الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “فقه العلاقات البشرية”(3) عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” اللوحة الثالثة “القط” (1 من 2)

“فقه العلاقات البشرية”(3) عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” اللوحة الثالثة “القط” (1 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 8-7-2023

السنة السادسة عشر

العدد:  5789

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(3) [1] 

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الثالث:

  “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)

اللوحة‏ ‏الثالثة:

 القـط!! (1 من 2)

تتداخل مراحل النمو (أثناء النمو، أو أثناء العلاج) تداخلا خفيا ومتنوعا يحتاج إلى فحص متأن طول الوقت. لا يوجد طور “كرفر” (بارنوى) خالص، كما لا يوجد طور “علاقاتى بشرى” (اكتئابى) منفصل تماما، التداخل يشمل التذبذب والمراوحة طول الوقت([2]).

فى التشكيل الحالى المسألة لا تقتصر على التأكيد على الخوف من:  الاقتراب، من الحب، من الهجر، من الترك، معا،  التشكيل هنا لا يبدأ بالصد والدفع بعيدا، بل بمبادأة الاقتراب لاختبار إمكانية العلاقة دون التخلى عن التوجس والخوف، هو ليس طور “كرَ- فر” صرف، بل إنه بمثابة محاولة نقلة، تذبذب خطواتٍ تصف تنويعات متنوعة متبادِلة ما بين عدة أطوار فى نفس الوقت، طول الوقت، لكنها تنتهى – من فرط غلبة عدم الثقة والتوجس – إلى الطور اللاعلاقاتى (الشيزيدى) فنهاية اللوحة تقول:

“حاخطف حتة لحمة من ستى،

 واجرى آكلها،

تحت الكرسى المش باين”.

ولكن دعنا نبدأ من البداية:

الصورة تبدأ بإعلان محاولة التراجع عن طور “الكر- فر” (البارنوى) بالتقدم نحو الطور العلاقاتى البشرى (سابقا: الاكتئابى) بشكل ما، كأنه يقدم أوراق اعتماده للآخر، ليعتبره “موضوعا بشريا” له حق الشوفان والاعتراف، وهو فى نفس الوقت يجس نبض وجود الآخر فى وعيه، وبالعكس، لعل وعسى.

(1)

والعين‏ ‏الخايَفَةْ‏ ‏اللى ‏بْتِلْمَعْ ‏فى ‏الضَّلْمَهْ

عمّالة‏ ‏تِختبرِ‏ ‏الناسْ‏:‏

بِتقرّب‏ ‏من‏ ‏بَحْر‏ ‏حَنَانْهُمْ‏،‏

زى ‏القُطّ‏ ‏ما‏ ‏بـَيـْشـَمـْشِمْ‏ ‏لَبَن‏ ‏الطفل‏ ‏بشاربُهْ.‏

فى قصيدة “جلد بالمقلوب” فى ديوان “سر اللعبة”، كان الخوف من الاقتراب هو الأصل، بدأت القصيدة هناك بأمر كأنه نذير أو تحذير من الاقتراب (من العلاقة البشرية) دفاعا ضد أى اقتراب:

لا تقتربوا أكثر،  إذ أنى:  ألبس جلدى بالمقلوب، حتى يـْـدْمى من لمس الآخر،  فيخاف ويرتد:     إذْ يصبغ كفّيه نزْفٌ حى!

أما فى الخبرة الحالية فقد‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أكشف كيف أنه فى الطور “الكرّ فرِّى”‏ (=التركيب ‏البارنوى) حين يحاول الكيان النامى أن يخطو خطواته الأولى للتعرف على الموضوع، إنما يفعل ذلك بتلقائية حذرة، وهو يتحسس طريقه للحصول على صك الوجود من خلال أن “يُشاف”، أن يُعترف به، هذه هى البداية التى تتيح له فرصة أن “يكون” فـ”يتواصل“. قصيدة “جلد بالمقلوب” (بالفصحى/سر اللعبة) تبدأ من بؤرة الطور البارانوى (الكر-فر) بالدفع بعيدا، فى حين أن التشكيل هنا يبدأ بإعلان تجربة الاقتراب برغم استمرار الخوف:

بِتقرّب‏ ‏من‏ ‏بَحْر‏ ‏حَنَانْهُمْ‏،‏

زى ‏القُطّ‏ ‏ما‏ ‏بـَيـْشـَمـْشمْ‏ ‏لَبَن‏ ‏الطفل‏ ‏بشاربُهْ.‏

عمّالَـهْ‏ ‏بْتِسْأَل‏:

‏عـــايزينّى؟

‏                     ‏طبْ ‏ليه؟

عايزينَّى ‏ليه‏؟ ‏

‏ توظيف هذا العمل (الشرح/الاستلهام) فى خدمة الإمراضية النفسية (السيكوباثولوجى) والعلاج النفسى، مع مخاطرة تشويه ومسخ الشعر شعرا، يسمح لنا بالإشارة إلى كيف أن محاولة‏ ‏عمل‏ ‏علاقة‏ ‏مع‏ ‏صاحب‏ ‏هذا‏ ‏التركيب فى هذا الطور‏ ‏هى مغامرة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏مهارة‏ ‏علاجية‏ ‏فائقة‏، ‏علاقة‏ ‏حقيقية‏ ‏تحتوى‏ ‏أوهام‏ ‏المطاردة‏ ولا تكتفى بكبتها، ولا تتسطح بالنصائح والإقناع، فى ‏خبرتى ‏وجدت‏ ‏أنها‏ مرحلة عادة ما ‏تحتاج‏ ‏إلى ما هو أكبر من العلاج الفردى، (بالإضافة إلى اللازم من عقاقير) لاحظت أن العلاج الجمعى، وكذلك علاج الوسط هما الأقدر على احتوائها بإعطاء المريض فرصة اختبار أكثر من “موضوع بشرى” واحد، بما يزيد من فرصة نجاحه فى محاولته مواصلة مسيرة النمو.

تبدأ هنا المحاولة انطلاقا من موقف ‏التوجس‏ ‏الحذر، بمراجعة الأمر عبر الاحتمالات الأخرى، وذلك من خلال طرح تساؤلات بديلة عن أن الموضوع (مَنْ هو “ليس أنا”) هو خطر طول الوقت، الشخص فى مسيرته النمائية فى هذه المرحلة لا يكف عن التساؤل عن ما إذا كان “مرغوبا فيه” أم لا (عايزنّى!!؟). وهو بذلك يحاول أن يتجاوز يقينا سابقا كان يبرر له كـَـرِّه وفـَـرِّه طول الوقت، هذا اليقين الذى أكد، لوّح له بأن: “أحدا لا يريده، لا يعترف به، لم يره، لا يرغب فى الاعتراف به“، فهو بطرحه هذه الأسئلة يبدو أقرب استعدادا لتصديق الإجابة إن جاءت بالإيجاب، وهكذا يبدو أنه بدأ يخلخل يقينه من تجربته المريرة السابقة (توهما أكثر منها حقيقة) التى ضاعفت عنده ما وصله من مشاعر: الإنكار، والإهمال، والرفض، فهو يتساءل – يسائل نفسه أساسا – ما الذى جدّ، فيه أو فيهم، بحيث يشجعه على المضى فى المراجعة ربما يصله أنه أصبح “مرغوبا فيه” الآن؟

إشـِمعنى ‏الْوقْـتـِى؟

وهو يواصل التساؤل – مهما وصله من إجابات إيجابية – فهذه طبيعة المرحلة، التى لا تستبعد وصول أية رسالة ذات فاعلية نمائية إليه.

 من الطبيعى أنه يلزم للإقرار بالرغبة فى قبول “وجود” آخر، أن تعترف به، أن ترى حقيقته الكلية ابتداء ما أمكن ذلك، الحاجة إلى “الشوفان”، إلى الاعتراف، لا تتطلب مجرد الإعلان التقريرى أو إطلاق ألفاظ الحب والرضا، ولا حتى الرعاية الظاهرية! إن الأم تريد ابنها بداهة و”تعوزه” (إلا ما ندر)، لكن هل هى تريده وتظل تراه وهو فى طريقه أن يكون كيانا مستقلا منفصلا عنها بشكل حقيقى؟ أم أنها تراه غالبا، أو تماما، امتدادا لذاتها وكأنه ما زال قابعا فى رحمها؟ ثم هل هى تراه “كله”؟ أم ترى الشكل الذى يظهر منه ويسمح لها بامتلاكه؟ حتى الطفل فى هذه السن الباكرة يريد أن يُرى كله، وأن يُعترف به كما هو – له، وليس باعتباره شيئا مضافا إلى ملكية الأسرة، إلى ملكية الأم بالذات، هذه المرحلة هى طبيعة بيولوجية حيوية، وهى تستمر حتى نقضى.

 اختفاء هذا الطور البارنوى من ظاهر الوعى هو أدعى لافتراض أنه اختفى بالإنكار، لا أكثر، وذلك يتفق ما أشرنا إليه من غلبة هذا الطور (الكر– فر) على معظم سلوك الإنسان المعاصر فى مرحلة تطوره الحالية.

بـِصحـِيحْ‏ ‏عـَايـْزِنَّـى؟

بقى ‏حـَدْ‏ ‏شايـِفـْنـِى ‏يـَا‏ ‏نـَاسْ‏؟

مِـشْ‏ ‏لازم‏ ‏الواحـِدْ ‏منكم‏ ‏يعرفْ‏: ‏

هوّه‏ ‏عـَايـزْ ‏مـِينْ؟

بقى ‏حد‏ ‏شايـِفـْنـِى ‏أنا؟

أنا‏ ‏مينْ‏؟

أنا‏ ‏أطلـع‏ ‏إيه؟‏ ‏وازاى؟

طبْ‏ ‏لـِيه؟

الله‏ ‏يسامـِحْـكُمْ ‏مـِشْ‏ ‏قصدِى .

 ‏السماح هنا ليس سماحا حقيقيا بقدر ما هو تسليم لمختلف الإجابات عن أسئلته اللحوح:

“عايزنى؟ – بقى حد شايفنى “أنا”؟ – أنا أطلع مين؟”.

إن الاشتراط الضمنى الذى يربط “العوزان” بـ “الشوفان” بهذا القدر من الموضوعية، والكلية، قد يبدو أنه للتعجيز أكثر منه مطالبة حقيقية بالاعتراف، يبدو أن المناورة هنا تهدف للوصول إلى تبرير تجنب الخوض فى علاقة حقيقية، إذ كيف ‏ ‏يطالب‏ ‏الإنسان‏ ‏– فى هذه المرحلة – ‏الآخرين‏ ‏أن‏ ‏يروا‏ ‏داخله‏ أيضا، أن يروه كله، ‏فى ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يبذل‏ ‏فيه‏ ‏كل‏ ‏جهده‏ لتحقيق عكس ذلك؟!!!

 ‏وصل‏ ‏الأمر‏ ‏بأحد‏ ‏مرضاى من الصعيد جدا ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يطلب‏ ‏من‏ ‏زوجته‏ ‏أن‏ ‏تجيب‏ ‏على السؤال الذى يطرحه، بنفس‏ ‏الإجابة‏ ‏التى ‏فى ‏ذهنه‏ بنفس “اللفظ” هو هو جدا، مثلا: إذا كان فى ذهنه أنها سوف ترد بالإيجاب بـ“حاضر“، فهو ينتظر هذا اللفظ تحديدا دون أية لفظ آخر مثل “ماشى“، “موافقة“، أو “تمام”، وكانت إذا لم تأتِ باللفظ المحدد الذى فى ‏ذهه، يرفض إجابتها، بل يرفضها ويشك فيها، وقد يعطيها ‏ ‏فرصة‏ ‏أخرى ‏وأخرى ‏حتى ‏إذا‏ ‏عجزت‏ ‏تماما‏ ‏ثار‏ ‏واعتدى ‏عليها‏ ‏عدوانا بدنيا قاسيا تحت زعم أنها لا تراه، ولا تحس به، وكأنه يطلب منها أن ترى اللفظ الذى يدور فى ذهنه  دون أن ينطقه، ثم يتطور الأمر إلى ما هو أخطر فأخطر حتى الاتهام بالخيانة لمجرد أنها لم تنطق بما توقع.

‏ ‏حين‏ ‏تشتد‏ ‏الحاجة للآخر‏ ‏بمثل‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏، ‏فإنه‏ ‏قد‏ ‏يرضى بأية علاقة حتى لو كانت سريعة، أو مؤقته، وهو قد يكتفى أن تكون من جانبه هو فحسب، ولو كبداية، ثم إنها حين تكون من جانبه بهذه المبادرة، فإنها قد تطمئنه إذ يظل هو المتحكم فى ‏شروطها‏، وكانه يخطفها خطفا دون إذن صاحبها، هذا الموقف يطمئنه جزئيا برغم استمرار توجسه ورفضه، وهو موقف انتظار بشكل ما، فيه درجة من البصيرة، لا تمنع استمرار المحاولة بل إنه يدل على عدم فقد الأمل فى علاقةٍ مهما كانت واهية أو مؤقتة أو مذبذبة، لكن المحاولة مستمرة.

(2)

أنا‏ ‏قاعـِدْ ‏راضى ‏بْخوفِى ‏المِـشْ‏ ‏راَضـِى‏.‏

أنا‏ ‏قاعد‏ ‏لامِمْ‏ ‏أغـْراَضـِى‏.‏

قاعد‏ ‏اتْـصنـَّتْ‏، فاتح وعْيى الجوّانى

‏على ‏همس‏ ‏السِّتْ ‏المِـشْ‏ ‏شايفانى،‏

وأسَهّيها‏،

 ‏واتمَسّح‏ ‏فِ‏ ‏كْـعوب‏ ‏رجليها‏.‏

‏ ‏تـتـْمـَلـْمـِلْ‏،‏

أخطف‏ ‏همسةْ “‏أَيـْوَهْ”، ‏أو‏ ‏لـَمـِسـَة‏ “‏يـِمـْكـِنْ”.‏

واجرى ‏اتدفَّى ‏بْـ‏ “‏يَعْنِى‏”،

 ‏وانسى ‏الـ‏ “‏مـِشْ‏ ‏مـُمْكـِن‏”.‏

شرحنا كيف أن هذا التشكيل يغلب عليه محاولة حقيقية للاقتراب الحذر، ونحن نبدأ هنا من مفاجأة أن هذا الشخص بدأ يتحسس سبيله إلى “علاقة” ما، لكنه كان قد اتخذ موقف “الانتظار”، أكثر من استعداده لمواصلة برنامج “الدخول والخروج”، الذى أشرنا إليه فى الحالة السابقة (السويقة)، وأيضا هو يختبر هذه الخطوة الجديدة تجنبا للانسحاب الذى يغرى بأن يعفيه من مواصلة استجداء الرؤية تبادلا مع أشواك التحفز.

موقف الانتظار هذا يتجسد فى هذا التشكيل كنوع من “الرضا النـَّـزق بالبقاء على مسافة”، حتى لو ظل الخوف يلازمه، تجسيده للخوف هنا ككيان مستقل يشير إلى رفض موقف الانتظار هذا. الخوف هنا قد أضيف إليه الضجر حتى أصبح حالة لا تطاق مهما كانت مبررات تطويل موقف الانتظار

راضى بخوفى المشْ راضى

هذا المقطع يظهر أنه مهما أعلن صاحب هذا الموقف رغبته فى الاقتراب، ومهما حاول بداية مشواره نحو تقليل المسافة بينه وبين الآخر، ومهما رضى بالقليل من الاعتراف به، أو سرقة بعض الدفء العاطفى حتى من وراء صاحبه أو صاحبته، فإنه يبدو كما لو كان لا يرحب بالتمادى فى هذا الموقف. إنه يتبين – حقيقةً أم توجـُّسـًا – أن ما يصله غير كاف، بل غير خالص، وسواء كان ما يصله أصيلا أو تفضلا زائدا، فإنه سرعان ما يفترض أنه عطاء مشكوك فيه، مغلف بضجر يبطل احتمال أية علاقة حقيقية.

“وأسَهّيها‏،

 ‏واتمَسّح‏ ‏فِ‏ ‏كْـعوب‏ ‏رجليها‏،‏

 ‏تـتـْمـَلـْمـِلْ‏”

ينبغى التذكرة بأن كل هذه المشاعر هى استقباله هو، أكثر منها حقيقة الحادث خارجه، إنه هو الذى يتصور أنه غير مرغوب فيه لهذه الدرجة، وذلك استكمالا لموقفه التوجسى الذى شرحناه أعلاه، وهو أيضا امتداد لموقف خطف العواطف، وسرقة بعض الدفء، إن كل ذلك إنما يؤكد أن الثابت فى قاع وعيه هو أنه مستحيل أن يُرى، أن يُقبل، أن يعترف به.

يحتاج اضطراد النمو، إلى المغامرة بقبول الاعتراف بأن ثم مصدرا للحب موجود كموضوع حقيقى يشجع حفز التقدم.

 الذى يحدث هنا هو غير ذلك تماما، بل هو عكس ذلك، إذْ سرعان ما تقفز ردّة حادة بشكل أكثر توجسا، وأحدّ شكا، والأرجح أن هذه الردة بهذا العنف هى نتيجة أنه سمح لنفسه ببعض التصديق الذى سرّب إليه الدفء هكذا (الفقرة السابقة)، ولعل هذا يقابل الحذر من القـُرْب، والخوف من الحنان الصادق، فالإسراع بالهرب أو التشويه، وهو ما جاء فى قصيدة ديوان سر اللعبة ‏”جلد بالمقلوب” وهذا نص ما جاء فيها يدل على ذلك:

وبقدر‏ ‏شعورى ‏بحنانـِك‏: ‏

سوف‏ ‏يكون‏ ‏هجومى ‏لأشوه‏ ‏كل‏ ‏الحب‏ ‏وكل‏ ‏الصدق، ‏

فلتحذرْ ‏:

إذ‏ ‏فى ‏الداخلْ‏ ‏

وحشٌ‏ ‏سلبى ‏متحفزْ‏ ‏

فى ‏صورة‏ ‏طفلٍ‏ ‏جوعانْ‏ ‏

وكفى ‏إغراء

وحذار‏ ‏فقد‏ ‏أطمع‏ ‏يوما‏ ‏فى ‏حقى ‏أن‏ ‏أحيا‏ ‏مثل‏ ‏الناس‏ ‏

فى ‏حقى ‏فى ‏الحب([3])

‏ الأمر هنا فى هذه اللوحة الحالية مختلف برغم أننا مازلنا فى نفس الطور (الكرّفرّى =البارنوى) من حيث إن هذا الجائع إلى الحب والاعتراف، هو هو الذى اقترب، هو الذى يتحسس طريقه، هو الذى يخطف أية بارقة حنان، هو المستعد أن يرضى بأقل القليل حتى توهما، لكنه لا يكاد يـُقـِرّ أن ثمَّ آخر يعطى دفءًا ما، حتى يرتد على عقبيه فيدور مائة وثمانين درجة وهات يا توجس، وهات يا شك، وهات يا استخوان، وهات يا دفع بعيدا، ومن ثم الهجوم، والتهديد، والعدوان، بلا تردد، ولا هوادة…الخ

كيف يمكن فهم هذا التناقض الظاهر؟

فى الموقف العلاجى (والنمائى) يبدو أن هذا هو الذى يجرى بدرجات مختلفة من عمق معين:

بمجرد أن تلوح علاقة حقيقية، يقفز دفاع التوجسن فالعدوان، والتهديد، والتربص، والدفع، هذا المقطع بالذات يذكرنا بشدة بالفرض القائل:

 إن هذه المواقف المتتالية، (التى أصبحت أعاملها كأطوار تتكرر) ليست فقط مترتبة على علاقة الأم بطفلها فى مراحله الباكرة، بل إنها برامج منزرعة فى الإنسان نتيجة أنه يحمل فى تكوينه – بفضل الله – كل تاريخ تطور الحياة البيولوجية حتى مرحلة الإنسان، وبالتالى فإن دور الأم يكون بمثابة “المُطـْلِق” Releaser يبسط Unfold هذه البرامج بناء على فرض القانون الحيوى Biogenic Law (= نظرية الاستعادة Recapitulation Theory)([4])، ثم تستكمل الأم دورها بتدعيم هذا الموقف أو ذاك، حسب طريقة تربيتها له، وأيضا حسب تكوينها هى فى نفس الوقت، ثم تظل هذه الأطوار تتكرر وتتدعم كما بدأت غالبا من خلال النبض الإيقاعحيوى المعاوِد.

(3)

وأُبصّ‏ ‏لْكمْ ‏مِن‏ ‏تَـحْـتِ‏ ‏لـْتَـحْـت‏،‏

واستَـخـْوِنـْكُـمْ، ‏واتعرّى ‏يـِمـْكـِنَ‏ ‏اطـَفـَّشـْكُـمْ‏، ‏

وأبويَا‏ ‏النِّمر‏ ‏يفكّركمْ:‏

زى ‏ما‏ ‏هوَّه‏ ‏بياكل‏ ‏التعلبْ‏،‏

أنا‏ ‏باكل‏ ‏الفارْ‏.‏

لكنى ‏لمّا‏ ‏بقيت‏ ‏إنسانْ‏، ‏باكل‏ ‏الأطفالْ‏، ‏

والنسوانْ‏ ‏المِـلْـــكْ‏.‏

هذا الطور  “الكر– فر” (البارنوى) لا يتميز فقط بالشك والتوجس، ثم الهجوم والهرب، لكنه يتميز أيضا باللجوء إلى طرق أخطر لإلغاء الآخر دون محوه، ليس فقط بالرجوع إلى تنشيط الطور  الشيزيدى (العودة إلى الرحم)، وإنما بإلغاء الآخر باحتوائه بداخله، إن جوع البارانوى إلى الحب، وفى نفس الوقت خوفه الشديد من الحب، أو بألفاظ أخرى: إن مغامرة البارنوى، وهو حريص كل الحرص على الاحتفاظ بالآخر (الموضوع) حتى لا يرتد هو إلى قوقعته وحيدا، تجعله يلجأ إلى آلية الاحتواء، التى تظهر غالبا فى الاندفاع نحو التملك المطلق حتى الالتهام. هذا ما يشير إليه هذا المقطع من هذا التشكيل:

لكنى ‏لمّا‏ ‏بقيت‏ ‏إنسانْ‏،

 ‏باكل‏ ‏الأطفالْ‏،

 ‏والنسوانْ‏ ‏المِـلْـــكْ”

الموقف الالتهامى هنا، وهو أحد تجليات هذا الطور الكرّفرّى: البارنوى، وهو يبين كيف أن الإنسان المعاصر عامة، مازال يمارس معظم أشكال سلوكه من خلال هذا الطور البارنوى، وأن هذا الطور هو الذى يفسر الحروب والتنافس وسياسة السوق، ونضيف هنا: إنه يفسر أيضا التهام الكبير للصغير، ومعظم صنوف الاستغلال والاستعمال الظالم، والإبادة للمختلف، عرقيا أو دينيا أو مذهبيا (أيديولوجيا).

ومع هذه الرِّدة إلى عنف آلية الكر والفر، يتواصل الطرد، والإبعاد (التطفيش)، وهو هو موقف (طور) “لا تقتربوا أكثر” الذى جاء فى قصيدة “جلد بالمقلوب”.

 (4)

ما‏ ‏تخافُوا‏ ‏بقى ‏منَّى ‏وتتفضّوا‏ ‏

مِنـتــِظْرينْ‏ ‏إيه؟

‏.. ‏لسّه‏ ‏الحدوتةْ ‏ما‏ ‏خُــلـْصـِتْـشِى؟

‏”‏ما‏ ‏لْهاش‏ ‏آخر‏”‏؟

‏{‏طب‏ ‏قولىّ ‏كان‏ ‏فين‏ ‏أولها‏ ‏؟‏…،‏

أو‏ ‏مين‏ ‏كان‏ ‏أصـْله ‏اللى ‏قايلها‏؟‏}‏

ثم ها هى التساؤلات تعود وكأنها تهدئ من تسارع التراجع، تساؤلات تكمل محاولة التحمل وإعلان الحرص على مواصلة المحاولة:

(5)

أنا ‏نــِفــْسى ‏أصدّقْ‏:‏

إنى ‏مـِتـْعـَازْ‏.‏

مِـتـْعـِاَز ‏وخلاَصْ‏. ‏

إنشالله‏ ‏كَـلاَمْ‏!!‏

عايـْزِنـِّى ‏ازاى؟

عايـزنـى ‏كما‏ ‏الـوَحـْشِ‏ ‏الكَـاسـِرْ‏،‏

ولا‏ ‏مكـسُورِ‏ ‏القـَلـْب‏ ‏ذليلْ‏؟

دانا‏ ‏حِمْلى ‏تقيلْ‏.‏

مـوَّالِى ‏طويلْ‏.‏

والناسْ ‏مـَلـْـهَّيـةْ‏.‏

إنما‏ ‏حـَاعـْمـِلـْها‏….‏

لسّه‏ ‏حوالىّ ‏ماحدّش‏ ‏خاف‏، ‏ولاَ‏ ‏كدّبنى؟

طب‏ ‏هِهْ: ‏

راح‏ ‏اسيبْ‏. ‏

من أخطر المواقف التى قد يمر بها المريض البارنوى (أو أى إنسان يمر بحدة فى مرحلة الطور البارنوى) هو أن يتخلى عن دفاعات الكر والفر، والتوجس والتآمر، وبالتالى أن يترك نفسه مطمئنا (جدا أو فجأة!!)، أو بتعبير أدق، أن يجرب خبرة الطمأنينة قبل أوانها، الخطورة تأتى من أنه ينقلب فجأة إلى كائن طيب، رخو، هلامى، يكاد يكون بلا دفاعات، ومن ثم بلا حول ولا قوة، من الناحية النظرية يمكن أن نتصور أن هذه التجربة يمكن أن تعتبر فرصة رائعة يتخلص بها البارانوى من احتمال وقفته فى هذا الطور بقية عمره، على اعتبار أنه بهذا التخلى عن شوك القنفذ وأنياب النمر معا، قد تتاح له فرصة جديدة لبداية مختلفة لمسار أكثر تـَـدَرُّجـًـا، ودعما، لكن من واقع خبرتى: العملية والمهنية، لا يسير الأمر هكذا، لأن هذا التنازل عن الدفاعات فى غير أوانها، يجعله نهبا لنفس الهواجس (أو الحقائق) وهو بلا حول ولا قوة، فيعانى أقسى المعاناة وأرعبها وهو يحاول أن يلملم نفسه أمام نفس القوى المغيرة (حقيقة أو تخيلا) وهو يتصور ساعتها أنها انتهزت فرصة تنازله عن دفاعاته فانقضـَّت عليه([5]).

واقع الحال أن هذا الموقف لا يمكن أن يصل إلى وعى صاحبه لا أثناء العلاج، ولا فى خبرات النمو، بهذه التفاصيل المحددة، ليس لأنه لا يحدث، وإنما لأنه إذا حدث بكل عمقه هكذا، لا يستغرق أكثر من ثوان، بل أقل، لكنه يحدث، ويتجلى فى الإبداع كما يتجلى فى الجنون، ونحن لا ندرك عادة فى الممارسة إلا آثاره الإيجابية، أو السلبية، على المدى الطويل، الآثار السلبية هى الأكثر تواترا إذا لم نحسن الإعداد، والاستعداد له، وهى تحدث غالبا نتيجة لسوء التوقيت، واستسهال التخلى والنسيان البعدى.

أشرنا – وسوف نشير كثيرا – إلى هذه اللحظات الشديدة القصر، التى تتم فيها النقلات النوعية المتناهية الصغر (والتى لها علاقة بحدْس اللحظة عند باشلار، وربما الفيمتوثانية عند زويل وفى العلوم الكوانتية)، هذه اللحظات الدقيقة جدا، يعرفها المعالج بحدسه اليقظ أكثر مما يرصدها بملاحظاته وحساباته، أما المريض (أو أى شخص ينمو)، فهو عاجز عادة عن رصدها إلا إحساسا غامضا إجماليا، لكن مهما ضؤلت هذه اللحظات، ومهما استعصت على الوصف، فإنها تثبت أن لها أثرا باقيا حقيقيا وممتدا، ولو بعد سنوات، لسنوات.

ولعل محمود درويش كان يعنى شيئا من ذلك فى قصيدته “أثر الفراشة”.. يقول درويش:

أثر الفراشة لا يُرَى

أثر الفراشة لا يزول

هو جاذبيةُ غامضٍ يستدرج المعنى، ويرحلْ

حين يتضح السبيلُ

هو خفة الأبدىِّ فى اليومى 

أشواق إلى أعلى

وإشراق جميل

هو شامة فى الضوء تومئ

حين يرشدنا إلى الكلماتِ

باطننا الدليل

هو مثل أغنية تحاول

أن تقول، وتكتفى

بالاقتباس من الظلالِ

ولا تقول..

أثر الفراشة لا يُرَى

أثر الفراشة لا يزول!

المسئولية العلاجية بالذات (والعلاقاتية عامة) المحيطة بهذه اللحظات العابرة الزاخرة الغامضة هى جسيمة فعلا، ومتى شعر المعالج باحتمال مرور مريضه بمثل هذه الخبرة مهما ضؤلت، فإنه لو غامر بالسماح بها، فلا بد أن ينتبه إلى ما يمكن أن يترتب عليها، من فرصة رائعة وتغيير جذرى، أو من نكسة تراجع فاندمال بشع.

إن التخلى عن مثل هذا الشخص (أو المريض) الذى أمِنَ فترك نفسه بلا دفاعات، فى رحاب من اعتقد أنه أهل لثقته ولو للحظة أو بعض لحظة، هو من أكبر الأخطاء التى يمكن أن تـُرتكب على مسار العلاج، والحمد لله أن قلة من المعالجين هم القادرون على التلويح بمثل هذا الأمان، أو السماح به، لكن المريض، من فرط وخز شوك الطور البارانوى، ولهيب توجسه وحذره، قد يغامر بخوض التجربة من تلقاء نفسه بدون اختبار احتمال استعداد المعالج أن يتحمله، إن ذلك إذا ما حدث بمبادرة من المريض أو بدعوة ضمنية من المعالج، فإنه ينبغى أن يسارع المعالج بالتواجد المحيط الواثق بجوار المريض، فى متناوله، ولكن من على مسافة مناسبة، حتى لا يتمادى المريض فى الأمل فى الركون إلى أمان مطلق (عادة حسب تصوره)، أمان يسحبه إلى احتمال الانمحاء فى الرعاية الحاوية، ومن ثَمَّ يجد نفسه فى موقف الاحتواء، المغرى بالانسحاب للطور الشيزيدى ربما بغير رجعة([6]).

فى حالة حدوث سوء التوقيت هذا، على مسار العلاج، بما يترتب عليه ما ذكرنا بما يمكن أن ينتهى إليه من تراجع، ومهانة، وإحباط، إذا حدث ذلك فإن معاودة طرح استعادة الثقة بالمعالج، أو بالوسط العلاجى، تصبح أصعب مما كانت عليه قبل بداية العلاج بشكل أو بآخر.

قبل أن ننبه إلى التحفظات اللازمة لتجنب ذلك، دعونا نعود إلى الصورة المقابلة فى “لوحة القط” من هذا الديوان الحالى، فهى أخف.

وجدت أن هذه الخبرة  الباكرة كما وردت فى ديوانى “سر اللعبة”  تتميز عن الخبرة هنا فى أنها أدق وصفا لهذه المغامرة غير المحسوبة عادة، فى هذه اللوحة الحالية من أغوار النفس، سمح الشخص لنفسه أن يتنازل عن دفاعاته بمجرد أن بلغه أن الآخر (الآخرين) لم يتركوه، ولم يكذّبوه:

لسّه‏ ‏حوالىّ ‏ماحدّش‏ ‏خاف‏، ‏ولاَ‏ ‏كدّبنى؟

طب‏ ‏هِهْ: ‏

راح‏ ‏اسيبْ‏. ‏

دعونا نلاحظ الفرق بين هذا السيبان، وبين ما جاء فى قصيدة جبل الرحمات، فلعلنا ننتبه إلى أن “السيبان” هنا هو تخل عن دفاعات الطور البارنوى، حتى يصل إلى الشعور بعودة الجسد نفسه إلى معالم بدائية ممتزجة، بلا حول ولا قوة:

………………….

………………….

ونواصل غداً استكمال قراءة ما تبقى من اللوحة الثالثة: “القط”

ـــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

– [2] انتبهت إلى أن التشكيل هنا فى هذه القصيدة، له علاقة وثيقة بتعرية هذا الموقف “الكر- فرى” (البارنوى)، الذى تجلى أساسا فى بؤرة تشكيل قصيدة: “جلد بالمقلوب” فى ديوانى “سر اللعبة“، وشرحه جاء فى كتابى الباكر: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” صـ 285-307  قصيدة “جلد بالمقلوب” فصل حالات البارانويا، وكنت قد أثبت هذه القصيدة وذاك الشرح فى مسودة  هذا العمل، لكننى عدت فحذفتها تاركا إياها فى موقعها الأصلى لمن شاء، وهذا هو ما سبق أن  أشرت إليه فى هامش رقم 9 ص 34

[3] – ويمكن الرجوع إلى بقية القصيدة فى ديوان “سر اللعبة” (2017)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، (ص91)، وإلى شرحها فى كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (1979) (ص 846).

[4] – يحيى الرخاوى، “مستويات الصحة النفسية من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة” (2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، (ص97).

[5] – ويمكن الرجوع إليها أيضا إلى ديوان “سر اللعبة” (ص 117)، ثم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (ص285– ص 307)

[6] – التفاصيل فى قصيدة “جبل الرحمات“، ديوان “سر اللعبة” الطبعة الأولى، 1979، الطبعة الأخيرة 2017، (ص 117)، منشورات جميعة الطب النفسى التطورى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *