نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 12 – 3 – 2015
السنة الثامنة
العدد: 2750
ص 192 من الكراسة الأولى (2)
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
…………
ظعن الذين فراقهم أتوقع وجرى
بينهُم الغراب الأبقع
أدر ذكر من أهوى ولو بملام
فإن أحاديث الحبيب مدامى
يا نسيم الصبا تحمل سلامى
قصر عليه تحية وسلام نشرت عليه جمالها
الايام
نجيب محفوظ
21/8
مقدمة:
أنهيت النشرة السابقة كما يلى:
أكتفى اليوم بهذا الجزء فقد وجدت أن ما حضرنى من تداعيات لما ورد من شعر فى نفس الصفحة يحتاج إلى أن تفرد له نشرة بأكملها، ولتكن الأسبوع القادم.
وهأنذا أحاول أن أكمل بما تيسر:
أولا:
ظعنَ الذينَ فراقهم أتوقعُ .. وجرى بينهُمُ الغُرابُ الأَبْقعُ (1)
وهو مطلع قصيدة من العصر الجاهلى لعنترة بن شداد العبسى مطلعها “ظعنَ الذينَ فراقهم أتوقعُ”: ومن أبيات القصيدة ما يلى:
……….
……….
إنَّ الذينَ نعيْتَ لي بفِراقهمْ قد أسْهرُوا لَيْلى التّمامَ فأَوْجعوا
……….
وعرفتُ أنَّ منيتي إن تأتني لا يُنْجني منْها الفرارُ الأَسْرَعُ
اخترت هذه الأبيات لأنها تلزمنا هذه الأيام خاصة، وهى تفرق بين آلام الفقد وجرح الغياب، وبين الرسائل التى تصلنا من الموت عظة أو غير ذلك، وقد سبق أن تناولت بعض “آلام الفقد” و”جزع الفراق” فى قراءاتى النقدية وبالذات فى“ملحمة الحرافيش” ثم مقارنة ضلال الخلود فيها عند جلال صاحب الجلالة، (الحكاية السابعة) ولا نهائية حمزة السويفى فى “حضرة المحترم” لنجيب محفوظ، ثم من الناحية الطبنفسية ناقشت نفس الموضوع فى كتاب “الأساس فى الطب النفسى” كما ظهر فى نشرتّى “أسى الفقد” (نشرة 15-12-2014) و(نشرة 21-12-2014) و(نشرة 22-12-2014).
أما عظة الموت فقد تناولتها مرة فى هذه التدريبات وأنا أعقب على قول أبى العتاهية فى رثاء ابنه “وكانت في حياتك لى عظاتٌ * وأنت اليوم أوعظُ منك حيّا” (نشرة 12/1/2012 صفحة التدريب رقم “53”) وهى مرتبطة بالحديث الشريف الذى معناه “من أراد واعظا فالموت يكفيه”، ومع ذلك فما وصلنى هى أنها عظة لم تعد تدوم للأسف، حتى صورتها تتطاير أو تتسرب فى قصيدتى “عظة الموت تتسرب”
أما عنترة بن شداد فيستحق كلمة لأننى لا أذكر أننى أشرت إليه فى هذه التدريبات سابقا:
هو عنترة بن شداد بن قراد العبسى (525م – 608م) هو أحد أشهر شعراء العرب، ومن أشهر فرسان العرب في الجاهلية ومن شعراء الطبقة الأولى. من أهل نجد. وكان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفساً، يوصف بالحلم على شدة بطشه، وفي شعره رقة وعذوبة، كان مغرماً بابنة عمه عبلة فقل أن تخلو له قصيدة من ذكرها. اجتمع في شبابه بامرئ القيس الشاعر، وشهد حرب داحس والغبراء، وعاش طويلاً، وقتله الأسد الرهيص أو جبار بن عمرو الطائي.
وبعد:
دعونى أعترف أننى حين أرجع لمثل هذه الأخبار عن الجاهلية، تصلنى رسالة حضارية برغم كل ما ذكر عكس ذلك، وأشعر أن الاسلام الحنيف وهو معمار حضارى فى ذاته، قد نزل فى أهل حضاره ويزيد احترامى للغتى الفصحى، وأحمد الله على علاقتى بها حيث أعتبرها معماراً حضاريا قائما بذاته، وأفرق بينها فخورا بمن ابتدعها وأشادها هكذا، وبين ما آل إليه حال العرب مؤخرا مهما تغنوا بالقومية العربية، وهذا يقربنى من شيخنا، ويذكرنى بأبى الذى كان من عشاقها: هذا المعمار الحضارى: لغتنا الجميلة.
أحيانا يصلنى معنى لفظ جميل من هذه اللغة من منطوقه ورنينه، ودعونى أرجو من القارئ أن يقرأ لفظ “ظَعَنَ”، بصوت عالٍ عدة مرات، وهو غالبا لفظ لم يمر عليه من قبل، ولكن سوف يصله المعنى من السياق دون الرجوع إلى معاجم، ومع ذلك فالمعاجم تقول أن: ظعن ظعنا: سار وارتحل. وفى القرآن الكريم ورد: “يَوْمَ ظَعْنِكُمْ” (ظَعْنِكُمْ = رحيلكم).
رجعة إلى الوعى بالموت والاتعاظ منه:
حين بلغنى أثناء بحثى فى برامج البقاء أن أحد هذه البرامج، وهو “الوقتية” Temporality، إنما يعنى توقع الرحيل (الموت)، وأن هذا التوقع لا يخص الإنسان وحده، رحت اتعجب كيف توارى هذا البرنامج عند الانسان المعاصر خاصة وهو هكذا عند الأحياء حتى قبل الانسان، ثم يأتى عنترة بن شداد فيذكرنا هنا قائلا “وعرفت أن منيتى إن تأتنى * لن ينجنى منها الفرار الأسرع”، وهذا ما ينهبنا إليه القرآن الكريم “قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ” صدق الله العظيم.
ثم تلاحظ فى مطلع القصيدة ما يذكرنا بالتطير حين يشير إلى “الغراب الأبقع” (أى فيه سواد وبياض) وقد أعطاه ذلك جمالا خاصا وصلنى، لكنه لم ينف التطير عنه، فتتوارد لى ذكريات من سن الحادية عشر تقريبا، وأنا فى انتظار إعلان نتيجة أمتحان آخر السنة، وكنت فى حظيرة المواشى فى حديقة أبى حين سمعت صوت الغراب ينعقُ وتشاءمت، ثم قررت طفلاً أن أجعل النعيق على اليسار تشاؤما أما النعيق على اليمين فليكن تفاؤلا (حتى تظهر النتيجة) حتى أننى كنت أجرى أو أدور نصف دائرة إذا سمعت نعيقه لأجعل موقعه على اليمين، افتعالا، حتى قلت فى ذلك فى هذه السن:
إذا نعق الغراب على اليمين* تفاءل بعضهم طول السلامة،
وإن نعق الغراب على اليسار* تشاءم غيرهم قرب الندامه،
هكذا كنت أصبّر نفسى وأتحايل على موقعى من الغراب حتى تظهر النتيجة،
وددت يا شيخنا الغالى يوما أن أحكى لك هذا التحايل، وها أنذا أفعل ولو تأخرت بعض الوقت.
ثانيا:
أدر ذكر من أهوى ولو بملام فإن أحاديث الحبيب مدامى
هى قصيدة لابن الفارض 576 – 632 هـ / 1181 – 1235 م وهو من شعراء العصر العباسى، ومطلع القصيدة: “أدِرْ ذِكْرَ مَن أهْوى ولو بمَلامِ”
هذا البيت لابن الفارض وهو أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، أحد أشهر الشعراء المتصوفين، وكانت أشعاره غالبها في العشق الإلهي حتى أنه لقب بـ “سلطان العاشقين”. والده من حماة في سوريا، وهاجر لاحقاً إلى مصر، حيث توفي سنة 632 هـ الموافق 1235م ودفن بجوار جبل المقطم في مسجده، حين قرأت هذه السيرة، وأنت تعلم يا شيخنا أين أقيم، وقد شّرفت بيتى كل جمعة لعشر سنوات (تقريبا) فى المقطم، قررت أن أبحث عن مسجد أبن الفارض فى جوارنا، وقد حسبت أولا أن هذا الشعر هو فى الغزل، وإذا به فى العشق الإلهى، وتوقفت عند التماهى فى الذكر، وأيضا عند الجرأة على الملام مع ربنا ثقة فى الرضا المتبادل بينهما، ولم أتأكد إن كان الملام منه أو من الله ومع ذلك فهو الملام السكر من فرط الوجد الانجذابى نحو الله سبحانه،
من قديم فى بداية تعرفى على مثل هذا الشعر لم أكن أميز شعر العشق الإلهى على أنه كذلك، حتى استشهدت فى مقال لى عن الحيل النفسية ببيتين حسبتهما يمثلان التقمص بالمحب وهما:
“وما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتى بذاتى جُنَّتِ” (2)
وأيضا: “أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا جسدا” (3)
ثم اكتشفت بعد ذلك أنهما فى العشق الالهى، وكدت أرفضها حذرا من فكرة “الحلول” التى شطح بها بعض المتصوفة، والتى بدأت أتعرف على منابعها عندهم مؤخراً، من متابعة احتمالات تصاعد دوائر الوعى التى تهدينا إليها البيولوجيا العصبية والعلوم الكموية (الكوانتية) الأحدث مؤخراً.
ثالثا:
يا نسيم الصبا تحمل سلامى
هذا البيت جاء فى قصيدة للشاعر: نيقولاوس الصائغ 1169 – 1103 هـ/ 1692 – 1756م، وقد فوجئت بالاسم لأول وهلة، وبالبحث وجدت أنه نقولا (أو نيقولاوس) الصائغ الحلبى، كان شاعرا وهو الرئيس العام للرهبان الفاسيليين القانونيين المنتسبين إلى دير مار يوحنا الشوير. وكان من تلاميذ جرمانوس فرحات بحلب (1670-1732) فرحت أبحث عن هذا الأخير فوجدت أنه من أسرة مطر التي ارتحلت من لبنان من قرية حصرون في لبنان إلى حلب. وقد كان من الذين وضعو أساس النهضة في الشرق فكان شديد الاتصال بثقافة الغرب يعرف من اللغات العربية، والإيطالية، واللاتينية والسريانية، كما كان متضلعاً فى المنطق والفلسفة وعلوم العرب والتاريخ الخاص والعام فضلاً عن العلوم اللاهوتية، وكان له أيضاً مشاركات في علوم أخرى كالطب والكيمياء والفلك والطبيعيات .
فرحت بهذه المعلومات الجديدة، وتذكرت ما وصلنى من عطاء أهل الشام عامة وخاصة لبنان فى اللغة العربية بالذات، ووددت لو انتبهنا إلى حضارة اللغة العربية الجميلة بذاتها، فهى ليست مرادفة لحضارة الإسلام، وإن تكاملا وتكافلا، فقد بدأت حضارة الفصحى فى الجاهلية وأمتدت فى المسلمين وغير المسلمين حتى ضيعها العرب المحدثين أو كادوا.
ثم أعود إلى نيقولاوس الصائغ فأعلم أن فى شعره متانة وجودة، وأختم بأن أورد بعض الأبيات التى تلت البيت الذى ورد فى تداعيات شيخنا على هذه الصفحة فيما يلى:
يا نسيمَ الصَبا تَحَمَّل سَلامي ثُمَّ بلِّغ تَحِيَّةَ المُستَهامِ
ذلك الوادي الخصيبَ صباحاً ورُباهُ المُنِيفةَ الإِكرامِ
حيثُما النَرجَسُ المُضعَّفُ أَضحَى ناعساً قائماً على الأَقدامِ
والأَقاحي والنَرجَسُ الغَضُّ يزهو مائلاً والورود في الأَكمامِ
وأَريـجُ الطَرَنجَبـيلِ ذكيٌّ فاقَ قَدراً على عبير الخِزامِ
…….. الخ
فيحضرنى منظر هذه الطبيعة الجميلة وقد رسمتها ريشة الشاعر فأحببتها حتى كدت أشم روائحها، ورحت أتساءل ما الذى أتى بمطلعها إلى شيخنا؟ فأكتشف أنه من الموشحات التى لحنها الشيخ على محمود وترنم بها بمثابة حلقة الوصل أو مرحلة التطور من ترتيل القرآن إلى الغناء العربى المتقن، فأرجح أن شيخى سمعها وأحبها ومنه، ثم سمح لها أن تطفو على وعيه الآن أثناء التدريب، فكان ضمن هداياه التى نتصالح بها على الطبيعة وعلى أنفسنا ونحن ندعو له.
[1] – أما بيت: “قصر عليه تحية وسلام نشرت عليه جمالها الايام” فقد سبقت قراءته والتداعيات منه فى صفحة التدريب رقم “12” نشرة 11/2/2010 وكذلك فى صفحة التدريب رقم “39” نشرة 13/10/2011
[2] – شعر ابن القارض، العصر العباسى، قصيدة سقتني حميَّا الحبِّ راحة َ مقلتي
[3] – شعر الحسين بن منصور الحلاج، العصر العباسى، ديوان الحلاج