الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (44) قنوات التواصل بجوار الكلام فى العلاج الجمعى (2)

كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (44) قنوات التواصل بجوار الكلام فى العلاج الجمعى (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الاثنين: 8-7-20138-7-2013_1

السنة السادسة

 العدد:  2138       

كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (44)

قنوات التواصل بجوار الكلام فى العلاج الجمعى (2)

مقدمة:

توقفنا أمس عند اكتشاف أن بعض الألعاب التى نمارسها فى هذا العلاج تقوم بكشف قنوات للتواصل غير الكلام ومع الكلام وبالكلام.

ونبدأ من اليوم – مع ما فى ذلك من بعض التكرار – بالنظر فى أبعاد أول لعبة تثبت ذلك:

“أنا خايف “أقول” كلام من غير “كلام” لحسن ….”  (1)

قبل أن أعرض بعض الاستجابات من العلاج الجمعى خاصة، مع تعقيب محدود، أحب أن أنّوه إلى أن اللعبة هى أساسا بالعامية المصرية وأنها تقال “هكذا” دون تفسير لألفاظها، ومع ذلك فسوف أرجع إلى الفصحى (أصل كل اللهجات العامية عند كل العرب) فى محاولة النظر هل هناك فرق فى استعمال كلمة “أقول” (من “قول”) عن استعمال كلمة “كلام” ( من اتكلّم).

أولا: أغلب المعاجم أقرت الترادف من حيث المبدأ بمعنى أن القول: هو الكلام، وبما أن المترادفات ليست متطابقة تماما وفعلا من حيث المبدأ، فوجب الانتقال للبحث عن الفروق فى الاستعمال والسياقات المختلفة.

ثانيا: القول: هو “الرأى” ايضا و”المعتقد” وإذا كان الرأى أقرب لما جاء باللعبة لأنه قد لا يقال بالضرورة فى ألفاظ فرأيك هو رأيك سواء قلته كلاما أم لا، كذلك معتقدك (وهذا يسرى على أن “قول” يعنى أيضا “مذهب”).

ثالثاً: إذا أضيفت أية صفة إلى القول أفاد المعنى المركب بما أضيفت إليه مثل “القول المأثور” أو “القول الفصل”.

رابعاً:  الكلام – بعد استبعاد الترادف مع القول – فى أصل اللغة هو: “الأصوات المفيدة” (نلاحظ هنا كيف أضيفت كلمة “مفيدة” فى محتوى الكلام) والكلام عند النحاة هو: “الجملة المركبة المفيدة” (لاحظ أيضا كلمة “المفيدة”) وفى العلوم اللغوبة: هو أصوات متتابعة “مفيدة” (أيضا) ثم لاحظ هنا كلمة “أصوات”، ويضاف: أنه مجموعة ألفاظ يعبر بها الإنسان عما بداخله.

وعلم الكلام: هو علم إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبهات (وهو عندى من أكثر ما عرّى اغتراب الكلام، أنظر نشرة Link)

فيلاحظ فى معظم ما جاء بالنسبة للكلام أنه: ظاهر ومنطوق (أصوات) ومفيد ومعبّر.

أما القول فهو أقرب إلى الرأى (وربما الوعى، قيل أو لم يُقل) وإلى الموقف (وربما الوقفة بلغة النفرى).

وفى العامية المصرية

نتتقل بعد ذلك إلى العامية التى صيغت بها اللعبة، فنجد الفروق حاضرة وإن كان من الصعب حصرها، وحين بدأنا اللعبة لم يدقق بعض المشاركين وقالوا “أنا أخاف “أتكلم” كلام من غير كلام”، وقد تم التنبيه تلقائيا عليهم بأن يلتزم بنص اللعبة: “أنا أخاف “أقول” كلام من غير كلام” وظهر الفرق، (وقد تصورت لاحقا أن “الكلام الصامت” هو أقرب إلى “التفكير” المرموز أيضا، أما القول فيحتمل أن يكون أعمق وأكثر اتساعا)

الأرجح أن العامية تعرى سطحية الكلام وخوائه فى كثير من الأحيان، مقارنة باستعمال كلمة “قول” وأنا أكتب من الذاكرة بعض ذلك.

أَهُو كَلاْم!! (المقصود أنه أصوات غير ملتزمة أو ملزمة)

ومن أطرف النكت الدالة على ذلك نكتة قالها لى عم سيد عطوة الذى كنا نطبع عنده “مجلة الإنسان والتطور” قال: واحد قال واحد “السمك بيظرط نار، قام الثانى قال له: يا شيخ إزاى ده والسمك فى المية، فرد الأول: أهو كلام”!!!.

وكثيرا ما يقال عن مثل هذا الكلام باللهجة الشامية “طق حنك”

ثم خذ أيضا: “وكلام الليل مدهون بزبدة يطلع عليه النهار يسيح”،

وكتر الكلام يعلم الغلط”،

“وكتر الكلام خيبة”،

“وكتر الكلام يقل القيمة”،

“والكلام زى حبل الصوف كل ما تشدّه يتمط..” إلخ.

أما القول، (و”يقول”) بالعامية فهو غالبا أقرب إلى الترادف مع الكلام، وفعل يتكلم، لكنه قد يتجاوز ذلك مجازا إلى معان أشمل وأكثر تمثيلا مثل ما ظهر فى اللغة الشبابية فى قولهم “دا جسمها أو جمالها “بيقول”، أو فى الأمثال “اللى ما يعرفش “يقول” عدس”، أو “اللى “يقول” لمراته يا عوره تلعب بيها الناس الكورة”.

وبعد

إن ما حدث فى اللعبة ليس له أية علاقة بكل هذا، كما أنه لم يخطر ببالى وأنا أقترح صياغتها أى من ذلك، ولا تعرضتْ هذه المسألة للمناقشة من أى مريض أو معالج حتى بعد اللعبة، مع أنها تكررت فى أكثر من مجموعة.

وأحب أن أنوه إلى ميزة التلقائية التى اعتدناها فى معظم الألعاب حيث لا نلجأ ابدا إلى شرح معنى الكلمات، ولا نشترط الاتفاق على معنى موحد فيما بيننا، ولا نشرح مغزى اللعبة، ولا الغرض من لعبها (لأننا غالبا لا نعرفه) بل إن كثيرا من الألعاب – ومنها هذه اللعبة – هى التى تهدينا إلى نبض بعض الكلمات وعمقها، وإلى استعمالاتها الخاصة المميزة عن غيرها، وأيضا إلى معانيها المختلفة حسب السياق.

وسوف آخذ اليوم مثالا واحدا لمشارك واحد فى جلسة واحدة مع تعقيبات مختصرة عليه، لنعود لاحقا إلى مزيد من العينات والتصنيف والشرح.

د. خالد:

خالد طبيب امتياز، يحضر بصفته مريضا مشاركا، ذو شخصية شيزيدية، ويعانى من أعراض عصابية متفرقة واكتئاب متوسط، وهو يحضر عادة متأخراً (20 ق) وقد اعتاد قائد المجموعة د. يحيى أن ينبهه ثم يسامحه، وأحيانا يدعوه للمشاركة فور دخوله مثلما حدث هذه المرة، وحين دخل أثناء اللعبة طلب منه د. يحيى أن يبادر بالمشاركة، وفورا، ودون شرح، وحين سأل خالد عن معنى ما يجرى قال له د. يحيى:

“مش مهم، بمعنى، من غير معنى، المهم من غير ماَ تغيّر فى الجملة لفظ واحد

خالد: يعنى كده الكلام مش راكب على بعضه يعنى

د. يحيى: ما انت عارف إن الكلام بيركب على بعضه بعد ما تلعب حسب التساهيل، بس لازم توجه  كلامك لحد معين بالذات، وبحماس شديد جدا، وبهدف إحنا مانعرفهوش ولا إنت تعرفه حتى، بس يكون فيه هدف إنك بتخاطبه فعلا.

وبدأ خالد اللعبة مباشرة

خالد: يا هيام  أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تقولى عليا عبيط

* نلاحظ كيف التقطها د. خالد وأكمل بسرعة دون تردد ولعبها مع الجميع دون مقاومة، وخوفه من رأى هيام فيه لو اطلعت على الكلام الآخر مهم، فهو يشير بطريق غير مباشر إلى رأيه هو شخصيا فيما يكمن داخله.

خالد: يا رودينا أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تحبينى

* رودينا طفلة عمرها خمسة أشهر ولدتها أمها وهى فى المجموعة بعد حوالى ثلاث أشهر من مشاركتها وظلت الخمس أشهر التالية تحضرها معها، بل واستأذنت فى أن تحضر الجلسة وهى على حجرها، وأحيانا نتركها وسط المجموعة تزحف قريبة منها، وقد سمح د. يحيى بهذا من باب التجريب والتعرف على تقبل أفراد المجموعة لهذه السن بهذه التلقائية، والغريب أنها لم تبك أبدا ولا فى جلسة واحدة، وأنها كانت تتابع بعض الوجوه باهتمام وأنه لم يعترض أى فرد رجلا أو أمرأة شابا أو فتاة، مريضا أو معالجا على حضورها ولا على مشاركتنا لها كأنها فرد كامل الحضور على مستوى الاستقبال على الأقل (ولنا عودة تفصيلية عن هذه التجربة) حتى أن أمها كانت ترضعها تحت ساتر طرحتها أحيانا أثناء الجلسة ولهذا تفصيل آخر فى موقع آخر.

    ونلاحظ هنا كيف أن حدس خالد، وصل لدرجة اعتبار اللغة الداخلية أقرب وأصدق مع طفلة ذات ثلاثة أشهر بما يسمح لها أن تحبه، وفى نفس الوقت “حل خوفه من الحب موجودا” لحسن “تحبينى”.

خالد: يا أميره  أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن أصعب عليكى      

* رفض الشفقة هنا من خالد واضح، وهو قد يشير إلى أن الكلام المعلن قد يكون غطاء لضعف وجوع شديدْين لا يظهران إلا بالحوار الإدراكى وهو الاسم الذى أطلقته فيما بعد على “أقول كلام من غير كلام” وبالتالى فإن د. خالد يعلن بذلك مصداقية هذا الكلام الذى لا يُعلن، أكثر من مصداقية الكلام الظاهر.

خالد: يا دكتوره علا  أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تصدقينى

* هذا بعد آخر لم يخطر على بالى، فأن يخرج “الكلام الآخر” الذى لا يقال فيكون أكثر صدقا، فيصدقه المتلقى فتلوح علاقة فيتهدد الارتباط أو تتجلى الصعوبة، فإن هذا ما يفسر كيف يصبح الخوف من قوله مشروعاً.

خالد: يا كامل أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تبطل تكلمنى

* كامل متخلف معرفيا نسبيا وهو صرعى أيضا، لكنه حاضر طول الوقت، والتعامل معه يتم بحذر وعلى المستوى المتاح، ويبدو أن د. خالد قد التقط عمقاً أكثر من كل ذلك، هذا المستوى الأعمق من التواصل يمكن أن يعطله التواصل بالكلام الذى لا يتقنه كامل، أما الكلام الآخر (الذى هو “من غير كلام”)، فهو يصل لدرجة أنه قد يهدد العلاقة الحقيقية، مثلما هو الحال مع الباقيين بالنسبة للعب خالد، هذا علما بأن تعبير “تبطل تكلمنى” كان دلالة خاصة لأن كامل لا يكلم د. خالد إلا نادرا.

خالد: ياهبه أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تكرهينى

* هنا يعلن خالد أن الخوف من المصارحة، وراءه الخوف من التعجيل بقطع التواصل، متى ما لم يكن الطرفان جاهزين لدفع ثمنه.

خالد: يا عادل أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تبطل تصاحبنى

 * أيضا: عادل لم يكن “صديقا” (تصاحبنى) لخالد، لا داخل المجموعة، ولا خارجها، لكن يبدو أن هذا الحوار الآخر كان يجرى بينهما حتى الصداقة، ومن ثم فإن ظهوره قد يهدد بإعلانه.

خالد: يا كريمه أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تعييى تانى

* هنا يبدو الخوف من أن تؤدى المصارحة بإعلان المستوى الأعمق إلى التسرع بعرض علاقة مسؤولة، أكبر من تحمل المرحلة التى تمر بها كريمة التى كانت متحسنة لتوها، وبالتالى قد يعرضها ذلك إلى أن تتحمل مسئولية أكبر من طاقتها، فتنتكس.

خالد: يا أحمد أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تقوم تزوغ

* ما زال خالد يعلن – بغير قصد – أن الكلام الذى هو من غير كلام هو دعوة لعلاقة أعمق قد لا تحتمل، ومن ثم: الهرب (تزوغ). 

خالد: يا إلهام أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تعيطى

* كان تفاعل إلهام الجاهز – برغم انتباهها ورقتها وحضورها السابعة والنصف من قرية تبعد عن القاهرة أكثر من 150 كيلو مترا، كان تفاعلها الجاهز هو سيل من الدموع يسيل كما لو كنت تفتح صنبورا، وقد اعتبرناه فى النهاية ستارا ضد الاقتراب، وبالتالى كان خوف خالد من بكائها لو خاطبها “بداخله” إشارة إلى أن هذا الكلام الآخر هو اقتراب أعمق.

خالد: يا خالد (لنفسه) أنا خايف أقول كلام من غير كلام لحسن تبطل تشتغل تانى

* هذه مخاطبة د. خالد لنفسه، ولم نعرف ماذا يقصد من تبطل تشتغل، والأرجح أنه كان قد عاود عملا ما بفضل مشاركته العلاج، وها هو يعلن خوفه من أن الكشف عن ما هو أعمق حتى مصارحته لنفسه قد يقلب عليه ما يبطل هذا الإنجاز الذى تم بعودته للعمل.

وإلى الأسبوع القادم حيث نأمل أن نعرض مزيدا من مقتطفات هذه اللعبة الدالة دون تعليق غالبا. 

[1] –  فى محاولة لترجمة هذه اللعبة إلى الإنجليزية وجدت أننى أبتعد بشكل ما عن ما دار فى اللعبة مهما تنوعت الترجمة مثل:

I am afraid to say speech without speech lest …..

…………………….…. ” Words”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *