاصيل تبدو مساعدة المريض، كما ينبغى، من وجهة نظر خارج الممارسة الطبية، وهو الطب الذى يمارَسُ غالبا فى البلاد التى تسمى متقدمة والتى تتدخل فيها سلطات غير طبية: قانونية أو تأمينية أو تجارية استثمارية أو ميثاقية شبه إنسانية، وهنا يصبح الهم الأول للطبيب هو حماية نفسه وتأمين إجراءاته من المساءلة، ثم يأتى فى المقام التالى علاج المريض، وهكذا يجد الطبيب نفسه يسير بخطوات لا يحكمها وعيه وإيمانه وعلمه ومعرفته وأمانته وبصيرته وخبرته فى المقام الأول، وإنما تحكمها أولا: العناية بملء الأوراق الرسمية وتسديد الخانات وتسجيل التحفظات، وبرغم ما يبدو فى ذلك من مظاهر تٌـعـَدُّ ضمن الحفاظ على حقوق المريض، وأن هذا يبدو مطلوبا من حيث المبدأ، إلا أنها كثيرا ما تقلب الطبيب إلى مُنفِّدٌ لمنظومة من خارجه أكثر من ممارسٍ لقدراته ومهاراته وفنه حسب إخلاصه لضميره وحسابه على ربه، واحترامه لأصول مهنته لصالح مريضه، وهذا – كما قلنا– هو ما يجرى غالبا فى البلاد المسماة بالمتقدمة، أما ما زال يجرى بعرفٍ طـَيـّب فى بعض البلاد التى توصف بأنها أقل تقدما (أو متخلفة) فإن الوعى العام والوعى المهنى والوعى الأخلاقى والوعى الإيمانى فى تجلياتها الإيجابية قد يسمح بتوثيق التواصل بين الطبيب والمريض عبر الوعى البينشخصى أو الوعى الجمعى أو الوعى الإيمانى بل عبر كل ذلك معا، مما لا يمكن أن يوصف أو يسجل فى الأوراق، وهكذا تتوثق العلاقة الإيجابية الإبداعية بين الطبيب والمريض – بحذر شديد – لصالح الاثنين معا، دون أن يحول التحفظ الشخصى والحرص على سلامة الطبيب على حساب الإخلاص اللازم لمعونة مريضه بما يتفق مع علمه، ويؤكد إنسانيتهما معا، ويرضى الله.

 (7) الطب النفسى الاسترزاقى:

 السعى للرزق ليس عيبا وليس ظاهرة سلبية، بل إنه من أهم علامات ما هو صحة وما هو شرف الوجود أحيانا، فمن حق الطبيب النفسى أن يكسب من ممارسة مهنته، لكن إذا كان الكسب من ممارسة المهنة أمرا طبيعا،([22]) فإن التنبية واجبٌ حتى لا تنقلب المسألة ليصبح الكسب من المهنة هو المهمة الأولى والأخيرة للطبيب مقابل الخدمات التى يقدمها، إن حصل ذلك فلابد أن نعترف أنها ممارسة سلبية، وإن كنت استبعد وأحذر من تعميمها لسبب بسيط: هو أن المكسب على المدى الطويل عادة يرتبط بالنجاح فى أداء المهمة وإتقان الحرفة، ونجاح الطبيب حتى يزيد مكسبه هو أن يشفى مرضاه، فى نفس الوقت الذى يحصل فيه على مقابل عمله وجهده.

(8) الطب النفسى التَّرْجَمى:

هذا الطب الترجمى يركز على ممارسة الطب النفسى بتطبيق معطيات نتائج المعمل على المريض أولا بأول (بالعافية!!!) وأكتفى هنا بإيجاز بعض معالم نقده كما قدمتها فى ذلك المؤتمر السالف الذكر (فى الاسكندرية).

فالطب النفسى التَّرْجَمى هو العملية التى تنقل الاكتشافات العلمية مما “قبل الممارسة الكلينيكية” Pre- Clinical إلى التطبيق الكلينيكى بهدف تحسين محكات الصحة، وبالتالى الإقلال من المرض ومعدلات الوفاة وقد سبق لى نقده بالتفصيل، بادئا بالتنبيه على الحذر من فرط الثقة بكل معطيات المؤسسات ذات اللافتات العلمية التى تمارس العلم المؤسسى باهظ التكلفة، ومحاولة تعرية استعمال العلم لأغراض تجارية تسمى بأسماء علمية، ثم بالتأكيد على أهمية وتاريخية الممارسة الطبية عموما والطبنفسية خصوصا وأنها “من الممارسة إلى البحث العلمى وليست من البحث العلمى إلى الممارسة الكلينيكية، ثم كيف أن الممارسة الكلينيكية هى بحث علمى كامل طول الوقت، قد تحتاج دعما من العلماء الشرفاء حين تقترح عليهم فروضا قابلة للاختبار بأدواتهم العملية والكلينيكية، جنبا إلى جنب مع متابعات الممارسة ونتائجها بكل الطرق اللازمة.

وأخيراً: فإنى أنهيت نقدى بالتذكرة بماهية الطب عامة  “كـَـُفَنّ” من أول قول أبو قراط: “العمر قصير والفن طويل”([23])، وحتى فكرة “نقد النص البشرى“.

وقد خـَـلـُـصت من كل ذلك إلى أن هذا المسمى “الطب التَّرْجَمى”: هو ضد تاريخ الطب كله، وضد تاريخ الطب النفسى خاصة، ولا يدعمه العلم المعرفى العصبى، ولا المدى الذى وصلته البيولوجيا النفسية والعصبية، ولا إسهامات العلوم الكموية (الكوانتية)([24]) وكيف أن المخ يعيد بناء نفسه، طول الوقت، وأخيراً فإن دور الوعى البينشخصى والوعى الجمعى فى العلاج هو أبعد عن البحث العلمى فى المعمل إن لم يكن ضده.

(9) الطب النفسى التسكينى:([25])

وهو المفهوم الشائع عند أغلب الناس (بما فى ذلك المرضى وأهاليهم) حيث يغلب على ظنهم، بل اعتقادهم، أن مهمة الطب النفسى هى “الترييح”، وأنه: “من المفروض يا دكتور إنك تريحنى”، وأنا عادة ما أحتج على مبدأ أن يعلمنى المريض أو أهله ما هو المفروض وما هو ليس مفروضا، ثم أعذرهم وأداعبهم أو أنبههم بلا مداعبة، أن يعيدوا قراءة اللافتة على الباب أو على العمارة فإذا كان المكتوب عليها فلان الفلانى “المريّحَاتى” فأنا تحت أمرهم، أمّا إذا كان المكتوب هو: “الدكتور فلان” فقط، فمهمة الطبيب هو أن يعالج المرضى بالطريقة التى تعلمها ومارسها وجربها وأعانت مرضاه طوال هذه السنين، بما فى ذلك احتمال ألم التغير والنمو، كمرحلة على طريق التعافى والصحة،  وتبدأ علاقة إيجابية أكثر جدوى وأنفع لكلينا.

(10) الطب النفسى المستورد:

(أ) وهو يعنى ممارسة الطب النفسى بقيم “سابقة التجهيز”، مستوردة من ثقافة غير ثقافتنا لأهداف لا تتفق مع طبيعة قيمنا، من أول الحرص على الحرية المزعومة، حتى خدعة المواثيق “المكتوبة” “جامعة” “مانعة” لما هى حقوق الإنسان المُـحْـتَكَرَة، أو “نوعية حياة مجتمع الرفاهية” دون النظر إلى الفروق الثقافية ولا إلى اختلافاتنا عنهم فى حقيقة وموضوعية امتداد دوائر الوعى: من الوعى الشخصى إلى الوعى البينشخصى إلى الوعى الجمعى إلى الوعى الجماعى إلى الوعى المطلق إلى الغيب، إليه، كل هذا بالنسبة لثقافتنا هى حقائق يومية موضوعية تسهم بفاعلية فى الشفاء، وحين تقتصر ممارستنا على تقزيم وجود الإنسان لينتهى عند هامة رأسه، مرجحا لما فيها من غلبة عقله الطاغى الظاهر: فنحن نتجاوز بذلك حقائق موضوعية، وننسلخ بعيدا عن ثقافتنا وعن الطبيعية وعن أصولنا.

(ب) وهناك نوع آخر من هذا الطب المستورد: وذلك حين نواصل استيراد الأحدث فالأحدث من نتائج الأبحاث المقارنة المعملية بالذات لتطبيقها دون اختبار هادف فى واقع ثقافتنا بما يترتب عليه الإسراع فى قبول واستعمال عقاقير أحدث، فأحدث باهظة الثمن جدا (جدا)، لا تتفق مع الوضع الاقتصادى للغالبية العظمى من  مرضانا، ونفضّلها تحت زعم شجب العقاقير الأنجع والأرخص بالمبالغة فى تصخيم ما يسمى آثارها الجانبية، حينئذ يصبح الاستيراد ليس قاصرا على استيراد الافكار ونسخ ثقافة من خارجنا، وإنما يمتد إلى استيراد مزاعم شبه علمية لصالح مؤسسات استثمارية سلطوية.([26])

(11) الطب النفسى المثالى :

من حيث المبدأ أذكِّر أننا نمارس مهنتنا مع بشر يسيرون على أرض الواقع، وأن أية أحلام مثالية براقة هى مشروعة ومأمولة، لكن علينا ألا نفرض ما نرجوه  – وغالبا عجزنا عن تحقيقه لأنفسنا – على مرضانا حُبًّا فيهم وأملا فى مستقبلهم كما نتصور.

ثم إننى أتقدم خطوة الآن بالنقد الذاتى لبعض الممارسات تحت مسميات جيدة وصحيحة لكن التمادى فى تصوير أنها الممارسات الوحيدة الصحيحة، وأن الوعود التى تلوّح بها ممكنة على أرض واقع يعلن بوضوح استحالة تطبيقها، هذا وذاك إنما يغلب على هذه الأنواع سليمة المنطق عميقة الجذور إلى ممارسات طوبائية غير واقعية، ومن ثم لا مفـَـرّ من أن تدرج تلقائيا تحت الطب النفسى السلبى، برغم بريق تنظيرها وروعته.

مثلاً: إن ما يسمى الطب النفسى التطورى إن لم يرتبط كل لحظة بأرض الواقع، فإنه يمكن أن يكون أقرب إلى الطبنفسى المثالى، وحين أربطه بنظريتى المسماة “النظرية التطورية الإيقاعحيوية” باسم الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى مركزاً على ضرورة ربط دورات الإيقاع بدورات  أقصر فأقصر على أساس أن المخ يعيد بناء نفسه باستمرار فى وحدات زمنية متناهية الصغر، فأنا أفعل ذلك احتراما لفروضى وفياسا عل دورات أطول يمكن رصد نتائجها مثل دورات النوم واليقظة، ودورات الحلم واللاحلم، حتى دورات الإيقاع النمائية والتوازنية وأغلب ذلك هو بعيد عن الاختبار والتحقق، وإنما يفترض قياسا وممارسة، لذلك فمن يعتبره أقرب إلى الطبنفسى المثالى هو محق بدرجة ما.

مناقشة بعض مواصفات الطبنفسى الإيجابى

أولا: يعرف الطب النفسى الإيجابى تقليديا، ويمارس على  أنه فرع من الطب يركز على التشخيص والعلاج للأمراض النفسية، بناء على تنامى الأدلة من الممارسة الكلينيكية، وكما يزعم هذا الطب النفسى الإيجابى، فإن هذا التعريف يحتاج إلى توسيع الخلفية الثقافية حتى نفهم ونحقق الحياة السوية الجيدة للبشر من خلال الدعم والتداخل الهادف لتنمية العافية السلوكية والعقلية.

المناقشة:

الطب النفسى هو أحد فروع الطب، لا أكثر ولا أقل، وبالتالى فإن مهمته المباشرة هى تشخيص علاج الأمراض الخاصة به، أما فهم ودعم الحياة السوية الجيدة لتنمية العافية، فهذه مهمة التربية والسياسة والمجتمع الصحى ثم الطب الوقائى الذى يقع جزء منه فقط فى مجال الطب النفسى فعلا.

المفروض أن النقد الذى يوجَّه للطب التقليدى كما ورد فى هذا التعريف يقتصر على التنبيه على الكف عن المبالغة فى التركيز على التشخيص على حساب التخطيط العلاجى الأشمل، وألا يقتصر العلاج على الإسراع بالتداوى لإزالة الأعراض دون أن يضع بقدر كاف احتمال إتاحة الفرصة (وليس فرضها) لإطلاق قدرات النمو، أما أن تزاح المهمة الأساسية هكذا ليحل محلها ما ليس طبا، فعذرا.

ثانيا: ويمكن تعريف الطب النفسى الإيجابى أنه علم وممارسة  الطب النفسى الذى يسعى لفهم ودعم العافية شاملا السمات النفسية الإيجابية فى الذين يعانون من المرض أو يكونون مستهدفين لخطر أن يصابوا بمرض عقلى أو جسدى، وهكذا يمكن أن يعود ذلك بالفائدة على الأسوياء الذين لم يلجأوا بعد للاستشارة الطبية.

المناقشة:

مرة أخرى نلاحظ تجاوز العلاج والمداواة والمواساة (وهو التعريف الأصلى لما هو طب) إلى دعم العافية والسمات الإيجابية، طبعا هذه مهمة رائعة، لكنها مرحلة لاحقة لمن شاء من “المرضى” واستطاع أن يواصل رحلة النمو من خلال ما أتاحته له فرصة المرض، أو هى مرحلة سابقة (وقائية) لمن لم يمرض أصلاً، ولكنها ليست حرفة التطبيب الأساسية.

إن الاهتمام بالأسوياء ابتداء فى المقام الأول إنما يخرجنا عن دائرة المهنة والتعاقد المتعدد المراحل بين الطبيب والمريض على مسار العلاج، ثم العمل على منع النكسة ما أمكن ذلك، ثم يضاف التأهيل للوقاية، بهذا الترتيب.

ثالثا: إن الطب النفسى الإيجابى مثل الطب التقليدى يركز على البحث عن أسباب الأمراض العقلية، لنتمكن من إعطاء العلاج الناجع والإقلال من مصاحبات المرض من معاناة أو إعاقة

المناقشة:

طبعا يركز ونصف، هذه هى مهمة أى طب خاصة إذا كان السبب قائما وكافيا وحاضرا، وخاصة إذا كان سببا مُدِيما Perpetrating أى أنه عامل فى استدامة المرض، إذا كان السبب كذلك: فلابد من إزالته أولا، أما إذا كان السبب ماضيا وحكْياً وتثبيتا فالتقليل من الاهتمام بالأسباب بالصورة التبريرية التى شاعت هو شىء جيد، ذلك لأن المبالغة فى التركيز على الأسباب سواء من منطلق تحليلى أو تفريغ ذكرياتى قد راح يروِّج له التحليل النفسى (السطحى) ووسائل الإعلام والمسلسلات والعامة حتى أصبح معوِّقا لا مساعدا، ومؤخرا فإن الطب النفسى أصبح يركز أكثر فأكثر على “هنا والآن” وحلت – كما ذكرنا– “إذن ماذا” بدلا من “لماذا”.

نعم لابد من البدء بتخفيف المعاناة وإزالة الإعاقة، ثم حسب ما وصل المريض بعد ذلك، وحسب خبرة المعالج وظروف المجتمع المحيط الواقعية يبدأ التأهيل من “الآن” لتدعيم الإيجابيات.

رابعا: ويؤكد الطب النفسى الإيجابى على مساندته لتعريف الصحة النفسية الإيجابية كما أوردته منظمة الصحة العالمية وأنها ليست مجرد ما ليس مرضا أو وَهـْنا، ولكنها حالة من تمام الصلاحية (الرفاه) الجسدية والنفسية (العقلية) والاجتماعية.

المناقشة:

(لاحظ كلمة “تمام”) هذا التعريف للصحة النفسية هو تعريف على العين والرأس، لكن علاقته المباشرة بالتطبيب ينبغى أن تتم بخطوات عملية متدرجة مختارة، ولا ينبغى الخلط بين تعريف الصحة وبين تعريف مهنة الطب عامة التى لها قواعدها وأصولها.

ثم نلاحظ أيضا حكاية “تمام” الصحة العقلية والاجتماعية Complete، وهل يوجد شىء فى الحياة الواقعية مع كل هذه الاختلافات الثقافية والاختلافات الفردية اسمه “تمام”، إن هذا يتجاوز ويهمل النظر إلى الكائن البشرى ككيان دائم النمو والتطور والإبداع، وأن مسيرته دائما ناقصة، بما فى ذلك تطور مستويات صحته مع كل أزمة نمو، إن الاعتراف بهذا النقص هو من أهم محركات الإنسان نحو المراحل الأرقى فالأرقى من مستويات الصحة (كما أشرت فى فرضى الباكر)([27]).

خامسا: يؤكد هذا الطب النفسى الإيجابى على السمات التى ينبغى أن تتوافر حتى يستحق الشخص أن يكون صحيحا ويضمها تحت هذا المسمى ويسميها “السمات النفسية الإيجابية” وهى (حسب المقتطف):

المرونة، والاهتمام، والروحانية، والتدين، والحكمة (التى تتضمن التعاطف: والمواجدة)([28]) والتفاؤل، والشجاعة، وأخلاقيات العمل، والتوجه العقلى المستقبلى، ومهارات التواصل البيننشخصى، والقدرة على الفرح، والبصيرة، والمسئولية الاجتماعية.

المناقشة:

حاضر حاضر: هل هذا طب أم هى شروط التقدم لوظيفة فى مسرحية “السكرتير الفنى” أم أنها المواصفات التى يستحيل ان يدعيها المرشح لمجلس الشعب!

عذرا

لكنها فعلا مواصفات أدعو الله أن أستطيع التمتع بما تيسر لى من نصيب منها قبل أن ألقاه سبحانه وتعالى ليغفر لى ما لم أستطع تحقيقه.

الخلاصة:

بعد مناقشة هذه المقتطفات المحدودة عن الطب النفسى الإيجابى هناك ملاحظات عامة كنت قد أشرت إليها فى البداية وأود أن أؤكد عليها مرة ثانية:

  • هذا التوصيف هو توصيف عام لا يضع فى الاعتبار النقلات والتطور الدائم
  • وهو توصيف عام لا يضع فى الاعتبار اختلاف الثقافات
  • وهو توصيف جامع لا يعمل حساب الفروق الفردية ولا حتى الفروق فى مراحل المرض وأنواع الأمراض.
  • وأخيرا فهو توصيف “جاهز” لم يعط الاهتمام الكافى لحركية الإبداع على مسار الفرد بكل مستويات معانيه.

لكل ذلك، وبرغم الحماس، فيستحسن النظر إليه نقدا بهذه الصورة أولاً.

[1]– أ.د. عزة البكرى “الظواهر الاكتئابية والعدوانية فى العلاج النفسى الجمعى” رسالة دكتوراه 1990

[2] – Impasse

[3] – أ.د. عماد حمدى غز هو أول من أبدأ أطروحته للتقدم لنيل درجة الدكتوراة فى الطب النفسى وكنت مشرفا عليها أيضا بتاريخ 1981.

[4] – Y.T. Rakhawy, Cognitive Neuroscience  and Interpersonal Neurobiology Relation to Group Therapy  From Practice to Science.

[5] – From Bench to Bedside

[6] – Cognitive Neuroscience: from Practice to Science

[7] – كما كنت أيضا  لا أعرف تعريف الطبنفسى الترجمى، حين دعيت للإسهام فى مناقشته!

[8] – مثلا: (الدليل العربى المصرى) أى DMPI.. إلخ    أو DSM IV & ICD10  

[9] – Expansion of the Concept of “‏Medical Model”‏ in Psychiatry, Egypt. J. Psychiatry. (1980a) 3 : 159-161

[10] – مع مراعاة أننى لم أكن قد وصلنى بعدُ منظومة كيف يعيد المخ بناء نفسه بالوضوح الذى عرفته مؤخرا.

[11] – GIT Model & Metabolism

[12] – Information Processing.

[13] – Recurrent dislocation of the shoulder joint

[14] – Localization

[15] – الذى ما زال أغلبه فروضا كما هو مثبت فى كل الكتب والمراجع

[16]– يبدو أن ما ظهر حديثا تحت اسم الكونكتوم Connectome! ..الخ

[17] – Quantitative (not quantum) medicine

[18] – Free Association

[19] – Resolution of Transference

[20] – وخاصة من النوع المُقْحَمْ، Imposed Insanity حيث يقحم شخص يبدو سليما إمراضيتة فى شخص مرتبط به وجدانيا حتى التبعية المستسلمة، فيمرض الأضعف فى حين يظل المشارك الطاغى سليما فى الظاهر على الأقل: طالما الأضعف مريضا.

[21] – لدرجة كدت أسمى هذا النوع الفرعى من هذا الطب: الطب النفسى”التوكْشووى”Talkshow

[22] –  بل ويساعد أحيانا المريض أن يمارس العلاقة بجدية واقعية حين يدفع مقابل الخدمة، فيضطر أن يكون أكثر تعاونا وحرصا على الوقت وعلى التقدم نحو الشفاء.

[23] – Life is short, art is ling

[24] – Quantum Sciences

[25]  –  التطمينى/الترييحى

[26] – وهذا بعض ما يروج له الطب النفسى الترجمى.

[27]– مستويات الصحة النفسية على مسار التطور الفرضى.

– يحيى الرخاوى: (“مستويات الصحة النفسية” من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة) منشورات جمعية الطبنفسى التطورى  الطبعة الأولى 2017  .

[28]– المواجدة هى الكلمة التى اقترحها الابن د. إيهاب الخراط ترجمة لكلمة Empathy وتميزاً لها عن كلمة Sympathy التى تعنى الشفقة وليس بالضرورة التقمص والمشاركة اللتين يمزان “المواجدة”

الفصل الخامس: الطبنفسى التطورى

الفصل الخامس: الطبنفسى التطورى

الفصل الخامس:

الطبنفسى التطورى

مقدمة:

أولا لعل “الطب النفسى التطورى” هو الأقدم تاريخا، وفى نفس الوقت هو الأحدث طبنفسياً، ولن أتطرق لتاريخه تحديدا حيث أن فكرته الأساسية – حتى من منظور طبى– ظهرت فى منظومات معرفية أخرى سابقة كثيرة ومتنوعة: قبل أن يختص أحد فروع الطب النفسى بهذا الاسم، ولعل أهم ما جمع معالمه مؤخرا هو كتاب بهذا الأسم “الطب النفسى التطورى” بعنوان فرعى يقول: “بداية جديدة” لمؤلفيه أنتونى ستيفن وجون برايس([1]).

سوف أكتفى بهذه المقدمة الآن لأقدم مقتطفات دالة من كتاب ستيفن وبرايس هذا، ثم أعقب عليها.

ابتداءً أود أن أذكر الأسباب التى دعتنى أن أعلن مخاوفى البدئية فأتحفظ وأبدأ بوضع الطب النفسى التطورى الأصلى ثم الطب الإيقاعحيوى التطورى فيما هو الطب النفسى الطوبائى أو المثالى، ذلك لأنى أعتقدت لأول وهلة أن الاهتمام بالفرد ممثلا للنوع بغض النظر عن جنسيته أو معتقده أو لونه أو موقفه الاجتماعى، هو أساس الانتماء للفكر التطورى بكل تجلياته وتشكيلاته، وبما أن هذا الانتماء أصبح بعيدا عن الواقع الذى تركز بحق: إما فى السعى لإرضاء الحاجات الأكثر إلحاحا للاكتفاء العملى الاختزالى المتواضع بالمطالب الأساسية إن وجدت، وهذا ما يسمى “مستوى الضرورة”، أو تركز بغير وجه حق فى واقعية سطحية تقوم بتقزيم الوجود البشرى عند ما حصَّل من معارف ومعلومات وقيم مشكوك فى عمق موضوعيتها ومدى إرجاع جذورها لأصل الحياة، وامتداد فروعها إلى خالق الحياة، وبديلا عن هذا أو ذاك تقوم برفع شعارات ملتبسة مثل الحرية الشخصية والحقوق المكتوبة، أقول إنه لما صار الأمر إلى هذا أو ذاك أصبح كل من ينادى بالنظر فى جذور الإنسان، ثم حفزه إلى إطلاق فروعه إلى كل المدى بغير نهاية محددة، أصبح يبدو طوبائيا مرفوضا غالبا، (إن لم يسمع الكلام!!).

لكن ماذا نفعل وقد انقرضت الأحياء جميعا، وما بقى منها وهو واحد من كل ألف من كل الأحياء منذ بدء الحياة، والإنسان أحد هذه الأحياء الباقية، ويبدو أن الدور قد جاء عليه للانقراض أولا إن لم يلحق نفسه (ولو بالطب النفسى التطورى!!).

إن الحضارة لم تتقدم لا بالاختزال والتوقف عند مستوى الضرورة ولا بالانخداع فى قيم مشبوهة مكتوبة لصالح الأقوى والأكثر انغلاقا على نفسه أو على ناسه.

من هذا المنطلق انتبهت إلى أنه:

 ما لم يقدم لنا الطب النفسى التطورى منهجا “عمليا” للمرضى يبين لنا ضرورة إسهام كل المعارف والمهن طول الوقت أفرادا وجماعات فى محاولة تأنيس الإنسان، فإنه سوف يستحق أن يعد طبا سلبيا بالضرورة، بمعنى أنه: إن لم يقدم لنا سبيلا نتعلم منه ونمارسه ونتأكد من خلاله أن الاهتمام بالفرد هو اهتمام بكل الناس، وأن تأنيس المريض ومعه تأنيس الطبيب هو مجرد عينة قابلة للاقتداء والامتداد، ما لم يحدث كل ذلك فإنه مرة أخرى جدير بأن ينضم إلى فصيلة الطب النفسى السلبى دون الإيجابى.

دعونا نبدأ بالطب النفسى التطورى المستورد من “بلاد بّره” وهو رائع وعميق وإنسانى وتطورى فعلا و”ناقص”، نعم ناقص مثل كل عمل عظيم لا يكتمل إلا بنقصانه.

المقتطفات والتعليق:

سوف أكتفى مبدئيا بالاقتطاف من مقدمة الكتاب السالف الذكر تأليف: ستيفن وبرايس والتعليق على عدد محدود من المقتطفات.

جاء فى مقدمة الكتاب ما يشبه الوعود أو الآمال المنتظر تحقيقها من هذا النوع من الطب وخاصة وأن العنوان الفرعى للكتاب كان “بداية جديدة” A New Beginning  فهل هو كذلك فعلا؟

يقول الكتاب فى المقدمة:

المقتطف (1):  إن الطب النفسى التطورى: سوف يتيح إمكانية إعادة توصيف ماهية الأبعاد الأساسية لما يسمى “الصحة النفسية”، وبذلك تتكامل معطيات وملاحظات الطب النفسى مع كل من: “علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) – البيولوجيا الاجتماعية – الأنثروبولوجيا عبر الثقافات وغيرها.

المناقشة:

هذا المأخذ أخذته على ما يسمى الطبنفسى الإيجابى عامة، فمع اقتناعى بأن الطب النفسى بالذات والطب عامة يستحيل أن ينفصل بذاته عن سائر مصادر المعرفة والعلوم المتكاملة معه، إلا أن التأكيد على أهمية ذلك ووضعه أولا قد ينقل التركيز على ما هو الطب المهنة الفنية الحرفية لعلاج المرضى فردا فردا إلى الصحة النفسية كقيمة عامّة إيجابية وقائية لها مؤسسات أوْلى بها وأقدر على تنميتها، ومن هنا يجئ الاتهام بالطوبائية، إذْ مَا دخل المريض الفرد بالأنثروبولوجيا عبر الثقافات، وغاية مراده أن يشفى ليعود لعمله ويلملم أسرته؟

المقتطف (2): إن الطب النفسى التطورى سوف يسمح بأن نضمّن ما نعرفه عن النمو البشرى كإنسان مع ما نعرفه عن النمو عند الكائنات قبله، وبالتالى سوف يفتح لنا آفاق وضع فروض جديدة تشرح لنا كيفية حدوث نشأة وتطور النفسمراضية (السيكوباثولوجيا) لكثير من الأمراض والمرضى.

المناقشة:

يبدو لى أن هذا المقتطف أقل مثالية، بمعنى أن به حفز طيب يدفع الطبيب أن يستمد معلوماته التطورية العملية ليس فقط من تاريخ نمو الفرد أو حتى الإنسان، وإنما تمتد رؤيته إلى النمو (والتطور) عند الأحياء السابقة، وأرى أن هذه الإضافة لها تطبيقات عملية ليست فقط فى فهم النفسمراضية وإنما فى العلاج عامة بما فى ذلك انتقاء العقاقير، وتحديد جرعتها وتوقيتها([2])، بما يتناسب مع كل مرحلة من مراحل السيكوباثولوجى، والعلاج.

المقتطف (3): نظراً لأن الطب النفسى التطورى يعطى ثقلا مناسبا ومتوازنا لكل من الجوانب العضوية والنفسية فإن ذلك سوف يسمح بالسعى إلى مزيد من البحث فى العلوم النفسية والعلوم العصبية معا بهدف التكامل مع بعضها البعض، ومع الجسد ككل، ليصب كل ذلك فى معلومات لازمة للطب النفسى.

المناقشة:

أعتقد أن هذه المزية ليست خاصة بالطبنفسى التطورى، فهى شائعة ومكررة، بعمق وبغيره، فى نماذج أخرى مثل النموذج النفسى البيولوجى الاجتماعى، وحتى فى النموذج الطبى بامتداده الأشمل،  وربما تكون الإضافة هنا بالنسبة للطبنفسى التطورى هى فى الأمل فى تكامل أعمق وليس مجرد إضافة إلى جهد الأخصائى النفسى أو الاجتماعى، بمعنى أن يكون الطبيب نفسه قادرا على معايشة هذا التكامل وعلى الرجوع إلى هذه الحقائق الأصلية الأساسية بحيث يصعب عليه  فصل أى منها عن طبيعة العلاقة  المتكاملة مع مريضه.

وبعد

أكتفى بهذه المقتطفات من المقدمة، وبرغم ما تحمل من آمال طيبة إلا أننى افتقدت فيها – وفى كثير من غيرها فى هذا الكتاب الجيد – إشارات كافية إلى الخطوات العملية لإمكانية تحقيق هذه الآمال، فأجـّـلت الحكم حتى ألمّ بقدر أكبر من هذا الكتاب الرائع.

ولكن قبل أن أختم أود أن أذكر بالفضل أن الطب النفسى التطورى موجود من قبل هذا الاسم، فمثلا بالنسبة لمدرسة وتوجهات كارل جوستاف يونج الذى لم يغب عن مؤلفى هذا الكتاب ذكر فضله والاقتطاف منه كلما لزم الأمر، تعتبر أراؤه تطورية بامتياز، لذلك سوف أختم بمقتطفين من ذلك:

الأولى: استشهد المؤلفان بكارل يونج وهو يقول:

 فى النهاية فإن حياة كل فرد فى نفس الوقت: هى الحياة الأبدية لنوعه.

المناقشة:

لاحـِظ كل “فرد” فى “نفس الوقت”

 (ثم): “الحياة الإبدية لنوعه”!!!

الثانية: استشهد المؤلفان أيضا بقول يونج:

“إن التفرد (العملية التى يتكامل بها الإنسان بشرا سويا) هو ممكن إذا أتيحت الفرصة للشخص أن يتكامل فيه: ما هو “إنتوجينيا” مع ما هو “فيلوجينيا”، وبالتالى يتوحد وجوده الذاتى مع كل إمكانات الإنسانية وهو يستعمل نفس الآلية التى مُنِحْنَا إياها بأقصى ما تستطيع قدراته.

المناقشة:

لاحظ كيف رأى يونج أن تكامل تطور النوع (الفيلوجينيا) مع تطور الفرد (الأنتوجينيا) تطور، وليس مجرد الاستعادة Recapitulation

ولاحظ أيضا ربط الوجود الذاتى مع كل إمكانات الإنسانية

تطبيق عملىّ:

فى هذا العمل الرائع رحت أبحث عن التطبيق العملى الممكن لهذه الأحلام السعيدة!! حتى وصلت إلى صفحة”242″، وإذا بى أفرح فرحا شديدا بمقطع شديد الجمال والدلالة، برر لى موقفى، وهذا نصه:

“حين يدخل مريض إلى حجرة الكشف فإنه يدخل ومعه – إن صح التعبير – جمهرة من الناس الممثلين تاريخه الشخصى، هذا ما يعرفه الطب النفسى من قديم، الذى يضيفه الطب النفسى التطورى هو أنه تبين أن هذا المريض نفسه يحضر معه أيضا أجداده من الصيادين وآكلى النمل والزواحف من تاريخ أسلافه،

وحين تقترب الاستشارة من نهايتها  تصبح حجرة الكشف مليئة بمعارض المخلوقات البدائية التى لكل منها الحق أن يـُـستمع له، وأن يُستجاب لاحتياجاته([3]).

الذى أفرحنى فى هذا المقتطف هو أننى حين رحت أتمثله والمريض أمامى ومعه (بداخله/وامتدادا له) عشرات الأشخاص الذين استوعبهم وعيه بإذنه، أو رغما عنه فى حجرة الكشف، أقول عشرات بل هم أكثر (إذن ليسوا فقط حالات الذات الطفل والناضج والوالد التى وصفها إريك بيرن فى التحليل التفاعلاتى)، حين تمثلت هذا الوضع ثم تلفت حول المريض وحولى وإذا بحسب هذا المقتطف يحضر وكل هذه الأحياء معه وهى تملأ حجرة الكشف (أو حجرة الدرس بل حجرات وعيى ووعيه !!) وجدت أن الدنيا قد ازدحمت أكثر مما أحتمل، لكننى لم أتنازل عن فرحتى بهذا التصور الخيالى/الواقعى معا، واعتبرته أول خطوة نحو ترجمة التنظير إلى التطبيق، إن أمكن.

فهل يمكن ؟!!؟ وكيف ؟

وجدت أننى فى ممارستى وفى حدود خبرتى وتنظيرى: أحاول دون قصد أن أتصرف كذلك، ولكن فى حدود ثلاث أو أربع أنواع من هذه الأحياء جميعا أو (أكثر إذا ما اضطررت إلى ذلك: وهذا ما سوف أعود إليه حين أقدم الطب النفسى الإيقاعحيوى التطورى) وتعجبت كيف يتصرف ستيفن أو زميله رايس فى هذا الموقف! يا تُرى ماذا تفعل فعلا يا عمنا ستيفن حتى بمساعدة زميلك رايس؟

3

وكيف ستستمع  لكل هؤلاء ليس فقط من البشر، ولكن من سائر الأحياء الذين حضروا مع المريض فعلا ؟ وإذا به يسمعنى ويسارع بالإجابة  “اجابة رائعة” قال ما يلى بالنص:

“….ويصبح دور الطبيب النفسى مثل مدرب كرة القدم الذى يدرب كل لاعب على أداء دوره ويشحذ مهاراته حتى يتكامل مع سائر اللاعبين فتكون نتيجة تفاهمهم وتكاملهم هو اللعب بكفاءة كفريق فعلا وليس كأفراد يتنافسون فيما بينهم”

الله!!  الله!! وزادت فرحتى، وزادت حيرتى.

رجعت مرة أخرى لأتعرف على  مهنة تدريب الفريق هكذا، فوجدت الكتاب يتكلم عن التفاؤل العلاجى Therapeutic Optimism يقول فى ذلك:

“إن تـَفـَهـُّمَ الأعراض على أنها إبداع وآلية هادفة، يكشف قيمة هذا التفاؤل العلاجى لدى الطبيب والمريض على حد سواء.

وهو يشرح هذا التفاؤل العلاجى بأن يواصل:

“فبدلا من إدراك الأعراض على أنها معاناة مـُخِلّة، فإنه يمكن استقبالها باعتبارها آلام النمو لشخص يجاهد ليتكيف لمتطلبات الحياة التى فرضت عليه”.

……………

“وعلى ذلك فإن مساعدة المرضى هو الأخذ بأيديهم ليواصلوا نموهم بعد عبور هذا المأزق المؤلم الفاشل (المرضى) الذى اختاروه مضطرين لأنه كان الممكن قبل العلاج”.

(مازال الكلام من الكتاب):

“وبدلا من أن تكون مهمة المرضى هى تلقى الدعم والأدوية يجرى تشجيعهم بالمشاركة فى معاناتهم حتى نواجه معا “معنى” المرض.

وهكذا تكون موضوعية (وجدوى) العلاج فى القدرة (قدرة المريض والطبيب معا) على تنمية علاقة إبداعية مع الأعراض، بما تعنيه من محاولات تكيف، وإن كانت قد أخطأت السبيل، فوظيفة العلاج هى تصحيحه إبداعاً.

أتوقف هنا عن الاقتطاف والإضافة الشارحة بين الأقواس (فقد كدت أقوم بترجمة الكتاب كله) ثم أقدم التعليق التالى:

التعليق:

مع اتفاقى (اتفاقنا) مع هذا التوجه العام للبحث عن معنى الأعراض بدلا من الاكتفاء برصد الوصف بهدف تسمية هذه الأعراض، ومن حيث إسهام المريض فى اختيار المرض([4]) وبالتالى إمكان (بل ضرورة) إسهامه فى إعادة اختياره بإبداع حل أفضل معاً، فإنى أرى أن ما قدمه المؤلف([5]) يحتاج إلى ترجمة عملية أبسط وأكثر واقعية وتحديدا، كما يحتاج إلى إعداد معالجين مبدعين مشاركين وليس فقط رحماء أو منفـِّـذين مثلا([6])، وهكذا أجدنى مضطرا أن أعود للاقتطاف أمانة إذْ يبدو أن المؤلف قد سمعنا، فبادر يقول:

“حتى نتقدم بوضوح لشرح متطلبات مثل هذا العمل (العلاج هكذا) فإن على المعالجين أن يتعهدوا ذواتهم بدفع عجلة نموهم – شخصا، وحفز قدراتهم الابداعية إذا كانوا يأملون فى رأب صدع مرضاهم ليعودوا لمواصلة وجودهم الصحيح، لكن هذا قد يضع الطبيب النفسى الذى يلتزم بذلك فى موقع التحدى (الإبداعى) لتحقيق ما يعد به هذا المسار إذ يتوقف النجاح فى هذه المهمة على مهارة المعالج فى إطلاق سراح القدرات الابداعية غير المستعملة عند المريض مثلما هو معروف فى “علاج كارل ج يونج” الذى يقوم بتعتعة النماذج البدائية: (الفيلوجينية) للتكامل الخلاق مع سائر قدرات المريض…الخ.

وبعد

ألستم معى بالله عليكم أن كل هذا الجمال وهذه المواصفات سواء فى المريض أو فى المعالج يمكن أن تعتبر صفات طوبائية ما لم يكن هناك تغير جذرى فى طرق التدريب (بل فى طرق الحياة المعاصرة كلها غالبا)؟

بالله عليكم كيف يمكن أن يقوم مدرب كرة القدم هذا (المعالج) بتدريب هذه الألوف (بل الملايين) من الأحياء الذين حضروا مع المريض فى نفس الوقت بالإضافة إلى ما تحرك بداخله هو من شخوص وأحياء أيضا، حتى يمكن أن يتخلق وعى جماعى داخلى متكامل متعاون، يعمل معا حتى يصيب الفريق الهدف (وليس اللاعب وحده)….الخ.

مادام الوصف بهذا الصدق، والمعلومات بهذه الموضوعية، والنية بهذا العمق، فقد كنت أتوقع أن أجد بعض التفاصيل العملية عن طريقة العلاج وآليات التدريب حتى أستطيع أن أدافع عن هذا الطب النفسى التطورى بقدر ما فرحت به وأنست له وطمأننى، وقد وجدت بعض ذلك لكنه لم يكن كافيا.

هامش واعتذار:

وأنا اكتشف جهلى وتقصيرى فى الإلمام ببعض مراجع هذه النقلة التطورية فى الطب عامة والطب النفسى خاصة، انتهزت الفرصة لتعويض ما فات، وفعلا عثرت على بعض المراجع بنفس العنوان وبعناويين أخرى مثل: الطب النفسى الدارونى([7]) Darwinian Psychiatry، وهو نوع من الطب الدارونى عامة Darwinian Medicine ، ولم أطلع بالقدر الكافى على ما يختلف أو يضيف، وإن كان القدر اليسير الذى اطلعت عليه – وأنا اكتشف جهلى المتراكم- لم يتفوق على هذا الكتاب الذى اقتطفت منه ما اقتطفت، بل كان أكثر تنظيرا وإجمالا وهو يركز أساسا على التفرقة بين المرض والدفاع Disease and Defense باعتبار أن العرض قد يكون دفاعا مشروعا (من منطلق تطورى) أما المرض فهو حين يتمادى هذا الدفاع فيسقط دوره الدفاعى وتحل الخسارة محل المكسب.

فى نفس الوقت حمدت الله على جهلى طوال أكثر من أربعين عاما، لأنه أعطانى الفرصة أن استمد مادتى وتنظيرى فيما اسميّه “النظرية التطورية الإيقاعحيوية”، ومن ثم الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى، من واقع الممارسة التى افتقدتها فى معظم ما قرأت مؤخرا، وقد تصورت أننى لو بدأت بالنظريات المتاحة أولا لما استطعت مواصلة كشوفى من واقع الممارسة مع القراءة والمراجعة كما حدث حتى الآن.

[1]– Evolutionary Psychiatry, A New Beginning second edition by Anthony Stevens  and John Price. Copyrighted:  ROUTLEDGE Taylor & Francis Group. London and Philadelphia. 2000.

وقد طبع الطبعة الأولى سنة 1996 والطبعة الثانية (التى سوف أقتطف منها) سنة 2000.

وجدير بالذكر أن جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى، وهى الجمعية التى أسستها مع بعض زملائى لتحتوى فكرى الموازى وقد تم تسجيلها رسميا سنة 1978، وظهرت المجلة الخاصة بها (الإنسان والتطور) من يناير 1980 فصلية وحتى عدد إبريل/يوليو 2000/2001، ثم توقفت حتى تواصل نشر نفس الفكر فى نشرة يومية بموقعى بنفس الاسم “الإنسان والتطور” منذ سبتمبر 2007، وحتى تاريخه.

[2] –  هذا بعض ما حاولته فى ترتيب فاعلية العقاقير النفسية ترتيبيا هيراركيا حسب ترجيح عمل كل منها انتقائيا على أى مستوى من مستويات المخ: الأقدم فالأحدث (تحت النشر)

– [3] لأهمية هذا المقتطف واستمرار مناقشته رأيت أن أورد نصه بالإنجليزية من الكتاب الأصلى وها هو ذا:

Page: 242

When a patient enters the consulting room, he brings with him, in a manner of speaking, a crowd of people from his past. That psychiatry has always known. What evolutionary psychiatry has recognized is that he also brings the hunter-gatherers, anteaters, and reptiles from his ancestral past. By the end of a consultation, the room is crammed with this menagerie, each member of which has a right to be listened to, and, if possible, to have his needs fulfilled. It is, says Gilbert (1989), like training a football team, encouraging each individual player to develop his skills and to integrate them with the skills of the other players, so that they come to the point where they play m effectively as a team rather than a set of competing individuals.

[4] – أنظر قبلا اختيار الجنون  (نشرة 13-7-2008 زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون “1”) و(نشرة 20-7-2008 “زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون” “2”)  www.rakhawy.net

[5] – ابتداء من هنا سوف اتحدث عن المؤلف (مفردا) نيابة عن المؤلفين حتى لا اضطر إلى الإشارة طول الوقت ما لم يعد يهم القارىء العادى.

[6] – كما يدّعى الطب النفسى الترجمى Translational Psychiatry

[7] – الطب التطوري أو الطب الدارويني هو تطبيق نظرية التطور لفهم ماهية الصحة والمرض حيث يوفر منهجًا علميًا مكملاً لمنهج التفسيرات الآلية المعاصر الذي يسيطر على العلوم الطبية وخاصة التعليم الطبي الحديث

الفصل السادس: الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى

الفصل السادس: الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى

الفصل السادس:

الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى

Evolutionary Biorhythmic Psychiatry ([1])

استهلال:  

وأنا مقبل أخيراً على تقديم بعض ملامح نظريتى التطورية الإيقاعحيوية شعرت أننى لابد أن أوضح نقطتين جوهرتين لعلهما معا، وخاصة الأولى منهما، قد أسهمتا فى تأجيل عرضى النظرية متكاملة طوال هذه المدة.

النقطة الأولى:

إنه ما كان لى أن أومن بالفكر التطورى بهذا العمق، وأنا أقوم بتطبيقاته إكلينيكيا ونقدا، إلا من منطلق إيمانى بخالق كل هذا الكون بما فى ذلك برامج التطور وقوانينه، إن التطور لم يبدأ ولم يستمر ولن يستمر إلا بفضل خالق الحياة (وليس فقط خالق الإنسان) منذ بدئها بقوانينها، ومنها برامج التطور منذ مالا نعلم إلى ما لا نعرف فى الغيب الواعد، وإن البقاء للأقدر إبداعا من كل الأحياء وأيضا للأقدر تكافلا والأنجح اتساقاً.

 يأتى بعد ذلك انتقالى إلى فروضى فى الإدراك([2])، وإلمامى بدور العقل الوجدانى الاعتمالى،([3]) ثم سياحتى فى محيط الوعى المتعدد المستويات والممتد الدوائر، إلى الغيب([4])

إن أى هجوم تقليدى لدحض نظرية (نظريات التطور) باعتبار أنها ضد المسلمات المقدسة، أرجو أن يراجعه أصحابه وخاصة إذا كان كل اعتمادهم على تفسيرات معجمية قدسوها فـَصـَنَّـمُـوا اللغة، وقد أشرت من قبل كيف وصلنى حدس وإيمان تشارلز داروين حتى رغما عنه، وأن جوهر نبض إيمانه هو الذى هداه إلى نظريته ربما أكثر من ملاحظاته ورحلاته! فكتبت فى ذلك أطروحة بعنوان: “تشارلز داروين “جاب الديب: من بؤرة وعى إيمانه المعرفى”([5])

النقطة الثانية:

هى عن القهر الجاهز من جانب التراثيين السلطويين المحدثين سدنة المؤسسة العلمية الأيديولوجية التكاثرية الباهظة التكاليف، الذين قرروا أن يحتكروا المعرفة وأن يزعموا بمنهجهم المختزل أن من حقهم أن يقيّموا ما حدث خلال ملايين السنين كما عاشته آلاف الأحياء، وتطور من تطور منهم بفضل الله، وانقرض من انقرض ثمنا لوأد إبداعه وانفصاله عن “المحيط” فالكون إليه، ويقيّمون كل ذلك بمنهج قاصر خانق، إن هؤلاء مهما قدسوا مناهجهم الكميِّة المقارَنَة: غير قادرين على أن يوقفوا نمو الإنسان إليه، بل إنهم قد يمثلون العامل الأول، بالتعاون سرا مع من جاؤوا فى النقطة الأولى، فى احتمال انقراض نوعنا، (ذلك دون إنكار فضل عطاء بعضهم فى جزئيات صالحة لأن تتوافق مع، وأحيانا تدعم مسيرة، التطور إليه).

إن الطبنفسى التطورى الإيقاعحيوى لا تصلح لدراسته، ولا  لتقديمه: مناهج البحث الكمّية المستعرضة، فأغلبه فروض عاملة تنبع  من الممارسة الكلينيكية (مدعمة ببعض معلومات تطورية موضوعية) مع القياس الطولى على كل المستويات.

وبعد

لعل كل ما تحفظت عليه بالنسبة للطب النفسى التطورى عامة يسرى تلقائيا على تحفظاتى على الطب النفسى الإيقاعْحَيوى التطورى وقد قمت بمراجعة متأنية لمراحل تطور النظرية عندى عبر أربعة عقود.

 وأفضل الآن أن أبدأ بمعلومات ضد النظرية، معلومات تلوّح باحتمال هدمها من جذورها، ثم نرى كيف سوف نتعامل معها، وأنا متمسك أكثر بحقى فى إبلاغ ما بلغنى من مرضاى ومن حقول الإبداع التى أتيحت لى معايشتها.

المأزق: ما بـُنـِـىَ على باطل فهو باطل!!

 صدّق أو لا تصدق أن النظرية التطورية الإيقاعحيوية ومن ثـَـمَّ الطب النفسى المسمى باسمها مبنية على نظريتين بلغ شجبهما أو دحضهما درجة غير مسبوقة: النظرية الأولى وهى أحسن حظا من الثانية، هى نظرية أصل الأنواع لتشارلز داروين أما النظرية الثانية فهى نظرية الاستعادة (أو القانون الحيوى) لإرنست هيكل، فقد نالت شهرة أقل لكنها نالت هجوما أقسى وأشمل لدرجة اعتبارها شطحا وتزييفا حتى أصدروا قرار موتها، وبرغم كل ذلك تظل هذه النظرية الأخيرة (لإرنست هيكل) هى أساس جوهرى لكل ما سوف أذكره تقريبا، من كل ذلك فإنه إذا ما ثبتت صحة مبررات شجبها ورفضها (وقد زعموا أنه ثبت) حتى إعلان موتها فى أكثر من محفل علمى فى التاريخ الحديث، فإن كل ما سوف أبنيه عليها مآله إلى نفس النهاية، وبما أننى مازلت أرى صحتها بعد إطلاعى على أغلب ما قيل فيها شجبا ودحضاً ورفضا وتكذيبا، لكننى لازلت أراها رأى العين فى ممارستى، وليس من حقى أن أنكر ما أرى ويصلنى، حتى أصبحت على يقين أن مـَنْ يبقى منِّـا (نحن البشر) إن بقى أحد، سوف يرى فساد كل هذا الهجوم، الأمر الذى يعرفه مرضاى، ويعرفه أبسط من أعرف من البشر فى العلاج الجمعى وغيره.([6])

زيادة الطين بلة:

انطلاقا من هذا الباطل (كما زعموا)، وبالذات نظرية الاستعادة وأن الانتوجينيا تلخص (وتكرر) الفيلوجينيا، سوف أزيد الطين بلة بالتمادى فى التطوير والقياس على هذه النظرية([7])، الأمر الذى يمكن أن يدعم الرافضين لها أكثر فأكثر، وإليكم بعض هذا التمادى:

أولا: العملية ليست مجرد تلخيص بمعنى الإيجاز، وإنما هى دورة حيوية مكررة مفتوحة النهاية حتى لا تنغلق الدائرة، والفارق هو الوحدة الزمنية، بمعنى أن ما تم فى ملايين (أو بلايين السنين) هو يعاد خلال عمر الكائن البشرى الأن (الأنتوجينيا تلخص وهى تستعيد الفيلوجينيا)، ثم قس على ذلك (أنظر بعد).

ثانيا: إن نفس دورات التلخيص والاستعادة تتكرر مع كل دورة نمو أوضح: مثلا: ما يمثلها أعمار الإنسان الثمانية لإريك إريكسون([8]) وقد أسميتيها شخصيا “ماكروجينى” دون أن يسميها إريكسون ذلك، ثم خذ عندك دورات ونبضات أقصر فأقصر.

ثالثا: إن أية دورة إيقاعحيوى، خاصة دورات إيقاع المخ البشرى، وهو يعيد بناء نفسه باستمرار، هى استعادة أصغر فى زمن أقصر فأقصر، طبعا اقصر من دورات النوم ودورات حلم الريم REM التى هى أقصر ما يمكن تسجيله برسام المخ الكهربائى، أقول إن أية دورة إيقاعية هى استعادة إبداعية تخدم التطور إليه، ما لم نحُلْ دون ذلك بالاغتراب والإنكار…الخ.

رابعا: إن الإبداع عامة لا يقتصر على الناتج الإبداعى المعروف، وإنما هو أساس التطور وطريق النمو وسبيل الإيمان ونبض الحياة المستمر ليلا ونهارا (وإلا توقف كل شىء عن كل شىء).

خامسا: إن مفهوم الوعى مازال غامضا تماما، وأى اختزال له بادعاء فهمه أو الإحاطة بأبعاده يحمل احتمال الخطأ والتشويه معا، لكن الاجتهاد واجب فى اتجاه مزيد من إضاءة جوانبه، وذلك أن حركية الوعى على كل المستويات بدءًا من الوعى الشخصى إلى الوعى البينشخصى إلى الوعى الجماعى إلى الوعى الكونى “إليه” هى سر الوجود.

سادسا: إنه لكى ندرك – لا نفهم فقط – أبعاد الإحاطة ببعض برامج ومسار التطور علينا أن نشحذ – ولو بإرادة خفية – وسائل وقنوات معرفية خلقها الله لنحافظ بها على الحياة، يمكنها أن تتحرك بأقل قدر من القصدية المـعـْـلنة – ما بين أجزاء الثوانى إلى بلايين السنين – وفى نفس الوقت هى لا تتجاوز ما هو “هنا والآن” .

وبعد:

أعرف تماما ما يمكن أن يقال عن هذا الكلام لدرجة توصيف قائله، لذلك أرى من المناسب الإشارة إلى بعض المراحل التى عايشتـُها قبل الإقدام على كتابته.

بدأت المسألة تنظيرا متواضعا لما وصلنى من واقع الممارسة مدعما بالخبرات الذاتية واجتهاداتى فى النقد والإبداع، وقد سبق أن أشرت بإيجاز شديد لمثل ذلك، وأفضـِّـل أن أبدأ بالإشارة إلى بعض ما سبق  لمن أراد.([9])

مراحل تطور الفروض التى تحدد معالم النظرية:

أولاً: غيرتُ اسم النظرية التى أقدمها من النظرية التطورية الإيقاعية إلى النظرية التطورية الإيقاعحيوية Evolutionary Biorhythmic Theory   ، لأننى لاحظت أن بعض من سمع بالاسم قد استقبل كلمة إيقاع منفصلة عن الإيقاع الحيوى الذى أقصده تحديدا، وبالرغم من طول الكلمة المضغمة وغرابتها مقارنة بسهولة الكلمة الانجليزية المقابلة،Biorhythm فإنى أفضلها مرحليا حتى أجد بديلا أكثر رشاقة.

ثانياً: صححتُ  ترجمة نظرية الاستعادة بالعربية من أن “الأنتوجينا تكرر الفيلوجينا” إلى أن الأنتوجينا “تلخِّص الفيولوجينيا وتكررها”،  فهذا أقرب إلى معنى Recapitulation  ومع ذلك فهذا مجرد عنوان، والتلخيص لا يعنى الإيجاز هنا، وإنما يعنى المرور  بنفس كل الأطوار ولكن فى وقت “موجز” جدا مع احتمال استكمال مسيرة النمو أو التطور، فالعملية  ليست مجرد تكرار أو تلخيص وإنما هى دورة حيوية لابد أن تختلف نقطة نهايتها عن نقطة بدايتها وإلا انغلقت الدائرة ولم تعد إيقاعا.

ثالثاً: إن هذه الدورة التى استغرقت فى حدود المعروف عنها ملايين السنين، ويوجزها نمو الإنسان فى تسعة أشهر ثم بضع عشرات من السنين، (متوسط عمر الكائن البشرى الآن)، تتكرر فى كل أزمة نمو فيما يسمى إعادة الولادة، ولعل أهم ولادات معروفة – دون أن يسميها صاحبها كذلك ، هى – كما أشرت حالا –  أزمات النمو التى وصفها  إريك إريكسون، فيما هو معروف باسم:  أعمار الإنسان الثمانية([10]) وهذه الأزمات تستغرق أياما وأسابيع وشهوراً فى طورها النشط، وفى تقديرى من واقع خبرتى وترجمتى لبعض الخبرات التاريخية وبعض الأساطير و”الحواديت” الشعبية أن الوحدة الزمنية المناسبة هى ستة أسابيع (أربعين يوما) ثم تكمل دورة الإيقاع ما بين الأزمة والأزمة باكتساب الخبرات ومعالجة المعلومات القابلة لإعادة التشكيل فى الأزمة التالية وهكذا، وقد اسميتُ هذه الاستعادة أو الإيجاز  دورة الماكروجينى Macrogeny([11]) وبالتالى يمكن القول قياسا: إن الماكروجينيا تلخص الأنتوجينيا وتكررها، وهو ما يشير إلى أن كل أزمة نمو هى إعادة ولادة، وتلخيص لكل تاريخ الفرد (والنوع أيضا).

رابعاً: إن أية دورة إيقاع حيوى مهما قصر زمنها بعد ذلك تسير على نفس النهج.

خامسا: إذا بدأنا بإيقاع النوم يمكن اعتبار كل عشرين دقيقة من نوم الريم (النوم النقيضى = نوم حركة العين السريعة (REM Sleep، متكاملة مع دورة النوم العادى هى  تلخيص لكل من الفيلوجينيا والأنتوجينا والماكروجينى، وقد فضلت ألا أطلق عليها اسما خاصة  مكتفيا بأن  نتذكر وظيفة النوم وكيف أنه إعادة تنميط Re-patterning   للمعومات، وأن كفاءته مرتبطة بنجاح هذا الإيقاع فى أداء وظائفه التنظيمية  التى هى أقرب إلى الإبداع الفسيولوجى/البيولوجى  الطبيعى، والتى تعتبر العملية الأساسية وراء المفهوم الأحدث فالأحدث من أن “المخ يعيد بناء نفسه“The Brain Re-builds Itself  باستمرار، حتى وإن لم تتحدد أطوار دورات نبضه بوجه خاص.

سادسا: إذا كان نوم الريم يستغرق عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة بانتظام خلال متوسط ساعات النوم الثمانى، فإن ما وصفه فرنر Werner([12])  واستفاد منه سيلفانو أريتى حول إرهاصات الإبداع ، تحت اسم Microgeny  ([13]) هو فى تقديرى دورة إيقاع حيوى شديدة القصر، يمكن أن تستغرق دقائق أو ثوانى تتم فيها نقلة نوعية مفيقة تسمح بإعلان إعادة تغير كيفى لا يظهر إلا  فيما بعد فى ناتج دورة إيقاع الإبداع هذه، وهذه النبضات الإبداعية  لا تـُرصد طبعا، وإنما تـُستنتج من نتائج تراكمها الإيجابى فى شكل ناتج إبداعى حسب نوع الرصيد من المعلومات: رموزا أو معادلات أو ألفاظ أو نظريات علمية أو أى إبداع من أى نوع كان وهو ما استعرت له مصطلح الميكروجينا.

سابعا: إنه إذا حيل بين انتظام اداء  الإيقاع الحيوى  الطبيعى وبين تحقيق  وظيفته التشكيلية فالنمائية والتطورية لأى سبب قهرى أو اغترابى، أو انغلاقى فإن دورات الإبداع الحيوى (النبض) قد تنغلق فيتوقف النمو (الإبداع) ويتوقف التغير الكيفى فيجهض الإبداع، وينغلق النبض إلى حركة دائرية مغلقة، (وهو ما أتى ذكره فى بعض اضطرابات الشخصية من منطلق توقف النمو)([14]) .

ثامنا: إذا زادت نبضة الإيقاع الحيوى جسامة وحدة، أو انحرفت أطوارها أو أجهضت فى أحد أطوراها الباكرة إلى ما لا يمكن احتواؤه فى حركية نبضات النمو والإبداع فإن  مضاعفات ذلك تظهر فى صورة إعاقة أو معاناة جسيمة وهو ما يبرر تسميتها مرضا، وقد نحتُّ لهذه النوبة المتجاوزة حدود النبض السوى لفظ  السيكوباثولوجى Psychopathogeny، وهو يعنى نبضة مختلة ذات عائد سلبى، ولكنها تظل “نبضة” و”دورية”، وأعتقد ان هذا قد يفسر دورية كثير من الأمراض النفسية النوابية.

4

تاسعا: هكذا يمكن ترتيب توازى نبضات الإيقاع الحيوى المتصاعدة على الوجه التالى:

Ontogeny  recapitulates  Phylogeny                                    

الأنتوجينيا تلخص الفيلوجينا

Microgeny recapitulates  Macrogeny

الميكروجينى  تلخص الماكروجينيا

أما السيكوباثوجينا‏ Psychopathogeny ([15]) فهى النبضة الفاشلة أو المنحرفة أو الجسيمة، وهى، أو آثارها، تمثل الإمراضية لمعظم الأمراض النفسية كما ذكرنا.

عاشرا: كما أن دورة الإيقاع الحيوى للقلب لها أطوار بنائية متتالية من أول طور الامتلاء السريع فالامتلاء المتباطئ حتى طور الدفع الأقصى طول الوقت طول الحياة، كذلك فإن الإيقاع الحيوى للمخ (الدماغ) له دوراته لكنها ليست بالتتالى المنظم مثل دورات القلب الأقرب إلى أن تكون ديناميكية كمية.

حادى عشر: لا أحد يعرف حتى الآن كيف يعيد المخ ترتيب نفسه مع كل دورة إيقاع حيوى، لكن الأبحاث تجرى على قدم وساق، فبعد أن نضجت وتأكدت معلومة أن المخ يعيد بناء نفسه أقرب إلى المسلمة، لم يتمكن العلم حتى الآن إلا من رصد نتائج هذا التنظيم مع كل دورة: بدءًا من دورات النوم حتى دورات الإبداع ولم أعثر – حتى الآن- على ما يربط ذلك بدورات النمو أو الامتداد إلى دورات الكون (الليل والنهار والنور والظلام ودورات الفلك).

ثانى عشر: يتوقف ترتيب الأمراض الناتجة من فشل أو انحراف أو إجهاض الإيقاع الحيوى للدماغ على ما إذا كان الناتج هو مظاهر تجاوُز حدة النبضة لحدود السواء حتى تفكيك النظام القائم مع العجز عن إعادة التنميط، أو  كان الناتج هو مظاهر إعاقة أداء النبض الحيوى للوظيفة التنظيمية والإيقاعية لإعادة التشكيل المستمر.

ثالث عشر: فى آخر تطور لفكرى فى مسألة الإبداع وصلت إلى أن مراحل نبض الإيقاع الحيوى تشمل خمس أحوال([16]) ولكنها لا تحدث بالترتيب كما فى حالة مراحل نبض القلب، وإنما ترتبط دوراتها المستمرة بظروف عادية، تلك الظروف التى تسمح بانطلاقها وتتبادل وتتشكل مع المراحل الأخرى حسب الفرص المتاحة إبداعا أو مرضا أو علاجا، وفى حالة المرض فإن النبض يستمر خاصة فى الأمراض الدورية لكن بنظام مختل وناتج فاشل.

إذن فنحن فى إيقاع حيوى مستمر فى الصحو والنوم، فى الصحة والمرض.

 وفيما يلى موجز لبعض ما أريد التأكيد عليه:

أولاً: برغم أنها نظرية نابعة من الممارسة الكلينيكية أساسا إلى أنها تدعمت، ومنذ البداية، بأصول من الطب عامة (وخاصة الجهاز الدورى بدءًا بإيقاع نبض القلب ثم الجهاز الهضمى الأيضى (أى شاملا التثميل الغذائى)، وحتى استعارة محدودة من علم جراحة العظام، كل ذلك تحت قيادة المخ (والجسد الشامل باعتباره وعيا متـَعَـيِّـناً،([17]) وقد نشرت ذلك فى المجلة المصرية للطب النفسى(([18]).

ثانيا: من حيث المصادر النفسية التى دعمتنى فقد كانت جماعا من مدارس متعددة من مدارس علم النفس المعاصر، وأكتفى بذكر أسماء بعضها لأننى غالبا سأعود إليها كلما لزم ذلك أولا بأول وأخص بالذكر:

أ- علم النفس التحليلى (كارل جوستاف يونج، وليس التحليل النفسى)، ثم المدرسة الإنجليزية فى التحليل النفسى، و(مدرسة العلاقة بالموضوع: ميلانى كلاين – فيريرى جانترب).

ب- أغلب أفكار وفروض كارل يونج بعد انفصاله عن فرويد.

ج- التحليل النفسى عبر التفاعلات Transactional Analysis  (إريك بيرن).

د- علم نفس الوعى (انتقاءات محدودة من هنرى إى الذى ابتدع اسماً ليميز مدرسته العضوية الديناميةOrgano-dynamisme  عن التحليل النفسى الذى كان يلقبه بعلم نفس اللاوعى، بما فى ذلك بعض استلهاماته من هوجلج جاكسون Huglig Jackson (دون الرجوع إلى الأخير مباشرة).

هـ- أفكار ساندور رادو الهيراركية البيولوجية.

و- قراءاتى مؤخرا فى النيوربيولوجيا والعلم المعرفى العصبى ونبذات من العلوم الكوانتية ([19])

ز- كتاب “أنواع العقول” لدانيال دينيت وقد نشرت موجزا له ونقدا محدودا([20])

ح- كتاب:”النفس ودماغها” لكارل بوبر، وجون إكلس([21])

الملحق: تأريخ وتوضيح:

نبذة تاريخية:

  • تأسست جمعية “جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى فى مصر سنة 1979([22] وكنت أنا وزملائى القلائل الطيبين الكادحين هم الذين أسسوها وحافظوا على بقائها برغم تواضع عطائها على المستوى العربى والعالمى([23]) لظروف موقفى الشخصى خوفا من الانزلاق إلى غير ما قصدنا إليه؟
  • أصدرت هذه الجمعية مجلة “الإنسان والتطور” وكانت مجلة فصلية، ظلت تصدر بانتظام من أول يناير 1980 وحتى أبريل/يوليو 2000/2001، وقد بدأت أفتتاحية أول عدد فيها تؤكد موقفها النابع من ثقافة التطور، انطلاقا من ثقافتنا الخاصة؟([24])
  • تواصلت أعمالى فى النقد الأدبى استلهاما من التطور ومن دورات الحياة، وبالذات بالنسبة لنقد أعمال نجيب محفوظ وأخص بالذكر على سبيل المثال لا الحصر “دورات الحياة وضلال الخلود ملحمة الموت والتخلق “فى الحَرافيش” ([25]) إلى مقال “الله: التطور: الإنسان: الموت: الله عبر نجيب محفوظ ” فى دوريته السنوية بتاريخ ديسمبر 2014([26]).، ثم نقد مقارن([27]) بين عمله “رحلة ابن فطومة” وعمل باولو كويلهو فى “السيميائى”

5

 

  • بلغ هذا التزاوج بين نشاطى فى النقد الأدبى، وممارستى تعرية إمراضية مرضاى (وخاصة الذهانيين) حتى الهمنى هذا النشاط أن أسمى العلاج الذى أمارسه “نقد النص الأدبى”؟.
  • تحمل النشرة اليومية باسم “نشرة الإنسان والتطور” منذ صدورها حتى الآن وقد بلغت أعدادها (4335) فى (14-7-2019)، تحمل أغلب معالم النظرية دون تفاصيل التطبيق؟ ونحن الآن فى السنة الثانية عشر لصدورها يوميا؟
  • ظهر فيما عرضناه من عينات من العلاج الجمعى سواء الألعاب الأصعب، مثل “أعمل حلم”([28]) أو “أقول كلام من غير كلام”([29]) معالم استلهامنا أطوارا أسبق من التواصل البشرى اللفظى.

[1] –  هذا تخطيط مبدئى بخطوط عريضة لمقدمة سبق أن أشرت إليها فى أكثر من موقع، وقد اختصرته فى هذه البادئة وأضفت إليه، بعض ما تسمح به حدود هذا العمل المقدمة كله.

[2] – نشرة الإنسان والتطور 28-2-2012  الأساس فى الطب النفسى: الافتراضات الأساسية (الإدراك) “ثلاثة فروض أساسية”  بموقع المؤلف:  www.rakhawy.net

[3] – Emotionally Processing Mind

  أنظر نشرات الإنسان والتطور (نشرة: 27-7-2014 الافتراضات الأساسية (ملف الوجدان واضطرابات العواطف) “مقدمة عن: الوجدان والوعى والتطور” وأيضا (نشرة 25-8-2014  “التطور والعواطف والعقل البيولوجى” بموقعى:  www.rakhawy.net

[4] – ساعدنى فى كثير من ذلك بالإضافة إلى الممارسة والنقد- تداعياتى على حدس مواقف مولانا النفرى المتواصل فى الغيب والتيه والمحاج وغيرها.

[5] – نشرة الإنسان والتطور 3-8-2014، الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية الفصل الخامس:  ملف الوجدان واضطرابات العواطف: “تشارلز داروين “جاب الديب: من بؤرة وعى إيمانه المعرفى” (وليس من “ديله”)  www.rakhawy.net

[6] –  وأيضا كما يعرفه من بقى من الأحياء غير الإنسان، دون أن يتلوث بكتابته تنظيراً فى وعى مغترب، لكنه حضر تفعيلا فى سلوكهم البقائى حتى بقوا للآن!!.

 [7]  وهو الاسم الذى ابتدعه فيرنر هاينزنبيرج  (Werner Heisenberg)واستعاره سيلفانو أريتى فى كتابه “الذات داخل النفس”     Intra-psychic self

Silvano Ariti: Intrapsychic Self: Feeling, Cognition, and Creativity in Health and Me (German) Hardcover – 1967

[8]– Erik Erikson’s Eight Ages of Man  Int J Psychiatry. 1966 May;2 (3): 281-307.

[9] – أنظر نشرة الإنسان والتطور: 1-3-2015 (ملف اضطرابات الإرادة) ‏ “اضطرابات الإرادة من منظور الإيقاع الحيوى، الإرادة عملية متغيرة مع نبض الإيقاع”  بموقع المؤلف   www.rakhawy.net

[10]– انظر هامش (69)

[11] – بحثت عن أصل كلمة macrogeny  بالإنجليزية، ولم أجد أنها تتناسب مع ما خطر لى بالعربية، ولم أجد كلمة بديلة، فخطر لى أن أتراجع ، وأن أبدا بالعربية، وأن أسمى التلخيص والاستعادة التى تحدث فى أزمات النمو الفردى اسما غريبا مثل اسم النظرية، وهو “نموّجينى” إشارة إلى أنها تعنى تكرار التطور الفردى الذى هو تكرار وتلخيص للطور الحيوى فى أزمات النمو المتتالية ، ثم تراجعت عن ذلك مكتفيا بهذا الاسم الغريب للنظرية نفسها الذى أتوقع أن يكون مجالا للتفكير ضمن احتمالات الرفض، وقررت أن استمر فى استعمال الكلمة المعربة “ماكروجينى” للغرض الذى حددته أنا وليس تناسبا مع الأصل الإنجليزى، ثم حين يأتى طور الترجمة إلى الإنجليزية!!!، ربما يقبلون أن أنحت لهم كلمة Growthegeny لتفيد ما أريد !!! عذرا.

[12] – هو الاسم الذى ابتدعه فرنر Werner  واستعاره سيلفانو أريتى فى كتابه الذات داخل النفس Intra-psychic self

[13] – على عكس كلمة ماكروجينى، وجدت أصلا مناسبا فى الإنجليزية لهذه الكلمة: “ميكروجينى”

Microgeny is used as an umbrella term to describe the symptoms which lead up to a specific behaviour or mental process. MICROGENY: “The steps which are the precursor to a behaviour reaction are the microgeny.”

[14] – يحيى الرخاوى:  “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، 1979  جمعية الطب النفسى التطورى

–  تحديث: “حالات البارانويا  واضطرابات الشخصية”  تحت الطبع

[15] – أنظر كتابى “الأم: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” الفصل الخامس “الاكتئاب”، 1979، جمعية الطب النفسى التطورى بموقع المؤلف  www.rakhawy.net  

[16]– نشرة “الإنسان والتطور” بتاريخ: 14-3-2016، “تنويعات الإيقاعحيوى وحالات الوجود المتناوبة، ونشرة 15-3-2016 “علاقة الإيقاعحيوى بفرض الحالات المتناوبة” بموقع المؤلف www.rakahwy.net

[17] – Concretized consciousness                 

[18]– Egypt. J. Psychiatry. (1980a) 3 159-161‏ “Expansion of the Concept of “Medical Model” in Psychiatry”

[19] – Quantum  Sciences

[20] – نشرة الإنسان والتطور: بتاريخ 2-1-2008، “أنواع العقول  (وإلغاء عقول الآخرين) الطريق إلى فهم الوعى”  بموقع المؤلف   www.rakhawy.net

[21] -The self and Its Brain, By Karl R. Popper and John C. Eccles, Springer International , 1977.

[22] -“جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى” سجلت برقم 2546 بتاريخ 24/11/1979

[23]  – قارن نجاح الجمعية المصرية للعلاجات الجماعية التى أنشئت بعد هذه الجمعية بأكثر من ربع قرن، ونجحت فى التواصل عالميا حتى عقدت ثلاث مؤتمرات عالمية فى القاهرة فى غضون السنتين الأخيرتين: المؤتمر الدولى الأول من ٢٥ إلى 27 سبتمبر 2013 & والمؤتمر الثانى من 14 إلى 16 يناير 2016 وشغلت رئيستها منصب عضو مجلس إدارة الجمعية العالمية:

* المؤتمر الدولى الأول للجمعية المصرية للعلاجات والعمليات الجماعي، العمليات الجماعية كحافظة لبرنامج الارتقاء: الاعتبارات الثقافية، (القاهرة 2013).

* المؤتمر الدولى الثانى للجمعية المصرية للعلاجات الجماعية”من الأمل إلى العمل” العمليات الإبداعية الموازية: فى التطور، والثورة ، والعلاج الجمعى النمائى (دور الوعى الجماعى فى إبداع إعادة الولادة) (2016)

* المؤتمر الدولى الثالث للجمعية المصرية للعلاجات والعمليات الجماعية الأمل والعمل والتواصل، 2018

[24] – انظر “افتتاحية” العدد الأول  يناير 1980- “مجلة الإنسان والتطور الفصلية”

[25] – انظر هامش رقم (11)

[26] –  يحيى الرخاوى مقال: “الله: التطور: الإنسان: الموت: الله عبر نجيب محفوظ” دورية محفوظ: العدد السابع: ديسمبر 2014-  مركز محفوظ: المجلس الأعلى للثقافة

[27] –  يحيى الرخاوى مقال: “الأسطورة الذاتية: بين سعى كويلهو، وكدح محفوظ”، دورية نجيب محفوظ العدد الثانى ديسمبر 2009، مركز محفوظ: المجلس الأعلى للثقافة  www.rakhawy.net

[28] – نشرة الإنسان والتطور 22-9- 2010 (فرض: “نحن نؤلف أحلامنا” تجربة من العلاج الجمعى “نعمل حلما”: “هنا والآن”)   www.rakhawy.net

[29] – نشرة الإنسان والتطور 21-8-2012  ( الافتراضات الأساسية): “عينة أكثر تكاملا من جلسة العلاج الجمعى حول لعبة: “أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن…..”  www.rakhawy.net 

 (جدول مقارنة شاملة بين الطبنفسى التطورى

 والطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى)([1])

أولا: نقاط الالتقاء1

[1] – وبه بعض التعديلات والملاحظات الطفيفة بالإضافة إلى القليل من المعلومات الجديدة لم أذكرها من قبل.

ثانيا: أوجه الاختلاف والفروق الأساسية

table 2

table3

table4

table5

table6

table7

وبعـد

  رحت أتأمل فى جدول المقارنة، فوجدت أن الفروق أكبر مما كنت أتصور، وبالرغم من أن تنظيرى فيما يسمى النظرية التطورية الإيقاعحيوية مُـحـمـَّل بجرعة عالية من التطور، إلا أن الفروق– من خلال الجدول – أكدت لى أن بعد الإيقاعحيوى فى نظريتى، هو أبعد  بكثير عن الواقع التجريبى، وأن  الاتفاق يكاد يقتصر على البدء من “نظرية الاستعادة” فى النوعين وعلى محاولة فهم غاية المرض ولغته، ذلك لأن  القياس الذى بنيتُ عليه قراءة مستويات الإيقاعحيوى لا يمكن إثباته بطرق البحث التقليدية، إلا أن الممارسة الكلينيكية تظل هى الأساس طول الوقت.

الفصل السابع: المدارس النفسية والنماذج العلاجية

الفصل السابع: المدارس النفسية والنماذج العلاجية

الفصل السابع

 المدارس النفسية والنماذج العلاجية

استهلال

‏ منذ‏ ‏ما‏ ‏يقرب‏ ‏من‏ ‏نصف‏ ‏قرن‏ ‏وأنا‏ ‏أعيش‏ ‏معهم‏، ‏بينهم‏، ‏فيهم، ‏ ‏فىّ، ‏ وكنت حين‏ ‏بدأت‏ ‏قراءتى ‏فى ‏مدارس‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏المعاصرة‏، ‏وكان‏ ‏الكتاب‏ ‏شبه‏ ‏مقرر فى دبلوم التخصص (حوالى سنة 1960)‏، ‏تأليف‏ ‏وودورث Woodworth ، ‏رحت‏ ‏أتعجب‏ ‏من‏ ‏كثرة‏ ‏هذه‏ ‏المدارس‏ ‏وتنوع‏ ‏رؤيتهم‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏إنسان‏، ‏وكنت‏ ‏كلما‏ ‏قرأت‏ ‏مدرسة‏ ‏وجدت‏ ‏أنها‏ ‏صحيحة‏، ‏فإذا‏ ‏انتقلت‏ ‏إلى ‏أخرى ‏وجدت‏ ‏أيضا‏ ‏أنها‏ ‏صحيحة‏، ‏فثالثة‏ ‏ورابعة‏ ‏وهكذا‏، ‏إلا‏ ‏فرويد‏ ‏العظيم‏، ‏هو‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يثيرنى مكرراً: ‏فأرى ‏أن‏ ‏مدرسته‏ ‏صحيحة‏ ‏أحيانا‏ ‏وشاطحة‏ ‏كثيرا‏، ‏لكن‏ ‏الذى ‏أعجبنى ‏فيه‏ حينذاك ‏بوجه خاص‏ ‏هو‏ ‏أنى اعتبرته‏ ‏كان‏ ‏قادرا على‏ ‏التغيـُّر‏، ‏فثم‏ ‏فكر‏ ‏فرويدى باكر، وآخر متأخر، وكان‏ ‏من‏ ‏أحسن‏ ‏أفكاره‏ الباكرة – وقد تنكر لها – هى التى ‏لم‏ ‏تنشر‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏موته‏ ‏هو‏ ‏المشروع ‏The project، الذى  أعتبره الأساس ، ولو من حيث المبدأ، لدور النيوروليولوجى الأحدث لفهم النفس والمخ فالطب النفسى، ولكنه تنكر له ورفض نشره فى حياته، ‏ثم أعجبنى فيه أيضا شجاعته التى ‏اقتحم‏ بها ‏الموت‏، ‏أعنى ‏”غريزة‏ ‏الموت”‏، ‏ثم‏ ‏قيل‏ ‏أنه‏ ‏تراجع‏ ‏عنها‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يموت‏، ‏أما‏ ‏فرويد‏ ‏الشخص‏ ‏المهزوز‏ ‏الذى ‏يغمى ‏عليه‏ أثناء المناقشة ‏حين‏ ‏يشتد‏ ‏خلافه‏ ‏مع‏ كارل ‏يونج، فقد وصلنى منه ضعفه البشرى، وبصراحة لم أتأكد‏ ‏من ‏علاقاته‏ ‏واعتماده‏ ‏على ‏الهيروين‏ ‏كما‏ ‏قيل‏، ‏لكنه ظل هو عندى‏ ‏فرويد‏ ‏ ‏العظيم‏ الذى احترمه ولا أتبعه.

وكان‏ ‏سيدنا‏ ‏يونج‏ ‏من‏ ‏أطيب‏ ‏من‏ ‏عرفتهم حتى الانبهار وهو يغور‏ ‏غورا‏ ‏إلى ‏النماذج‏ الأولية ولا يتردد فى ‏السباحة‏ ‏فى ‏اللاشعور‏ ‏الجمعى، و”تجربة الرب”.‏

أما‏ ‏الأستاذ‏ (‏الخُوجَهْ‏) ‏العنيد‏ ‏ألفرد‏ ‏أدلر‏ ‏فقد‏ ‏مثل‏ ‏لى ‏التحدى ‏والمدرسية‏ ‏التى ‏يكاد‏ ‏يزعم من خلالها‏ ‏أن‏ ‏”التربية”‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏أن‏ ‏تصلح‏ ‏ما‏ ‏أفسد‏ ‏الدهر،‏ ‏والوراثة‏ ‏أيضا‏!!‏

وحين‏ ‏ذهبت‏ ‏إلى ‏فرنسا‏ (1968-1969) لعام واحد: حضرت‏ ‏بانتظام‏ ‏مع‏ ‏”هنرى ‏إى” Henry Ey ‏بالذات‏ (‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏حضورات‏ ‏متقطعة‏ “‏لجان‏ ‏ديلاى”Jean Delay، ‏مكتشف‏ ‏أول‏ ‏عقار‏ ‏ضد‏ ‏الذهان‏، ‏وأعظم‏ ‏عقار‏ ‏حتى ‏الآن‏ ‏(الكلوربرومازين‏) ‏وكذا‏ ‏حضرت‏ قليلا جدا لقاءات “جاك ‏لاكان”Jacques Lacan ‏ ‏شخصيا‏ (‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏شيئا‏)، وقد ‏كان كل هؤلاء الثقات‏ ‏يتناوبون‏ ‏الحضور‏ ‏وعرض‏ ‏الحالات‏ ‏وحلقات‏ ‏النقاش‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏القاعة‏ ‏فى ‏مستشفى “‏سانت‏ ‏آن”‏ ‏بالحى ‏الثالث‏ ‏عشر‏ ‏فى ‏باريس‏، ‏جذبنى ‏من‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏”هنرى ‏إى” ‏وهو‏ ‏ينبه‏ ‏أن‏ ‏مسألة‏ ‏اللاشعور‏ ‏الفرويدية‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏أقل من الإحاطة‏ ‏بالإنسان‏، ‏وأنه‏ ‏ينتمى إلى – بل إنه‏ ‏صاحب‏ ‏مدرسة-‏ “‏علم‏ ‏نفس‏ ‏الشعور‏”، ‏حيث‏ يعتبر أن ‏الشعور (الوعى Consciousness)‏ ‏هو‏ ‏الرائد‏، ‏و‏ ‏ما‏ ‏دون‏ ‏ذلك‏ ‏يتبعه‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يتبعه‏، ‏وكان‏ ‏النموذج‏ ‏الذى ‏يحتذيه‏ ‏هنرى ‏إى ‏فى ‏رؤيته‏ ‏لترتيب‏ مستويات الشعور، ومن ثـَمَّ ‏منظومات‏ ‏الدماغ‏، ‏هو‏ ‏نموذج‏ ‏الفيلسوف‏ ‏طبيب‏ ‏الأعصاب‏‏ “‏هوجلج‏ ‏جاكسون‏” Huglig Jackson  ‏الذى ‏علمنا‏ ‏منذ‏ ‏القرن‏ ‏التاسع‏ ‏عشر‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏المخ‏ ‏البشرى ‏مرتب بشكل هيراركى متصاعد‏، ‏وأن‏ ‏الأعراض‏ ‏التى ‏تظهر‏ ‏فى ‏اضطرابات‏ ‏الجهاز‏ ‏العصبى ‏هى ‏مجموع‏ ‏فشل‏ ‏المستوى ‏الأعلى، ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏ظهور‏ (‏إطلاق‏ Release) ‏المستوى ‏الأدنى (‏الأقدم‏ ‏تطوريا‏)، ‏كما‏ ‏طمأننى هنرى إى ‏إلى ‏ما‏ ‏خطر‏ ‏لى ‏أثناء‏ ‏الممارسة‏ ‏عن‏ ‏علاقة‏ ‏الصْرع‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏بالأمراض‏ ‏النفسية‏، ‏وأيضا‏ ‏أعاد‏ ‏لى ‏ثقتى ‏بأن‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏المدارس‏، ‏أقرت‏ ‏أم‏ ‏نفت‏، ‏هى ‏ذات‏ ‏جذور‏ ‏بيولوجية‏، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏يطلق‏ ‏على فكره مصطلح‏ “‏البيولوجية‏ ‏الدينامية”‏ Organo-dynamism‏ ولست متأكدا إن كان اسماه بــ “النظرية” أم لا.

وفى ‏فرنسا‏ ‏أيضا‏ ‏أتيحت‏ ‏لى ‏الفرصة‏ ‏لظروف‏ ‏شديدة الأهمية‏ أن‏ ‏أقرأ‏ ‏كتاب “‏جانترب”‏ ‏عن‏: “‏الظاهرة‏ ‏الشيزيدية‏ ‏والعلاقة‏ ‏بالموضوع‏ ‏والذات”‏([1]) ‏فانفتح‏ ‏لى ‏أفق‏ ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏أحلم‏ ‏به‏ ‏فى ‏نقد‏ ‏فرويد‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏والتعرف‏ ‏على ‏ميلانى ‏كلاين Melanie Klein  ‏‏وفيربيرن Fairbairn (‏محلل‏ ‏جانترب‏) ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى، ‏وظللت‏ ‏وأنا‏ ‏أقرأ‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏ملتهما‏ ‏صفحاته‏ ‏أتعجب‏ ‏على ‏خيال‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ ‏وهم‏ ‏يربطون‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏تال‏ ‏بعلاقة‏ ‏الطفل‏ ‏بأمه‏ ‏فى ‏الشهور‏ ‏الأولى ‏وهو‏ ‏يمر‏‏ ‏بالمواقف‏ ‏المختلفة‏ ‏من‏ ‏الشيزيدية‏ ‏إلى ‏البارنوية‏ ‏إلى ‏الاكتئابية‏، ‏ليظل‏ ‏متأثرا‏ ‏بموقفه‏ ‏الأول هذا‏ ‏طول‏ ‏حياته‏،‏ ‏بسبب‏ ‏موقف‏ ‏أمه منه‏ ‏بالذات‏ فى هذه المراحل، ‏وهى “الموضوع”‏ ‏الأول،‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الأشهر‏ ‏الباكرة‏، وبالرغم من اقتناعى بسلامة الأفكار ودقة الملاحظات وحبكة الخيال، إلا أننى كنت متحفظا طول الوقت على أن يكون موقف الأم أساسا هو المسئول عن مدة ومدى وآثار التوقف فى هذه المحطات النمائية التى اسمتها هذه المدرسة بالمواقع، وهى الموقع الشيزيدى Schizoid Position والموقع البارنوى  Paranoid Position، فالموقع الاكتئابى Depressive Position  (وذلك بعد أن عدّل جانترب الترتيب) من هنا بدأت نقلتى إلى البحث عن جذور هذه المواقف فى الفكر التطورى، وأننا نرثها أساسا من أسلافنا الأحياء، وأنها تختلف شدة وضعفا حسب جذورنا العرقية، وأيضا حسب التاريخ الوراثى الأقرب، وأن دور الأم هو دور تدعيمى لهذه المواقع الواحد تلو الآخر، وذلك أيضا حسب موقفها وتركيبها وطريقة علاقاتها بالكيان الطفلى النامى.

وحين‏ ‏رجعت‏ ‏إلى ‏الوطن‏، ‏ومنذ‏ ‏أوائل‏ ‏السبعينات‏ ‏وجدت‏ ‏نفسى ‏فى ‏رحاب‏ ‏سلسلة‏ ‏أخرى ‏من‏ ‏المدارس‏ ‏الأحدث‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏أهمها‏ ‏مدرسة‏ ‏التحليل‏ ‏التفاعلاتى Transactional Analysis ‏لصاحبها‏ ‏الدمث‏ ‏إريك‏ ‏بيرن‏([2])، ‏الذى ‏لا أظن أنه أتيحت له فرصا كافية لاستثمار‏ ‏هذا‏ ‏الفتح‏ ‏الهائل‏ ‏فشوهه‏ ‏تلاميذه‏ ‏بالتبسيط‏ ‏والتسطيح‏، ‏ثم‏ ‏”ساندور‏ ‏رادو”‏ ‏صاحب‏ ‏الفكر‏ ‏الهيراركى ‏البيولوجى ‏المتناغم‏، ‏ويقفز‏ ‏أستاذنا الرائع ‏ سلفانو‏ ‏أريتى Silvano Arieti ([3]) إلى ‏وسط‏ ‏سوق‏ ‏المدارس‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يصنف نفسه‏ كصاحب‏ ‏مدرسة خاصة، لكنها تصلنى باعتبارها المدرسة‏ ‏المعرفية‏ ‏الإرادية‏ Cognitive Volitional Theory ‏وإن‏ ‏كانت شهرة أريتى أكثر هى من خلال ‏ ‏كتابه‏ ‏العظيم‏ “‏تفسير‏ ‏الفصام‏”Interpretation of Schizophrenia، ‏ثم‏ ‏وصلنى – ربما مصادفة – كيف أن‏ ‏شولمانShulman ([4]) ‏من‏ ‏خلال‏ ‏كتابه‏ “‏مقالات‏ ‏فى ‏الفصام‏” Essays in Schizophrenia ‏قد عزى إلى “‏أدلر‏”  Alfred Adler ‏وعلم‏ ‏النفس‏ ‏الفردى مفهوما غائيا يعطى لأعراض الفصام معنى ودوراً، ‏ولم‏ ‏أكن‏ قد ‏أدركت‏ ‏باكرا‏ ‏أن‏ ‏أدرلر‏ ‏يمثل‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الغائية‏ ‏التى ‏التقطها‏ ‏شولمان‏، ‏فإذا‏ ‏به‏ ‏يرسم‏ ‏مسيرة‏ ‏الفصام‏ ‏على ‏لسان‏ ‏رحلة‏ ‏فصامى ‏وكأنه‏ ‏اختار‏ ‏هذا الحل المرضى الصعب‏ ‏ليحقق‏ ‏بأعراضه‏ ‏وتفككه‏ ‏وتفسخه‏ ‏وانسحابه‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يحققه‏ ‏فى ‏صحته‏ ‏التى ‏اعتبرها‏: ‏اغترابه‏، وكل هذا من صميم هذه الغائية المرضية ضد التطور لكنها من منظوره

وبعد

هكذا ظللت‏ ‏أمارس‏ ‏مهنتى ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏وأنا‏ ‏محاط‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏الهادية‏ ‏المضيئة‏، ‏آخذ ‏من‏ ‏كل‏ منها ‏ما‏ ‏يناسب‏ ‏مريضى ‏فى ‏وقت‏ ‏بداته‏ ‏لمرحلة‏ ‏بذاتها‏ ‏لهدف‏ ‏بذاته، أحاول أن استمع للأعراض والمواقف أكثر من رصدى للشكوى صفات السلوك، وأحاول أن أفهم وظيفتها أكثر من تركيزى على تسميتها، ثم أحاول أن أحقق لها وظيفتها بالسبيل السليم بدلا من تماديها فى التدهور إلى المآل المرضى السلبى مستعملا فى ذلك كل المتاح من معارفى وخبراتى بلا استثناء.

ثم لحق كل ذلك مغامرتى بكتابة كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” وهو الذى أعيدُ طبعه حاليا (2019) فى عدة كتب بعد أن اضطررت لبعض الإضافات الهامة، مع أقل قدر من التعديلات فى الفكر الأساسى وقد كتبت المتن الشعرى سنة 1973/1974 فى حين كتبت شرح هذا المتن سنة 1979 وقد اكتشفت أنه احتوى الكثير من فكرى التطورى دون قصد أو تخطيط مسبق منظم، فحمدت الله.

أمـَـا وقد ‏ ‏لحق‏ ‏الطب‏ ‏النفسى التقليدى ‏ما‏ ‏لحقه‏ ‏من‏ “‏عوْلمة‏” ‏مغيرة (بعد أمـْـرَكـَـة خبيثة) كادت تشككنى فيما أفعل رافعا لواء ‏ما‏ ‏أسموه‏ ‏النموذج‏ ‏الطبى الحقيقىReal Medical model ، ‏فقد واصلت نقدى وتعلمى من مرضاى لأتبين أكثر فأكثر أن‏ ‏الطب‏ ‏النفسى قد انساق وراء فروع الطب الأخرى ‏فى ‏حكاية‏ ‏توحيد‏ ‏اللغة‏ ‏وزعم اللاأيديولوجية‏، ‏وزعم اللانظرية‏Atheoretical ‏حتى ‏ضاعت‏ ‏معالم‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏لحساب‏ ‏وصف‏ ‏سطحى تصنيفى ‏ليس‏ ‏له‏ ‏فائدة‏ ‏عملية‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏نتفق‏،… نتفق‏ ‏على ‏ماذا‏؟ ‏ليس‏ ‏مهما‏، ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏نتفق‏، أين‏ ‏الهدف‏ ‏؟‏ ‏أين‏ ‏الإنسان‏ ‏؟‏ ‏ماذا‏ ‏نفعل‏ ‏ونحن‏ ‏نعالج‏ ‏؟…‏لنصل‏ ‏إلى ‏ماذا؟  ‏يعنى ‏ماذا؟‏

 وبرغم كا هذه الإغارة، وبرغم الوحدة وغموض المنهج ، فقد قمت بتقديم هذه الخطوط العريضة لهذه المحاولة النابعة من الممارسة الطويلة، والثقافة الخاصة، فضلا عن الحوار المتصل مع كل ما يصلنى من جديد، أو يستحدث من قديم، وقد رأيت أن أختم هذا العمل بنبذة مختصرة تفيد تعدد المدارس، والمداخل، والنماذج المتعلقة بمحاولة فهم الإنسان، ومن ثم تحديد ماهية المرض ومفهوم الصحة، ثم رحلة العلاج فيما بينهما حسب كل مدرسة

لزوم ما يلزم :

مقدمة: هل يوجد فرق بين المدرسة والنظرية والأيديولوجى والنموذج؟ فيما يتعلق بالطب النفسى خاصة والعلوم النفسية عامة؟

لن أعرج إلى أى تنظير مطول، فالهدف هنا هو تذكرة الممارس أنه يتقن ممارسته أكثر فأكثر كلما تعرف على منظوماته المعرفية والكلينيكية طبقة وراء طبقة، فمن حيث المبدأ الأساسى دعونا نكرر أننا إنما نعالج مرضانا “بما هو نحن” حتى لو لم تعرف تحديداً “ما هو نحن” إلا أنه يعمل رغما عنا ويحدد اختيارنا ومنهجنا، بل ويقرر نوعية نتائجنا، ثم دعونا نحدد هذه الخطوط العريضة أولاً.

‏(1) ‏إن‏ ‏مزيدا‏ ‏من‏ ‏المدار‏س يمكن‏ ‏أن‏ ‏تزداد‏ ‏مع زيادة النقد والمراجعة وتجدد الفروض وتتبع النتائج.

‏(2) ‏إن‏ ‏ثم‏ ‏اتفاقاً ‏عاماً‏ ‏يشمل‏ ‏أغلب‏ ‏النظريات‏ (‏لا‏ ‏كلها‏) ‏يؤكد‏ ‏على ‏قيم‏ ‏مشتركة‏ ‏مثل‏: ‏التوازن‏ (‏الداخلي‏) ، ‏والتكيف‏ (‏مع‏ ‏الآخر‏)، ‏تأكيد‏ ‏الذات‏، ‏واستمرار‏ ‏النمو‏.‏

‏(3) ‏إن‏ ‏كل ما سوف أقدمه ليس إلا ‏مجرد‏ ‏عينات‏، ‏والمقصود هو التنبيه  على المبدأ الذى نكرره باستمرار من حيث استحالة ‏فهم‏ ‏المرض‏ ‏النفسي‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏ممارسة‏ ‏التطبيب‏ ‏النفسي‏، ‏بدون خلفية نظرية كإطار معرفى له معالمه (ولو لا شعورياً)، وأن ادعاء غير ذلك هو من أخطر‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏على ‏الممارس.

(4) إن الإطار المعرفى ليس بالضرورة مرادفا لما هو”أ]ديولوجيا” لكنه ليس بعيدا عنها، ذلك لأن  تَبَنِّى نظرية ما لا يعنى الاعتقاد فى أيديولوجية ساكنة، وإنما هو اعتراف بالموجود– كبداية- وهو قابل للتحور والتعديل والتطوير من خلال الممارسة.

(5) إن‏ ‏من‏ ‏يتنازل‏ ‏عن‏ ‏فكرة‏ ‏الاستهداء‏ ‏بنظرية‏ ‏ما‏ ‏بدرجة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏الوعى‏، ‏إنما‏ ‏يستسلم‏ ‏لنظرية‏ ‏خفية‏، ‏يديرها‏ ‏هو‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يعلم‏، ‏أو‏ ‏يدار‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏من‏ ‏وراء‏ ‏ظهره‏ (عادة لغير صالح المريض، ربما لصالح شركات الدواء أو المال أو السلطة أو العولمة المغيرة).‏

(6)  ‏إن‏  ‏بعض‏  ‏أبجدية‏ ‏بعض‏ ‏النظريات‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تترجم‏ (‏بتحفظ‏) ‏إلى‏ ‏أبجدية‏ ‏نظرية أخرى ‏.

‏(7) ‏إن‏ ‏الانتقائية‏ ‏ليست‏ ‏هى‏ ‏التلفيقية‏، ‏بل‏ ‏هى ‏تكاد‏ ‏تكون‏ ‏نقيضها، ‏وهى ‏تحدث‏ ‏تلقائيا‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الممارس‏ ‏صاحب‏ ‏الخبرة‏.‏

وسوف أكتفى فى كل المدارس بتحديد أربع عناصر هى التى تحكم الممارسة بشكل أو بآخر، فكل ممارس لابد أن عنده إجابات ولو غامضة عن هذه الأسئلة الأربعة:

1- ماهية من هو الإنسان؟

2- ما هو مفهوم الصحة النفسية؟

3- ما هو مفهوم المرض؟

4- إذن: كيف العلاج؟ (من وجهة نظر هذه الإجابات الثلاث السابقة؟)

إذا لم نجب نحن الأطباء عن هذه الأسئلة، فما جدوى أن ندرس هذه المدرسة أو تلك ، نحن أطباء نفسيون، ولسنا فلاسفة.

الفلسفة تدور كثيرا حول كليات منها السؤال الأول، وإلى درجة أقل الثانى، ولكنها لا تُعنـَى كثيرا بالسؤال الثالث والرابع،

الطب النفسى (أغلبه الآن) يبدأ من السؤال الثانى (خفيف خفيف) ثم يجد نفسه مستغرقا فى السؤال الثالث والرابع.

أى طبيب نفسى  لو تمعن الأمر، لوجد السؤال الأول والثانى حاضرين كأقوى ما يكون داخله أو داخل داخله.

 وبما أن المسألة أغلبها فى الداخل هكذا (دعنا الآن من كلمة اللاشعور كما جنّبنا كلمة  الفطرة مؤقتا)، فإنه (الطبيب) يمارس مهنته، بما فى ذلك اختياراته وتفضيله هذا العلاج عن ذاك، وقياسه فاعلية ما يفعل نوعا وكما، يفعل كل ذلك من خلال تأثير السؤال الأول والثانى (عن الإنسان والصحة)، ، سواء اعترف بذلك لنفسه أم لا.

كثير من الأطباء يتصورون أن هذه مسائل نظرية لا تعنيهم، لكن واقع الأمر أنهم يمارسون مهنتهم من خلال إجابتهم عنها دون أن يدروا.

وأستطيع أن أتصور أن هناك إجابتين خطيرتين تكمنان داخل كل طبيب نفسى، هو لا يكاد يعرفهما غالبا، وهما إجابتان تحددان اختياراته وممارساته ،  وكل إجابة منهما تشير إلى الرد على السؤال الأول والثانى معا.

الإجابة الأولى: (مرة أخرى من داخل داخل الطبيب)

الإنسان هو ما أمثله أنا شخصيا ، والصحة النفسية تقاس بما أنا فيه وما أفعله وأريده أو أرجو أن أكونه.

الإجابة الثانية:

إن مفهوم ماهية الإنسان هو أمر لا يعنينى لأننى لا أتفلسف، والصحة النفسية هى ما أقرأ عنه فى أمهات الكتب الطبنفسية جدا، والمجلات العلمية المُحكَّمة جدا جدا، الممولة بالسلامة من شركات الدواء الأحدث فالأحدث.

اكتشفت الآن  أننى حين وضعت نظريتى (“النظرية الإيقاعية التطورية”) كان يشغلنى هذا الشاغل الذى يمثل الإجابة الأرجح لهذه الأسئلة الأربعة، وربما هذا هو ما دعانى إلى الغوص  فى جذور مثل هذه المسائل الأساسية هكذا، ومن بينها الجنس والعدوان والإبداع والمرض واللغة والنمو البشرى والنقد والتطور الحيوى، والإيمان.

وهل يحتاج الأمر إلى شرح علاقة كل ذلك بممارسة الطب النفسى ؟

نعم يحتاج

ولكن الذى حدث هو أننى بعد أن قمت بما سبق أن جمعته وقسمته إلى مجموعات ثم جدولته ونشرته باللغتين الإنجليزية والعربية، وقد بدأت هذا كله سنة 1980 وكنت فى مهمة فى الخارج وعندى فائض من الوقت، إلا أننى حين رجعت إليه الآن وقد تم نشره كما هو مع ما طرأ عليه من تعديلات طفيفة أو إضافات شارحه توقفت فجأة وتراجعت.

نعم هذا ما حدث، وقررت ألا أشغل قارئى بمجرد تعداد وصفى لما قد لايحتاجه إلا لمزيد من الإحاطة النظرية فاخترت من كل مجموعة مدرسة واحدة مـُـمثـِّـلة.

وقبل أن أعرض مجرد إشارة إلى بعض ما جمعت فى الربع قرن الأخير أقر واعترف أن مدارس ونظريات جديدة غاية فى الأهمية وبالذات فى مجال يسمى العلم المعرفى والعلم المعرفى العصبى قد ظهرت وانتشرت وتستحق العرض والمناقشة.

إن ظهور هذه النظريات الجديدة، أو تطور النظريات القديمة له دلالتان:

الأولى: إن تعدد هذه النظريات إنما يدل على صعوبة ما تتناوله وغموضه.

الثانية: إن باب الاجتهاد لم يقفل، ولا ينبغى أن يقفل ما دامت المعرفة منفتحة.

وبعد

وفيما يلى مجرد إشارة إلى بعض تلك المدارس التى أحببتها، وحاورتها ورفضت بعضها، وكتبت عنها فى موقعى، وفى كتاباتى السابقة، وهى لا تمثل كل ما أوصى بالاطلاع عليه، وقد اكتفيت ببضع كلمات تبين بعض موقفى من أساسيات هذا العمل أو ذاك، وهى كلمات لا تنفصل عن علاقة منظومة الطبيب والمعالج الظاهرة والخفية (أسطورته الذاتية) من موقفه العلاجى وطريقته ونتائجه

كما حذفت آسفاً أية إشارة لمدارس أحببتها وأثرتنى لكننى فضلت ألا أطيل أكثر من ذلك.

[1] -Harry Guntrip, Schizoid phenomena, object-relations, and the self , Published 1969 by International Universities Press in New York .

[2] –  Eric Berne, Transactional Analysis in Psychotherapy in 1961

[3] –  Silvano Arieti , Interpretation of Schizophrenia (first edition, 1955)

[4]Bernard H Shulman, Essays in schizophrenia, Baltimore, Williams & Wilkins,1968

التحليل النفسى التقليدى (الفرويدى)

table7-1

بالرغم من ممارستى أساسيات هذه المدرسة لأكثر من عشرين عاما إلا أننى لأ أدعى أننى أنتمى إليها ولا أزعم أنها أضافت إلىّ كثيرا، وإن كنت أحسب أن المرضى كانوا يرتاحون إليها بدرجة لا أتوقعها، لكننى رحت أتراجع بالتدريج فى الرضا عنها، وفى العشرين سنة الأخيرة بالغت فى نقدها حتى الرفض كما ظهر فى أعمالى الأدبية والنقدية  أكثر من متابعاتى المهنية.

table72

العلاقة بالموضوع (ميلانى كلاين وأخرون)

table74

table7-3

تأثرت بهذه المدرسة تأثرا بالغا من قراءتى لكتاب جانترب، الظاهرة الشيزيدية، العلاقة بالموضوع والذات Schizoidphernia on object relation and the self وقد قرأته عدة مرات أثناء مهمتى العلمية  فى باريس (1968/1969) وقد تعرفت من خلال ذلك على المدرسة التحليلية الانجليزية وكيف نقدت فرويد واعتبرته أكثر بيولوجية مما تسمح به فروضها عن أن أساسيات التركيب البشرى من خلال العلاقة بالموضوع الأم بالذات، وقد رحبت أكثر بنقل جانترب للموقع البارنوى قبل الموقع الاكتئابى لكننى ظللت متحفظا على تفسير الاكتئاب بقتل الأم الخيالى خوفا من هجرها المفاجىء وهذا هو ما تناولته فى فروضى لاحقا.

 كما رفضت أن تكون تلك المواقف هى الأصل واعتبرت أنها :  من خلال المنظور التطورى والاستعادة ليست إلا إعلانا لتنشيط أطوار سابقة على مسار التطور، وأن استعادة هذه الأطوار لنشاطها بانتظام نمائى هو ألأساس لمسيرة النمو والتطور والإبداع الذاتى، أما شحنها أكثر أو أقل عن طريق العلاقة بالأم فهو وارد، لكنه ليس كافيا للتفسير النيوروبيولوجى الأعمق،كما أن غلبة نشاطات هذه المستويات الأقدم لدرجة الإمراض فهو إعلان لمدى جاهزيتها لقيادة مجموع المستويات (الأمخاخ) فى حالة المرض، وليس رجوعا إلى مواقع تثبيتية كما تقول هذه النظرية.

إريك بيرن

table75

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التحليل التفاعلاتي إريك بيرن: كل هؤلاء: حالات أنا، متفاعلة

table75

صالحتـْـنى هذه المدرسة على التحليل النفسى جزئيا بعد أن نقدت صعوباته التى لا نحتاجها مستعملة القياس على عقدة جوردن Gordon’s knot بأن تقتحم التركيب البشرى لتطلق مسيرة نموه نحو الصحة بالتناول المباشر بدلا من الاستغراق فى فك العقد، لكن ما أصابها من تسطيح لاحق جعلنى أقل حماسا لها بالتدريج.

 

 

 

 

 

‏سيلفانو‏ ‏أريتى لنظرية المعرفية الإرادية )t77

 

تعرفت على سلفانو أريتى أولا من خلال كتابه “تفسير الفصام” interprelation of schizophrenia ثم من خلال كتابه عن الإبداعية: ذلك الولاف السحرى Creativity the Majic Synthesis وقد أحببته وأحترمته وعاد فصالحنى على عمق آخر للتحليل النفسى، حتى للفصامى، كما رحبت واستفدت من تنظيره عن تطور المعرفة والإرادة بشكل مباشر.

النظرية‏ ‏التطورية‏ ‏الإيقاعية (الرخاوى)t78

أظن أنه لا مجال لتقديم هذه النظرية وكل ما سبق وما يلحق ليس إلا تأريخا لها، وشرحا لأبعادها، ثم رصدا لتطبيقاتها، ووعود بتنميتها.

ألفرد‏ ‏أدلر
t79

ألفريد ادلر

أهم ما أفدت منه هو كتاب شولمان الذى استلهم نظريته وأكد على غائية الفصام وأسماه “مقالات فى الفصام”  Essays in Schizphernia 

 التحليل‏ ‏الوجو‏دى (‏مثل‏ ‏رولو‏ ‏ماى‏)‏

t80

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نظرية الجشتالت

 81

 

 

 

 

 

 

نظرة الجشتالت : والعلاج الجمعى (الجشتالتى المعدل بالطبنفسى الإيقاعحيوي التطورى)

 82

تعرفت على هذه المدرسة أكثر وأعمق من خلال الممارسة أكثر من القراءة : ممارسة العلاج الجمعى فى ثقافتنا الخاصة، وكانت الممارسة انطلاقا من أبسط مبادىء كلية الإدراك والتركيز على “هنا والآن” هى بداية تعميق لحظة الزمن الراهنة وإلغاء الاغتراب فى الحكى عن الأسباب ثم جاء التأكيد بعد ذلك من خلال القراءة، لكننى لاحظت كيف تدعمت ممارستى بخلفية ثقافتنا الخاصة من حيث حضور الوعى المطلق فى “هنا والآن” وامتداده فى غيب هو أيضا “هنا و الآن” غيب ممتد إلى يقين “المابعد”.

 

 

 

 

 كارل‏ ‏يونج 

 

111

 

المرأة تكتمل بالرجل صح 15-8-2020--

 

منذ تعرفت على التحليل النفسى التقليدى وأنا أأتنس باختلاف هذا العظيم كارل جوستاف يونج الباكرة واللاحقة مع فرويد، والأكثر والاهم أنه طمأننى إلى أن ما يتحرك بنا فى العلاج الجمعى إنما ينتمى أكثر إلى ثقافتنا الخاصة، التى لا تبعد كثيرا عن هذا الفكر التحليلى الربانى الإنسانى التطورى الأعمق.

 أنتونى ‏سوتيش (عبر الشخصية)
84

هذه المدرسة لم أتأثر بها بشكل مباشر، لكنها حضرتنى فى ممارستى أغلب حوارات الوعى على قنواته المختلفة ومستوياته المتصاعدة وامتدادته بغير نهاية، فتآلفت مع ممارستى فى العلاج الجمعى الذى ينطلق من المنهج الجشتالتى عبر دوائر الوعى المتمادية الاتساع دون الاغتراب فى أى تغيرات روحية أو ميتافيزيقية.

النموذج الكيميائى البيولوجى المختزل
85

احترمت طول عمر ممارستى دور العقاقير النوعية فى التعامل مع نشاز مستويات الوعى المتباعدة، والمتصادمة، والمتفككة، والمفككة جنبا إلى جنب مع تنشيط المستويات الأقدر على القيادة والتناوب والإبداع مع استعمال إعادة التشغيل بالنوم، وبالعقاقير المزجزجة، وبتنظيم الإيقاع،

 كل ذلك ينتظم فى مفهوم الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى، أما اختزال ظاهرة المرض إلى خلل فى هذه المادة الخاصة فى ذلك الموقع بالذات زيادة ونقصا، فقد رفضته جملة وتفصيلا دون أن أخسر شيئاً.

ضد‏ ‏الطب‏ ‏النفسى
86

فهمت معنى توقيت ظهور هذه المدرسة بحضورها الأوربى والامريكى بعد الحرب العالمية الثانية وكيف أنها عبـَّرت عن مدى الاحتجاج على القتل واليأس مما يجرى، ورفض السلطات بما فى ذلك سلطة الطب النفسى وقهره، إلا أننى لم أفرح بها لذاتها بل إننى اعتبرتها نصف الحل وبالتالى فهى سلبية سلبية إذا لم تتطور إلى ما نأمل أن تتطور إليه تجربة الجنون ذاتها.

وبعد

أرجو أن يكون واضحا أن هذه التقسيمات، وبعض المواصفات، هى مجرد اجتهاد شخصى، كما أننى أقر وأعترف أن  هذا الاختصار بهذا الشكل هو مخل بلا  أدنى شك، فليس من المعقول أن تقع نظرية فى مئات الصفحات ثم أختزلها فى بضعة سطور.

لكن من الواضح أننى لم أختزل أية نظرية مما طرحتُ حالا، كل ما أردت توضيحه هو التأكيد على أن  أى نظرية فى الإنسان فى مجال علم النفس أو الإمراضية النفسية، لا بد وأنها تقدم مفهوما لهذه الأبعاد  الأربعة التى تبرر دراستها لمن يتصدى لعلاج المرضى، ولنتذكر مرة أخرى إن من يمارس الطب النفسى بوعى غائم، وهو لا يتعرض أصلا لهذه المفاهيم، ولا يبحث عنها داخله قبل خارجه، إنما يحكم على مريضه وعلى نفسه، ويوجههما إلى وجهة ما، قد لا يعرفها، وقد تسىء إليهما، وأن موقفه هذا ليس بالضرورة حياديا  كما يتصور.

تذكرة:

‏(1) ‏إن‏ ‏مزيدا‏ ‏من‏ ‏المدار‏س يمكن‏ ‏أن‏ ‏تزداد‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مجموعة‏  ‏أو‏ ‏فى ‏مجموعات‏ ‏منفصلة.

‏(2) ‏إنه‏ ‏يمكن‏ ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏وجدولة‏ ‏النظريات‏ ‏بعدة‏ ‏طرق‏ ‏أخرى.

‏(3) ‏إن‏ ‏ثمة‏ ‏اتفاق‏ ‏عام‏ ‏يشمل‏ ‏أغلب‏ ‏النظريات‏ (‏لا‏ ‏كلها‏) ‏يؤكد‏ ‏على ‏قيم‏ ‏مشتركة‏ ‏مثل‏: ‏التوازن‏ (‏الداخلى‏) ، ‏والتكيف‏ (‏مع‏ ‏الآخر‏)، ‏وتحقيق‏ ‏الذات‏، ‏واستمرار‏ ‏النمو‏ .‏

‏(4) ‏إن‏ ‏كل ما قدمنا ليس إلا ‏مجرد‏ ‏عينات‏، ‏والمقصود هو التنبيه  على المبدأ من حيث استحالة ‏فهم‏ ‏المرض‏ ‏النفسى‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏ممارسة‏ ‏التطبيب‏ ‏النفسى‏، ‏بدون نظرية (ولو لا شعورية) ، وأن ادعاء ذلك هو من أخطر‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏على ‏الممارسة.

(5) إن تبنى نظرية ما لا يعنى الاعتقاد فى أيديولوجية ساكنة، وإنما هو اعتراف بالموجود – كبداية- وهو قابل للتحور والتعديل والتطوير من خلال الممارسة.

‏‏إن‏ ‏من‏ ‏يتنازل‏ ‏عن‏ ‏فكرة‏ ‏الاستهداء‏ ‏بنظرية‏ ‏ما‏ ‏بدرجة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏الوعى‏، ‏إنما‏ ‏يستسلم‏ ‏لنظرية‏ ‏خفية‏، ‏يديرها‏ ‏هو‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يعلم‏، ‏أو‏ ‏يدار‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏من‏ ‏وراء‏ ‏ظهره‏ (عادة لغير صالح المريض، ربما لصالح شركات الدواء أو غيرها.‏

(6) ‏إن‏  ‏بعض‏  ‏أبجدية‏ ‏بعض‏ ‏النظريات‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تترجم‏ (‏بتحفظ‏) ‏إلى‏ ‏أبجدية‏ ‏أخرى ‏

‏(7) ‏إن‏ ‏الانتقائية‏  ‏تتسع‏ ‏وتنشط‏ ‏كلما‏ ‏زادت‏ ‏مساحة‏ ‏الإلمام‏ ‏بعدد‏ ‏أكبر‏ ‏فأكبر‏ ‏من‏ ‏النظريات

‏(8) ‏إن‏ ‏الانتقائية‏ ‏ليست‏ ‏هى‏ ‏التلفيقية‏، ‏بل‏ ‏هى ‏تكاد‏ ‏تكون‏ ‏نقيضها‏ ‏كما‏ ‏أشرنا‏، ‏وهى ‏تحدث‏ ‏تلقائيا‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الممارس‏ ‏صاحب‏ ‏الخبرة‏.‏

المحتوى

المحتوى

الموضوع

الصفحة

– الاهداء

3
– مقدمة

5

الفصل الأول:

الصحة النفسية للإنسان المعاصر

(عرض ونقد)

7

الفصل الثانى:

الطبيب (المعالج النفسى)

بين سجن الأيديولوجيا والأسطورة الذاتية

27

الفصل الثالث:

حالة إعاقة “أيديولوجية”!! (من العلاج الجمعى)

49

الفصل الرابع:

الطب النفسى السلبى

 والطب النفسى الإيجابى

67

الفصل الخامس:

الطبنفسى التطورى

87

الفصل السادس:

الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى

Evolutionary Biorhythmic Psychiatry

99

جدول مقارنة شاملة  بين الطبنفسى التطورى

والطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى

115

الفصل السابع:

المدارس النفسية والنماذج العلاجية

123

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *