الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “فقه العلاقات البشرية”(3) عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” اللوحة العاشرة “الترعة سابت فى الغيطان”

“فقه العلاقات البشرية”(3) عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الثالث: “قراءة فى عيون الناس” اللوحة العاشرة “الترعة سابت فى الغيطان”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 26-8-2023

السنة السادسة عشر

العدد: 5838

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(3) [1] 

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الثالث:

 “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)

اللوحة العاشرة:

“الترعة سابت فى الغيطان”

الرىّ “بالراحة”، ‏هو‏ ‏تعبير‏ ‏من‏ ‏بلدنا‏، و‏هو ‏ذلك‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الرى ‏الذى ‏لا‏ ‏تستعمل‏ ‏فيه‏ ‏أية ‏آلة‏ (‏ولا حتى ‏الطنبور‏ أو ‏الحلزونة‏). لا يمكن الرى بهذه الراحة إلا‏ ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏مستوى ‏الماء‏ ‏فى ‏الترعة‏ ‏أعلى ‏من‏ ‏مستوى ‏الأرض، ‏ ‏ويكفى ‏الفلاح‏ ‏أن‏ “‏يقطع‏” ‏مدخل‏ ‏المياه‏ من الترعة ‏فتنساب المياه ‏ ‏إلى ‏الأرض‏ “‏بالراحة‏”.

كانت هذه اللوحة التشكيلية، لصاحبة هذه العيون – كما تخيلها شعرى–  تملك هذه القدرة التى تسمح بأن ينساب نهر حنانها وحبها وطيبتها إلى كل من يطلب منها “شفطة” مياه، سواء كان عطشانا، أم كان يرى هذه السيدة الكريمة سبيلا من حقه أن يأخذ منه نصيبه “بالراحة”، وكانت هى تكاد لا تمانع بنفس السهولة والكرم، وحين هممت أن أتقمص بعض الجارى، اكتشفت التناقض بين ما دار بخلدى، وبين ما أنا أنبح صوتى به ليل نهار لأبين صعوبة العلاقات البشرية، وأظهر مدى التناقضات الشائكة والمحيِّرة، التى تحفز إلى المثابرة المستمرة، حتى تتحول أسهم المواجهة المتصادمة فى التواصل البشرى إلى حركية الجدل فالنمو المتجدد.

كنت أتعجب من صاحبة هذه العيون التى لا تضع شروطا ولا مواصفات لمن تغرقه بمياه حنانها وغمر دفئها. ما هذا الذى تمنحه هذه السيدة الفاضلة؟ هل هو الحب الذى نتحدث عنه أم شىء آخر؟

 ملأنى العجب وأنا أصف الجارى (أو المتخيل):

(1)

والنظره‏ ‏دى ‏رخْرَهْ ‏عجب‏.‏

ماباشوفشى ‏فيها‏ ‏إلا شئ ‏كما‏ ‏الحنان‏. ‏

لا‏ ‏لُهْ‏ ‏شروط‏ ‏ولا‏ ‏سبب‏.‏

وأقول‏ ‏لنفسى ‏يا‏ ‏ترى:‏

هوّا‏ ‏حنان‏ ‏الدنيا‏ ‏كله‏ ‏اتجمّع‏ ‏الليله‏ ‏هنا‏‏؟

عمال‏ ‏بِيْغمُرْنَا‏ ‏كَدِه‏ ‏من‏ ‏غيرْ ‏حِسَابْ‏،‏

كَمَا‏ ‏تِرعَه‏ ‏سابـِتْ‏ ‏فى ‏الغيطانْ،‏

إللى ‏بطونها‏ ‏اتْشَقَّقِتِ

‏الحاجة‏ ‏إلى ‏الحنان‏ ‏حاجة‏ ‏ملحة‏ ‏وشاملة‏، ‏وهى ‏تحتد‏ ‏فى ‏الحزين‏، ‏والوحيد‏، ‏والمنعزل، كما أنها تظهر تلقائيا مثلما تحتاج أى أرض إلى مياه الرى، كما أن هذه الحاجة تحتَد أكثر ‏ ‏بعد‏ ‏توالى ‏الإحباط، ‏وعند شدة الاحتياج، كما أن كل هؤلاء، يعمون عادة ‏‏عن‏ إشكالة ‏طبيعة‏ ‏هذا الحب السهل المنساب بلا حساب. ‏ ‏

فى قريتى أيضا، تـُـترك الأرض مددا طويلة فى فصل الجفاف حتى تتشقق تماما جوعا إلى المياه، ويفيد هذا الجوع فى أن يعرض باطن الشقوق للهواء والشمس بدرجة تجعلها أكثر خصوبة وإثمارا، وحين يأتى وقت الرى بعد فترة معلومة، يقال إن الفلاح يطفي الشراقى”، وهو تعبير مختلف عن “يروى الأرض”، لأنه فعلا يغمر هذه الأرض المتشققة من الجفاف، الملتهبة من التعرض للشمس المشتاقة إلى المياه، يطفئها غمرا بما يملأ شقوقها حتى تفيض، وتشبع، ويقال إن هذا الغمر يقوم بوظيفته التخصيبية استعدادا للزراعة المناسبة.

المقابل فى كرم طوفان حنان هذه السيدة – ومن تمثله – وصلنى من ملاحظتى أن الغالبية الغالبة تطلبه، وتسعى إليه، سواء فى الحياة، أو فى مقام العلاج النفسى، وأشرت أن هذا حقهم من حيث المبدأ، سواء كان طالب الارتواء: قلبا حزينا، أو قلبا وحيدا، أو قلبا جفّ وتقشف، أو قلبا مجروحا “من عمايل الناس”، أو قلبا متهالكا “متمهمطا” من كثرة القهر والتمزيق والإهانة والاستهانة، أو قلبا منبوذا موصوما بالتجاوز أو حتى بالهرطقة لمجرد أنه تجرأ على النظر فى المقدسات، أو نقد السلطة، أو قلبا مبدعا تجرأ فكشف عن جانب من الحقيقة فلم ينل إلا الرفض والنبذ، (كما سيرد فى المتن حالا).

كل هؤلاء يمثلون جمهور العطاشى الذين يتقبلون الغمر من مصدر المياه “بالراحة” بدون تمييز، وأيضا بلا صعوبة.

لكن هل يرتوون هكذا بدون جهد من جانبهم؟ بدون إسهامهم فى السعى إلى الرى؟ ناهيك عن تحمل أن تكون العلاقة متكافئة، والمسئولية مشتركة؟

فى كثير من الأحيان يأتى المريض طلبا للعلاج ليرتاح، ليعتمد، ليجد الحل جاهزا، والتفسير مقنعا، والعقدة لها من يحلها دون أن يشارك هو بالقدر الكافى فى ذلك، وقد يتحقق له ذلك، أو بعض ذلك فى بداية رحلة العلاج، أو مع تعاطى بعض المسكنات، أو المريّحات من عقاقير وسماح([2])، لكن العلاج الحقيقى، مثله مثل التربية والنمو فى أى مجال يتطلب غير ذلك، ويسرى فى طريق مختلف.

(2)

والمّيهْ‏ ‏بالراحةْ‏ ‏بتطفِى ‏فى ‏”‏الشراقىِ” ‏

مِنْ‏ ‏دُونْ‏ ‏ولاَ ‏ساقيهْ‏ ‏تِنوُح‏،‏

ولا‏ ‏قادُوسْ‏ ‏ولا‏ ‏شَادُوفْ.‏

المية‏ ‏تُغْمُرْ‏ ‏والحَنَانْ‏ ‏بِيْبَشْبِشِ‏ ‏القلب‏ ‏الحَزِيِنْ‏،‏

والقلب‏ ‏إللى ‏مَالُوش‏ ‏حبيبْ‏،‏

والقلب‏ ‏إٍللى ‏من‏ ‏عمايل‏ ‏الناسْ‏ ‏بقى ‏حتِّةْ‏ ‏خشبْ، ‏

والقلب‏ ‏إٍللى ‏اتمهمطت‏ ‏دقاته‏ ‏أصبح‏ ‏مثل‏ ‏كوره‏ ‏مْنِ ‏الشراب‏،‏

تضربها‏ ‏رجلين‏ ‏العيال‏ ‏طول‏ ‏النهارْ.‏

وانْ ‏جت‏ ‏على ‏أْزاز‏ ‏ام‏ ‏هاشم‏ ‏يبقى ‏يوم‏ ‏أزرق‏ ‏وطين‏،‏

يالـْـكـُـوره‏ ‏تتشرمط‏ ‏يا‏ ‏إِمّا‏ ‏ان‏ ‏العيال‏ ‏يتفركشوا‏.‏

حتى ‏إٍذا‏ ‏ازازْ “‏ام‏ ‏هاشم‏” ‏ما‏ ‏اتْكَسَرِشْ‏.‏

مش‏ ‏صحت‏ “‏الأسطى ‏إٍمام‏” ‏من‏ ‏غـفْلِتُهْ‏..!؟

‏”‏واللَّى ‏يصحى ‏الناس‏ ‏يانَاسْ‏ ‏أكبر‏ ‏غلط‏”!!!

هؤلاء العطاشى لا يرتوون عادة “بالراحة” لمجرد أن لهم حقهم فى الرى، قد يخدّرون أو يهدأون، لكن الارتواء شىء آخر، مع التأكيد أنهم عطاشى فعلا، بغير ذنب جنوه غالبا!! إذن ماذا؟

فى خبرتى، لاحظت أن هذا الحب السهل الجاهز، حتى مـِن معالج نفسى طيب، ليس هو الذى يـَلـْزَم المريض لينمو به ومن خلاله، هو حب أقرب إلى الفيض الذى لا يتوجه تحديدا إلى واحد بذاته، ليس بمعنى القدرة على الحب، ولكن بمعنى أن هذا الغامر بلا تمييز لا يحدد الفروق الفردية فى الذات المعنية (الموضوع)، موضوع الحب، بل إنه يغمر من يجده دون تفرقة: “من يعطش يشرب” (وخلاص)، فهل يا ترى هذا هو الحب الذى يميز الكائن البشرى بما سبق أن أشرنا إليه من أنه اكتسب الوعى، ثم الوعى بالوعى، ثم هو يثابر طول الوقت، ليميز الموضوع “كما هو”؟ هل هذا هو الحب الذى يحاول أن ينمو باضطراد حتى يقلب “الموضوع الذاتى” إلى “موضوع حقيقى” يسمح بعلاقة بشرية تليق بالبشر؟ هل لهذا الغمر دون تمييز ودون جهد عمر يسمح بتطوره، لنتغير من خلاله إلى ما هو أكثر مسئولية، وأقوى اقترابا من بعضنا، وأصعب أيضا؟

(3)

وارجَعْ ‏أشوف‏ ‏نهر‏ ‏الحنَانْ

ألقاه‏ ‏بيطفى ‏فى ‏الشراقى ‏بْدون‏ “‏أوان‏” ‏

لكن‏ ‏الشراقى ‏مَهْما‏ ‏شَّققْها‏ ‏الجفاف‏؛

                                              الميه‏ ‏راح‏ ‏ترويها‏ ‏صُحْ‏،‏

لكنْ ‏كمانْ‏‏:

إن‏ ‏سابتْ ‏الميّه‏ ‏على ‏العمَّالْ‏ ‏على ‏البطَّالْ‏ ‏حاتغرق‏ ‏أرضنَا‏،‏

حتى ‏لو‏ ‏الأرض‏ ‏شراقى ‏مْـَشَقَّقَهْ‏،‏

ولاّ‏ ‏الزراعةْ ‏بدونْ‏ ‏أصُولْ‏‏؟

مش‏ ‏لازم‏ ‏الأرض‏ ‏تجف‏ ‏وتتعزق‏؟‏!‏

أو‏ ‏ضَرْبِةِ ‏المحراتْ‏ ‏تِشُقّ‏ ‏الأرض‏ ‏تقلبِ‏ ‏تبْرِهَا‏‏؟‏!‏

فى العلاج النفسى، مثلما هو الحال فى التربية والنمو والزراعة، يكون عامل التوقيت من أهم العوامل، إن لم يكن أهمها فى دفع النمو (والشفاء) فى مساره الطبيعي، لذلك، فإن كثيراً من التوصيات، والتوجيهات، والاستشارات، – أثناء الإشراف على هذا العلاج تنتهى ليس إلى أن علينا أن نفعل كذا أو كيت، بقدر ما تنتهى إلى “متى نفعل ما تقرر أن نفعله”، أى متى يكون القرار فاعلا، فيكون صوابا، ومتى يكون نفس القرار خطأ فى وقت آخر، وهكذا، أضف إلى ذلك عامل “الوقت” اللازم لسبك عملية النمو مع التذكرة بأن “الوقت” غير التوقيت.

 لا يمكن أن يتم نمو بدون وقت، قفزات التغير لها دلالتها الرائعة، لكنها وحدها، بدون أن يتم الإعداد لها فى وقت كاف لإنضاجها، وبدون أن يلحقها بعدها فعل مناسب لاستثمارها، لا تدل على شىء إيجابى بالضرورة.

وارجَعْ ‏أشوف‏ ‏نهر‏ ‏الحنَانْ

ألقاه‏ ‏بيطفى ‏فى ‏الشراقى ‏بْدون‏ “‏أوان‏”

بدون أوان هنا، إشارة إلى سوء التوقيت.

نتكلم دائما فى العلاج النفسى والتربية والنمو عن “الجرعة“، إضافة إلى التوقيت، إن ضبط جرعات الدعم المباشر، وجرعة المسافة، وجرعة النصح، لا يقل أهمية وحساسية عن ضبط جرعة الدواء، شعرت من هذه الخبرة أيضا أن فرط غمر الحنان هكذا قد يأتى بعكس الرى، وهو الغرق.

لكن‏ ‏الشراقى ‏مَهْما‏ ‏شَّققْها‏ ‏الجفاف‏؛

                                              الميه‏ ‏راح‏ ‏ترويها‏ ‏صُحْ‏،‏

لكنْ ‏كمانْ‏‏:

إن‏ ‏سابتْ ‏الميّه‏ ‏على ‏العمَّالْ‏ ‏على ‏البطَّالْ‏ ‏حاتغرق‏ ‏أرضنَا‏،‏

حتى ‏لو‏ ‏الأرض‏ ‏شراقى ‏مْـَشَقَّقَهْ‏،‏

ولاّ‏ ‏الزراعةْ ‏بدونْ‏ ‏أصُولْ‏‏؟

أصول الزراعة، مثل أصول التربية، مثل أصول العلاج النفسى: لابد لها من الإعداد، والتدرج، وضبط جرعة المسافة المتغيرة، وتسميد الأرض مثل تسميد الوعى، ثم خذ عندك تقليب التربة، وتخطيط الخطوط، مثل تعتعة الوعى، ورسم المسار فى التربية والعلاج النفسى (وكذا الإبداع). إذن فالمسألة ليست غمرا بالحب والحنان والود والإراحة، بقدر ما هى تخطيط مناسب لحركية الوعى بمستوياته “معا”، وتحريك منضبط على مسار معَدّ، هذا ما يشير إليه المتن هكذا:

مش‏ ‏لازم‏ ‏الأرض‏ ‏تجف‏ ‏وتتعزق‏؟‏!‏

أو‏ ‏ضَرْبِةِ ‏المحراتْ‏ ‏تِشُقّ‏ ‏الأرض‏ ‏تقلبِ‏ ‏تبْرِهَا‏‏؟‏!‏

‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى كما أشرنا، ‏يحتاج‏ – ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏عاملـْى الوقت و‏التوقيت‏ ‏الذى ‏ذكرناهما حالا – ‏إلى ‏خطوات‏ ‏منظمة‏، ‏وإلى ‏ضبط‏ ‏العواطف‏ ‏وأحيانا‏ ‏منعها‏ ‏حتى ‏تجف‏ ‏الأرض‏، ‏ليس‏ ‏بالإهمال‏ ‏ولكن‏ ‏بالحساب‏، ‏ثم‏ ‏إلى ‏جرعات‏ ‏منظمة‏ ‏من‏ ‏الألم‏ ‏والعمل‏ (‏العزيق‏) ‏أو‏ ‏جرعات‏ ‏قاسية‏ ‏من‏ ‏الرؤية‏ ‏العميقة‏ ‏للوصول‏ ‏إلى ‏الجوهر‏ (‏ضربة‏ ‏المحراث‏ ‏تشق‏ ‏الأرض‏ ‏تقلب‏ ‏تبرها‏)‏.

كما لاحظنا فى اللوحات السابقة، يتأكد هنا أيضا أن سوء فهم العلاج النفسى، يؤدى إلى فرط الاعتمادية، وانتظار الحل السحرى من المعالج، كما أن أغلب الناس، وبعض الأطباء والمعالجين، يتجنبون كل ما يؤلم المريض، ونحن نكرر باستمرار أنه لا يمكن عمل علاقة حقيقية بين البشر بدون صعوبة حقيقية، ولا يوجد نمو بدون ألم، ومع ذلك فإن الإعلام وبعض التربويين يبالغون فى التأكيد على التفويت، والإراحة، ويحتجـَّون احتجاجا قويا على أى ضغط، على طالب النصح، أو المريض، مثلما يحتجـَّون مؤخرا على صعوبة الامتحانات، وعلى صعوبة الالتزام، وعلى صعوبة انضباط المواعيد، كل ذلك هو ما كتبته فى المتن  وأنا أصف موقف هذه السيدة الكريمة، وكأنها تتقطع شفقة على الأرض وسلاح المحراث يخترق طبقاتها، كما تخترق رؤية المعالج والمريض نفسه طبقات وعيه حين يكتسب البصيرة، تحتج هذه السيدة الكريمة فى المتن على أى احتمال شدة مهما كانت لازمة فيقول لسان حالها:

والنظره‏ ‏إللى ‏بْتُغْمر‏ ‏الكونْ ‏بالحنانْ‏ ‏من‏ ‏غيِر‏ ‏حِسَاب‏ ‏بتقول‏:‏

‏                                                           “‏حَرامْ..،

                                                       ‏يانَاس‏ ‏حَرامْ:‏

‏ ‏أرض‏ ‏الشراقى ‏مْشَقَّقَةْ، ‏جاهزه‏، ‏

‏ ‏بلاشْ ‏نِجْرح‏ ‏شُعُورْها‏ ‏بالسَّلاَحْ‏…”‏

أعود إلى رفضى ما يجرى، وأنا أتعجب من هذه الشفقة الرجراجة، ينبه المتن أن غمر المياه، ليس هو الرى المناسب دائما، فهو يحتاج إلى “صرف” سريع لزائد المياه حتى لا تفسد البذور، وقد أحلـُّوا الرى بالتنقيط، أو بالرش، محل الرى بالغمر حتى لا تفسد البذور، وأيضا توفيرا لجهود الصرف الضرورى اللاحق، بل إن الاهتمام بالرى المتدفق (وهو ما يقابل هنا: الحنان والشفقة والمبالغة فى تخفيف الألم على حساب معاناة النمو فى العلاج النفسى) قد يلهينا عن ضرورة وضع البذرة ابتداءَ لعل البذرة فى العلاج النفسى هى: المعنى، والعزق هو حركية التغيـّـر أما الثمرة فهى، إشراقة النقلة الكيفية…

من هنا فاض بى فصرخت محتجا:

يا‏ ‏ناس‏ ‏يا‏ ‏هُوه‏: ‏بقى ‏دا‏ ‏كلامْ؟‏ ‏بقى ‏دا‏ ‏حنانْ‏‏؟‏ ‏

‏”‏الزرع‏ ‏لازِمْ ‏يِتْروِىِ ‏”‏! ‏أيوه‏ ‏صحيحْ‏،‏!!

بس‏ ‏كمانْ‏: ‏الَزرِعْ‏ ‏لازم‏ ‏يِتْزَرَعَ ‏أَوَّلْ،‏

ماذَا‏ ‏وإٍلا‏: ‏البذرة‏ ‏حاتْنَبِّتْ‏ ‏وبسْ‏. ‏

‏تأكيد‏ ‏جديد‏ ‏لنفس‏ ‏المعنى، ‏وللأسف‏ ‏فهذا‏ ‏المعنى الذى يبالغ فى تجنب العقاب‏ على طول الخط ‏هو‏ ‏الشائع‏ ‏فى ‏الكذبة‏ ‏التى ‏كادت‏ ‏تضيع‏ ‏أطفالنا‏ ‏تحت‏ ‏اسم‏ “‏التربية‏ ‏الحديثة‏”، ‏وهى هى التى ‏تشوه‏ ‏معنى ‏العلاج‏ ‏النفسى‏،‏ ‏وتصوِّرُه وكأنه‏ ‏مجرد‏ ‏نزهة‏ ‏للتبرير‏ ‏والطبطبة‏، ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏قابلت‏ ‏شبابا‏ ‏ونساء‏ ‏كانت‏ ‏ثورتهم‏ ‏الحقيقية‏ ‏فى ‏داخل‏ ‏داخلهم‏ ‏هى ‏أن‏ ‏المسئولين‏ ‏عنهم‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏مراحل‏ ‏عجزهم‏ ‏كانوا‏ ‏أجبن‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يقولوا‏ ‏لهم‏ “‏لا‏”، ‏وأعنى ‏بها‏ “‏اللا‏” ‏المحبة‏ ‏المسئولة‏ ‏مهما‏ ‏بدت‏ ‏قاسية‏ ‏أحيانا‏.‏ وهو المعنى الذى سوف يأتى ذكره فى لوحة لاحقة.

“وعْيال لياّم دى غلابة،

لا فى عصا ترحمهم ولا حكمة،

 مِنْ مس الجان!”

 إن الغمر بالحنان‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يسبقه‏ ‏ويلحقه‏ ‏ويصاحبه‏ ‏تهيئة‏ ‏النظام‏ ‏التربوى النمائى ‏الذى ‏يستوعبه‏ ‏ويستفيد‏ ‏منه‏ ‏يصبح‏ ‏إطلاقا‏ ‏للسلبيات‏ ‏تحت‏ ‏عناوين‏ ‏حديثة‏ ‏براقة‏.‏

‏وهكذا يعلن المتن التخوف من أن تكون هذه العواطف المنسابة هكذا دون حساب، هى نوع من التخلى عن مسئولية العلاقة الموضوعية، المميِّزة، أن تكون خوفا من هذا المستوى الآخر من الجدل الشائك، والحركة المغامرة الضرورية فى إرساء علاقة بين البشر.

 وهكذا رجح عندى فرض يعتبر أن هذا الحب هكذا “بالراحة”، ليس إلا ‏خوفٌ ‏من‏ ‏الألم‏، ‏ونوع ‏من‏ ‏الهرب‏ ‏من‏ ‏المواجهة‏ ‏ومن‏ ‏التناقض‏ ‏اللازم‏ ‏للجدل‏ العلاقاتى ‏التطورى، ‏وأيضا هو تجنب‏ ‏للجهد‏ ‏والمشقة‏.

(4)

يا‏ ‏ستّ ‏ياصاحْبِةْ ‏بُحور‏ ‏الحب‏ ‏والخير‏ ‏والحنان‏:‏

إٍوعِى ‏يكون‏ ‏حُبَّك‏ ‏دا‏ ‏خوف‏،‏

‏ ‏إٍوعى ‏يكون‏ ‏حبك‏ ‏دَهُهْ “‏قِلّـةْ‏ ‏مافيش‏”

إوعى ‏يكون‏ ‏حبك‏ ‏طريقه‏ ‏للهرب‏ ‏من‏ ‏ماسْكهْ ‏المحْرَاتْ‏،

‏وصُحْيانك‏ ‏بطول‏ ‏الليل‏ ‏لَيِغْرق‏ ‏زرعنا‏. ‏

‏وبرغم كل هذا النقد، والمحاذير، فإن العطشان جدا، الوحيد جدا، الجائع جدا، حتى لو أدرك أن هذا الغمر بالحنان، والحب “بالراحة” ليس هو حاجته تماما، فإنه من فرط احتياجه يجد نفسه بعد كل تخوفاته، وحساباته يجد نفسه غير قادر على رفض النهل من المتاح، لأن عطشه الجائع لا يتمنى أكثر من قطرة واحدة مما يجرى أمامه، فلا يستطيع الرفض، بالرغم من أنه يعلم أن الهلاك ينتظره فى التمادى فى أى من الاتجاهين، فينتهى المتن بهذه النهاية الواقعية المؤلمة قائلا:

(5)

من‏ ‏كُتْر‏ ‏ما‏ ‏انا‏ ‏عطشان‏ ‏بَاخَاف‏ ‏أشربْ ‏كَـدِهْ ‏من‏ ‏غير‏ ‏حسابْ‏! ‏

           لكن‏ ‏كمانْ‏:‏

مش‏ ‏قادرْ‏ ‏أقول‏ ‏لأَّه‏ ‏وانا‏ ‏نفسى ‏فى ‏ندْعِةْ‏ ‏مَيّهْ‏ ‏من‏ ‏بحر‏ ‏الحنانْ!‏

         يا‏ ‏هلْترى: ‏

‏ ‏أحسن‏ ‏أموت‏ ‏من‏ ‏العطش‏؟

ولاّ ‏أموت‏ ‏من‏ ‏الغَرق‏‏؟‏!

نأسف للتكرار

لكننى أشعر – كالعادة – بالحاجة إلى عرض المتن مرة أخرى مكتملاً:

(1)

والنظره‏ ‏دى ‏رخْرَهْ ‏عجب‏.‏

ماباشوفشى ‏فيها‏ ‏إلا شئ ‏كما‏ ‏الحنان‏. ‏

لا‏ ‏لُهْ‏ ‏شروط‏ ‏ولا‏ ‏سبب‏.‏

وأقول‏ ‏لنفسى ‏يا‏ ‏ترى:‏

هوّا‏ ‏حنان‏ ‏الدنيا‏ ‏كله‏ ‏اتجمّع‏ ‏الليله‏ ‏هنا‏‏؟

عمال‏ ‏بِيْغمُرْنَا‏ ‏كَدِه‏ ‏من‏ ‏غيرْ ‏حِسَابْ‏،‏

كَمَا‏ ‏تِرعَه‏ ‏سابـِتْ‏ ‏فى ‏الغيطانْ،‏

إللى ‏بطونها‏ ‏اتْشَقَّقِتِ

(2)

والمّيهْ‏ ‏بالراحةْ‏ ‏بتطفِى ‏فى ‏”‏الشراقىِ” ‏

مِنْ‏ ‏دُونْ‏ ‏ولاَ ‏ساقيهْ‏ ‏تِنوُح‏،‏

ولا‏ ‏قادُوسْ‏ ‏ولا‏ ‏شَادُوفْ.‏

المية‏ ‏تُغْمُرْ‏ ‏والحَنَانْ‏ ‏بِيْبَشْبِشِ‏ ‏القلب‏ ‏الحَزِيِنْ‏،‏

والقلب‏ ‏إللى ‏مَالُوش‏ ‏حبيبْ‏،‏

والقلب‏ ‏إٍللى ‏من‏ ‏عمايل‏ ‏الناسْ‏ ‏بقى ‏حتِّةْ‏ ‏خشبْ، ‏

والقلب‏ ‏إٍللى ‏اتمهمطت‏ ‏دقاته‏ ‏أصبح‏ ‏مثل‏ ‏كوره‏ ‏مْنِ ‏الشراب‏،‏

تضربها‏ ‏رجلين‏ ‏العيال‏ ‏طول‏ ‏النهارْ.‏

وانْ ‏جت‏ ‏على ‏أْزاز‏ ‏ام‏ ‏هاشم‏ ‏يبقى ‏يوم‏ ‏أزرق‏ ‏وطين‏،‏

يالـْـكـُـوره‏ ‏تتشرمط‏ ‏يا‏ ‏إِمّا‏ ‏ان‏ ‏العيال‏ ‏يتفركشوا‏.‏

حتى ‏إٍذا‏ ‏ازازْ “‏ام‏ ‏هاشم‏” ‏ما‏ ‏اتْكَسَرِشْ‏.‏

مش‏ ‏صحت‏ “‏الأسطى ‏إٍمام‏” ‏من‏ ‏غـفْلِتُهْ‏..!؟

‏”‏واللَّى ‏يصحى ‏الناس‏ ‏يانَاسْ‏ ‏أكبر‏ ‏غلط‏”!!!

(3)

وارجَعْ ‏أشوف‏ ‏نهر‏ ‏الحنَانْ

ألقاه‏ ‏بيطفى ‏فى ‏الشراقى ‏بْدون‏ “‏أوان‏” ‏

لكن‏ ‏الشراقى ‏مَهْما‏ ‏شَّققْها‏ ‏الجفاف‏؛

الميه‏ ‏راح‏ ‏ترويها‏ ‏صُحْ‏،‏

لكنْ ‏كمانْ‏‏:

إن‏ ‏سابتْ ‏الميّه‏ ‏على ‏العمَّالْ‏ ‏على ‏البطَّالْ‏ ‏حاتغرق‏ ‏أرضنَا‏،‏

حتى ‏لو‏ ‏الأرض‏ ‏شراقى ‏مْـَشَقَّقَهْ‏،‏

ولاّ‏ ‏الزراعةْ ‏بدونْ‏ ‏أصُولْ‏‏؟

مش‏ ‏لازم‏ ‏الأرض‏ ‏تجف‏ ‏وتتعزق‏؟‏!‏

أو‏ ‏ضَرْبِةِ ‏المحراتْ‏ ‏تِشُقّ‏ ‏الأرض‏ ‏تقلبِ‏ ‏تبْرِهَا‏‏؟‏!‏

والنظره‏ ‏إللى ‏بْتُغْمر‏ ‏الكونْ ‏بالحنانْ‏ ‏من‏ ‏غيِر‏ ‏حِسَاب‏ ‏بتقول‏:‏

‏                                                           “‏حَرامْ..،

                                                       ‏يانَاس‏ ‏حَرامْ:‏

‏ ‏أرض‏ ‏الشراقى ‏مْشَقَّقَةْ، ‏جاهزه‏، ‏

‏ ‏بلاشْ ‏نِجْرح‏ ‏شُعُورْها‏ ‏بالسَّلاَحْ‏…”‏

يا‏ ‏ناس‏ ‏يا‏ ‏هُوه‏: ‏بقى ‏دا‏ ‏كلامْ؟‏ ‏بقى ‏دا‏ ‏حنانْ‏‏؟‏ ‏

‏”‏الزرع‏ ‏لازِمْ ‏يِتْروِىِ ‏”‏! ‏أيوه‏ ‏صحيحْ‏،‏!!

بس‏ ‏كمانْ‏: ‏الَزرِعْ‏ ‏لازم‏ ‏يِتْزَرَعَ ‏أَوَّلْ،‏

ماذَا‏ ‏وإٍلا‏: ‏البذرة‏ ‏حاتْنَبِّتْ‏ ‏وبسْ‏. ‏

(4)

يا‏ ‏ستّ ‏ياصاحْبِةْ ‏بُحور‏ ‏الحب‏ ‏والخير‏ ‏والحنان‏:‏

إٍوعِى ‏يكون‏ ‏حُبَّك‏ ‏دا‏ ‏خوف‏،‏

‏ ‏إٍوعى ‏يكون‏ ‏حبك‏ ‏دَهُهْ “‏قِلّـةْ‏ ‏مافيش‏”

إوعى ‏يكون‏ ‏حبك‏ ‏طريقه‏ ‏للهرب‏ ‏من‏ ‏ماسْكهْ ‏المحْرَاتْ‏،

‏وصُحْيانك‏ ‏بطول‏ ‏الليل‏ ‏لَيِغْرق‏ ‏زرعنا‏. ‏

(5)

من‏ ‏كُتْر‏ ‏ما‏ ‏انا‏ ‏عطشان‏ ‏بَاخَاف‏ ‏أشربْ ‏كَـدِهْ ‏من‏ ‏غير‏ ‏حسابْ‏! ‏

           لكن‏ ‏كمانْ‏:‏

مش‏ ‏قادرْ‏ ‏أقول‏ ‏لأَّه‏ ‏وانا‏ ‏نفسى ‏فى ‏ندْعِةْ‏ ‏مَيّهْ‏ ‏من‏ ‏بحر‏ ‏الحنانْ!‏

         يا‏ ‏هلْترى: ‏

‏ ‏أحسن‏ ‏أموت‏ ‏من‏ ‏العطش‏؟

ولاّ ‏أموت‏ ‏من‏ ‏الغَرق‏‏؟‏!

……………….

……………….

ونواصل السبت القادم لقراءة اللوحة الحادية عشرة: “فانوس ألوان”

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – ولعل لوحة “نايم فى العسل” ص 127،  فيها ما يكفى لشرح هذا الموقف.

 

تعليق واحد

  1. كيف حالك يامولانا:
    المقتطف : “وعْيال لياّم دى غلابة،
    لا فى عصا ترحمهم ولا حكمة،
    مِنْ مس الجان
    التعليق : وجعتنى هذه اللوحة يا مولانا ،وجعتنى على نفسى وعلى عيالى وعلى كل العيال ،وفكرتنى بإستنكارك لأمومتى ” الممهمطة ” ،شوفت خوفى وقلة حيلتي وانا طول عمرى باغزل برجل الحمار ،لكن السؤال اللى طلع لى منها : تفتكر العيل اللى بيتربى مع أحد والديه فقط ،بيكون فاقد للوالد الآخر ،واللا كده يبقى فقد الاتنين ؟! والاتنين بقى أخبارهم ايه ؟ اللى شال حصل له ايه ؟ واللى ماشالش عمل ايه ؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *