الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “فقه العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الرابع: ”قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج” الفصل الثالث: “الخلاص” (1 من 2)

“فقه العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الرابع: ”قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج” الفصل الثالث: “الخلاص” (1 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 25-11-2023

السنة السابعة عشر

العدد: 5929

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(4)[1]

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الرابع:

“قراءة فى نقد النص البشرى.. للمُعـَالِج”

الفصل الثالث:  

الخلاص (1 من 2)

 

كما ذكرت، سبق أن كتبت فصلا بأكمله بعنوان “أمى” فى الترحال الثالث من ترحالاتى (سيرة ذاتية فى أدب رحلات)[2] ، ولا أجد عندى ما أضيفه فى هذه المنطقة. إلا أننى وجدت أن هذه القصيدة ليست عن أمى بقدر ما هى رحلتى شخصيا وأمى تحيط بها وبى طول الوقت.[3]

لكن هذا الشرح على المتن يهتم أكثر بربط هذه القصائد بما هو علاج نفسى، وأنا أتساءل الآن وأنا على وشك الانتهاء من هذا العمل:

 هل هو حتم علىّ أن أقوم بهذا الربط حتى لو لم يرد تلقائيا؟

 ربما كان الأمر كذلك، أعنى أن هذه هى الرسالة التى أود توصيلها فعلا، وإلا لماذا هذا الكتاب كله أصلا ؟

 تبدأ القصيدة بحوار مع (لسان حال) أمى يقول:

‏–1–

‏– ‏ليه‏ ‏يامَّه؟‏ ‏كان‏ ‏ليه‏؟

لما‏ ‏انتى ‏ما‏ “‏نتيش‏” ‏كان‏ ‏ليه‏‏؟‏ ‏

أنا‏ ‏ذنبى ‏إيه‏‏؟

أنا‏ ‏مين‏ ‏؟‏ ‏أنا‏ ‏فين‏ ‏؟‏ ‏أنا‏ ‏كام‏ ‏يامَّه؟

أنا‏ ‏إيه‏؟

‏= ‏جرى ‏إيه‏ ‏يا‏ ‏ابنى ‏يا‏ ‏حبة‏ ‏عيني،

‏‏طب‏ ‏ما‏ ‏انت‏ ‏أَهُهْ‏ !‏

بقى ‏دا‏ ‏اسمه‏ ‏كلامْ

ما‏ ‏هو‏ ‏كله‏ ‏تمامْ

جرى ‏إيه‏!!!‏

تبدأ رحلة الوجود بيقين الأم – بمجرد الولادة – بأن وليدها قد أصبح خارجها، كيانا منفصلا عنها، مشروع وجود كائن بشرى جديد، بمجرد انتهاء وجوده لحما ودما داخلها، ينتقل الوليد من الرحم الجسدى، إلى الرحم النفسى. فى الرحم الجسدى تكون الحماية محيطة، وفى نفس الوقت الحركة طليقة، لكن ليس لها هدف إلا الحركة، كما يكون الأمان كاملا، أما وقد صارا جسدين بينهما مسافة، فإن الحركة تصبح محكومة “بحضور ما معا” على مسافة متغيرة، غير مضمونة، تحكمهما قوانين جديدة، مهدِّدَة أحيانا.

من البداية التى تتجسد تماما فى حفل “السبوع” تلجأ الأسرة إلى التأكيد على الأم أن تشحذ انتباهها أن الكيان الذى كان بداخلها تماما، أصبح خارجها فعلاً، أصبح كيانا مستقلا جسديا على الأقل، كبداية للحمل فالولادة النفسية، فى أطروحة سابقة بيـَّـنـْـتُ كيف أن السبوع[4] بكل طقوسه المنظمة فى المكان والحركات والأهازيج تؤكد كلها هذه الرسالة. الكآبة التى تصيب الأم فى الأيام الأولى للنفاس (حوالى 60 % Maternity Blues ) هى تفاعل طبيعى لهذا الانفصال، واستعداد مناسب يمهد لعلاقة بين الأم ووليدها من نوع آخر.

حتى تسمح الأم بهذا الانفصال، وتعترف بوجود هذا الكائن الجديد خارجها، وهو الكائن الذى حملته: وهـْناً على وَهـْن، ثم وضعته بكل الألم الخلاّق، لا بد أن تكون هى “كائنة” حاضرة بشكل ما، أن تكون موجودة ساعية تعطى الغذاء العلاقاتى عبر الحبل السرى التواصلى، كما كانت تعطى خلاصة الاحتياجات الغذائية والتنموية عبر الحبل السرى داخل الرحم، ولكن لكى تفعل ذلك بكفاءة، لا بد أن تكون هى نفسها “كائنا موجودا قائما” يمارس علاقات الأخذ والعطاء. لكى “تعطى” الأم هى فى حاجة أن “تأخذ” أيضا فى نفس الوقت، أو قبلا، من أى مصدر بشرى آخر: أمها عادة، فى ثقافتنا الشعبية نعرف أن حضور أم الوالدة (فعلا أو بديلها) هو حضور أساسى أثناء الولادة وقبيلها، الوالدة “تتقطّف” على صدر أمها أثناء المخاض بما يؤكد حاجة الأم أن “تكون” محل رعاية ورؤية وهى تستعد لأن تعطى شهادة الكينونة للقادم الجديد، فإن لم “توجد” الوالدة أصلا بهذا المعنى الإنسانى الأساسى، فكيف ننتظر منها أن تعترف لغيرها (وليدها) بما تفتقر هى إليه جدا، تبدأ القصيدة هكذا:

ليه يامّه؟ كان ليه؟

لما انتى ما انتيش كان ليه؟

هذا اللوم: قد يشير إلى أن الأم التى “لم تكن” التى هى ليست “كائنة” فعلا بما هى الآن، لا تستطيع أن تعطى وليدها حقه فى الوجود كما ينبغى، لا أحد “يكون هكذا بما هو” جاهزا للعطاء غير المشروط، وإنما نحن جميعا “نتكوّن” باستمرار، ولهذا لا يجوز أن نلوم أحدا على أنه لم “يكن”، خاصة الأم، (لما انتى مانتيش) لكننا ربما نلومه على أنه توقف عن أن يواصل أن”يتكون”، وهذا أيضا يجرى فى حدود الفرص المتاحة، وقليلة هى هذه الفرص عموما، وهذا صحيح فى مجتمعنا خاصة بالنسبة للمرأة بالذات، لكن حاجة الطفل لا تـُحسبُ هكذا، الطفل يريد حقه من الاعتراف بغض النظر عن تبريرات من حوله أو ظروفهم الواقعية.

 أحيانا يولد طفلٌ ما وعنده حاجة قصوى جاهزة للتأكيد على حق الاعتراف هذا (وذلك ربما يحدث لأسباب وراثية أكثر)، وبالتالى يكون العيب فى “نهم برنامج احتياجه” أكثر من قلة مصادر رِيـِّه، ويواصل الطفل بوجه عام، وهذا الطفل بوجه خاص: صراخه المعلن عن حيرته الوجودية، وحاجته الأساسية بأى قدر من الاعتراف، بهذا الإلحاح المتسائل، فى كل اتجاه:

أنا‏ ‏مين‏ ‏؟‏ ‏أنا‏ ‏فين‏‏؟‏

أنا‏ ‏كام‏ ‏يامَّه؟

أنا‏ ‏إيه‏‏؟

تـعـَدُّدُ الكيانات جاهز فى التركيب البشرى منذ البداية، “أنا كام؟”، التساؤل هنا لا يقتصر على “أنا مين”؟ أو “أنا إيه”؟ ولكنه يمتد إلى “أنا كام؟”. فى التحليل التركيبى structural analysis يولد الطفل وهو يحمل “مشاريع” الذوات كلها تقريبا، مشاريع بمعنى “برامج” حيوية (نيوروبيولوجية) تنتظر التشغيل والتشكيل والنمو[5]، والتساؤل هنا لا يكون واعيا طبعا، لكنه وارد كامن.

 لا يُطِلُّ هذا التساؤل عادة فى الوعى الظاهر إلا مع (1) بدايات الذهان، أو فى (2)أزمات النمو، أو مصاحبا (3) لإرهاصات الإبداع.

 تساؤل الطفل الداخلى البدئى هنا هو نفس التساؤل، لكن دون ألفاظ طبعا، وأيضا بوعدٍ فطرِى كلـِّىّ غير محدد.

ترد الأم [6]  (لسان حالها طبعا) بطيبة دافئة، وفى نفس الوقت بدهشة مفهومة :

‏= ‏جرى ‏إيه‏ ‏يا‏ ‏ابنى ‏يا‏ ‏حبة‏ ‏عيني،

‏‏طب‏ ‏ما‏ ‏انت‏ ‏أَهُهْ‏!‏

بقى ‏دا‏ ‏اسمه‏ ‏كلامْ !!!؟

ما‏ ‏هو‏ ‏كله‏ ‏تمامْ

جرى ‏إيه‏!‏

“كله تمام” بمقايييسها الآمـِـلـَـة، وفى حدود قدرات عطائهأ المتواضعة، ثم تنتقل الرسالة فجأة إلى مخاطبتها طفلها “الوالد” أملا داعما منتظرا، الأم تعتبر ابنها – فى منطقة ما مِنْ عمق وجودها – والدها أحيانا منذ الولادة.

رحلة البناء السرى (جبل الرحمات: (الطفل العملاق الطيب) والتحمل العطائى (جمل المحامل) الفصل السابق، قد تتم حتى لو لم يأخذ الطفل حقه، ولا يصل إلى الأم بعد نجاح الكائن الجديد أن ينمو، ويتحمل، ثم يستمر، ويحمل، إلا أنها ترى طفلها “والدا” وقد أصبح قادرا على العطاء، وأن عليه أن يستمد وجوده من التمادى فى هذا الدور الذى أوضحنا ثمنه بشكل شبه كامل فى الفصل السابق (جمل المحامل).

الأم هنا تنكر تساؤلات ابنها الوالد، ولا ترى احتياجات ابنها “الوليد”، لكنها لا تتنكر لها، أنه قادر بالتالى على “التغذية الذاتية” جنبا إلى جنب مع مواصلة العطاء، وأنه سوف يكتمل بمواصلة هذا وذاك دون حاجة إلى هذه الوقفة وهذه التساؤلات وإعلان هذا الاحتياج هكذا، فهى تمضى تطمئنه وتبرِّئ نفسها ولسان حالها يقول:

= ‏ ‏يا جدع‏ ‏يا‏ ‏أمير‏ ‏ياللى ‏بـتــدِّى،‏

إوعى ‏تهِّدى‏.‏

تَنَّكْ إدِّى

‏بكره‏ ‏تْعَدِّى‏.‏

ياسلام‏ ‏يا ولَدْ‏.‏

ما‏ ‏فى ‏زيـك‏ ‏حدْ‏.‏

ماتفكَّرشى، ‏دا‏ ‏الفكر‏ ‏مرارْ‏.‏

ودا‏ ‏بير‏ ‏يابنى ‏وما‏ ‏لوهشى ‏قرار‏.‏

‏– ‏بسّ‏ ‏يامَّه‏ ‏لو‏ ‏قلتى ‏ليه‏‏؟‏ ‏

‏ ‏كان‏ ‏ليه‏ ‏؟

‏= ‏جرى ‏إيه‏؟‏ ‏فيه‏ ‏إيه‏‏؟‏ ‏

(‏كان‏ ‏ليه‏‏؟‏ كان‏ ‏ليه‏‏؟‏)

 ‏دِهْدِى‏!؟ ‏

هيَّا‏! “‏عامْلَهْ‏”‏؟

وَّلا‏ ‏انا‏ ‏قصـدى؟‏ دِهْدِىْ!!‏

يحتد (لسان حال) الأم بحق على أنه حتى لو أنها عجزت أن تعطى وليدها اعترافا يستحقه، حتى لو أنها مسئولة ضمنا عن هذه الوقفة وما يشكو منه وهو محتوى هذا الاحتجاج، حتى لو أنه يلومها حبا وضعفا طبيعيا، فهى بريئة، وهى لم تقصد أيا من ذلك، ولعل هذا هو غاية ما عندها.

‏حين كتبتُ هذا المتن سنة 1973/1974، كنت أتصور أنه يمكن أن يكون الإنسان “زرع شيطانى”، وأن مَنْ حُرِمَ حق الاعتراف كما ينبغى لما ينبغى، يمكن أن يخلق نفسه بنفسه، لكننى حين كتبت الجزء الثالث من الترحالات (ذكر ما لا ينقال: “سيرة ذاتية”)، وأثبت هذه القصيدة فى الفصل المعنون “أمى”، تجسد لى قبح، وتشوه ما هو “زرع شطانى”: زرع لا يزرعه أحد، ولا يرويه أحد، ولا يستفيد منه أحد، ويضر ببقية المزروعات النافعة، فجأة: استنارت بصيرتى أن هذا هو أصعب، وربما أبشع، ما يمكن أن يُمتحن به بشر، المتن الأصلى كان يبدو وكأنه يُعلى من قيمة أن يصنع الإنسان نفسه بنفسه كأنه ابن نفسه، يظل المتن ينفخ فى هذه الصورة ويزيّنها حتى قرب النهاية، هذه الصورة الملوّحة: أن تخلق نفسك بنفسك هى مهمـَّة شديدة الإغراء مع أنها فى عمق معين لا تعنى إلا ألوهية زائفة، ربما كتلك التى تورط فيها “غرينوى” بطل رواية العطر[7] ، حتى صار إلها كاذبا، ومن ثم قاتلا بالضرورة، وقد أثبتُّ هذا التراجع فى الترحال الثالث، وأعتقد أنه من المهم إثبات نص التراجع هنا قبل أن نكمل قراءة المتن، وما طرأ عليه، وما آل إليه:

15 يوليو 2000  [8] 

عذرا أمّى، ظلمتُـك، وكأنى فعلتـُها وحدى، إن كنت قد فعلتـُها أصلا.

قرأت لاحقا رواية “العطر” لباتريك زوسكند، وأعدت اكتشاف مسائل كثيرة تتعلق بما سبق أن أثبته هنا من افتراضات.

ولد جان باتيست غرينوى سفاحا من أم كانت تتخلص من أطفالها أولا بأول، وحين حاولت أن تتخلص منه عقب ولادته مباشرة ضُبطت، وحوكمت، وأعدمت.

أطلق غرينوى من تحت طاولة السلخ “صرخة مدروسة بدقة”، ويكاد المرء أن يقول إنها صادرة عن عقل مفكر، أراد بها الوليد الجديد أن يحسم أمره “ضد الحب ولصالح الحياة“، لأول وهلة بدا (لى) هذا الاختيار مستحيلا، هل يمكن أن يكون الحب على ناحية، والحياة الناحية الأخرى؟

كان غرينوى بلا رائحة، بلا وصلة بين “لارائحتة” ورائحة البشر، بلا “تـواجد معا”، فراح يشكّل نفسه بنفسه، يصنّع له رائحة مميِّزة، راح يحاول أن يصنع كل ما يحقق استمراره، ونجاحه، بل ونجاته من الموت بعد أن أزهق أرواح العذارى الواحدة تلو الأخرى ليحقق تصنيع “العطر الإله البديل” (الوجود المصنوع زيفا)، نجح فى أن يصنع كل ما أراده إلا أن تكون له رائحة مميزة (عن كل البشر) كما صورتها له ألوهيته الزائفة، رائحة يستطيع هو أن يتحقق منها (وبها) متفردا ساحرا قاتلا مسيطراً على الحياة.

وانتهت الرواية بأن الْتـَهـَمه الأوغاد “عن حب”(!!) (ربما ليعلنوا بذلك أنه بدون أن يكون جزءًا منهم وحتى إذا أصبح جزءًا منهم قسرا هكذا فإنه: لا وجود له أصلا).

 الـعَـدَم الذى انتهى إليه غرينوى تم من خلال علاقة التهامية بديلة عن التخلّق النابض بالناس ومعهم، هو النتيجة الطبيعية لهذا الزيف الخادع الذى يوهم الواحد أنه يمكن أن “يصنّع نفسه بنفسه”، مستغنيا عن التواصل الطبيعى الخلاّق الذى يتشكل من جدل العلاقة والسعى المشترك فى رحاب الحق المشترك الأعظم.

…..

خلاصة القول هو أنى اكتشفت أننى كنت أكذب على نفسى وأنا أزعم أننى                  

 “أَنا حابقى أبويا وأُمى كمان،

 أَنا حابقى كتير،

 أنا حابقى الناس.

 أنا حابقى”أنا”.

إٍزاى؟ ما اعرفْشْ.

 أنا لازم “أكون” و”أعيش.

أيضا كانت ومازالت خدعة كبيرة حكاية

“وحادوّر على نفسى بنفسى

 ولقيت لى خلاص”.

 أو مقولة “أنا حابقى الحب”(!!)

أليس هذا الذى قلتُه يكاد يكون مكافئا للعطر الخادع فعلا الذى كان سببا فى هلاك غرينوى.

 لكن ربنا ستر!!!!!

 هذه الخدعة الكبرى لم أكتشفها طبعا من قراءة العطر فقط.

إن ربع قرن من الممارسة والتقليب والمراجعة قد سمح لى أن أصل إلى ما جعلني أفهم هذا الإبداع الروائى بما ذكرتُ. أتصور أن هذا هو مدخلى لما مارسته وما أمارسه مما يسمى النقد الأدبى، (ومـِـنْ ثـَـمَّ: نقد النص البشرى).

أى غرورٍ غبى!!! هل يمكن أن يفعلها أحد وحده؟ ما هذا؟!!

أيام كتبت هذا الكلام كنت فى بؤرة وهم تجربة تصنيع الحياة، ربما كما كان باتيست غرينوى يصنّع العطر (الخاص جدا الفريد جدا).

(لكن مع تواصل الخبرة وتفاعل مستويات الوعى بالداخل والخارج تعدل موقفى ليقول:)

 لا أحد يمكن أن يبحث عن نفسه بنفسه (ليبدعها بدون الناس، لا أحد يكون الناس، إلا من خلال وعلى حساب علاقته بالناس،

 لا أحد يصنّع الحب إلا إذا كان ينتحر به (مثل غرينوى)،

 لا أحد يخلـّق من نفسـِه إلها زائفا إلا ليصبح قاتلا محترفا.

 يبدو أن من أنقذنى من هذا المصير هو أمّى الحقيقية، وزوجتى الحقيقية، وأبنائى الحقيقيون، وطلبتى الحقيقيون، ومرضاى الحقيقيون، وأصدقائى الحقيقيون، وصديقاتى الحقيقيات. ربما لهذا شعرت بعد ما يقرب من ستين عاما، وبعد رحيل أمى، أننى أريد أن أتعرّف عليها، لأشكرها، لأعتذر لها.

(انتهى المقتطف مع زيادة ما بين قوسين)

العلاج النفسى مصغر النمو الإنسانى:

الآن وأنا أراجع المتن الشعرى، وكذا أراجع استدراكى فى الترحالات فى فصل “أمى”، وجدت الفرصة تسنح من جديد للتأكيد على بعض الحقائق والرؤى التى تتعلق بالنمو الإنسانى، والعلاج النفسى الذى هو “مصغر النمو الإنسانى” (والمفروض أنه موضوع هذا العمل على مستويات مختلفة) فأضيف ولو ببعض التكرار:

أولا: لا أحد يصنع نفسه بنفسه إلا الله.

ثانيا: من حيث المبدأ يمكن أن يتصور الإنسان أنه يخلّق نفسه بنفسه، ولكن ربما هذا هو الذى قد يعطله لو استغرق فى ذلك فقط، يتوقف هذا على موقفه من الناس وبالناس وهو يبحث عن نفسه، إذ يتشكل بهم ومنهم. قد يسهم في البحث عنها، وقد يسهم كذلك فى إعادة تشكيلها، لكن أن يخلق نفسه بنفسه فقط فـ “كلاًّ وألف كلاَّ”.

ثالثا: إن أى استغناء عن الناس (ربما بدءًا بالأم) يستحيل أن يكون استغناء مطلقا، إنه لا يعدو أن يكون مظهرا دفاعيا مؤقتا على أحسن الفروض، أما إذا تمادى فهو الذبول، أو التألـُّـه، أو الجنون الانسحابى أو المتفسخ.

رابعا: إن العلاقة العلاجية فى العلاج النفسى تكاد تدور بداية ونهاية حول محاولة كسر هذا الوهم (الاستغناء حتى الانسحاب) دون استبداله بالاعتمادية الرضيعية التى ربما تُقبل كمرحلة عابرة قصيرة تماما لازمة أحيانا لإعادة البداية.

خامسا: إن هذا التراوح بين حركية النمو ما بين “الاستقلال”، وضرورة “قبول الاحتياج” هو من ضمن “برنامج الخروج والدخول” الذى أشرت إليه سابقا فى أكثر من موضع.

وبعد

كل هذه الحقائق والرؤى جعلتنى أرجع إلى أوراقى على الحاسوب، وهى ليست المسجلة فى ديوان أغوار النفس، ولا حتى فى الترحال الثالث “ذكر ما لا ينقال”، فضبطت نسخة من نفس القصيدة، لاحظت فيها اختلافات قليلة عن الأصل حتى الضد أحيانا، ويبدو أن ذلك قد تم بعد مراجعتى للقصيدة فى فصل أمى فى الترحال الثالث، نعم إلى الضد، تصوروا أن ينقلب ذلك المقطع:

‏– ‏علشان‏ ‏يامّه‏ ‏مش‏ ‏على ‏بالِكْ‏،

 ‏أنا‏ ‏حاحكيلِكْ‏:‏

أنا‏ ‏زرع‏ ‏شطانى،‏

ولا‏ ‏حدّ فْ يوم جه ورَّانى

يتحول إلى المقطع التالى:

– ‏علشان‏ ‏يامه‏ ‏مش‏ ‏على ‏بالك‏،

 ‏أنا‏ ‏حاحْكِيلِـكْ‏:‏

أنا‏ ‏خدت‏ ‏الدنيا‏ ‏معاكــى ‏بيكى،‏

من‏ ‏ورا‏ ‏ضهرك‏،‏

مش‏ ‏زرع‏ ‏شطانى،‏

مع‏ ‏إن‏ ‏ماحدش‏ ‏ورانى،‏

هل هذا يجوز؟

الشعر “حالة” (كما يعلمنا صلاح عبد الصبور) والحالة ترتبط بلحظتها، فإذا تغيرت الحالة خرج شعر آخر، إن كانت الحالة الجديدة قادرة على ذلك؟

ما هذا الذى فعلتـُهَ هكذا بالقصيدة؟

 فوجدت نفسى بين اختيارات كالتالى:

 أولاً: إما أن أتنازل عن كون ما كتبته شعرا أصلا، فهو رسالة منظومة دالة هادفة، وبالتالى فلى حق تطويرها أو تحديثها حسب تغيَر حالتى وخبراتى، ولتكن سيرة ذاتية منغرسة فى الألم والتعرّى والخطأ: فالمراحعة.

ثانياً: وإما أن أكتب قصيدة جديدة تؤرخ اللحظة الجديدة، وهذا أمر ليس بيد أى شاعر حقيقى، ليس بيد أحد يعرف ما هو الشعر أن يفرز شعرا متى شاء لما شاء.

ثالثاً: وإما أن أسجل الذى طرأ على “حالتى” فغيّر شعرى “ذاك” إلى شعرى “هذا” وأترك الحكم للقارىء، ولـْـيدرِجْ هو العمل تحت الاسم الذى يقترحه له النقاد إنْ تفضلوا!!

استطراد

موقفى من الشعر غريب، أعتقد أننى لم أكتب شعرا فيما عدَا بضع عشرة قصيدة، هذا بصفة عامة، وإن كان بعض من يتلقونه يعتبرونه كذلك.

فى نفس الوقت فهمت ثم توصلت: كيف أن الموت هو شعر آخر[9] وبالنسبة إلىّ: فإن العلاج الجمعى يتراوح بين الشعر الجماعى (المرتبط بالوعى الجماعى وتخليق الأسطورة الجماعية الأحدث) وبين النقد التشكيلى لنصوص بشرية متناصة، وهكذا.

ففى الوقت الذى ضاق عندى مفهوم الشعر حتى يستبعد كل ما هو مقصود هادف بوعى كامل، اتسع ما هو شعر حتى يشمل كل ما هو تشكيل مبدع طليق مفاجئ جديد.

الأقرب عندى أن أعترف أننى لم أكتب الشعر الشعر إلا نادرا، لعل أقرب وأجمل ما كتبت شعرا هو قصيدة “دورة حياة فقاعة”، وقصيدة: “النورس العجوز”[10]، ثم إن ما هو شعر حقيقى، لم ينشر أغلبه حتى الآن.

يبعد الشعر عن الشعر كلما كان هادفا ويقترب الشعر من الشعر كلما كان طليقا يتخلّق من “حالة” فريدة يستطيع بتشكيله وصوره وأنغامه أن يوصلها إلى متلقيه أقرب إلى “الحالة” التى كتب بها، أو أن يصل به إليها.

مازلت متمسكا بتصنيف صلاح عبد الصبور أن الشعر “حالة” لا هو “حلية” ولا هو “أسلوب”.

حين كتبت ديوانى “سر اللعبة” كان هادفا (أغلبه) لشرح طبقات ومراحل المرض النفسى إمراضيا (سيكوباثولوجيا)، ومع ذلك “ظهر شعراً ناقشه صلاح عبد الصبور (ناقدا) فى البرنامج الثانى فى الإذاعة المصرية وأصرّ على أنه شعر خالص!

فى نفس الوقت رفضت رفضا تاما أن أعتبر هذا الديوان نظما يشرح علما نفسيا، مثل ألفية ابن مالك شرحا لقواعد النحو العربى، أو مثل محاولة المرحوم “سليم عمار”[11] من تونس فى وصف النفس والأمراض النفسية وهى عندى ليست شعرا، وحتى شعر ابن سينا عن النفس كذلك، وأفضل من ذلك قليلا شعر المعرى فى الحكمة  برغم ثقل الحسم وغير ذلك.

أنهيت ديوانى سر اللعبة هذا بنص يحدد موقفى من هذا الديوان قلت:

‏لا، ‏لا، ‏لا‏.. ‏

‏يا‏ ‏من‏ ‏ترقب‏ ‏لفظى ‏العاجز‏ ‏بعيون‏ ‏الفن‏ ‏المتحذلق‏،

‏أو‏ ‏تفهم‏ ‏روح‏ ‏غنائى ‏بحساب‏ ‏العلم‏ ‏الأعشى،

‏لا‏ ‏تحسب‏ ‏أنى ‏أكتب‏ ‏شعرا‏ ‏بخيال‏ ‏العجز‏ ‏الهارب‏،

 ‏أو‏ ‏أنى ‏أطفئ ‏نارى، ‏بدموع‏ ‏الدوح‏ ‏الباكى،

 ‏لا، ‏لا، ‏لا‏.. ‏

‏ ‏هذا‏ ‏قدرى، ‏

……………

فليحترق‏ ‏المعبدْ‏، ‏ولتذرُ‏ ‏الريحُ‏ ‏رماَد‏ ‏الأصنامْ،

‏ولتُسْاَلُ نفٌس ما كسبتْ‏،

‏وليعْلنُ‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مكان‏:

“فشل‏ ‏الحيوان‏ ‏الناطق‏ ‏أن‏ ‏يصبح‏ ‏انسانا‏”،

‏أو،. .. . ‏فلنتطور‏‏.

إذ يصبح ما ندعوه شعرا: هو عين الأمر الواقع

…………….

…………….

وفى قصيدة لاحقة نفيت عن نفسى صفة الشاعر، كتبت أننى:

يا ليت شعرى لست شاعرا

‏–1–‏

لا‏ ‏أضرب‏ ‏الدفوف‏ ‏فى ‏مواكب‏ ‏الكلام‏،‏

ولا‏ ‏أدغدغ‏ ‏النغم‏.‏

لا‏ ‏أنحت‏ ‏النقوشَ‏ ‏حول‏ ‏أطراف‏ ‏الجملْ،‏

أو‏ ‏أطلبُ‏ ‏الرّضَا‏.‏

ولا‏ ‏أقولُ‏ ‏ما‏ ‏يقرّظ‏ ‏الجمال‏..،‏

يحتضرْ‏.‏

‏…..‏

ثم إنى أنهيتها بإعلان استقلال الشعر الشعر عنى، وأنه إن صحَّ شعرا فهو الذى يكتبنى، وليس العكس.

 جاءت نهاية نفس القصيدة هكذا:

–2–‏

‏‏تدقُّ‏ ‏بابى ‏الكلمة

أصدّها.‏

تُغافل‏ ‏الوعى ‏القديم‏،‏

أنتفضْ‏.‏

أحاولُ‏ ‏الهربْ‏،‏

تلحقنُى.‏

‏‏أكونُها‏،‏

‏‏فأنسلخ‏.‏

‏–3–‏

أمضى ‏أغافل‏ ‏المعاجِمَ‏ ‏الجحافل‏، ‏

بين‏ ‏المَخاضِ‏ ‏والنحيبْ‏.‏

أطرحُنى:‏

بين‏ ‏الضياع‏ ‏وَالرُّؤى.‏

بين‏ ‏النبىَّ ‏والعدَمْ‏.‏

أخلّق‏ ‏الحياة‏ ‏أبتعث‏.‏ ‏

أقولُنى ‏جديدا‏،‏

‏‏فتولًدُ‏ ‏القصيدةْ‏.‏

14/9/1983

هكذا صورتُ حركية الشعر شعرا فى نهاية القصيدة وأنا أعلن أننى “لست شاعرا”

……………………..

………………………

ونواصل الأسبوع القادم استكمال قراءة  الفصل الثالث “الخلاص”

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) سلسلة “فقه العلاقات البشرية” (4) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) قراءة فى نقد النص البشرى  للمُعـَالِج، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – يحيى الرخاوى: (2000) الترحال الأول: “الناس والطريق” – الترحال الثانى:” الموت والحنين” – الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”.

[3] – أنصح القارئ بقراءة ذلك الفصل فى الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال، وهو يحتوى هذه القصيدة ضمنا، كما يحتوى نقدى لنهايتها مما سوف أورده هنا أيضا.

[4]نشرة الإنسان والتطور طقوس “السُّبُوعْ”، وجدلية الانفصال/الاتصال” بتاريخ 22/1/2008    

[5]- هذا التعدد يصل فى نظريات تطورية إلى كل العقول السابقة للعقل البشرى، أنظر نشرة الإنسان والتطور “أنواع العقول” (25- 12- 2007، 2-1-2008)  وأيضا يمكن التعبير عنه بمستويات الوعى أو حالات العقل فى منظومات علمية نيوروبيولوجية أخرى

[6] – مرة أخرى: المقصود طبعا: لسان حال الأم، فنحن فى منطقة التركيب البشرى الغائر.

[7] – نشرة الإنسان والتطور: “الخطوط العريضة للفرض الأساسى لنقد رواية “العطر” بتاريخ 8/12/2007     

[8] – يحيى الرخاوى: (2000) الترحال الثالث “ذكر ما لا ينقال” الفصل الثالث “أمى” منشورات جمعية الطب التطورى  (ص 95)

[9]-  كررت أن هذا كان ضمن نعى أدونيس لصلاح عبد الصبور.

[10] – يحيى الرخاوى: (2018)  ثلاثة دواوين (1981 – 2008) الديوان الأول: “ضفائر الظلام واللهب”، الديوان الثانى: “شظايا المرايا”، الديوان الثالث: “دورات وشطحات ومقامات”. منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.

[11]  –  سليم عمار: “ألفيّة مكرّرة في الأمراض النفسية المعتبرة” (أرجوزة في 3500 بيت)، تونس 1992.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *