الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قراءة فى كراسات التدريب – نجيب محفوظ : الصفحة (30) الجزء الثانى

قراءة فى كراسات التدريب – نجيب محفوظ : الصفحة (30) الجزء الثانى

نشرة “الإنسان والتطور”

28 -7- 2011

السنة الرابعة

العدد: 1427

 Mafouz & Yehia (1)

مقدمة:

لأول مرة أقدم قراءتى لصفحة واحدة من كراسات التدريب على حلقتين، أنا لا أنكر أن ثمة أسبابا شخصية اضطرتنى لذلك، لكننى وجدتها فرصة جيدة لمزيد من الإتقان وربما مساحة أوسع للتداعى.

اقتصرت نشرة الأسبوع الماضى على الجزء الأول مما ورد بالصفحة وهو ما يتعلق بمسألة “الحماقة” وكيف أنها تستعصى على العلاج، وكيف يمكن أن تكون اختيارية مؤقتة فتثرى الوجود الحقيقى تكاملا بلا تناقض مع فضيلة “اللاحماقة” والجدية.

ننتقل اليوم إلى الجزء الثانى من التدريب الذى يبدأ انطلاقا من الآية الكريمة ” إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً”

 النص صفحة “30”

28-7-2011   30بسم الله الرحمن الرحيم

نجيب‏ ‏محفوظ

لكل‏ ‏داء‏ ‏دواء

إلا‏ ‏الحماقة‏ ‏أعيت‏ ‏من‏ يداويها

============

الجزء الثانى

‏ان‏ ‏بعد‏ ‏العسر‏ ‏يسرا

ربنا ارحمنا واعف‏ ‏عنا

تبارك‏ ‏الذى‏ ‏بيده‏ ‏الملك

لا‏ ‏فرق‏ ‏بين‏ ‏أسود‏ ‏وأبيض‏ ‏الا‏ ‏بالتقوى

نجيب‏ ‏محفوظ

نجيب‏ ‏محفوظ

 26 فبراير 1995

 

القـراءة (الجزء الثانى):

ان بعد العسر يسرا

ربنا ارحمنا واعف عنا

فضلت أن أعقب على الفقرتين الأولى والثانية معا؛ لم أنتبه ابتداء إلى أنه كتب “إن بعد العسر يسرا” وليس نص الآية الكريمة، ” إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ” وصلنى أن هذه الآية الكريمة حضرت فى وعيه كما جاءت فى الأصل، لكنها حين خرجت إلى تدريباته، حلت “بعد” مكان “مع”، يا ترى لماذا؟

ثم إنه ثم أعقبها بهذه الدعوه الطيبة، “ربنا ارحمنا واعف عنا”.

ابتداء لاحظت لأول مرة أن ثم فرق بين “بعد العسر” و”مع العسر”، ووصلنى نص الآية أقرب إلىّ الآن، ورحت أتذكر حضور هذه الآية لى صغيرا فوجدتها كانت تأتينى “بعد” وليس “مع”، وتذكرت كيف كنت أتعمد أن أضع نفسى (حوالى سن الحادية عشرة) فى حالة مزاجية “عسيرة” تسمح لليقين من الآية أن يتحقق، فكنت لا أسمح لنفسى بالفرح ليالى الامتحان وأصر أن أفتعل العسر افتعالا لتصبح ليلة عسيرة يأتى بعدها اليسر، وتلاحظ أمى ذلك، وتنصحنى ألا أقلبها غمّاً، وأنها سوف تدعو لى بما يجعل كل أمورى يسرا بإذن الله، ولا أصدق، وطبعا لا يجوز تحايلى على ربنا وهو أمكر الماكرين، وكذلك لم يخطر ببالى أن يكون “مع” العسر يسرا وليس “بعده” كما وصلنى الآن،

موقف مواكبة اليسر للعسر (مع) هو موقف جدلىّ رائع يجعلنا نعيش العسر محتويا اليسر، وبالعكس، بما يعمق الوجود البشرى، وأنا أعرف كيف أن شيخى قادر على ذلك، لكن هذا الإحلال لـ “بعد” مكان “مع” حضر فى وعيه – ربما كما وصلنى صغيرا– هو حقه الإنسانى أيضا فى ظروفه- ظروفنا-، الحالية خاصة.

مع قراءة الفقرة التالية مجتمعة مع الآية الكريمة وصلنى كيف أن عشم هذا العبد الراضى بقضاء الله هو أن يكون اليسر ليس فقط فى تخفيف الألم وحفز الشفاء، وإنما أساسا فى رحمته وعفوه سبحانه وتعالى.

“ربنا ارحمنا واعف عنا”

لا أريد أن اطيل مرة أخرى فى وصفى علاقة شيخى بربنا، وطمعه فى رحمته، وفرط حبه له، وحب ربنا أيضا لشيخنا، ذلك الحب الذى تحدثت عنه أكثر من مرة، مثلا: فى تعقيبه على “تصريح فرنسوا متران” كما ذكرته فى نشرة سابقة، ربما هنا فى التدريبات، وربما فى سلسلة “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” (متران) (نشرة14-1-2010 الحلقة السادسة فى شرف صحبة نجيب محفوظ)، وكنت كلما تحدثت فى ذلك مع بعض الأصدقاء الذين يخافون أن يؤمنوا إيمائه أو غير إيمائه، ويصرون أن يصفوه بالعلمانية (مديحاً) وما شابه، كما يستعملونها وهو قد تخطى هذا وذاك من زمن بعيد، اعترضوا على رأيى هذا واعتبروه إسقاطا آمِلا، على أحسن الفروض، (أو تزييفا على أسوأ الظن) ولم أكن أحاول أن أدافع عن رأيى أمام مثل هذه الاتهامات الطيبة، فهذا الرجل قد قربنى من ربى بعشرته وإيمانه وكدحه وإبداعه، وليس فقط بألفاظه وصبره وخشوعه وابتهاله، فكيف أرد عليهم.

إن بعد العسر يسر

العسر الذى نحن فيه معه هو عسر حقيقى يبرر حضور هذا المعنى أثناء تدريبه ونحن نطرق باب الأمل بقرب الفرج وانتظاراليسر، وحين رجعت إلى الآية الكريمة اكتشفت أنها الآية التالية للآية الكريمة نفسها وقد بدأت بحرف العطف فالنص القرآنى الكريم يقول: ” وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ” ثم يردف: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً”، وقد تعجبت كيف لم ألحظ من قبل أن الآية الأولى لا الثانية هى التى تبدأ بحرف العطف الفاء “فإن …. ” وفرحت بهذا الاكتشاف لست أدرى لماذا، ربما لأن فاء العطف هذه جاءت بعد تعداد نعم الله سبحانه على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم تأتى الآية التى استوحاها تدريب الأستاذ للتأكيد والحسم، بدون عطف..!

طلب شيخنا الرحمة والعفو من ربنا كما رأيته منه دائما لم ألحظ أن فيه استجداء أو شعورا بالذنب بقدر ما شعرت فيه من العشم والثقة.

حضرت الآيات إلىّ كما اعتدنا وهى تمثل قمة جيل الوعى (1) فأقرأ معها: ” فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ” “وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْولا أتوقف عند تفسير المجتهدين لكن يحضرنى كل هذا بما أنتمى إليه من علاقة “نبض الوعى البشرى” “بحتمية الإيقاع الحيوى أساسا لمنظومة الوجود عامة”، “والوجود البشرى خاصة”،

يصلنى القرآن الكريم باعتباره “وعيا خالصا”، إذْ هو يمثل لدىّ لحن الإيقاع الحيوى الذى يقوم بالوصل بين الوعى البشرى بالوعى الكونى، ربما لذلك هو يصل للطفل والشيخ والأمى والعربى والأعجمى معا بلا حاجة لفحص معانى ألفاظه، والذى يقرأ كثيرا من أعمال محفوظ لابد ان يصله بعض صدى هذا الإيقاع أو مثل هذا الإيقاع، وقد كان هذا الإيقاع قد تجلى لى أكثر ما تجلى فى “ملحمة الحرافيش” حتى أسميت نقدى لها “دورات الحياة…” شارحا كيف استوعب هذا النص ما هو إيقاع حيوى كأروع ما يمكن أن يوصف به، فتصلنى الآن الآية، ” فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ” فى هذا السياق للإيقاع الحيوى ربطا بإيقاع نبض الكون ودوراته كما تربطنا به أداء الصلاة فى أوقاتها فى الإسلام خاصة، مع استمرار رفضى لما يسمى التفسير العلمى للقرآن بكل حسم كما ذكرت فى عدة مناسبات سابقة. حضور القرآن الكريم كوعى خالص هو الذى يسمح  “بالاستلهام” “والرؤية” (المعرفة) “الموازية”، دون ترجمة أية منظومة معرفيه إلى غيرها.

هذا التراوح بين ” فَرَغْتَ” و ” فَانصَبْ” الذى يلحقه، “وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ، هو اللحن الذى يدعوا المجتهد للكدح نحوه والانضمام إليه، حين يصلنى أن الإيقاع الحيوى حين ينضبط يتوجه راغبا إلى ربنا تعالى.

بالتالى، واتباعا لنفس منهج “قمة جبل الوعى” (الذى شرحته حالا فى الهامش) حضرتنى الآية التالية وهى مرتبطة تماما بما بعدها ” تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ”، تذكرت نقدى لملحمة الحرافيش وكيف أنها ملحمة الموت والتخلق حيث لاحظت أنها قدمت الموت باعتباره هو الأصل وأن الحياة لاحقة له، هذا هو ما بدأ به محفوظ فكرته المحورية فى الملحمة من أول سطورها حين يبدأها هكذا:

“فى ظلمة الفجر العاشقة، فى الممر العابر بين الموت والحياة….”(2) فأضيف فى نقدى: “… وليس بين الولادة والموت” فالموت هو الأصل، والحياة احتمال قائم، هذه الحقيقة هى سدنة الملحمة ولبانتها..”

ثم إن محفوظ راح ينسج الملحمة تعلمنا دورات الحياة، وتنبهنا إلى ضلال أوهام الخلود فى هذه الدنيا، ولم يخطر على بالى هذا الترتيب وتقديم ترتيب خلق الموت على الحياة إلا هنا، الآن.

“تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً”.

هل هذا هو ما استوحاه إبداع محفوظ فى الملحمة دون قصدٍ.

لست متأكدا، ولكن ما أدرانى؟

ثم يختم محفوظ تدريبه اليوم بأنه “لا فرق بين أسود وأبيض إلا بالتقوى”، ولم أحتج أن أرجع إلى الحديث الشريف أنه “لا فرق بين عربى ولا أعجمى إلا بالتقوى”، ولكننى استقبل تحديث محفوظ لفكرة التفرقة العنصرية بسبب اللون (وهى الأكثر شيوعا حاليا)، دون قصد غالبا، فيصلنى أن التقوى، وليس مجرد حقوق الإنسان المكتوبة، هى محك التميز الأساسى الذى ينفى التمييز على أساس اللون كمثال.

حين انتخب أوباما رئيسا واعتبرناها نقلة نوعية فى تاريخ التفرقة العنصرية بسبب لونه الذى بهت فى نظرى الآن حتى أصبح يمثل “القهوة باللبن” أكثر مما يمثل أفريقيا الأصل، ثم تبين أوباما على حقيقته حين راح يستعمل نحيب الأفاعى ليحقق أسوأ ما فى التفرقة ليس بسبب اللون ولكن بسبب المال، كرهته حتى شطح خيالى ليوهمنى فى لحظة عابرة أنه غير لونه قصدا مثل الحرباء ليحقق أسوأ ما يحققه منافق.

المهم تخفيفا لهذا الغم، حضرنى تصالح حقيقى رائع فى قصيدة صلاح جاهين “إفريقية” فى ديوانه “عن القمر والطين”، أختم بها قراءتى وأنا أعلم كيف سوف تحضر فى وعى محفوظ الآن، مع تكرار أن صلاح كان حرفوشا أصليا، وهأنذا أختم قراءتى بمقتطفات جميلة منها، فيها من الأمل والسماح ما يليق بحضور هذا الوعى الكريم فى تدريبات الأستاذ اليوم:

من قصيدة “إفريقية”

(1)

“كلام الرجل الأبيض”
أبيـض ، وفنطــازيـــه

ومـراتـــى المظيــّــه
وربنــــا اصـطفـانــا،
عشـان حُمــرة  قفـانــا،
وشيّلنــا    الأمــانـــة،
اللـى تُقْــل الـرزيـــّـة.

(2)

” كلام الرجل الأسود “
أَسـود ، ودمـى حـامـى ،
حـامـى  الحمى  يا حامى،
مافيناش  لـونـكم  ولـوننا،
الــكون  ده  كـله  كوننا،
مـامـا        مـدِّيـاهولنــا …
ومشهــِّده    المحــامـى.

(3)

” كلام الرجل المحامى”
محـامى كبيـر قانونجى،

وفى  الــكلام بـِرِنـجـْى
شـايب وشـكلى رائــع،
فـاهـم  كـل  الشرائـع ..
لابيض – وده  رأى شائع –
أبيض ،  والزنـجى  زنجـى

(4)

” كلام الولد الأبيض “
والله “الجلاس”  ما  أّدوقه،
يا الزنجى  ينـول حقـوقه !
تلميـذ ،  وبـاستهجّــى،
لكن فى الــرأى ..  حُجه،
العـالـم  بــُّده رجَّــه،
عشــان تمسـح فروقـه !

(5)

كلام الرجل الأفريقى ”
يا ليـل .. والبـدر ..   بمبـى ..

يا ليـل .. وألـم   فى  جنبـى ..
يا ليـل .. مقـدرش انـام بـو ..
يا ليل .. و “لومومبا ” قام  بـو ..
يا ليـل .. أنا سجنى   بـامبـو ،
وان ماكسَّرتوش ..  ده   ذنبـى !

…………….

…………….

وهكذا يعلمنا أحد الحرافيش – صلاح جاهين – مسئولية أن نستقل وأن نكسر نحن التميز والتبعية والدونية ولا ننتظر ذلك حتى من أوباما أو غير أوباما.

[1] – هنا أود أن أضيف ما يبدو حاشية على المنهج فأقول: بعد هذا المشوار، وهو ليس إلا بداية أستطيع أن أضيف كلمة فى المنهج أعتقد أنه سبق لى أن ألمحت إليها، وهى أن ما يقفز إلى ظاهر أداء الأستاذ وهو يتدرب ليس إلا قمة جيل الوعى المختفى تحته وفى أعماقه

[2] – ملحمة الحرافيش ، نجيب محفوظ، مكتبة مصر، سعيد جوده السحار وشركاه، 1977 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *