الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قراءة فى كراسات التدريب نجيب محفوظ صفحة (110) من الكراسة الأولى (2)

قراءة فى كراسات التدريب نجيب محفوظ صفحة (110) من الكراسة الأولى (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الخميس : 11 – 4 – 2013

السنة السادسة

العدد: 2050

mahfouz 2

ص 110 من الكراسة الأولى (2)

11-4-2013_2ابن‏ ‏(؟) جوفان (أو جوناس)، مجدولين‏،(؟)

‏(ازدهار الموسيقى)(??)  أو “عائشة: (ك.غ.)، يوسف‏ ‏صلاح‏ ‏الدين‏، ‏ الجريمة‏ و‏العقاب‏، ‏الاخوة‏ ‏كرامازوف‏، ‏الحرب‏ ‏والسلام‏، أنا كارينيا، الفرسان دوما، الجبل ‏السحرى‏، الكراسى ‏الموسيقية‏، ‏يوسف وأخوته،  ‏فاوست‏، ‏اللصوص‏، (ك.غ)

رواية البحث‏ ‏عن‏ ‏الزمن‏ ‏المفقود‏، الشيخ والبحر‏ موبى ديك (ك.غ ؟؟ ربما جارثيا)

    نجيب‏ ‏محفوظ

   أم‏ ‏كلثوم‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ

   فاطمة‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ

 

القراءة:

مقدمة:

ما زلنا فى نفس صفحة التدريب التى أسميناها “قراءات “، وهو اسم يحتاج إلى تعديل، لأن قراءات شيخنا لا يمكن حصرها، وما وصلنى من أصدقائه القدامى عن قراءاته لا يمكن تعداده، حتى وصل الأمر أنه يقرأ فى “الموسوعة البريطاينة” ليس فقط ليستشيرها فى تاريخ، أو مفهوم، أو أطروحة، وذات مرة كنا نتاقش عن الفرق بين المدنية والحضارة، واختلفنا، ولم ننته إلى ترجيح رأى بذاته ، فعقب قرب نهاية النقاش قائلا “لو أننى كنت ما زلت أستطيع القراءة، لرجعت الليلة إلى الموسوعة  البريطانية وبحثت عن حل لهذا الإشكال” ، وقد بلغنى أنه كان يقرأ فى هذه الموسوعة أحيانا لا بحثا عن نص معين كما ذكرت، وإنما كان يقرأ فيها لذاتها بالصدفة أى للتجول بالوعى كيفما  اتفق، لست أدرى كيف وإلى أى مدى.

 المهم أن ما ورد فى هذه الصفحة هو “بعض بعض مختارات من قراءاته الأدبية بالذات”، لا أكثر، ولن أستطيع طبعا أن استطرد وأسمح لتداعياتى بالانطلاق وإلا فلن ننتقل من هذه الصفحة أبدا، فنبدأ بما تيسر من حيث وقفنا ونحن لم نقرأ منها إلا أربعة أسطر.

السطر الخامس بدا بـ “الجريمة والعقاب، الإخوة كرامازوف

كنت قررت عدة مرات وأنا أقدم ما هو “التفسير الأدبى للنفس” أنه لو أتيحت لى الفرصة (الوقت والعمر) فسوف أركز على أعمال ديستويفسكى ومحفوظ كنموذجين أساسيين لإثبات هذا الفرض، وفعلا بدأت بهما ، ولا أعرف هل توازنت الجرعة أم لا، ونشرت عن محفوظ كتابى “قراءات فى نجيب محفوظ ثم بعد ذلك فى دوريته “مقارنة بين رحلة ابن فطومة وساحر الصحراء لكويلهو ثم ” بعض حديث الصباح المساء” ، أما ما قمت به وعرضت بعضه  فى ندوات “جمعية الطب النفسى التطورى بدار المقطم للصحة النفسية” ومن بينها  حضرة المحترم، وإعادة قراءة ونقد  السراب، وغيرها. أما ديستويفسكى فقد قمت بنقد مطول لكل من الإخوة كرامازوف & مذلون مهانون، & قرية سيتبانوتشكوفا وسكانها & المقامر& نيتوتشكا نزفانوفنا & الفارس الصغير& الأبله & أما عن القراءة فقد قرأت كل أعمال محفوظ إلا أربعة أو خمسة (لست أدرى لماذا أجلتها حتى الآن)، كما أننى قرأت معظم أعمال ديستويفسكى بما فى ذلك “الجريمة والعقاب” التى أشار إليها شيخى فى هذه الصفحة، لكننى لم أقم بنقد هذه الرواية بالذات، وكان عليها الدور قبل صدور هذه النشرة التى أخذت أغلب وقتى.

أكتفى اليوم بأن أُثبت ما جاء فى مقدمة نقدى للإخوة كاراما زوف، فهو من ناحية مدخل شامل لعلاقتى بديستويفسكى ، ومن ناحية أخرى جاء ذكر الأستاذ مقارنا فى مقدمته.

هو الذى طلب:

أما لماذا أثبت ما سبق نشره فى كتاب فدعونى أعترف أن شيخى هو المسؤول عن ذلك، لأننى أوجزت فى بضع سطور انطباعى العام تعليقا على ما جاء فى هذه الصفحة بمناسبة ذكر ورايتىْ ديستويفسكى قال لى: هل عندك مانع أن تقرأ لى النص كاملا ولو على عدة مرات، فـَرِحت، ولم أتوان فى الاستجابة هكذا:

إستهلال‏:‏

لا‏ ‏يصلح‏ ‏ما‏ ‏قلته‏ ‏يوما‏ ‏عن‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏، ‏مع‏ ‏ديستويفسكى، ‏من‏ ‏أنه‏ “‏خذ‏ ‏من‏ ‏ديستويفسكى ‏ما‏ ‏شئت‏ ‏لما‏ ‏شئت‏” ‏. بل لعل‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الصحيح‏، ‏إذ‏ ‏أنك لا تستطيع أن تفـر مما أراد ديستويفسكى أن يقحمك فيه بإبداعه المتميز، ورغم‏ ‏أن‏ ‏ديستويفسكى ‏يلح‏ ‏إلحاحا‏ ‏شديدا‏، ‏ومباشرا‏ أحيانا كثيرة ‏فيما‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يقوله‏، أو ربما ‏أن‏ ‏يكونه‏، ‏يصلنى أنه‏ ‏لم‏ ‏يستقر‏ ‏أبدا ‏ ‏على ‏ما‏ ‏يريد‏‏، وأنه صدق مع نفسه فى ذلك. ‏وهذا‏ ‏طيب‏ ‏لأنه‏ ‏ينفى ‏عنه‏ ‏تهمة‏ ‏أنه‏ ‏خطيب‏ ‏فى ‏جمع‏، ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏ملاحَـق‏ ‏بفكرة‏ ‏واحدة‏ ‏مكرره‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يوصلها‏.‏

فى ‏حدود‏ ‏ما‏ ‏قرأت‏ ‏له‏ ‏حتى ‏الآن‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أحدد‏ ‏ما وصلنى عن بعض‏ ‏المواضيع‏ ‏أو‏ ‏الهواجس‏ ‏أو‏ ‏القضايا‏ ‏التى ‏تلح‏ ‏عليه‏، ‏فيلح‏ ‏بها‏ ‏علينا‏، ‏هذا‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المحتوى، ‏لكن‏ ‏القضية‏ ‏مع‏ ‏ديستويفسكى ‏ليست‏ ‏قضية‏ ‏محتوى ‏أو‏ ‏موضوع‏، ‏وإنما‏ هى قضية‏ ‏تركيب‏. أهم‏ ‏ما‏ ‏يميز‏ ‏تركيب ‏ديستويفسكى (‏حتى ‏علمى ‏به‏ ‏الآن‏) ‏هو‏ ‏ذلك‏ ‏البركان‏ ‏الثائر‏ ‏المتواصل‏ ‏من‏ ‏المشاعر‏ ‏والرؤى، ‏والذى ‏يتكثف‏ ‏أحيانا‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏صـرْعة‏ ‏مرضية‏، ‏ثم‏ ‏يتدفق‏ ‏أحيانا‏ ‏أخرى فى ‏شكل‏ ‏إبداع‏ ‏إنفعالى ‏متلاحق‏، ‏و‏هو‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يضبط‏ ‏قوة‏ ‏دفعةه ‏ليخرجه‏ ‏من‏ ‏ثقب‏ ‏إبرة‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏إطناب‏ ‏حكْى ‏يطول‏ ‏حتى يمكن أن ‏نمله‏ ‏أو‏ ربما ‏نرفضه‏، ‏وقد‏ ‏يصبـرنا‏ ‏عليه‏ ‏أننا‏ ‏نلتقط‏ ‏فى ‏كم‏ ‏الكلام‏ ‏المتواصل‏ ‏ما‏ ‏يعيننا‏ ‏عليه‏، ‏نلتقط‏ ‏إشراقة‏ً ‏غير‏ ‏متوقعة،‏ ‏أو‏ ‏بهر‏ ‏رؤية‏ ‏كاشفة‏، ‏أو‏ ‏سبر‏‏غور‏ ‏سحيق‏، ‏وأحسب‏ ‏أنه‏ ‏يلتقطها‏ ‏معنا (وهو يكتب أو وهو يقرأ ما كتب)‏ ‏فى ‏أحيان‏ ‏كثيرة‏، ‏إذن‏ ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يفرضها‏ ‏علينا‏ ‏كما‏ ‏قد‏ ‏يتراءى ‏لأول‏ ‏وهلة‏.‏

قبل‏ ‏أن‏ ‏أعرض‏ ‏قراءتى ‏لهذه‏ ‏الرواية‏ ‏الملحمة – الاخوة كارامازوف – ‏أود‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏بعض‏ ‏الملاحظات‏ ‏العامة.

‏1- ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏قد‏ ‏يجوز‏ ‏أن‏ ‏نربط‏ ‏بين‏ ‏بعض‏ ‏محتوى ‏روايات‏ ‏الكاتب‏ ‏وبعضها‏، ‏لكن‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏ننتبه‏ ‏دائما‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الإستشهاد‏ ‏على ‏ديستويفسكى ‏من‏ ‏ديستويفسكى ‏روائيا‏.. ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يؤخذ‏ ‏بحذر‏ ‏شديد‏، ‏فلو‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏تكرار‏ ‏وتعديل‏ ‏لنفس‏ ‏الأفكار‏ ‏لما‏ ‏كان‏ ‏ثمة‏ ‏داع‏ ‏لمواصلة‏ ‏الإبداع‏ ‏أصلا‏، ‏فالاستشهاد‏ ‏هنا‏ ‏مسموح‏ ‏به‏ ‏بالقدر‏ ‏الذى ‏يترك‏ ‏لكل‏ ‏عمل ‏استقلاله‏، ‏ثم‏ ‏يسمح‏ ‏بتحديد‏ ‏اجتهادى ‏لاحتمالات‏ ‏التلاقى ‏وتفـرقات‏ ‏الإختلاف‏، ‏وكذلك‏ ‏لحفز‏ ‏تكثيف‏ ‏الرؤى ‏وتطويرها‏.

2- إلى ‏درجة‏ ‏أكبر‏، ‏لا‏ ‏ينبغى ‏الربط‏، ‏بين‏ ‏إبداعه‏ ‏وبين‏ ‏كتاباته‏ -شخصا-  ‏فى ‏مجال‏ ‏آخر‏، ‏بأسلوب‏ ‏آخر‏، (‏فى ‏الصحف‏ ‏أو‏ ‏فى ‏خطاب‏ ‏خاص‏) ‏أو‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏ينبغى ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏الربط‏ ‏بطريقة‏ ‏الاستنتاج‏ ‏التدليلى ‏المباشر‏، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏نثبت‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏على ‏لسان‏ ‏أحد‏ ‏الأبطال‏ ‏بقول‏ ‏جاء‏ ‏على ‏لسان‏ ‏المؤلف‏ ‏فى ‏صحيفة‏ ‏أو‏ ‏رسالة‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏آخر‏ ‏لغرض‏ ‏آخر‏، ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏لكل‏ ‏كتابة‏ ‏مستواها‏ ‏وخطابها‏ ‏وحدودها‏ ‏بحيث‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نفترض‏ ‏التناقض‏ ‏تكاملا‏، ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏نفترض‏ ‏الإتفاق‏ ‏تدليلا‏ ‏وإثباتا‏، ‏وإلا‏ ‏لماذا‏ ‏تتعدد‏ ‏الكتابات؟‏ ‏ولماذا‏ ‏الإبداع‏ ‏أصلا؟‏ ‏وبتعبير‏ ‏أخر‏: ‏إذا‏ ‏كنا‏ ‏نؤكد‏ ‏فى ‏ناحية‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نفصل‏ ‏ذات‏ ‏الكاتب‏ (‏ذواته‏) ‏عن‏ ‏إبداعه‏، ‏فإنه‏ ‏على ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نختزل‏ ‏ذات‏ ‏الكاتب‏ ‏إلى ‏ظاهر‏ ‏حياته‏ ‏أو‏ ‏أحداث‏ ‏يومه‏ ‏أو‏ ‏مُعلن‏ ‏آرائه‏ ‏فى ‏صحيفة‏ ‏أو‏ ‏مجلس‏ ‏أو‏ ‏حزب‏ ‏سياسى. ‏وعلى ‏ذلك‏ ‏فعلينا‏ ‏أن‏ ‏نأخذ‏ ‏المصادر‏ ‏المختلفة‏ ‏لآثاره‏، ‏إذا‏ ‏لزم‏ ‏أن‏ ‏نستوعبها‏ ‏أصلا‏، ‏باعتبار‏ ‏أنها‏ ‏أبجدية‏ ‏متفرقة‏، ‏نصيغ‏ ‏نحن‏ ‏منها‏ ‏جملة‏ ‏أو‏ ‏قصيدة‏ ‏النقد‏ ‏الإبداعى.‏

‏3- ‏وبالنسبة‏ ‏للترجمة‏: ‏ لاشك‏ ‏أن‏ ‏ثمَّ‏ ‏اختلافا‏ ‏بين‏ ‏الإنجليزية‏ ‏والفرنسية‏، ‏والعربية‏ ‏والروسية‏، ‏ولا‏ ‏أظن‏ ‏أنه‏ ‏حتى ‏بالرجوع‏ ‏إلى ‏الروسية‏ ‏يمكن‏ ‏حسم‏ ‏هذه‏ ‏القضية‏، ‏فديستويفسكى ‏يكتب‏ ‏بروسية‏ ‏قديمة‏ ‏نسبيا‏، ‏وهو‏ ‏يكتب‏ ‏بروسية‏ ‏خاصة‏ ‏مثل‏ ‏أى ‏مبدع‏ ‏متميز‏ ‏وأكثر‏، ‏وينبغى ‏أن‏ ‏نعيش‏ ‏اللغة‏ ‏لا‏ ‏أن‏ ‏نتلمس‏ ‏أطراف‏ ‏ألفاظها‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏قارئ ‏العربية‏ ‏يختلف‏ ‏مع‏ ‏قارئ ‏لغة‏ ‏أخرى ‏وهما‏ ‏أمام‏ ‏نفس‏ ‏النص‏، ‏ولا‏ ‏يحسم‏ ‏بينهما‏ ‏تعريف‏ ‏معجم‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏استلهام‏ ‏جملة‏ ‏الفقرة‏ ‏بل‏ ‏جملة‏ ‏النص‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏روح‏ ‏اللغة‏ ‏وإيحاءاتها  (1)

عموميات‏ ‏مبدئية‏ ‏من‏ ‏وحى ‏كارامازوف‏:‏

‏‏توقفنى – مرة أخرى- ‏عموميات‏ ‏مبدئية‏ ‏ألتقتطها‏ ‏جديدة‏ ‏على، ‏وقد فسَّرتْ‏ ‏لى ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏عجزت‏ ‏عن‏ ‏تفسيره‏ ‏من‏ ‏قبل‏. ‏

أولا: تراجع النوبات والحمى:

 نتذكر‏ ‏أولا‏ ‏أن‏ ‏ديستويفسكى ‏كان يعانى من نوبات صرْع أصلية لا أشك أنها أثرت‏ ‏فى ‏كتاباته‏، ‏مثل علاقة‏ ‏ذلك‏ ‏بالنقلات‏ ‏المفاجئة‏، ‏وعلاقته‏ ‏بوعيه‏ ‏بالزمن‏ ‏فى ‏وحدة‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏أجزاء‏ ‏الثانية‏، ‏وكذا‏ ‏علاقته‏ ‏بإدخال‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏صرع‏، ‏وإغماء‏، ‏ونوبة‏ ‏وحمى ‏فى ‏نسيج‏ ‏رواياته‏ ‏بشكل‏ ‏مفرط‏ (2)‏، ‏نتذكر‏ ‏ذلك‏ ‏لنتبين‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل الحالى الذى بين أيدينا‏ ‏قد‏ ‏أقل‏ ‏من‏ ‏الصرع‏ ‏والمصروعين‏ ‏والمغمى‏عليهم‏ ‏وأهل‏ ‏الحمى، ‏ربما لحساب الزيادة‏ ‏فى ‏الخطابة‏ ‏والإطناب‏ ‏والاسترسال‏ ‏التفصيلى ‏الفضفاض‏.‏

ثانيا‏: ‏تفسير‏ ‏الإطناب‏:

حين‏ ‏رحت‏ ‏أتقمص‏ ‏شخوص هذه‏ ‏الرواية بالذات‏ ‏وهم‏ ‏يسهبون‏ ‏فى ‏الكلام‏ ‏والمناقشات‏ ‏والمناظرات‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏تكاد‏ ‏تصبح‏ ‏ممجوجة‏،  ‏ضقت‏ ‏ذرعا‏ ‏به‏ ‏وبهم‏، ‏وقلت‏ ‏إن‏ ‏صح‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الدين‏، ‏أو‏ ‏عن‏ ‏السياسة‏، ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏فى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الحب‏‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏ولكن‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لم‏ ‏أجرؤ‏ ‏أن‏ ‏أحذف‏ – ‏متلقيا‏ – ‏ما‏ ‏رأيت‏ ‏أنه‏ ‏ينبغى ‏حذفه‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏اللت‏ ‏والعجن‏، ثم‏ ‏إننى ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏ألتمس‏ ‏عذرا‏ ‏بالفارق‏ ‏الزمنى (‏‏منذ أكثر من ‏قرن‏) ‏واختلاف‏ ‏طبيعة‏ ‏إيقاع‏ ‏الحياة‏، ‏حيث‏، ‏الانتقال‏ ‏بالخيل‏، ‏والإضاءة‏ ‏بالسماور‏… ‏الخ‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏التفسير‏، ‏رغم‏ ‏صحته‏، ‏لم‏ ‏يغننى.‏ فاخترت‏ ‏أن‏ ‏أضع‏ ‏تفسيرا‏ ‏آخر‏ ‏أكثر‏ ‏جسارة‏ ‏يقول‏:‏

إن‏ ‏أسلوب‏ ‏ديستويفسكى، ‏حين‏ ‏يتحول‏ ‏منه‏ ‏الحوار‏ ‏إلى ‏مقال‏ ‏يكاد‏ ‏لا‏ ‏يصلح‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏النوع‏ ‏الذى ‏يدور‏ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا‏ ‏بين‏ ‏متحاورين‏ ‏عاديين‏ ‏فى ‏الفعل‏ ‏اليومى، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏مناظرات‏ ‏عقلانية‏ ‏كما‏ ‏تبدو‏ ‏فى ‏ظاهرها‏ – ‏وإنما‏ ‏هى ‏رواية‏ ‏قبل‏ ‏كل‏ ‏شئ‏.‏ إذن‏ ‏فهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الكتابة‏ ‏المرسلة‏ ‏والحوار‏ ‏التفصيلى لايصلحان‏ ‏أن‏ ‏يكونا‏ ‏تداعيا‏ ‏حرا‏ ‏مما‏ ‏نقابله‏ ‏فى ‏الحكايات‏ ‏المسماة‏ ‏باسم‏ “‏تيار‏ ‏الوعي‏” (‏أو‏ ‏تيار‏ ‏اللاوعى‏)، ثم إن‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الحكى ‏ليس‏ ‏مونولوجا‏ ‏داخليا‏ ‏فقط‏، ‏ولا‏ ‏حتى ‏هو‏ ‏ديالوج‏ ‏داخلى ‏تماما‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏وذاك‏، ‏لولا‏ ‏إعلانه‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏حوار‏ ‏مباشر‏، ‏ومتواصل‏ ‏لا‏ ‏ينقطع‏.‏ لكل‏ ‏ذلك‏ ‏قدرت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏من‏ ‏الحكى ‏يجرى ‏فى ‏عمق‏ ‏الطبقة‏ ‏الأولى ‏من‏ ‏الوعى، ‏فلا‏ ‏هو‏ ‏كلام‏ ‏مثل‏ ‏كلامنا‏ ‏اليومى ‏العادى، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏تيار‏ ‏غامض‏ ‏يجرى ‏فى ‏عمق‏ ‏وعى ‏آخر‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏تكبير‏ ‏مجهرى ‏للحظة‏ ‏مكثفة‏ ‏من‏ ‏حوار‏ ‏واع‏‏ ‏موجود‏ ‏فى ‏عمق‏ ‏نفس‏ ‏مستوى ‏الوعى ‏الظاهر‏ ‏بشكل‏ ‏مكثف‏ ‏أشد‏ ‏التكثيف‏، ‏بحيث‏ ‏تستغرق‏ ‏اللحظة‏ ‏الواحدة‏ ‏عشرين‏ ‏صفحة‏ ‏مثلا‏ ‏متى ‏تم‏ ‏التكبير‏، ‏وديستويفسكى ‏قادر‏ ‏على ‏استخراج‏ ‏هذه‏ ‏اللحظة‏، ‏ثم‏ ‏فردها‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏الحكى ‏المسلسل‏. ‏

يلاحظ‏ – ‏أيضا‏- ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الحكى ‏هو‏ ‏شديد‏ ‏الترابط‏ ‏واضح‏ ‏المنطق‏ ‏بعكس‏ ‏الحكى ‏التلقائى ‏أو‏ ‏الحر‏ ‏المسترسل‏، ‏وهذا‏ ‏ليس‏ – ‏فى ‏ذاته‏ – ‏ضد‏ ‏عمقه‏، ‏ولا‏ ‏هو‏، ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏كافٍ ‏أن‏ ‏يجعله‏ ‏حكيا‏ ‏منطقيا‏ ‏واعيا‏ ‏مباشرا‏ ‏على‏ ‏السطح‏.‏ وبتعبير‏ ‏آخر‏: ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يدور‏ ‏فى ‏خلد‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ ‏ولا‏ ‏ينطقه‏، ‏فجاء‏ ‏ديستويفسكى ‏يعرضه‏ ‏هكذا‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الإفاضة‏ ‏وكأنه‏ ‏حوار‏ ‏أو‏ ‏مونولوج‏ ‏مباشر‏.‏بهذا‏ ‏فقط‏ ‏تحملت‏ ‏مثل‏ ‏هذه الحوارات ‏ (3)

ثالثا‏: ‏استعمال‏ ‏الأقواس

‏لاحظت‏ ‏أن‏ ‏استعمال‏ ‏ديستويفسكى للأقواس‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏الوظائف‏ ‏والدلالات‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏فيه‏ ‏تصنيف‏ ‏واحد‏، ‏كأن‏ ‏نضعه‏ ‏تحت‏ ‏ظاهرة‏ “‏تعدد‏ ‏الأصوات‏” ‏مثلا‏، ‏فالأقواس‏ ‏عنده‏ ‏تعنى ‏أيا‏ ‏من‏، ‏وأحيانا‏ ‏كلا‏ ‏من‏:

‏1- ‏جملة‏ ‏اعتراضية‏.‏

‏2- ‏رؤية‏ ‏سبقية‏.‏

‏3- ‏صوت‏ ‏داخلى.‏

‏4- ‏موقف‏ ‏للراوى.‏

‏5- ‏إلتقاط‏ ‏أنفاس‏.‏

‏6-… ‏وغير‏ ‏ذلك‏.‏

رابعا‏: ‏الزمن‏: ‏

‏تصورت‏ ‏واستقبلت‏ ‏علاقة‏ ‏ديستويفسكى ‏بالوحدات‏ ‏المتناهية‏ ‏الصغر‏ ‏من‏ ‏الزمن‏، ‏فهو‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يحسب‏ ‏زمنه‏ ‏باللحظات‏  (4)

‏”‏لبثت‏ ‏ثلاث‏ ‏ثوان‏ ‏أو‏ ‏خمسة‏ ‏أتفرس‏ ‏فيها‏”  (5)

‏”‏غرس‏ ‏أسنانه‏ ‏فى ‏لحم‏ ‏الإصبع‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏أوتى ‏من‏ ‏قوة‏ ‏لمدة‏ ‏ثانيتين‏” (6)

‏”‏وقرع‏ ‏الباب‏ ‏ولكن‏ ‏الجواب‏ ‏لم‏ ‏يأت‏ ‏رأسا‏ ‏وإنما‏ ‏تأخر‏ ‏عشر‏ ‏ثوان‏” (7)

‏ ‏بل‏ ‏منذ‏ ‏اللحظة‏ ‏التى ‏راودتنى ‏فيها‏ ‏نية‏ ‏النطق‏ ‏بهذه‏ ‏الكلمات‏، ‏بحيث‏ ‏لا‏ ‏يمضى ‏ربع‏ ‏ثانية‏ ‏إلا‏ ‏وأكون‏…” (8)الخ‏.‏

‏‏ولاننسى ‏أن‏ ‏أحداث‏ ‏الرواية‏ ‏برمتها‏ ‏لم‏ ‏تستغرق‏ ‏سوى ‏أيام‏ (‏بالإضافة إلى الرجعات التصويرية – ‏فلاش‏ ‏باك‏)، ‏فالزمن‏ ‏عنده‏ ‏متناه ‏فى ‏الصغر‏، ‏مكثف‏ ‏بالأحداث‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏قابل‏ ‏للمرونة‏ ‏الممتدة‏ ‏بالتصوير‏ ‏البطئ‏ ‏واختراق‏ ‏المستقبل‏ ‏معا‏.. ‏إلى ‏ما‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏مدى.‏

خامسا‏: ‏الواقعية

حين‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏الواقعية‏‏، (9) ‏فإننا‏ ‏لا‏ ‏نعنى ‏واقع‏ ‏الناس‏، ‏أو‏ ‏واقع‏ ‏الأشياء‏ ‏أو‏ ‏واقع‏ ‏الأماكن‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏نعنى ‏قدرة‏ ‏الكاتب‏ ‏الخاصة‏ ‏على ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏منغلقا‏ ‏على ‏ذاته‏ ‏المتميزة‏ ‏الظاهرة‏، ‏أى ‏قدرته‏ ‏على ‏أن‏ ‏يستعمل‏ ‏ذاته‏ “‏مرصدا‏ ‏للواقع“‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏”مصهرا‏ ‏للواقع‏”، ‏ثم‏ ‏على ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏النهاية‏ “‏مصدرا‏ ‏للواقع“‏ ‏المبدع‏ ‏مسقطا‏ ‏على ‏الواقع‏ ‏الواقع (ليغيّره غالبا)‏.‏

هكذا‏ ‏لا‏ ‏تصبح‏ ‏الثلاث‏ ‏عشر‏ ‏درجة‏ ‏فى ‏منزل‏ ‏راسكولينوف‏ ‏فى ‏الشارع‏ ‏الفلاني‏/ ‏هم‏ ‏كذلك‏ ‏إذا‏ ‏وصفهم‏ ‏فى ‏إبداعه‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏أراهم‏ ‏لزوجته‏ ‏رأى ‏العين‏ (10)‏حتى ‏لو‏ ‏صرّح‏ ‏هو‏ ‏بذلك‏، ‏أو‏ ‏أقنع‏ ‏نفسه‏ ‏بذلك‏.

‏إذن‏ ‏فكل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الشخوص‏ ‏هم‏ ‏ذوات‏ ‏دوستويفسكى ‏شخصيا‏. ‏وخاصة‏ ‏أسرة‏ ‏كارامازوف‏ – ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏التقطهم‏ ‏فكـانـهـم، ‏ ‏فتخلقوا‏ ‏منه‏ ‏به‏، ‏فكانوا‏ ‏هكذا‏ ‏واقعا‏ ‏جديد‏.‏

سادسا‏: ‏هل‏ ‏حقا‏ ‏أنها‏ ‏الأفكار‏ ‏تتجسد؟‏ ‏

‏ديستويفسكى ‏صاحب‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏سواء‏ ‏وهو‏ ‏ضد‏ ‏الدين‏ ‏أو‏ ‏وهو‏ ‏شديد‏ ‏التدين‏، ‏سواء‏ ‏وهو‏ ‏من‏ ‏الأحرار‏ ‏الاشتراكيين‏ ‏أم‏ ‏المحافظين‏ ‏الإصلاحيين‏، ‏ولا‏ ‏شك‏ ‏أنه‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يوصـل‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏للناس‏ ‏الناس‏، ‏وكأنها‏ ‏قضيته‏ ‏الأولى ‏والأخيرة‏.‏ ليكن‏.‏

ولكن‏ ‏الإشكال‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏يكمن‏ ‏فى ‏قضية‏ ‏لاحقة‏، ‏وشديدة‏ ‏الأهمية‏، ‏وهى:‏

هل‏ ‏هو‏ ‏يبدع‏ ‏لذلك‏ ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏يبدع‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏ذلك؟‏.‏ أظن‏ ‏أن‏ ‏الأخيرة‏ ‏هى ‏الأصح‏.‏ وكأن‏ ‏مسألة‏ ‏ماذا‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يقول‏ ‏هى ‏مسألة‏ ‏تالية‏، ‏وأن‏ ‏المهم‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يدع‏ ‏نفسه‏ (‏بكل‏ ‏تواجد‏ ‏مستوياتها‏) ‏تقول‏ ‏ما‏ ‏يقول‏.‏ وأحسب‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يوحـد‏ ‏بين‏ ‏الشكل‏ ‏والمضمون‏ ‏بطريقة‏ ‏أو‏ ‏بأخرى.‏

فهو‏ – ‏إذن‏ – ‏لا‏ ‏يجسد‏ ‏الأفكار‏ ‏فى ‏أشخاص‏ ، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يوظف‏ ‏الأشخاص‏ (‏أشخاص‏ ‏ذاته‏: الحقيقيين‏ ‏المختلفين‏ ‏والمتعددين‏) ‏فى ‏توصيل‏ ‏رسالة‏ ‏متعددة‏ ‏الجوانب‏ ‏لمن‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يعيشها‏ ‏معهم‏، ‏وبتعبير‏ ‏آخر‏: ‏إن‏ ‏القول‏ ‏بأنها‏ “‏أفكار‏ ‏تتجسد‏ ‏فى ‏أشخاص‏”، ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يتعدل‏ ‏إلى ‏أنهم‏: “‏شخوص‏ ‏يحضرون‏ ‏بماهم‏: ‏وجدانا‏ ‏مفكـرا‏ ‏ماثلا‏ ‏حيا‏ ‏متحركا”‏ (11)

والفرق‏ ‏ليس‏ ‏سهلا‏، ‏وليس‏ ‏قليلا‏.‏

سابعا‏: ‏ليس مدحاً أن يكون‏ ‏عالما‏ ‏نفسيا:‏

لا‏ ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏وصف‏ ‏ديستويفسكى ‏بأنه‏ ‏عالم‏ ‏نفسى ‏أو‏ ‏طبيب‏ ‏نفسى ‏هو‏ ‏مدح‏ ‏بأى ‏صورة‏ ‏من‏ ‏الصور‏، ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الصحيح‏ ‏أى ‏أنه ربما يكون‏ ‏ذمّا‏ (12). ‏ديستويفسكى ‏يرى ‏النفس‏ – ‏واقعا‏ – ‏قبل‏ ‏وبدون‏ ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏ ‏نفس‏، (‏علم‏ ‏نفس‏ ‏صحيح‏ ‏أم‏ ‏زائف‏).‏

ثامنا‏: ‏دوائر‏ ‏العائلات

استطاع‏ ‏ديستويفسكى ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏الضخم‏ ‏أن‏ ‏يحرك‏ ‏ثلاث‏ ‏دوائر‏ ‏متماسة‏ ‏متقاطعة‏ ‏معا‏، ‏تمثل‏ ‏ثلاث‏ ‏عائلات‏‏: ‏عائلات‏ ‏كارامازوف‏، ‏وإيليوشا‏، ‏وكوليا‏، ‏ثم‏ ‏وضع -‏ ‏فى ‏وضع‏ ‏التماس‏ ‏الهامشى- ‏ثلاث‏ ‏عائلات‏ ‏أخرى ‏بدقة‏ ‏حاذقة‏، ‏هى: ‏عائلات‏ ‏كاتيا‏، ‏وجريجورى، ‏وهو‏‏خلاكوفا‏.‏ ‏هذه‏ ‏الدوائر‏ ‏الست‏ كانت ‏تلتقى ‏وتتماس‏ ‏وتتداخل‏ ‏وتتباعد‏ ‏بشكل مثير متشابك معا‏.‏

تاسعا‏: ‏وجه‏ ‏الشبه‏ ‏مع‏ ‏حالنا‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏الآن

استشعرت‏ – ‏بشكل‏ ‏ما‏ – ‏وهو‏ ‏يتكلم‏ ‏عن‏ ‏روسيا‏، ‏الأرثوكسية‏، ‏والكنيسة‏ ‏الدولة‏، ‏والدولة‏ ‏الكنيسة‏ ‏كأنه أحيانا‏ ‏ينشر‏ ‏مقالات‏ ‏تصلح‏ ‏أن‏ ‏تنشر‏ ‏اليوم‏ ‏فى ‏صحيفة‏ ‏الأخبار‏، ‏أو‏ ‏مجلة‏ ‏أكتوبر‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏الأهالى – ‏وقد‏ ‏خلصت‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏إلى أننا‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏روسيا‏ (‏وليس‏ ‏الاتحاد‏ ‏السوفيتى) ‏منا‏ ‏إلى ‏أوربا‏ و‏أن‏ ‏إسلامنا‏ “‏فى ‏مصر‏ (‏الإسلام‏ ‏التلقائى ‏الممارس‏ ‏يوميا‏) ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ذا نكهة‏ ‏قبطية ‏روسية‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ (‏إن‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏).‏ وعلى ذلك: فإما‏ ‏أن‏ ‏المشاكل‏ ‏أزلية‏ ‏تتكرر‏، ‏وإما‏ ‏أننا‏ ‏متخلفون‏ ‏عما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نكونه‏ ‏قرنا‏ ‏وبعض‏ ‏قرن‏.‏

وبعد

استأذنك يا شيخى أن أكمل لك القراءة الأسبوع القادم فقد شعرت أن الجرعة ثقيلة اليوم خاصة لمن لم يقرأ ديستويفسكى، وهذا العمل بالذات.
 

[1] – أمثلة‏ ‏لاختلاف‏ ‏الترجمة‏ [ ‏أ‏- “‏سخف‏”‏

‏الإنجليزية‏ Senselessness ‏والفرنسية ‏  Incoherence‏

‏ [ ‏ب‏- ‏لها‏ ‏عينان‏ ‏توشكان‏ ‏أن‏ ‏تكونا‏ ‏سوداوين‏ ‏على ‏سطوع‏ ‏شديد‏ ‏وحركة‏ ‏قوية‏ ‏

الإنجليزية‏: Had a lively black eyes‏

والفرنسية‏:‏                                                         

‏Les xeux un peu pale tres vifs et presque noire ‏

‏[ ‏جـ‏ – ‏إنك‏ ‏تتكلم‏.. ‏كأنك‏ ‏لا‏ ‏تملك‏ ‏وعيك‏ ‏كله

‏ ‏بالانجليزية‏

 As if you are not yourself ‏وبالفرنسية‏.‏ه‏ une sorte de folie‏

‏[ ‏د‏ – “‏لا‏ ‏تشعر‏ ‏بالخزي‏” ‏

بالانجليزية‏ Don’t” distress yourself ‏

وبالفرنسية‏ Ne vous inquitez pas‏

‏[ ‏هـ‏ – ” ‏الشهوانيون‏” -‏

‏ ‏بالانجليزية‏ The Sensualist‏

‏ ‏وبالفرنسية‏ Les luxurieux ‏

‏[ ‏و‏- “‏الاخوة‏ ‏يتعارفون‏”‏

‏ ‏بالفرنسية‏ Les freres font connaitre ‏

وبالانجليزية‏ The brothers make friends.‏

[2] –  وقد‏ ‏أشرت‏ ‏إلى ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏فى ‏دراساتى ‏السابقة

[3]- كنت‏ ‏قد‏ ‏صغت‏ ‏نفس‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏فى ‏القراءات‏ ‏الأولى لديستويفسكى ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى:‏ ليس‏ ‏هذا‏ ‏الحكى ‏تيارا‏ ‏للوعى، ‏أو‏ ‏تداعيا‏ ‏للاوعى، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏خيالات‏ ‏مسترسلة‏ ‏فى ‏الوعى ‏الظاهر‏ ‏مباشرة‏، ‏ولكنه‏ ‏نقطة‏ ‏مكثفة‏ ، ‏فى ‏لحظة‏ ‏شديدة‏ ‏القصر‏، ‏فى ‏عمق‏ ‏تجمـع‏ ‏الوعى ‏الظاهر‏ ‏ثم‏ ‏تجرى ‏عملية‏ ‏بسط‏ ‏وتكبير‏ ‏لهذه‏ ‏اللحظة‏ ‏بالحركة‏ ‏البطيئة‏، ‏فى ‏شكل‏ ‏حوارات‏ ‏عادية‏ ‏ممنطقة‏ ‏ممكنة‏ ‏الحدوث إذن‏: ‏فهو‏ ‏واقع‏ ‏حقيقى ‏عميق‏ ‏و‏ ‏مباشر‏، ‏تجمع‏، ‏وتكثف‏، ‏فَرَصَدَهُ‏ ‏الكاتب‏، ‏فَبسَطَهُ‏ ‏فسَلْسَلَهُ‏: ‏هكذا‏.‏

[4] – وإن‏ ‏كان‏ ‏الدروبى ‏يترجمها‏ ‏خطأ‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الأحيان‏ ‏إلى ‏الدقائق‏ ‏فيخلط‏ ‏أحيانا‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏لحظة‏ moment ‏وما‏ ‏هو‏ ‏دقيقة‏ minute

[5] –  ص‏ 25. ‏جـ‏1

[6] – ص‏ 394 ‏جـ‏2‏

[7] – ص‏ 434 ‏جـ‏1‏

[8]- ص‏ 282 ‏جـ‏1‏

[9]-  ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أشرت‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏ ‏وعند‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏بصفة‏ ‏خاصة

[10]- هذه‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏رواه‏ – ‏مقتطفا‏ ‏أقوال‏ ‏ديستويفسكى ‏نفسه‏ – ‏الدكتور‏ ‏أنور‏ ‏إبراهيم‏ ‏فى ‏تقديمه‏ ‏للندوة‏ ‏التى قدم فيها نقد هذا العمل‏.‏

[11] – تأكد ذلك لى مؤخرا بعد متابعاتى أكثر فأكثر لكل من (1) العلم المعرفى الأحدث (2) الجسد شريكا فى المعرفة (3) التعدد اللامحدود لوحدات الوعى أكثر من مجرد تعدد مستويات الوعى فى ما يسمى حالات الذات… من كل ذلك صار تعاملى مع الأفكار باعتبارها كيانات أوضح فأوضح.

[12]-  لابد‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏أعبر‏ ‏عن‏ ‏مأزق‏ ‏شخصى ‏حين‏ ‏أمارس‏ ‏حقى ‏فى ‏الإبداع‏، ‏فقد‏ ‏تأتينى ‏الفكرة‏ ‏طازجة‏ ‏مبتكرة‏، ‏لكننى ‏أعرف‏ – ‏لاحقا‏ – ‏أنها‏ ‏فكرة‏ ‏سابقة‏، ‏وقد‏ ‏تكون‏ ‏علمية‏، ‏أو‏ ‏شبه‏ ‏علمية‏، ‏فإذا‏ ‏بى ‏فى ‏حيرة‏ ‏حقيقية‏: ‏هل‏ ‏أثبتها‏ ‏وهى ‏قد‏ ‏جاءتنى ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أكتشف‏ ‏أنها‏ ‏علم‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏شابه‏، ‏أم‏ ‏أتنكر‏ ‏لها‏ ‏لأنفى ‏عن‏ ‏نفسى ‏تهمة‏ ‏وصاية‏ ‏العلم‏ ‏على ‏الحدس‏ ‏الإبداعي‏- ‏ويظلمنى ‏النقاد‏ ‏حين‏ ‏يتصورون‏ ‏أن‏ ‏نقطة‏ ‏البدء‏ ‏هى ‏من‏ ‏العلم‏ ‏إلى ‏الإبداع‏ ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الإبداع‏ ‏هو‏ ‏الأصل‏ – ‏وهذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏هى ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏أسميته‏ “‏ظاهرة‏ ‏القراءة‏ ‏السابقة‏ Deja lu ‏حين‏ ‏كنت‏ ‏أذاكر‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏لأول‏ ‏مـرة‏، ‏فأقرأ‏ ‏بعضه‏ ‏وكأنى ‏قرأته‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *