الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “فقه العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الرابع: “”قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج”” الفصل الثانى: “جمل المحامل” (1 من 2)

“فقه العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الرابع: “”قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج”” الفصل الثانى: “جمل المحامل” (1 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 11-11-2023

السنة السابعة عشر

العدد: 5915

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(4) [1] 

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الرابع:

“قراءة فى نقد النص البشرى.. للمُعـَالِج”

الفصل الثانى:  

جمل المحامل (1 من 2)

 مقدمة:

لم يبق فى هذه الورطة (ديوان “أغوار النفس”) إلا قصيدتان، (ثم البداية/الخاتمة) هذه القصيدة، وقصيدة “الخلاص”، كلتاهما لها علاقة ما بالسيرة الذاتية، لذا فضلت أن اضمهما إلى هذا العمل دون الكتاب الثالث “قراءة في عيون الناس”([2])

أرجو أن يصل من كل هذا التعرى – مرة أخرى – كيف أن المعالج النفسى هو “نـَـصٌّ بشرى” قابل للقراءة، وفى نفس الوقت: قادر على “إعادة التشكيل” لا أكثر ولا أقل، وبما أننى أدعى أن هذا العمل هو “فى فقه العلاقات البشرية” وهو الكتاب الرابع فى هذه السلسلة  كما يقول العنوان، فإننى أتصور أن قراءة هذا المعالج (كاتب هذا الكلام) “نصا بشريا” هو ضمن ما نحاوله فى توصيل بعض أساسيات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى وخاصة من منطلق العلاج عامة والعلاج النفسى خاصة.

ثم فليتحمل القراء ما بقى منى، وأمرهم إلى الله، ولتصل الفائدة لمن يستطيع أن يستخلصها.

لكننى أبدأ بقصيدة فريدة لم ترد في ديوان “أغوار النفس” وهى من واقع خبرة خاصة صعبة مررت بها: خبرة قصيرة سريعة وسط ثلة أخرى من الأصدقاء والصديقات وهى حوار بينى وبين لسان حالهم (كالعادة) أكثر منه حوارا بالألفاظ المـُعـْلنـَةْ:

(1)

= ‏لأ‏.. ‏عـَنـْدَكْ‏ !!‏

‏ – ‏ليه‏ ‏؟‏ ‏

‏= ‏ممنوع‏ ‏ده‏ !!‏

‏ – ‏إيه‏ ‏؟

‏=‏ ممنوع‏ ‏كـلــه‏،‏

‏ – ‏طب‏ ‏أعمل‏ ‏إيه‏ ‏؟‏ ‏

‏=‏ زى ‏ما‏ ‏دايما‏ ‏كنت‏ ‏بتعمل‏.‏

قـَـرنك‏ ‏جامد‏، ‏خليك‏ ‏شايل‏.‏

‏ – ‏لأ‏ ‏مش‏ ‏لاعب‏.. ‏جرى ‏إيه‏ ‏؟‏.. ‏الله‏ !!‏

الذى حدث:

 هذه الثله هى غير جماعة قراءة العيون([3])، كنا على العشاء معا فى مطعم بلدى جميل، وخيل لى أنه قد آن الأوان أن أشكو، أو أن أضعف، أو أن آخذ، أو أن أحكى، فوصلنى تـَحفـُّظ طيب من الجميع، لكنه رفض حقيقىّ: أنه “ليس هكذا“، أو “ليس الآن“، أو “ليس أنت“!! أو كل ذلك معا. فجزعت سرًّا!

القضية صعبة: ذلك أنه يبدو أن من قُدِّرَ له أن يقوم بدور من “يرى”، و”يعطى” و”يفتى”، ومثل ذلك، يظل يمارس هذا الدور المميز، وكأنه دور قد اختاره فعلا ولو إلى أجل مسمى، وبرغم ما فى هذا الدور من ميزات لا تنكر، فإن التمادى فيه حتى بعيدا عن التزامات المهنة، إنما يفتح باب اعتماد الآخرين عليه، وتتفاقم التغذية المتواصلة تدعم نفس موقف كل الأطراف فتدور الدائرة فى نفس الاتجاه بلا نهاية، وأحيانا يبدو هذا الشخص مضحيا، ومعطاءًا (وكلاما من هذا، مما نصفق له كثيرا)، ويفرح به صاحبه غالبا، فهو حتما مشارك فى هذا الاختيار، وفى هذا الاستمرار، كما أن هذا الاختيار نفسه، قد يكون ورطة تعويضية بشكل أو بآخر.

فى بداية افتتاحى لمستشفاىَ الخاص، زارنى أحد “الأجانب” الطيبين المختصين فى فرعى، وأخذت أشرح له كيف أن فكرة المجتمع العلاجى تختلف فى ثقافتنا عن ثقافة الغرب، وأننى أدير هذا المجتمع بطريقة كذا وكيت، وأنه لا توجد قواعد ثابتة لخطة علاج كل تشخيص بذاته، بل تتغير الخطة أولا بأول، وأحيانا أثناء اليوم الواحد لكل مريض حسب استجابته للخطوة السابقة، وهكذا، سألنى هذا الرجل الطيب: “ومن ذا الذى يقوم بهذا التعديل هكذا أولا بأول لكل هؤلاء المرضى؟” قلت له: إننى أتولى قيادة الفريق: وإن كل زملائى وزميلاتى وكل العاملين يلتقطون ما نفعل، ونتعلم ونتشاور، ونحور، ونواصل، وقد التقط هذا الضيف أننى على الأقل فى تلك المرحلة الباكرة أقوم بأغلب العمل تقريبا، أو على الأقل أتولى مسئولية التخطيط اليومى المتجدد، ونبهنى مرة ثانية أن هذا مـُرهـِق، وأبلغنى رأيه أنه لا يمكن أن يستمر الحال هكذا، وأثناء مرورنا فى المستشفى، وعرضى له بعض خطوات التخطيط والتقييم والتغيير، قابلت زوجتى وكانت تعمل معنا عملا علاجيا محوريا فى المستشفى، وعرّفته بها باعتبارها زوجتى وزميلتى أيضا، سألنى إن كانت تعمل معى كل هذا الوقت، فأجبت أن “نعم”، فسأل: وأنت تحمِلـُهاَ مثل الآخرين هكذا طول هذا الوقت، ولم أتبين عمق السؤال جيدا، إلا أننى أجبت أن “نعم”، وهنا قال بنظرة شفقة بها بعض الاعتراض الطيب، “ما هذا؟ ومـِـنْ مَنْ تحصل أنت على احتياجاتك العاطفية آخر النهار؟”، ولم أفهم جيدا هذه الطيبة، أو هذا الاعتراض، أو لعلى فهمته، ولا أذكر الآن (بعد أربعين عاما) ماذا كان ردى على هذا السؤال.

هذه هى حكاية ذاتيه تماما، لكنها تتعرض لمسألة شديدة الأهمية فى العلاج النفسى خاصة، وفى العلاج عامة، ذلك أنه:

 إن لم يكن للمعالج مصدر رِىّ عاطفى من خارج محيط مهنته، فإنه قد يمارس عطاءً قهريا تعويضيا يبدو من الظاهر رائعا تماما، وهو ليس بالضرورة كذلك، الاحتمال الأخطر هو أنه قد يحصل على احتياجاته العاطفية من مرضاه، دون أن يدرى عادة، فـَيـُدْفـِعـَهـُمْ ثمنا باهظا دون أن يدروا بدورهم عادةً، وقد يتعطل العلاج، وقد يتأخر الفطام أو الاستقلال، وقد تنحرف المسيرة… إلخ.

 أظن أننى أطلت البقاء فى دور، بل مأزق، حمل الآخرين (جـَـمـَـل المحاملْ) بشكل مزمن، وقد حاولت أن أخفف منه أو أخرج بعيدا عنه بشكل متكرر، ونجحت أحيانا، ربما خفَّ كثيرا، وإن كنت أعتقد أننى لم أنجح تماما، وحتى الآن.

كنت كلما سنحت لى الفرصة أن أعلن حقى فى أن أتخلى عن حمل مجموعة الأصدقاء (وربما حمل مرضاى) ولو قليلا، أفاجأ بالصعوبة، والمقاومة والرفض كما جاء فى المتن، وكما يظهر فى تواصل الحوار بينى وبين “لسان حال” الثله الصديقة كما يلى:

 (2)

‏= ‏إعقل‏ ‏يابــا‏، ‏قلنا‏ ‏ممنوع‏،‏

ممنوع‏ ‏تغضبْ‏، ‏تزعلْ‏، ‏تهمدْ‏، ‏تسكتْ‏،‏

  تحلمْ‏، ‏تسرحْ….، ‏

ممنوع‏ ‏كــله‏.‏

‏ – ‏ولإمتى ‏يا‏ ‏نـــاس؟

‏= ‏بكره‏ ‏انشـــالله‏ ‏

‏ –  ‏بقى ‏كدا !! ‏بكره‏ ‏؟

‏‏فيه‏ ‏إيه‏ ‏بكره؟

‏= ‏بكره‏ ‏حانسمح‏ ‏لك‏ ‏تتكلمْ‏.‏

بكره‏ ‏حانسمح‏ ‏لك‏ ‏تتـألمْ‏.‏

بكره‏ ‏حاتجنى ‏ثمرة‏ ‏كـدّكْ‏،‏

لما‏ ‏نكبر‏ ‏نبقى ‏قدّكْ‏ !!‏

(‏وانا‏ ‏مالى ‏قد‏،. . ‏ومالى ‏حدّ‏

خايف‏ ‏لتْكونْ‏ ‏الحاره‏ ‏سد‏). ‏

وصلنى هذا الرفض منهم بقسوة لا أنكر أن فيها نوعا من الحب والتقدير، لكنها تظل قسوة بلا شك، وتصورت أن مطلبى – إن كنتُ صادقا – كان شديد البساطة وهو “معاملة المثل”، لكن رفضهم تمتعى بهذا الحق – حق الضعف – كان حاسما وربما واقعيا، وربما كان يُخفى شكهم أيضا أن هذه هى رغبتى الحقيقية “معاملة المثل”، وأتذكر أن هذا الرفض الطيب كانوا يبررونه بأننى قطعت رحلة من النضج أسبق وأقدم وأعمق منهم، رحلة تمكننى من حمل هذه المسئولية، وحملهم، ومادام الأمر كذلك، فإن رفضهم إعطائى حقى (المزعوم) فى معاملة المثل لم يكن رفضا مطلقا، وإنما – كما زعموا – كان رفضا مرحليا فى صورة التأجيل حتى يحققوا درجة من النضج تقارب ما حققتُ أنا – بزعمهم، وساعتها يمكن تبادل الأدوار.

بكره حاتجنى ثمره كدّك

لما نكبر نبقى قدّك”

يلاحظ أن هذا الرفض لم يقتصر على رفض الضعف فحسب، وإنما على رفض كل “مطلب” من حيث المبدأ! “ممنوع كلّه”، (هذا ما وصلنى مع المبالغة!!)

ممنوع تغضبْ، تزعلْ، تهمدْ، تسكتْ، تحلمْ، تسرحْ

ويزداد حذرى من امتداد التأجيل إلى ما لانهاية ويتجدد الشك فى حكاية “سبق النضج” حين يتصور المعتَمِدْ أن المعتمـَـد عليه قد وصل إلى ما يبرر هذا الاعتماد باعتباره الأكبر، فيعلن صاحبنا اعترافه وأيضا أمنيته أنه ليس بهذه الدرجة التى يتصورونها، وأن حرمانه من حقه العادى، ومن الاعتراف بنقصه العادى، لابد وأن يزيد من وحدته حتى يبدو له الطريق مسدودا.

وأنا مالى قدّ ومالى حدْ

خايف لتَكْون الحاره سدّ

أتوقف هنا لأشير إلى خـِـبـْـرتين موازيتين، سابقة، ولاحقة([4])

أولا: ورد فى ديوانى “سر اللعبة” فى قصيدة “جبل الرحماتما يلى:

……………

……………

نحتوا‏ ‏فى ‏الصخر‏ ‏الهيكل‏: ‏

فى ‏داخله‏ ‏سرٌّ‏ ‏أكبر، ‏

صنم‏ ‏عبدوه‏ ‏وما‏ ‏عرفوه، ‏

قربان‏ ‏المعبد‏ ‏طفل، ‏

يرنو‏ ‏من‏ ‏بعد، ‏

لا‏ ‏يجرؤ‏ ‏أن‏ ‏يطلب، ‏

أو‏ ‏يتململ، ‏

……………

……………

نظر‏ ‏الطفل‏ ‏إلى ‏كبد‏ ‏الحق‏ ‏

وتمنى ‏الموت‏.‏

‏(4)

لكن‏ ‏النور‏ ‏يداعبُ ‏بـَصَرَهْ،

وحفيف‏ ‏الدفء‏ ‏يدغدغ‏ ‏جلده، ‏

فيكاد‏ ‏يصيح‏ ‏النجده، ‏

يتحرق‏ ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏ضعفه‏

لكن‏ ‏الرعب‏ ‏الهائل‏ ‏يكتم‏ ‏أنفاسه، ‏

ويعوق‏ ‏خطاه، ‏

……………

……………

أسمَعُ‏ ‏خلف‏ ‏الصخر‏ ‏حفيفا‏ ‏لا‏ ‏يسمَعـَهُ‏ ‏غيرى

يحسبه‏ ‏الناس‏ ‏حديث‏ ‏القوة‏ ‏والجبروت

……………

……………

هل‏ ‏يمكن؟؟‏

‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نضعف‏ ‏دون‏ ‏مساس‏ ‏بكرامتنا؟

فلكم‏ ‏قاسـَـينـْـا‏ ‏من‏ ‏فرط‏ ‏الحرمان‏..، ‏وفرط‏ ‏القوّة ْ، ‏

ولكم‏ ‏طحنتنا‏ ‏الأيام، ‏

والأعمى ‏منا‏ ‏يحسب‏ ‏أنا‏ ‏نطويها‏ ‏طيا

ثانياً: بعد اثنين وعشرين عاما من كتابة هذا المتن أحِلـْتَ إلى المعاش فى أول أغسطس 1994، وأنا لا أزال أصعد وأحمل، أحمل وأصعد، وبعد ذلك بعامين لاح لى حقى فى الإنهاك، فكتبت قصيدة فى نفس المعنى تقريبا، بعنوان: ‏‏النورس‏ ‏العجوز”([5]) وها هى ذى:

 أنهكًنـِى ‏التحليُق‏ ‏فى ‏سمائِها‏ ‏اللـَّـعـُـوب

أنهكنِى ‏نجاحِىَ ‏الدؤوب

وصخرتِى ‏تودّع‏ ‏الصلابة‏ ‏

‏‏لكنّها‏ ‏لا‏ ‏تنكسر

أريدُ‏ ‏والدى

أريده‏ ‏يحول‏ ‏بينها‏ ‏وبينى ‏

أرُيد‏ ‏سجَّانا‏ ‏يفك‏ ‏قيدى، ‏

‏إذ‏ ‏يُـحكم‏ ‏الأقفال‏ ‏لا‏ ‏أضيعُ‏ ‏حرّا

‏‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أنام‏ ‏فى ‏حضن‏ ‏التى ‏ترانى:‏

‏كما‏ ‏أنا‏ ‏

‏‏فرخًا‏ ‏صغيراً ‏لائذاً ‏بعُشـَّـهِ

‏‏لا‏ ‏فى ‏الأعالى ‏حيث‏ ‏يحسَبُون‏ ‏

لم‏ ‏ينمُ‏ ‏بعدُ‏ ‏ريشُهُ‏ ‏فلم‏ ‏يَطِر‏ ‏أصلاً ‏

فكيف‏ ‏تبحثون‏ ‏عنه‏ ‏فى ‏السماء‏ ‏أيها‏ ‏القساهْ

أريد مَنْ ترانى فاتحا منقارىَ الطرىّ

القُطُ من منقارها الحنانَ والأمانَ الحياهْ

أريد أنطوى تحت الجناح

أعبر الفيافى دون أن أحلّقْ

أريد‏ ‏خيزرانة

تفيقنى: ‏أرى ‏بها‏ ‏حدودي

أريد‏ ‏جلادا‏ ‏يحول‏ ‏دون‏ ‏قتلي

‏‏يأبى ‏أضيعُ‏ ‏وسْـطَ‏ ‏وهم‏ ‏ذاتِـى

لا‏ ‏تضحكوا‏ ‏على ‏طفل‏ ‏غريرٍ‏ ‏صدّق‏ ‏الأكذوبة

لا‏ ‏تخدعوه‏ ‏تتركوه‏ ‏فى ‏سمائها‏،‏

والخيط‏ ‏فى ‏أيديكمو‏ ‏كأنه‏ ‏المشانقُ‏ ‏الخفيّة‏.‏

‏‏لا‏ ‏تزعموا‏ ‏بأنه‏ “أراد”

النورسُ‏ ‏العجوز‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يدورْ‏.‏

قد‏ ‏أنهكتْـهُ‏ ‏لــُـعبة‏ ‏الصعودِ‏، ‏والسراب‏ ‏يسبقهْ‏،‏

يغمرُه‏ ‏الدُّوار‏، ‏والفراغُ‏ ‏يخنُـقه

قد‏ ‏آن‏ ‏أن‏ ‏يحُطَّ‏ ‏فوق‏ ‏أرضكمْ‏ ‏

‏لا‏ ‏ترجموهُ‏ ‏كهلا‏.‏

إن‏ ‏حط‏ ‏تدفنوه‏ ‏دون‏ ‏معـزَى،‏

تأكله‏ ‏الديدان‏ ‏وهو‏ ‏بعدُ‏ ‏حيّا‏.‏

لا‏ ‏لن‏ ‏يعودْ

أسنة‏ ‏الرماح‏ ‏مُشرعة

تملأ‏ ‏وجه‏ ‏الأرض‏ ‏والقلوب

لم‏ ‏يبق‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يظلّ‏ ‏فوقَ‏ ‏الفوقِ‏ ‏ضائعا

‏‏وكلُّ‏ ‏ما‏ ‏يشُدّه‏ ‏يذوبْ

فتختفى ‏السماءُ‏ ‏فى ‏الضياءْ

ويختفى ‏الضياءُ‏ ‏فى ‏الغروبْ

يتوه‏ ‏فى ‏دوائرِ‏ ‏الصباح‏ ‏والمساء

‏‏يواصلُ‏ ‏التحليقَ‏ ‏صاعداً‏ ‏معانِدَا

لكنّه‏: ‏ما‏ ‏عاد‏ ‏يسـتطيع‏ ‏

‏‏       ما‏ ‏عاد‏ ‏يستـطيع

الإسكندرية‏: 12/5/1996‏

 ولكن ما باليد حيلة: فلتبدأ رحلة الصبر، أو تستمر رحلة الصبر، دون التنازل عن حقى فى الضعف، مع التنبيه الآمِلِ الواضح أنها مسألة وقت مهما طال، هذا ما يبدو من بقية القصيدة الأصل من ديوان “أغوار النفس”، المصدر الأساسى للعمل الحالى:

والصبر‏ ‏مرار‏! ‏

وانا‏ ‏مش‏ ‏رافض‏ ‏أشرب‏ ‏كاسه‏.‏

على ‏شرط‏ ‏يكون‏ ‏للكاس‏ ‏دا‏ ‏قرار‏.‏

واستحمل‏ ‏طول‏ ‏الليل‏ ‏غُــلبى،‏

على ‏شرط‏ ‏الليل‏ ‏ييجى ‏بعده‏ ‏نهار‏.‏

الفقرة التالية لا تحتاج إلى شرح خاص:

والصحرا‏ ‏بنزرع‏ ‏فيها‏ ‏الصبر‏،‏

تـِـطـْـرح‏ ‏حرمان‏.‏

نسقيه‏ ‏من‏ ‏طولة‏ ‏البال‏،‏

وبنحدى ‏كلام‏ ‏ونقول‏ ‏موال‏:‏

‏”‏جمل‏ ‏المحامل‏ ‏برك‏ ‏شـِــمـْـتـِـتْ‏ ‏لـعادى ‏فيه‏”‏

لكنهم ظلوا يصرون على أن الجمل لم يبرك، بل وأنه ليس من حقه أن يشكو أصلا، وهو يصر أنه ليس إلا شخصا عاديا كما شرحنا.

الطبيب النفسى هو مـِـهـَـنـِـى عادى تماما، أى تقديس للمهنة، أو مبالغة فى القدرة، هو إعاقة له فى مهنته، ونذكـّر من جديد بالحذر من المبالغة فى نجومية الطبيب النفسى ودور الإعلام السلبى فيها وما يؤدى إليه ذلك من خلط الأدوار، وهذا لا يتم فقط على حساب موضوعية العلاج النفسى، وإنما أيضا على حساب فرص الطبيب النفسى أو المعالج النفسى فى نموه الشخصى، الشخص العادى هو الشخص العادى، وهو القادر على النمو العادى، مسألة التميز والعبقرية ليست غاية فى ذاتها، المتصوف الحقيقى هو الذى لا يعود اسمه متصوفا، وبوذا نفسه بعد أن دار دورته لم يقبل أن يعترف أنه حقق رحلته إلا حين لم يصبح بوذا كما تـُصـَوِّرُه لنا سماته الفذة وسيرة حياته الفريدة.

التأكيد على حق الطبيب النفسى، أو المعالج النفسى أن يكون شخصا عاديا يرد فى الفقرة التالية ردا على اعتراضهم على شكواه وإظهار ضعفه، على أنه برك تحت أحماله (وبالذات حمله لهؤلاء المعترضين المعتمدين) فهو يرد على اعتراضهم بالمطالبة بأبسط حقوقه العادية: فهو يرد على رفضهم ضعفه قائلا: “ماهو نـِـفـْسُهْ يعيش زى العايشين“.

= ‏جمل‏ ‏المحامل‏ ‏لابيشكى. . ‏ولا‏ ‏بيقول‏ ‏آه

–  ‏ليه‏ ‏يعنى ‏بقي؟

ما‏ ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏يعيش‏، ‏زى ‏العايشين؟

فيرُّدون أكثر حدة، ورفضا:

‏= ‏ما‏ ‏هو‏ ‏عايش‏ ‏اهه‏، ‏إسم‏ ‏الله‏ ‏عليه‏.‏

‏ ‏بيقول‏ ‏ويعيد‏، ‏ونـــرد‏ ‏عليه‏، ‏

‏ ‏بـيشيل‏ ‏فى ‏هموم‏، ‏وفْ‏ ‏غلب‏ ‏الناس‏،‏

‏ ‏وحياخد‏ ‏إيه‏ ‏غير‏ ‏وجع‏ ‏الراس‏،‏

‏ ‏من‏ ‏زن‏ ‏الحاجة‏ ‏ومدّ‏ ‏إيديه؟

الذى حدث أثناء هذا اللقاء الذى أثار كل هذا الحوار، وأخرج هذه القصيدة، هو أن إحداهن قالت له بوضوح شديد أنهم لو استجابوا له، واحترموا حقه، فإنه لن يتذوقه ولن يستفيد منه كما يتصور هو ويطالب، وكانت هذه الزميلة من أقرب القريبات إليه، وقد كانت تعنى أنه لم يـَـعـْـتـَـدِ الأخذ، ولم يستطعم حنانا حقيقيا من قبل، كما فعلوا هم من خلال اعتمادهم عليه، أو على غيره، وبالتالى فهم إذا قبلوه بينهم عاديا كواحد منهم، فهذا لن يرويه، فهو – ربما من إزمان الحرمان نتيجة لاستمرار نفس الدور على أساس الزعم أنه قد حقق درجة أعلى من النضج – لن يجدى معه عطاء، خاصة ممن تعودوا الأخذ منه، استشهدتْ هذه الصديقة بالمثل القائل: “إطعم مطعوم، ولا تطعم محروم”، وأذكر أن هذا الاستشهاد قد لاح لى كأنه قرار صريح بأنى لا أستحق ما أطلب أصلا.

كنت قد ناقشت هذا المثل من قبل([6])، ونبهت إلى احتمال أن يكون له معنى آخر غير القسوة التى تبدو فى ظاهره، وهو أن المحروم جدا، إذا ما بدأ حرمانه من فترة باكرة، واستمر حتى أصبح هو “نوع وجوده”، فإنه يحتاج إلى نوع آخر من العطاء، غير مجرد إشباع الجوع، وقد شبهت قسوة الحرمان التى يترتب عليها هذا العجز عن الارتواء، بالوجود المثقوب، الذى كلما ملأته بما يستحق أن يُملأ به يتسرب ما وضعته فيه من “ثقب الحرمان المزمن”، وبالتالى، مرة أخرى يصبح مثل من يشرب الماء المالح، كلما شرب ازداد عطشا.

ثرت أكثر على هذا الموقف، وأن يكون حرمانى من دور “الشخص العادى”، هو مبرر لمزيد من الحرمان، وأن أستمر فى حملهم (جمل المحامل) بقية عمرى، وهذا ما جاء فى المتن فى الفقرة التالية تفسيرا للمثل المستشهد به.

…………..

…………..

ونواصل الأسبوع القادم استكمال قراءة  الفصل الثانى من “جمل المحامل”

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) سلسلة “فقه العلاقات البشرية” (4) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) قراءة فى نقد النص البشرى  للمُعـَالِج، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – يحيى الرخاوى: سلسلة فقه العلاقات البشرية (عبر ديوان “أغوار النفس”) الكتاب الثالث “قراءة فى عيون الناس”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الأولى 2018

[3] – يحيى الرخاوى: (2018) سلسلة فقه العلاقات البشرية (عبر ديوان “أغوار النفس”) الكتاب الثالث “قراءة فى عيون الناس”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الأولى  

[4]  – يمكن الرجوع إلى القصيدة كلها مع الشرح على المتن وهى بعنوان “جبل الرحمات”،”الطفل العملاق الطيب”. (دراسة فى علم السيكوباثولوجى)، منشورات جمعية الطب التطورى، 1979، من ص 521 إلى 613 (72 صفحة). والطبعة الثانية من ديوان “سر اللعبة” منشورات جمعية الطب التطورى 2017.

[5]- يحيى الرخاوى: (2018) قصيدة “النورس العجوز” من الديوان الأول: “ضفائر الظلام واللهب” من ثلاثة دواوين:”ضفائر الظلام واللهب – شظايا المرايا- دورات وشطحات ومقامات”، منشورات جمعية الطب التطورى،.

[6] – يحيى الرخاوى (2017) ” قراءة فى النفس البشرية (من واقع ثقافتنا الشعبية)” (ص 87)  منشورات جمعية الطب النفسى التطورى- القاهرة

 

تعليق واحد

  1. كيف حالك يامولانا:
    المقتطف : ثرت أكثر على هذا الموقف، وأن يكون حرمانى من دور “الشخص العادى”، هو مبرر لمزيد من الحرمان، وأن أستمر فى حملهم (جمل المحامل) بقية عمرى، وهذا ما جاء فى المتن فى الفقرة التالية تفسيرا للمثل المستشهد به.
    …………..
    التعليق : قرأت النشرة كلها دون أن تفارقنى نظرة عينيك المصاحبة لقولك ” لحد إمتى حافضل اتألم مع العيانين ” كانت عيناك تكمل حديثك قائله : لحد إمتى حيفضل ألمى هو زاد رحلتى ،لماذا كتبت على نفسى :زاد رحلة كبرانك هو الألم تاخده ومترجعوش ….” وكلام كتير يا مولانا ،وصلنى ومااعرفش أقوله : لكن وصلنى ان الحاجه الوحيده اللى كنت بتعرف تاخدها هى الألم ،وكأنه كان مطلب خاص ليك ،كنت بتدور عليه علشان تحس انك مش بس عايش ،لكن بتكبر ،وكأن الألم كان ونيس كبرانك ودليله …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *