الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قصة قصيرة: “… سوف تـُفرج”

قصة قصيرة: “… سوف تـُفرج”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 27/6/2020

السنة الثالثة عشرة

العدد: 4683

 قصة قصيرة

… سوف تـُفرج

 (1)

أصوات وقع أقدام تقترب فتزداد دقات قلب البنت وتلتفت ناحيتها فإذا برجل فارع القوام يقترب من  الناحية الأخرى، يتملكها خوف ليس أقل من خوفها على الصغير فى العش فوق الشجرة، مع أنها لم تره، فقط سمعت صوصوته، يقترب الرجل فإذا فى وجهه طيبة مصرية عريقة، فتطمئن برغم ضخامته، وبعد أن يلقى عليها تحية الصباح برقة لا تتناسب مع حجمه، لكنها تتفق تماما مع ملامح وجهه، يعرفها أنه “أمين شرطة”، وأنه موجود بالقرب منها، وأنها ما عليها إلا أن تنادى بأية إشارة إذا ضايقها أحدهم، وستجده بجوارها فورا، وحين لمح حقيبتها وسألها أحسّت أن عليها أن تُحَسّن كذبتها فقالت له: إن مدرستها فترة مسائية، وهى تنتظر موعدها، فراح يدعو لها بالنجاح وهو يستأذن ويوصيها أن تراجع  دروسها على راحتها، كما راح يدعو لها وهو ينصرف، فجعلت تشكره وتدعو له بدورها أن يحميه الله من شرورهم.

 (2)

ساورتها شكوكٌ لم تسمح لها أن تتمادى، ثم عادت تنقل نظراتها بين القط وموقع العش، وخافت أن تقذفه بطوبة فيهرب إلى أعلى، لكنها اطمأنت لرجليه الخلفيتين تلاصق الأرض، ورجليه الأماميين تعجزان عن إكمال الصعود على ساق الشجرة الأملس، أرهفت السمع  فلم تصلها  زقزقة الصغير، حمدت الله وأخرجت كيس لب أبيض من حقيبتها، وكيسا آخر يبدو فارغا، راحت تقزقز اللب بهدوء وتضع القشر فى الكيس الفارغ، ولما اطمأنت إلى عجز القط عن مواصلة الصعود، نظرت إلى ما تبقى فى كفها من حبات اللب، وقررت أن تمارس وسواسها الطيب، المزعج أحيانا، فراحت تعد اللب وهى تقول أنه إذا جاء العدد زوجيا  فسوف تنتصر مصر، أما إذا جاء فرديا فسوف تضاعف دعواتها لمصر ولأمها أن يشفيهما الله “شفاءً لا يغادِرُ سقّمَا”،  كما كان جدها يرقيها إذا مرضت.

(3)

وقع أقدام أكثر من الناحية الأخرى، أصوات كثيرة متداخلة تبدو شبابية، ما بين القهقهة والكركرة والصراخ، لم تلتفت لكنها تذكرت أمين الشرطة واطمأنت أنه قادر على نجدتها إذا لزم الأمر، وحين مروا خلف أريكتها لم يفزعوها، ولم يعلقوا على وحدتها، ولم يكفوا عن الضحك والضجيج، حتى فضلت أن تعتبر أنهم لم يلاحظوها أصلا، تبينت أنهم ثلاثة أو ربما أربعة، بدا من أصواتهم أنهم هائصون منتشون تماما  لسبب لا تعرفه، ودّت ألا يكون مصنوعا من خارجهم، ولاحظت أنها انقبضت بنفس درجة انتشائهم، وكلما هاصوا أكثر غاصت أكثر، حتى انسابت دموع أخرى بدت كأنها تنساب حول قلبها لا من عينيها، ودعت لمصر ولأمها من جديد.

انتبهت إلى أن الكلب الذى لم تكن قد انتبهت  إليه أنه يشاركها الناحية الأخرى من المقعد انتبهت أنه قد قام من رقدته ربما على أصوات الشباب، نظر إليها الكلب يسألها بعينيه إن كانت تحتاج إلى مساعدة، فشكرته ولم تذكر له اطمئنانها إلى أمين الشرطة حتى لا تحرجه، عاد ينظر فى عينى الفتاة  طويلا حتى صدَّقها، ثم التفت وعاد ينظر إليها يستأذنها، ثم انطلق يعدو فى الاتجاه الذى ذهب فيه الشباب وكأنه يريد  أن يلحقهم.

يبدو أن النوم عدوى، كما أن التثاؤب عدوى، لعلها انتقلت إليها من صديقها الكلب الذى رحل بمجرد أن استيقظ، رحل وراء من لا تعرف، وغالبا هو أيضا لا يعرف، و مع زيادة دفء  شمس هذا اليوم البارد المنعش، تركت جفونها ترتخى قليلا قليلا، نظرت إلى ساق الشجرة من جديد فلم تر القط ورجحت أنه فشل وتراجع، ثم رأت العصفورة الأم ترفرف عائدة إلى العش وفى فمها ما تيسر من رزق، فاطمأنت على الصغير،  وعلى اقتصاد مصر، أخذت حقيبتها ووضعتها فى حجرها حتى إذا غلبتها العدوى التى شعرت أنها تنتقل إليها من الكلب الطيب الذى تركها، كانت الحقيبة فى أمان.

راحت تسير وتسأل، وتسأل  وتسير، لا هى تعرف تحديدا عن ماذا تسأل، ولا هى متأكدة إلى أين تسير، وكلما طال السير تسارعت خطواتها إلى مجهول أوسع، وتراجعت الخضرة، وماتت الأشجار، وزادت الصخور قسوة وبُعدا وتحديّا، جاءها الصوت أن “اتبعينى وأنا أجيبك عن كل ما سألت عنه”، فقالت له “أتبعك إلى أين؟، قال “إلى ما كنت تسألين عنه”، قالت : “لكننى لا أعرف ماذا كنت أسأل عنه”، فقال لها “لا تشغلى بالك: أنا أعرفه” ، ثم اختفى الصوت ليحل محله نفير أكثر من عربة نجدة وكأنها تتسابق، انتظرت لتظهر العربات فلم تظهر،  لكن النفير تكاثر واقترب وزاد حتى بدا كالرعد، التفتت  إلى الرصيف القريب فإذا بالأرض تنفتح بحذائه لتخرج منها عربة مترو مكشوفة ، فقررت ان تسارع بركوبها دون أن تسأل عن وجهتها حتى تخرج من هذا الموقف المرعب الدائم الاتساع، وحين اقتربت من عربة المترو أكثر، بدت لها أنها ليست كذلك، وأنها مركبة فضاء مثل التي تشاهدها فى السينما، بل هى أقرب إلى ما تشاهده فى مجلة ميكى، حين  يستعمل عبقرينوا آلة الزمن ، خفف ذلك من ترددها، وشجعها المحصِّل الذى كان يقف بباب العربة وكأنه يبحث عن زبائن، دخلت إلى العربة وجلست فى أقرب كرسى، ثم التفتت حولها  فلم تجد أى ركاب غيرها، وحين تقدم إليها المحصل يسألها عن وجهتها ليقطع لها تذكرة، احتارت فى الإجابة ، فألح فى السؤال فوجدت نفسها تقول وهى  تمزح: إلى الكرة الأرضية، اندهشت أنه لم يتبين أنها تمزح، وقطع لها تذكرة ولم يطلب ثمنها، فصمتت،  فكل ما يهمها هو أن تغادر هذه الصحراء القاحلة. بلا معالم، لم تلاحظ كيف مرّ الوقت لكنها انتبهت إلى يد صغيرة على ركبتها تهزها برفق ثم بعنف طيب، فتحت عينيها، وتعرفت على ميكى وأنه جاء يوقظها قبل أن يحل الظلام، شكرته وهى تبتسم، فابتسم بدوره وانصرف بسرعة ليلحق بميمى وهى تلوح له، واختفيا معاً، نظرت في ساعتها، وتعجبت لمرور الوقت، وتذكرت أنها قالت لأمها أن عندها تدريب في كرة السلة، لكن التدريب لا يمتد إلى ما بعد العصر، وفجأة وجدت أمين الشرطة يعدو نحوها مهرولا ويطلب منها الانصراف بسرعة دون ذكر أسباب، فانصرفت وهى تشكره وتتعجب من نفسها أنها لم تسأل، وفى نفس الوقت لم تَخَف. حملت حقيبتها على ظهرها واستعدت بسرعة وهى متأكدة أن الله معها، وأنه سينجى مصر برغم كل شيء ولم تلاحظ أن الكلب يقترب وهو يهز ذيله في فرح بلا سبب.

(4)

حين فتحت عينيها فوجئت بكل هذه الخضرة حولها من كل جانب، ثم نظرت أسفل فوجدت الكلب قد عاد إلى موقعه، وراح ينظر  إليها وكأنه يعتذر عن تأخره فى العودة، ويبدو أنه قرأ فى عينيها السماح، فاقترب أكثر، وأسند رأسه على ساقها من جديد، وتمسح به فى أمان.

سمعت صوت الأقدام الثقيلة فعرفت أنه أمين الشرطة من جديد، وفعلا كان هو، اقترب منها قائلا : “لا عليك ، لقد رأيتهم” ، قالت: ” الحمد لله، كدت أنادى عليك، لكنهم  كانوا طيبين”، قال:” ليس تماما، هم ليس عندهم فكرة” قالت :”عن ماذا”، قال: “عن أى شىء، الحمد لله أنك لم تنادينى” قالت” لماذا، الم تكن تقدر عليهم؟ قال ” أقدر ونصف” ، قالت “إذن لماذا؟” ، قال “ربنا أمر بالستر، أنا لا يصعب علىّ هؤلاء الشباب أنا يصعب علىّ أهاليهم، قالت البنت: وهل انت تعرف أهاليهم؟، قال: طبعا ألست من مصر، فقالت: وهل هذا يكفى، قال: يكفى ونصف، فأجهشت البنت بالبكاء، لكن الأمين لم يسمع نشيجها وكان ينظر الناحية الأخرى.

نظر الكلب شذرا إلى أمين الشرطة، وزام بغضب وتحُّفز، فنظرت إليه الفتاة  قائلة :

” إهدأ، إهدأ، فهو صديق”

فتحت حقيبتها، وأخرجت منها حزمة المناديل الورق، واحتضنت حقيبتها بحميمية، وانصرفت وهى تلتفت للكلب وتقول: والله العظيم ثلاثا سوف تـُفرج

رفع الكلب أذنيه فأكملت البنت:

– قلت لك سوف تُفرج بالطول وبالعرض

 هز الكلب ذيله، فقالت:

– ألا تصدقنى؟ انت حر!! هل عندك حل آخر؟

admin-ajaxadmin-ajax (1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *