الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: “فى ضيافة المرأة المُهرة” (12)

كتاب: الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: “فى ضيافة المرأة المُهرة” (12)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 2-9-2019

السنة الثالثة عشرة

العدد:  4384

 مقتطف من كتاب:

الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)

الفصل الثالث: “فى ضيافة المرأة المُهرة” (12)

..يبدو أن”الطريق” يوقظ بشكل ما علاقة أخرى بالطبيعة البشرية، والحدس، والتنبؤ، وألعاب القدر، وضعف الحسابات.

…. قانون خفى، وتناسق محتمل، ونشاز وارد، وقدَر متربص، وانتحار كامن، وغرائز متحفّزة،

(14 إبريل 1985 (وقت كتابة هذا الفصل):

لم يعد ثَمَّ شك فى أن تسجيل هذه الرحلة، ليس سوى تحايل للكشف عن جانب ما من “سيرة” كاتبها، ثم إنى أكتبها بعد أسابيع كثيرة (أو شهور قليلة) من نهايتها؛ فهى ليست تسجيلا.. ولكنها استعادة طليقة. ذلك أنه قد خطر ببالى أن كل هذه الرحلة يمكن أن تختصر فى كلمات كالتالى:

 “سافرنا وعسْكرنا، وعاشرنا الخواجات (وقد: “جـدُّوا فى الزَّمانِ وألعبوه”، كما يقول المعرى) وصاحبنا الطبيعة، ولم يُلْهِنا الشراء عن الناس أو عن أنفسنا، وعــُــدنا”.

 فماذا يمكن أن يجعلها تستأهل أن تحتل هذه الصفحات، إلا أن يكون كاتبها يريد أن يقول شيئا فانتهزَهَا فرصة، ليقوله. وهل يمكن ذلك إلا بهذا التجوال فى الداخل؟

الكلام عن الرحلة ليس إلا تحايلا، للترحال “فى الذاكرة”، أكثر منه وصفَ تجوال “فى الطريق”. كذلك لابد من الاعتراف أن ما أسميه “الناس”، إنما يشير إلى الناس فى “الداخل”، أكثر مما هم فى”الخارج”. على أنى لا أعنى بالذاكرة ذلك التذكر الراوى، بقدر ما أعنى ذلك” الإحياء المعايِشْ.

الذاكرة أمرها عجيب، وكل الحديث العلمى عن طبيعتها، لابد أن يتوارى بجوار حقيقة حِدّتها، وأعاجيب مفاجآتها، وحيوية روائحها؛ ذلك أنه يمكن الحديث عن الذاكرة كما دَرَستُها وأدّرسها بتقسيمها إلى: ذاكرة فورية، أو ذاكرة قريبة، أو ذاكرة بعيدة،… إلخ. وكل ذلك إنما يشير إلى “حفظ” معلومات معينة، ثم استرجاعها بتوقيت معين، وقدر معين. أما الذاكرة التى تبرق فى الظلام، والذاكرة التى تنقضُّ من شاهق، والذاكرة التى تتهادى فى تراخٍ، والذاكرة فى سباق التتابع، والذاكرة التى تفوح رائحتها حقيقة وفعلا، فهذه ظاهرات ليست فى متناول “المنهج العلمى” التقليدى المتواضع. فليفسح لنا العلم مجالا لنقول ونحكى، وليكن موقفنا حاسما وحادا مهما ضحكوا وأنكروا الكاتب اليابانى يوكيوميشيما، وهو يقول “كنت أدعى لسنوات طويلة أن بـوسعى تذكر أشياء شاهدتها وقت ميلادى، وكلما قلت ذلك كان الكبار يضحكون…إلخ”. ولم لا يصدقونـه؟. خوفا من أن يتذكروا بدورهم؟ فإذا لم تصدّق يوكيوميشيما، فلتصدق جارثيا ماركيز وهو يصف ما قفز إلى سطح وعى الكولونيل “أورليانو بونيدا أمام فصيلة الإعدام (فى مائة عام من العزلة)؟ “… لم تحضره أنصع ولا أغرب من كتلة الجليد (مجموع رؤوس الإبر) التى رآها طفلا منبهرا بدهشة والده فى مهرجان الغجر السنوى. (كان ذلك قبيل تنفيذ الحكم بالإعدام رميا بالرصاص).

خطرت لى هذه التأملات!!! وأنا أستقبل مفاجآت “وعيى الآخر”فى هذه اللحظة. ثمانى عشرة سنة مضت وأنا أسأل أولادى عن أغنية كنا نغنيها معاً؛ حين كنت أتوجه بهم صباحا إلى المدرسة، فلا يتذكرونها. ولا أنا طبعا، وفجأة، وبدون مناسبة، وأنا أقود السيارة فى هذا البلد الغريب، تقفز إلى وعيى تلك الأغنية بالذات؛ برنينها وصليلها، وكلماتها التى تبينتُ بعد قليل أنى لم أفهم معانيها كما ينبغى، ويرجع الأولاد أطفالا يتقافزون على المقعد الخلفى للسيارة، وبجوارى؛ ليغطوا بهذا النشاط الغنائى بعض الغم المدرسى الصباحى، وتعود الأغنية بكل أنغامها وأنا أقود السيارة هنا فى بلاد الغربة، تعود لتكشف عن نفسها (وربما عن المنطقة من دماغى التى كانت مختبئة بها) فأردد بالفرنسية فى صمت:

كان ثَمَّ فيل يتأرجح،

 فوق شبكة من خيوط العنكبوت،

وحين وجد ذلك ممتعا (مُهِمًّا)،

ذهب ينادى فيلا ثانيا.

أصبحا فيليْن يتأرجحان

فوق شبكة من خيوط العنكبوت.

وحين وجدا ذلك ممتعا…..إلخ إلخ

(ثم ثلاثة أفيال.. فأربعة.. وهكذا).

كنا قد خرجنا من الجبل، ذى الطريق الوعرة التى كنا نتأرجح فيها، والذى كان أولى باستعادة هذه الأغنية. ثم إن معنى الأغنية لم يكن فى متناولى أصلا حتى ذلك الحين، لكنه النغم هو الذى عاد أولا ثم جرّ وراءه الكلمات. قبل أن أعلن مفاجأة ذاكرتى العجيبة، أراهن إحدى بناتى على أنى تذكرتها “أخيرا”، وتتعجب، وتنكر، فأنشدها فتشاركنى، فأسألها-لأول مرة بعد ثمانية عشر عاما- عن معنى الشطر الثانى الذى كنت أردده بالفرنسية دون أن أعرف معناه، فتترجم لى معناه، فأمتلئ فرحا طفليا، وأنا أشاهد ذلك الفيل الضخم يتأرجح على شبكة خيوط لعنكبوت. ! الدنيا وهمٌ رائع. الأطفال يعرفون ذلك وهم يشاهدون الفيل يتأرجح على شبكة خيوط  العنكبوت، وأنه ينادى زملاءه الواحد تلو الآخر، ليجدوا ذلك ممتعا. الله!!!”.

ظهرت أشجار الفاكهة فى الحدائق حولنا من كل جانب، وكأنها تلتقى فى نهاية الطريق فتسده، وأدعى الخجل من هذا الرطان الخوجاتى، فلا أنا أتقن الفرنسية، ولا كانت طفولتى كذلك.

أنا لم أدخل المدارس إلا متأخرا (فى سن السابعة)، ظللت أقاوم هذا السجن المبكر حتى يئس أبى منى فعلّمنى الحساب أولا حتى استطعت أن أقوم بحساب تفاصيل صرف العشرة صاغ التى كان يعطيها لأمى فى طنطا كل صباح، لعل ذلك كان سنة 1940، وكانت العشرة صاغ تكفى لشراء اللحم والخضار وكافة الطلبات ويتبقى ما أثبته وأنا فرحان كبديل عن المدرسة. وحين اضطُررت إلى دخول المدرسة أخيرا كنت قد تقدّمت قليلا فى حروف الهجاء أيضا فدخلت مباشرة إلى سنة ثانية أوّلى (غير نظام الابتدائى. أيضا كان يسمى النظام الإلزامى) بواسطة من فريد أفندى نصّار (من بلدنا)، كان مدرسا فى مدرسة ملحق المعلمين بطنطا، وفجأة وجدت لزاما علىّ أن أحفظ القرآن من الآخر: أجزاء “عم”، و”تبارك” ثم “قد سمع”، مع أنها كانت مدرسة ولم تكن كُتَّــابا، فعجزت طبعا، وفى أجازة الصيف دخلت امتحان الملحق للسنة الثانية، للالتحاق بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية الابتدائىة بطنطا، دون سابق التحاق بالسنة الأولى لكبر سنى، ربما كان النظام يسمح بذلك، وربما جاملوا والدى الذى كان مدرسا فى مدرسة التجارة المتوسطة مع زميله “ابراهيم أبوالنجا” الذى صار بعد ذلك من أهم رواد إدارة الصحافة فى صحيفة الأهرام ثم فى مصر كافة.

أول ما وقع نظرى على مؤلف لوالدى (أيام أن عثرت على روايتى الشيخ الصالح، وأزميرالدا) كان بالاشتراك مع الأستاذ إبراهيم أبو النجا، كان كتيبا صغيرا أشبه بالكراس، وأذكر أن عنوانه كان “مناظرة بين العقل والعاطفة”. كان تسجيلا لمناظرة أجريت فعلا بينهما فى حفل مدرسى كما أخبرنى والدى فيما بعد. فوجئت آنذاك بأول تناقض أرصُده بغموض نسبى، ذلك أن والدى كان يدافع عن العقل (بطريقة عاطفية لا تخفى)، فى حين كان رجل الحسابات ابراهيم أبو النجا يدافع عن العاطفة (بإثباتات عقلية حاسمة المنطق). وأذكر أننى توقفت عند استشهاد والدى فى هذاالكتيب وهو يحاول أن يثبت -هجاءً- أن العاطفة الجامحة تسخِّر المنطق لأغراضها، استشهد والدى بقول الشاعر”والمالُ حلّل كل غير محلّل حتى زواج الشيب بالأبكار”، ولست متأكدا إن كنت قد رفضت هذا الاستشهاد لأنه فى غير موقعه، فى تلك  السن الباكرة، أم أن هذا الرفض أتانى لاحقا فى سن متأخرة.  أين العاطفة فى هذا الاستشهاد بالله عليكم؟ إنها حسبة عقلية صفقاتية خبيثة !!

نجحتُ فى امتحان الملحق للالتحاق بالمدرسة الابتدائية بعد أن كاد قطارالتعليم يتركنى، نجحت بالصدفة أو بالثقة فى قدرة والدى على تعويض ما قصّرت فيه، لا أعرف حتى الآن، لكنى وجدت نفسى فجأة فى سنة ثانية ابتدائى فى مدرسة “الجمعية الخيرية الإسلامية ” بطنطا، دون أى تحضير دراسى جاد سابق، وكنت قد جاوزت الثامنة، لم أمكث فى تلك المدرسة إلا بضع أسابيع، ثم انتقلت إلى زفتى مُطالَبا من والدى – هكذا خبط لصق –  أن أكون الأوّل على الفصل ، ومن الفترة الأولى؟ كيف بالله عليكم؟

كان والدى يحاسبنا حسابا عسيرا. أنا وأخى محمد الذى يكبرنى بسنتين . كنا إذا لم يطلع الواحد منا الأول فى امتحان  الفترة، ولو حتى جاء ترتيبه الثانى، ينادينا بعد استلام الشهادة، ويسألنا عن درجة كل مادة، ويكمل الدرجات الناقصة ـ ضربا بالمسطرة على أكفّنا ـ حتى الدرجة النهائية، مثلا الحساب 42 على 50، خذ عندك43، 44، 45 وهكذا، وكنت أحتجّ بينى وبين نفسى أحيانا، وعند أمى أحيانا أخرى بأن المفروض أن أُضرب عددا من المساطر تساوى الفرق بينى وبين الأوّل، وليس بينى وبين الدرجة النهائية، فكانت أمى تطيّـب خاطرى وهى لا تفهم ما أعنى، ثم تقول وهى تبكى بأن والدنا أدرى بما يفعل. كنت أتعجب كيف يطلب منى والدى أن أطلع الأول وأنا تاريخى الدراسى كله عام واحد (فى المدرسة الأولية) وبعض عام فى هذه المدرسة الجديدة التى لا أعرف ماذا هى، ومع ذلك طلعت الرابع فى الفترة الأولى، ولم يشفع لى ذلك، بل إن أخى طلع الثانى، وكان فى سنة رابعة ابتدائى، ونال جزاءه بنفس  الطريقة، وفى الفترة الثانية كنتُ قدعملتُ حساب المساطر التى تنتظرنى، لكن طلع ترتيبى الثانى، فتذكرت موقف أخى وأن هذا التقدم مرتبتين (من الرابع إلى الثانى) لن يشفع لى، وإذا بى أنفجر بكاء فور معرفتى هذا الترتيب. كان ذلك  فى حصة حامد أفندى مدرس الإنجليزى، وكان هو مشرف الفصل الذى يوزع الشهادات، وتعجّب الرجل، كيف لا أفرح بترتيبى المتفوق (الثانى) وأنفجر هكذا فى البكاء، فسألنى، فأخبرته وأنا أنشج عن مواد “قانون العقوبات” الغريب الذى يحاسبنا به والدى، فأخذ الشهادة منى، ووجد أن الفرق بين درجاتى ودرجات “الأول” هو درجة واحدة، فاستأذن الأول، بعد أن قرر شيئا رأفة بحالى، وقال له (للأول) إن ترتيبه لن يتغيّر لأن اسمى “يحيى”، فإذا أضاف لى درجة واحدة فى مادته (الإنجليزى)، ويبدو أنه أقنع نفسه أنى أستحقها، فسيظل الأول هو الأول، وسأكون أنا الأول مكرر، وقد كان، وكان الترتيب حينذاك يكتب بالأرقام 1-2-3) وليس بالحروف (الأول، الثانى، الثالث)، فزادنى حامد أفندى درجة فى الانجليزى، وقلب رقم اثنين إلى”م” ووضع على يمينها رقم”1″، فأصبح ترتيبى 1″م”، (أى الأول مكرر) وأنقذنى  مما لا يقل عن ثلاثين مسطرة وهو العدد الناقص عن مجموع الدرجات النهائية.

ومازالت فرحتى بهذه الدرجة أكبر من فرحتى بأى درجة نلتها فى حياتى.

هذا تاريخ لا يسمح أن تقـفـز إلىّ مثل هذه الأغانى بالفرنسية هكذا، فى الوقت الذى لا يتذكرها أولادى (أصحابها الأصليون)

أنظر أمامى فإذا بالخضرة المتنوعة تتكثف بشكل جميل حتى يبدو لى أن الطريق يختفى فيها، وأنها حدائق ممنوع اختراقها، فتتسرب إلى ذاكرتى ـ فى ما يشبه الاعتذار التعويضى ـ أغنية قديمة جدا، سمعتُُها فى طفولتى الأولى بـِلحنها المطاط، الذى يفرض على من تغنيها من نساء بلدنا أن تُحرك كلتا يديها مضمومتين أمام فمها ذهابا وعودة، فى تراوُح هادئ، وسلاسة طروب تقول الأغنية:

“نين يابراهيم؟.

 نُشوا الجناينْ، ونمشى منين يابراهيم؟.

لو كنت تتلف لالفّك فى جوز قفاطين،

واشيل المشنـّة وأقول حلو وعسل ياتين.

وتتردد الأغنية، وتتغير الأسماء، فيحل” بركات” محل” بِراهيم”، و”جوزْ ملَساَت” محل” جوز قفاطين”، و”البلح الأمهات”محل”التين”.

نين يا بِــركات،

 نَشوا الجناين ونمشى منين يا بِركات،

 لو كنت تتلف لاِلـفـَّك فى جوز ملَسات.

واشيل المشنـّه واقول طرى وعسل يامْهات.

(ملحوظة : نين” تعنى “منين” وملَـسات جمع ملس، والملـَس هو غاطاء  أسود كاس أشبه بالعباءة منه بالملاءة اللف، كان النساء يلبسنه احتشاما عند الخروج عادة)

وأضغط على بدال الوقود وكأنى أخلّق الطريق تخليقا أشق به حاجز الحدائق الجميل، وأشعر أن الذىن منعوا دخول أرض الله إلا على محتكريها قد نسوا أن للحدائق إرادة مستقلة تسمح بدخولها لمن يحبّها. “سماح”الحدائق أرحب من “خلق الناس”. إن من يضيـّق على المحبين الطريق، هوالخوف النابع من داخلنا قبل المطاردة الملاحِقة من خارجنا،  الخضرة مهما تداخلت لا تصبح سورا يمنع الاختراق إلا إذا أغلقنا مسامنا نحن أولا . نحن نقيم الحواجز داخلنا وخارجنا،  لتحول دون اتصالنا بالطبيعة ، حالت غابات الأسمنت المسلح  التى تلاصقت على الساحل الشمالى عندنا  مؤخرا بين الناس والبحر، ويا ليت سكانها يعرفون ما هو البحر..

 كنا قد تخطينا المنطقة بين “زغرب” و”لجبلجانا” (لوبليانا). وها نحن أولاء، قد وصلنا إلى الحدود الإيطالية.  ركنا الأتوبيس حتى يراجع مسئول الجوازات أوراقنا، وقد استغرق ذلك وقتا طويلا، بالمقارنة بما كان على حدود اليونان ويوغسلافيا. ويبدو أن النقلة من “الشرق” إلى “الغرب” (السياسَييْن) أصعب من العكس (مع أن المفروض هو العكس). وحين طلب الجندى المسئول على الحدود أوراق السيارة، فرحت وقلت: “أخيرا”!!. سيثبُت أن تعبى فى القاهرة له جدوى، فكل شئ معى تاما وجاهزا: الرخص، ودفتر”التربتيك”، واستمارة “129”، ورخصتى الدولية ذات الأختام الخمسة. فأنا أحمل من بلدنا مايسمح لى بذلك، رخصة درجة أولى (جميع أنواع السيارات استخرجتها وفى داخل داخلى أنى قدأُضطر للعمل بها يوما، من باب الاحتياط ضد الفقر. أنظر بعد)، على الرغم من كل ذلك مط الرجل شفتيه. بعد أن قلـّب بسرعة واستهانة شديدتين فى كل الأوراق، وسأل: “الكارت الأخضر”؟ . لم أفهم لأن أوراقى فيها كل الألوان، إلا الأخضر، وتحمست للدفاع ؛ فقد سألت كل الناس المسئولين فى بلدنا قبل مغادرتها عن المطلوب، وأكدوا لى أنى- هكذا- تمام التمام، وزيادة. ولكن رجل الحدود هز كتفيه مرة أخرى وأشار إلى مكتب قريب على أحد الجانبين، وانصرف كأنى فهمت. ولم أكن قد فهمت وحياة رسول الله، فتابعتـه، وقد اهتزت ثقتى بأوراقى قليلا، محاولا أن أفهمه أُنى كنت فى اليونان ويوغسلافيا، ولم يطلب منى أحد شيئا بأى لون كان، بل إنهم  قد بلغت ثقتهم بى، (ربما ببلدى) أنهم تركوا أرقام سيارتى باللغة العربية لم يستبدلوها، وأنهم…وأنهم..، وهو يرفض الاستماع أصلا، ويعاود بين الحين والحين الإشارة إلى المكتب إياه، ذاكرا شيئا مثل أن اليونان ويوجسلافيا بلاد “أى كلام”. أما بداية من إيطاليا فيبدأ الكلام الجد، وإيش جاب لجاب، وتصورت أن أوراقى ناقصة لدرجة أنه يحتمل ألا نكمل الرحلة ونعود إلى بلدنا لنقص فى أوراق السيارة. لم أفزع، وقلت فى نفسى: والله فكرة!. فلعلنى شبعت مما رأيت، ولقد مررنا فى بلاد الله وقابلنا من خلق الله مايحتاج إلى شهور وسنين؛ حتى نستوعب بعض مايجدر بنا أن نستوعبه. المسألة ليست بعدد البلاد أو بعدد الساعات، وإنما بنوع الرؤية وصدق المعايشة. والله فكرة!! وذهبت إلى المكتب “المشار اليه”، وكررت لفظـَىْ “كارت أخضر”؟ فى شكل استفهامى، لعل وعسى. وإذا بالآنسة الحلوة كما القشدة الصابحة تبتسم فى وداعة، وتمد يدها إلى “دفتر” كله “أخضر فى أخضر”، وتطلب منى – ببساطة وترحيب – رخصة السيارة،  فأذهب وأحضرها، وتسألنى عن مدة الرحلة، فأذكر لها رقما تقريبيا، وأدفع فى دهشة مستسلمة بلهاء مايوازى أربعين أوخمسين دولارا، وأكتشف أن هذا “الكارت الذى هو أخضر” هو مايفيد التأمين الإجبارى لصالح الغير على السيارات التى تسير فى بعض بلاد أوروبا الغربية . وتُعدد لى البنت (التى هى مثل القشدة الصابحة) الحروف المثبتة على الكارت والتى تشير إلى المدة والبلاد التى يغطيها التأمين طول شهر، و” أتنفس الصعداء” (بدا هذا التعبير طريفا مناسبا لمشاعرى فى هذه اللحظة). وأعود رافعا رأسى كالقائد المنتصر بلا معركة وقد حلَّ إشكالا لم يوجد أصلا إلا فى تقصيره وجهله. ويلمح بعض أولادى ابتسامتى فيطمئنون أننا سوف نكمل الرحلة، بعد أن واكبوا قلقى المبدئى، وعرفوا بعض تخوفاتى حتى تقلصت أمعاؤهم. أما البعض الآخر، فكان يرد على الجندى الآخر الذى يتصرف وكأنه يفتش أمتعتنا  ويسأل: “ويسكى”؟، فيردون: “مسلمْ”، فيهز رأسه باعتبار أنه فهم.

 ونمضى بعد أن نتخلص من بقايا الدينارات اليوغسلافية، فى مكتب تبديل العملة ذاته، ونحصل على ملايين الليرات الإيطالية (فى ثوان: أصبحت مليونيرا!!)  فى مقابل عشرات من الدولارات المزهوة المتبخترة فى سوق المال والسياسة.

 

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: “ فى ضيافة المرأة المُهرة ” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *