الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الجريمة والناس (رواية قصيرة جديدة 2015)

الجريمة والناس (رواية قصيرة جديدة 2015)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 11-3-2015   

السنة الثامنة

العدد: 2749 

الجريمة والناس

(رواية قصيرة جديدة 2015)

الفصل الأول:

المرافعة

-1-

هو الذى اختلف، كل شىء كما هو إلا هو: ليس هو، المقهى لم يكتظ بروداه كالمعتاد، الوقت بعد العصر، هذه المجموعة المتحوطة حول بعضهم البعض، يجلسون فى الركن المظلم من المقهى، لا أستطيع أن أتبين معالمهم ولا عددهم وهم يهمسون بما لا  أسمع أو لعلهم صامتون فلا أسمع، خيل إلى أن أغلبهم من الشباب، أو هم كهول يتصابون، ينفجرون فى الضحك معا فجأة، ثم يعودون للصمت أو الهمس معا فجأة، وكأن زرا يحركهم مجتمعين ؟ أنا مالى، ما يهمنى هو دورهم بالنسبة لموضوعى، هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم فهم لا يصلحون محلفين أصلا، المطلوب حتى يصدر الحكم سليما أن يكون العدد ثمانية على الأقل، وقيل عشرة، يدخل المقهى اثنان فى منتصف العمر واحد منهم يمسك عصا والآخر مسبحة، صاحب العصا لا يتوكأ عليها، وماسك المسبحة يدوّرها فى الهواء ولا يسبح بها، لكنهما يصلحان غالبا أعضاء عاملين فيما نحن فيه، يمكن أن ينضم إليهم المعلم صاحب المقهى والصبى الذاهب العائد بلا داع ولا زبائن جدد، لعل العدد يكتمل أسرع.

 أنا واثق من براءتى مائة بالمائة فما الداعى لأى محلفين أو قضاة أو حتى دفاع، لكن يبدو أنه لابد من إجراءات وأوراق قبل أن يصدر الحكم، لقد رفضت تبرع جارنا المحامى للدفاع عنى فأنا أقدَر على ذلك، إيش عرّفه هو عن ماذا يدافع أو عن من؟ حتى ممثل الاتهام لا يجد ما يقوله إلا تكرار ما يقوله، أنا أدرى الناس أنى برىء، أتبين عددا من الجلوس الناحية الأخرى لم ألحظهم إلا الآن، ربما خمسة أو ستة، وهذا طيب. وصلنا الآن إلى عدد يكفى لتنعقد الجلسة، لست متأكدا هل هو العرف أو القانون الذى يقضى أن يكون الحكام والمحلفون من نفس ثقافة ومجتمع المتهم حتى يستطيعوا أن يتقمصوه، لا أحد يمكنه أن يتقمصنى أنا بالذات لأنى أنا نفسى لم أنجح أن أتقمص نفسى.

-2-

تبدأ وقائع الجلسة  دون صيحة الحاجب أنْ “مَحْكَمَا”، لأنه إذا كان الحكم  معروف بشكل حاسم هكذا مسبقا، مثلما هو الأمر فى حالتى، فما لزوم الحاجب أو حتى القاضى نفسه بالله عليكم، ألا يُعتبران أنهما عمالة زائدة تعطل الانتاج؟

يا حضرات السادة المحترمين من كل الحاضرين والغائبين: الأمر وما فيه أنهم عقدوا العزم على التخلص من أمثالى لأننى أُفشِلُ خططهم باستمرارى على قيد الحياة، زيادة عدد، مع أن ربنا هو الذى خلقنى مثلما خلقهم تماما، لكن هاهم المحققون وقد عجزوا عن تحديد مكان الجريمة أو عدد الضحايا بشكل نهائى، يواصلون عملهم بمنتهى الجدية والحماس، كما أن الطبيب الشرعى قد أكد أن الوفاة كانت طبيعية مع أنه لا توجد وفاة طبيعية إلا الانتحار، ومع ذلك فهم يدعون أن الجريمة مكتملة الأركان تماما.

-3-

هذه الثمرة البكر الطازجة الناضجة تمر محتضنه حقيبة تبدو بها كتب أو أدوات رياضية، تضغط بها على صدرها الناهد فى دعة، تبدو بريئة جميلة تلمس قدماها الأرض برقة منغمة كأنها ترقص البالية، تُقِّربُ “المحمول” من أذنها اليسرى – فتكاد الحقيبة تسقط فتنقل حمالتيها إلى كتفيها وتواصل المكالمة وهى تبتسم له، تضع المحمول فى صدرها بحنان بالغ ثم تلتفت راجعة، تنظر إلىّ وهى تمر بى ثانية فى عكس الاتجاه، ما هذا؟ انها تنحرف ناحيتى فجأة وهى تتقدم دون تردد وأنا فى أتم دهشة، لا يا ابنتى أنا لم أشِر إليك، بالسلامة يا حبيبتى إلى حال سبيلك، درس أو صديق، أو حلم، لا يهمك يا ابنتى بارك الله فيك وحفظك وحفظه ، ترفع يدها إلى السماء وهى تمضى، فأشعر أنها تدعو لى، فأطمئن إلى براءتى.

 تمر بعدها شابة بنت بلد قوية فتية متحفزة تحمل صحف المساء قبل المساء، تدخل إلينا مقتحمة فى ثقة، تلقى بالصحيفة على مائدتى وهى لا تكاد تنظر إلىّ، ثم تمضى تدور على الباقين، لكنها تبدو واثقة أننى سأدفع الثمن ولن أرد الصحيفة، لا أعرف من أين جاءتها هذه الثقة، لولا أنها على يقين من براءتى لما كانت على يقين من أمانتى وكرمى، عدد رواد المقهى يتزايد ببطء، وجماعة الركن المظلم تنصرف دون جلبة، أنظر إلى الصحيفة الملقاة على المائدة ولا أفتحها، أنا لا أقرأ صحف المساء، بينى وبينك ولا صحف الصباح، مع أنى اشترى أثنتين بحكم العادة، أشعر براحة لانصراف الثلة الغامضة  برغم أنى لا أكرههم ولا أشك فيهم جدا.

 بائعة الفول السودانى “بقشره” تمر على الموائد فى تردد، إلا مائدتى فأرجح أنها جاسوسة للمتآمرين، ولو، برئ مائة بالمائة !

-4-

ماذا لو كان الألمان انتصروا فى الحرب العالمية إذن لأراحوانا من كل هؤلاء الطغاة الديمقراطيين، ماذا لو انطلقت حرب ذرية فأراحتنا من كل هذه الخيانات السلطوية والجماهيرية معا، إذن لما حرصوا كل هذا الحرص على إلصاق التهم بمن بقوا على قيد الحياة؟

أسمع صوت زقزقة عصافير على الشجرة التى تظلل نصف رصيف المقهى وقد قاربت الشمس على المغيب، يبدو أنه موعد عودة العصافير إلى عشوشها، فأطمئن أكثر لأنها سوف تشهد معى.

-5-

حضرات السادة الشرفاء الأذكياء فوق العادة:

إنكم إذا أدنتمونى فلسوف تستريحون بعض الوقت؛ لأنكم سوف تتصورون أن تحديد الفاعل إنما يعنى براءة الآخرين، تحت زعم أنه يستحيل أن تتم جريمة واحدة من أكثر من فاعل فى الوقت ذاته، ولكنى أحذركم من أن تصبحوا شركاء فى مؤامرة أنتم لستم قدرها، إنها أعم من شخصى وأقوى من قوانينكم، ولتعلموا أن الحكم بإدانتى سوف يفتح الباب لاتهام أى منكم، فى أى وقت، وسوف تصدر الأحكام تباعا بالدور، أحكام تنص على أن أيا منكم قد صنف نهائيا أنه من فئة “بدون”، ليس “بدون” جنسّية، هذا غير موجود إلا فى الكويت، لكن “بدون لازمة”، لهذا تم التخطيط للمؤامرة فى محاولة إزالة آثار عدوان التناسل بإفراط، الأمر الذى أصبح تهديدا حقيقيا لاستمرار الآخرين الذين لا غنى عنهم، لكل هذا أنا أنصحكم لوجه العدل ـ سبحانه ـ ولصالحكم أن تتريثوا قليلا، بل كثيراً، ولا تتصوروا أن فى إدانتى خلاصا لكم، ولا تنسوا أنكم سوف تواجهون بعد رحيلى ورحيل أمثالى بالالتزام بضرورة إكمال المشوار وتحسين النسل بمعرفتكم، وهذا أمر خارج عن قدراتكم المعرفية والجنسية والقتالية والإلكترونية جميعا.

-6-

يدخل إلى المقهى شاب ملتح جدا وفى صحبته سيدة (أو فتاة) منتقبه ويسألنى  مباشرة – بصفتى الأقرب إلى باب المقهى- عن موقع مكتب البريد، فأتذكر الإخطار الذى تسلمته صباح أمس من “مُحضر” مهذب، وفيه طلب التوجه لقسم بوليس الحى فى أقرب وقت، وقد سألته عن سبب استدعائى فلم يوضحه، كما لم يطلب منى التوقيع  على أى إخطار رسمى، فقررت ألا أستعجل، فأنا واثق من براءتى.

*****

 الفصل الثانى:

اعتراف

(بعد مرور ثلاث سنوات أو عشرة أو ما شئت…)

-7-

اختلفت هذه المرة عن كل مرة، ليس لأنه تغير هو كما حدث من قديم، ولكن يبدو أن المقهى هو الذى تغير مع أنه كان قد الفه لسنين طوال حتى صار وكأنه بيته، هل حدث ذلك من وراء ظهره دون أن يستأذنوه أو حتى يخطروه، لعل تغيير معالم المقهى لهذه الدرجة  يفيقه من تنويم العادة،  فيكتشف أن الاختلاف قد بدأ منذ قرون، أو أكثر، كان الوقت صباحاً والشمس لم تقترب إلا من رصيفها، ولم يكن قد حضر إلى المقهى إلا أربعة: شاب يلبس عفريتة جينس، ليست متسخة على كل حال، وعامل بناء على ما يبدو، وشيخ معمم، ولكنه ليس شيخا بالضرورة، ورجل لا يلبس طربوشا ولكنه يوحى بذلك، ولم يكن هذا العدد كافياً، وهو لا يعلم كم عدد المحكمين اللازمين هذه الأيام – بعد تعديل القوانين وزحف النظام العالمى الجديد – المسألة هذه المرة لن تستغرق وقتا، فأنا جاهز للاعتراف،  فلا مرافعات, ولا دفاع ، ولا يحزنون، ولكن الخوف إذا حضر الآخرون متأخرين أن يطلبوا منى أن أبدأ من جديد، أبدأ ماذا وهم قد يرفضون الاستماع إلى اعترافى أصلا مثل سيادة الرائد أمس؟ ذهبت إليه بعد زمن طويل من إخطار المحُضر، وتبينت أنه كان استدعاءً روتينيا للتأكد من بعض بيانات الرقم القومى، ربما جاء توقيت ذهابى بعد هذه المدة  نتيجة لهذا التغيّر المتسحب الذى لم أدرك حجمه وربما نوعه إلا حالا هكذا، انتهزتها فرصة وقلت أنهى ترددى وما يحدث يحدث، وبتصميم لم أعهده فى نفسى غيرت الموضوع مع سيادة الرائد إلى أهم قضية تشغلنى، تلك التى أراها أهم قضية فى الوجود، استأذنته أن أدلى بما عندى بعيدا عن سبب استدعائى، واستجاب مندهشا، ربما وافق حبا فى الاستطلاع، قلت له إننى أود الادلاء باعتراف خطير، أليس الاعتراف هو سيد الأدلة!! أكدت له أننى فى كامل قواى العقلية، موفور الأهلية لتحمل مسئولية كل حرف أدلى به، وطلبت فتح المحضر باعتبار أن ذلك هو حقى مثل أى مواطن، ولكنه رفض، أو لعله أجّل ذلك برغم التأكد من صحة رقمى القومى، وأننى متزوج وأعول، ومع ذلك توقف طالبا منى أن أحدد أولا موضوع المحضر، وحين قلت له إننى أريد أن أعترف على نفسى دون شركائى، ظهرت علامات جدية أكبر، إذ يبدو أن المهمة بدت له أكثر إثارة ووعداً، فاستعد لمحضر فيه مشروع قضيه اعتراف وشركاء وكلام كبير، إلا أنه بعد ثلاثة أو أربعة أسئلة أجبت عنها بمنتهى الصدق، رفض أن يكمل، وأخطرنى بهدوء أن أصرف النظر، وأن أنام جيدا، وأعتنى بمن أعول، كان طيبا رقيقا على عكس ما يشيعون عنهم، لكنه لم يحترم مطلبى على أية حال، وحين عدت ألح عليه من جديد تغيرت ملامحه وظهر الوجه الآخر دون أن يفقد طيبته، وحذرنى من عقوبة إزعاج السلطات، وحين سألته زاد بتحذير آخر من عقوبة البلاغ الكاذب.

-8-

ها هو صبى المقهى يحضر لى طلبى الأخير ويحيينى بنفس رقه حضرة الرائد مع سماح بلدى أصيل، لماذا يبدو مرتاحا هكذا مع أنه شريك أساسى أيضا، ربما يسترضينى حتى لا أبلغ عنه، الآن فهمت، كيف أن حضرة الرائد هو شريك كذلك، ألهذا يتسامحون كل هذا السماح؟ ربما رفض حضرة الباشا أن يكمل المحضر حتى لا يأتى اسمه ضمن الشركاء مع أننى أقسمت له أننى لن أعترف إلا عن نفسى فقط نظراً لكثرة الشركاء بلا حصر، ولهذا فلن أنبس باسم أحدهم لأى مخلوق، وليدافع كل منهم عن نفسه، القانون هو القانون والاعتراف هو الاعتراف، ما زال سيد الأدلة، لكن يبدو أن الشروط تتطلب اشراك امرأة ناضجة فى منتصف العمر، تفهم فى العرف أكثر من القانون، وأيضا إلى فتاة فائرة ذكية، وإلى مدير مدرسة إعدادى على المعاش كان مدرسا للتاريخ والأحياء معا،لماذا هكذا تحديدا، لا اعرف، وكذلك إلى رائد غير هذا الرائد أو حتى مقدِّم، يكون متوسط الفهم أو متبلد الشعور أو كليهما، وبهذا وحده أستطيع أن أطمئن إلى مسار الأمور.

-9-

 ها هى السيدة فى الشرفة المقابلة تنشر الغسيل فى هذه الساعة المبكرة من الصباح، تنتهز فرصة طلوع الشمس فى مواجهة هذه الواجهة من البيت قبل أن تستدير، تنحنى بشكل “أكروباتى” مغامر فيسقط ثدياها بما يمثل خطرا حقيقيا، لأنه إذا كانت الرأس أثقل من الجسم كما تعلمنا صغارا، فهى بهاتين البطيختين تطب بهما الكفة فى الشارع دون تردد، اللهم إلا إذا كانت الثقالات الخلفية وراء سور الشرفة كافية لحفظ التوازن مقابل النهود المدلاّة، ثم هاهى الصبية بائعة الصحف تكمل العدد وهى بالمواصفات المطلوبة السابقة الذكر، وهى دائمة الضحك وافرة الأنوثة، وليكن الأفندى المطربش دون طربوش هو باشكاتب الجلسة، ولسوف تصل كل الأخبار إلى المسئولين فور صدور الحكم، وربما قدم لى سيادة الرائد اعتذاره بعد تأكده من جديتى، مع أننى غير محتاج إلى أى اعتذار من أى شخص كان، فقط يصدقونى لتأخذ الأمور مجراها الطبيعى، ربما نستطيع انقاذ ما يمكن أنقاذه.

يدخل إلى المقهى كهل جميل مبتسم، غير منحنى الظهر، وليس أصلعاُ، ويفرق شعره الكث الشديد البياض على اليمين، حين التقت نظراتنا اتسعت ابتسامته كأنه يعرفنى، تأكدت أننى استدعيته بحدْسى، هو هو مدير المدرسة بالمعاش الذى خطر لى مدرسا للتاريخ والأحياء، أومأتُ له برأسى بعد أن التقت نظراتنا، فابتسم أوسع، ومضى بعيدا

الحمد لله اكتمل العدد.

-10-

 الأحداث أكبر من أن تـُوصف، وأظهر من أن تُخفى، المؤامرة تدبر فى الدور الأسفل بشكل سرطانى يتمادى أثره باضطراد مخيف، الأمر وما فيه، يا زملاء الرحلة والمرحلة، أنه بالرغم من أن كل أركان الجريمة متوفرة وأن الضحايا على قفا من يحمل، (على قفا من يشيل) إلا أن الأدوار ملتبسة ومتداخلة، حتى تصعب التفرقة بين المتهمين والحمالين والضحايا، وبالرغم ايضا من أن كل تقارير الطب الشرعى عادت تؤكد أن كل الوفيات طبيعية، إلا أن هذا لا ينفى وقوع ما وقع بل واستمراره، وهذه التقارير نفسها تلزم أولى الأمر أن يعيدوا النظر فى تعريف ما هى الوفاة الطبيعية..

-11-

 أقبل ماسح الأحذية ـ ثانية ـ ونقر على صندوقه فى صمت، طلبت منه أن يشترى لى صحيفة من عند الفتاة قبالتنا، وتركت له الاختيار، فانصرف رافعا حاجبيه بعد أن أبلغنى أنه لا يقرأ ولا يكتب، ذهب وعاد وبيده صحيفتان واحتفظ بالباقى دون استئذان؛ فوافقت دون إذعان، وحين سألته كيف اختار الصحيفتين قال لى أنه لم يختر شيئا لأن البنت لم تسمح له بإعمال المقارنة، هى التى أعطته الصحيفتين قبل أن يفتح فمه، وحين سألته أن كان يريد أن تعرف بعض ما بالصحيفتين أجاب بالنفى شاكرا، وحين سألته لماذا؟ قال: لأنى أعرف ما بهما، وصدقته، وحسبت أن الحوار انتهى إلا أنه أردف قبل أن ينصرف : بصراحة أنا لا أعرف لماذا حضرتك تصرف نقودك هكذا بلا داع.

-12-

طيب، إذا كانت فتاة الجرائد تبيع ما تريد دون أن تسأل الشارى، وكان الصبى ماسح الأحذية يعرف ما بالصحف دون أن يقرأها، فربما هذا يفسر لماذا رفض حضرة الرائد الطيب أن يقبل اعترافى الصريح ويريح ضميرى وهو لم يسمع تفاصيل الحادث أصلا، تلفت حولى فإذا بالمقهى تكاد تمتلىء بزبائن بدوا لى من هدوئهم واستقرار مجالسهم أنهم أصحابها، أو ربما كانوا هنا منذ البداية وأنا الذى لم أنتبه لوجودهم قبلا، ليكن، وليسمعوا ما رفض أن يستمع إليه الرائد:  أهلا وسهلا لو سمحتم، فلتتمعنوا فى هذا الشخص الماثل أمامكم فى حجم الإنسان العادى وتقولوا إنكم رأيتموه على حقيقته إن كنتم حقا فعلتم، فمن حقى بداهة أن يرانى الواحد منكم، قبل أن يرى فىّ رأيا يتمسك به، وإلا فعلى أى أساس سوف تستمعون إلى اعترافى وأنا أريد أن أستشهد بكم أمام حضرة الرائد؟ وقسما بالله العلى العظيم إنى لا أشك لحظة فى حكمتكم أو حسن نيتكم، إلا أننى أتساءل عن قوة إبصاركم، ويمكنكم أن تستعينوا بأية عدسات مكبرة، لكن المسألة ليست مسألة تكبير، إذْ ماذا لو كبـّرت العدسات من فصاحتى، دون النظر إلى وحدتى وجوع قلبى وقصر يدى؟ وكل ذلك ليس مبررا لعدم قبول اعترافى، فأنا مسئول مسئول مسئول، ثم إن جسم الجريمة مازال ممددا فى كل موقع دون استثناء، وأنا واحد مثلكم تماما، لكن القضاء والقدر هو الذى حدد لنا أدوارنا، ومع ذلك فلسوف أسرد كل شىء، كل شىء.

-13-

يبدو أن التيار الكهربائى هنا له آذان ترصد ما بالقلوب، ها هو قد انقطع، ثم عاد، فعدت بدورى إلى الصحيفتين اللتان لم أفتحهما، ورحت أنظر فى العناوين بسرعة: “الأرض الجديدة، حقوق الإنسان، داعش أوباما،  أساما أوباما داعش، التهاب البورصة، سوفالدي، النظام العالمى الجديد، من يحمى الشاطر، نجمة الشورت الساخن، ارتفاع ثمن طن الأرز، توصيات حديثه للرجيم غير التقليدى، أحمد عز يرفض تحليل DNA، أحمد عز الثانى يقسم أنه ليس مجنونا حتى يعود إلى السياسة.

بالله عليكم أليس فى كل هذا، بل فى أى من هذا، ما يؤيد حقى فى الإدلاء باعتراف كامل واضح يلزم المسئولين باتخاذ اللازم.

-14-

أشعر بتنميل زاحف على ساقى اليسرى، لا… ليس تنميلا، لابد أن ثمة حشرة وديعة لا تلدغ تسربت من رجل السروال وراحت تزحف فوق ساقى فى خبث ودلال، أميل وأمد يدى وأهرشها من فوق السروال فيختفى الشعور لكننى أثناء انحنائى لمحت تحت الكرسى جسما ضخما مستديرا، كتلة من السواد تتحرك ببطء، سلحفاة هذه أم ماذا؟ ما الذى أتى بها إلى هنا الآن، لكن أقدامها تمتد أطول وعددها أكثر، إذن ليست سلحفاه بل كابوريا عملاقه، لم أفزع ولم أقفز مع أننى عادة أخاف من منظر الكابوريا لدرجة أننى أنكر ما يحكونه عن طعم عضلالتها المشوية، وحين رحت أدقق النظر اختفى المنظر كلية فتأكدت أنها لم تكن سلحفاة، إذْ لا يمكن أن تختفى بهذه السرعة، ما هذا؟ هل كان هناك شىء أصلا؟ يبدو أن حضرة الرائد عنده حق.

-15-

 ماذا لو كان الإعصار قد تسارع فانتهت حياة مليارين أو ثلاثة من البشر، هل كنتم ستصدقون أنه ليس لى شركاء فى هذا أيضا؟ أم كانت الأمور ستسيح ويضيع الحق نتيجة لكثرة عدد الضحايا كالعادة؟ الآن بدأت أفهم موقف حضرة الرائد أكثر فأكثر إذْ يبدو أنه كان ينبغى أن اصطحب عددا من المعترفين بنفس عدد الضحايا حتى يمكن تحديد جريمة واحده لكل واحد كما ينص القانون الانجليزى، لماذا لا يستعملون حق الفتيو ضد كل ذلك؟، على أية حال فمن البديهى أن اعتراف فاعل واحد لا يعنى براءة الآخرين، لكن يبدو أن خبرة هذا الرائد الطيب قد علمته أن اعترافى الذى لم يسمعه لن يغلق الملف، وهى برغم ثبوتها عليهم، إلا أنها مختلفة جدا، كأنها مفصلة لكل واحد حسب مقاسه تماماً، لكن لها نفس العقوبة، لهذا فأنا أنصحكم لوجه العدل ـ سبحانه ـ أن تتريثوا قليلا، قبل أن تتخلوا عن الشهادة معى، لتدعموا اعترافى، فإذا رفضتم دعم اعترافى هذا  الذى أتقدم به لكل من يهمه الأمر، وأنا اتحمل نتائجه بكل صبر وفخر وألم ودون تردد، فإن ذلك سوف يحملكم مسئولية استمرار ما يجرى بنفس الوتيرة وأخطر، وقد تصدر أحكام جماعية بخـَصـْى كل الكذابين والمتقاعسين، بل وتعقيم النساء أيضا، فالاحتياط واجب، فكيف يمكن بعد ذلك الحفاظ على استمرار النوع؟ هذه مسألة قد حُسمت من قديم، وسُيترك الأمر كله للتاريخ بكل أبعاده.

-16-

الكهل الجميل مدرس التاريخ والأحياء يقوم من مقعده ويتقدم نحوى وكأنه تذكر شيئا أو أحدا ولعل هذا هو ما يفسر ابتسامته الأولى حين التقت أعيننا، فليكن: “صباح النور يا سيدى”، لا، لست أنا من تبحث عنه، أنا آسف، يخلق من الشبه أربعين تفضل خذ شيئا معى، ليس تماما، أنا لا أشعر بالوحدة، أنا فقط أحتاج من يصدّقنى، ثم إنك مسئول مثلى نفس المسئولية، لا أقصد، نعم،  أنا لا أمزح يا سيدى، تسألنى عن النوع؟ أى “نوع” تعنى؟ أنا غير مهتم إلا بنوع واحد، لا، ليس هو ما فى ذهنك، أنا  لست منهم ولا أقترب من أى صنف، العفو، أهلا وسهلا، سلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *